الرأس والحل والنظام
أسهل شيء في الدنيا — كما ترون — أن يكتب الإنسان!
لماذا فرَّطنا في أشياء عزيزة وغالية كنا نسمِّيها قيمًا؟
أكتب لأني أريد فعلًا أن أكتب. مرة أخرى أحتشدُ وينتقل ما بالرأس إلى الأصابع والأنامل وتستحيل «النغمشات» إلى أشياء مجسدة لها معنًى. أهي لعنة؟ أهي نِقمة؟ أهي نِعمة؟ أهو قَدر يُحيط عنقي بطَوق من حديد لا يعرف حدَّاد في العالم كيف يحطِّمه؟ قائد أنا أم مقود، مغمض العينين، غير مطلق السراح إلى أبدٍ محدد لم يستشرني أحد أبدًا في نوعه أو اتجاهه أو تحديده؟
وقف القلم في المنتصف رافضًا أن يتحرك خطوة حتى يعرف إلى أين، حتى يعرف لماذا؟ حتى يرى إن كان هناك مجال للرؤيا حتى يُبصر، ولو بالبصيرة يحدده.
اكتب.
قال: ما أنا بكاتب.
اكتب.
قال: ما أنا بكاتب.
لا تتمرد.
قال ما أنا بمتمرد، إن هو إلا سؤال.
السؤال أيضًا تمرُّد.
قال: حين يصبح السؤال تمردًا تصبح الكتابة معصيةً وخطأً لا يُغفر.
سمِّ واكتب.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير. وسكت.
اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ.
اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
قال: صدق الله العظيم. الكتابة أمانة. وقد عُرضت الأمانة على الأرض والسماء فأَبينَ أن يحملنها وحملها الإنسان. ما أتعسه، وما أخطرها من أمانة.
•••
ولكنني فعلًا مشتاق أن أكتب، مثلما أنت تشتاق أن تأكل أو تشرب أو تهفو بجنون إلى أخذ النفَس إذا غطستَ في الماء وعاندت نفسك وأردت أن تظل أطول الوقت مكتوم الأنفاس تحت الماء. ما أحلى أن ترفع الرأس المختنق فجأة وتُدخل صدرك أول شهقة هواء!
شهور ثلاثة والقارئ الكاتب مشتاق إلى القارئ، وكل شيء يحول بينهما إلى حد أن لا شيء يحول بينهما. الثاني ما عليه إلا أن يقرأ. الأول مشكلته أن عليه أولًا أن يكتب، وأن يكتب لا ليُري للناس صورته الباسمة المنقوشة، أو يقول للعالَم: أنا هنا. أو من أجل أن يُطالع القارئ كل يوم، كل يوم — يا إلهي — بكلام، أي كلام. لا. لا بد أن يكتب ليضيء شمعة. ليسوق للناس كلمة طيبة، ليضع شيئًا يستحق عناء أن يُمسك المواطن بالصحيفة ليفتِّش فيها عن شيء نافع أو دواء ناجع.
الحقيقة أن أسهل شيء في الدنيا، كما ترون، أن يكتب الإنسان.
وأصعب شيء في الدنيا كما لا بد تعرفون، أن يكتب الإنسان.
وبلادنا ووطننا الصغير والكبير، ومواطننا كبر أم صغر يمر بمرحلة تدور لها الرءوس ولو كانت مصنوعة من حديد.
وأنت ككاتب ليس مفروضًا أن تكتب لتشكو مما يشكو منه الناس ويعرفونه ربما أعمق منك.
وليس مفروضًا أن تكتب لتحاصر العينين بانتقاداتك بحيث لا يعود الإنسان يعرف من أين وإلى أين؟
أنت، تكتب لأنك تفكر. وليس أي فِكر أو أي تفكير، لكنه ذلك النوع الذي يسمونه الفكر المضيء أو الفكر القائد.
الفكر الذي وجد الحل، ويراه واضحًا وضوح الشمس، بحيث ما عليه إلا أن يُقنع الناس به.
فإذا لم يكن الحل هناك.
وإذا كانت الأمور قد استغلقت وتعقَّدت، بحيث، حتى لو كنت تملك ذلك المفتاح الواحد السحري الفعَّال — كلمتك — لم تعد قادرة على فتح ما استُغلق، أو فقدت ما بها من سحر.
الحل إذن أن تسكت!
ولكن الكارثة أن السكوت ليس هو الحل؛ فلا بد شئتَ أم أبيت أن تظلَّ تفكر؛ فأنت عضو تفكير، إذا تعطل أضرَّ، وإذا توقف استحق البتر.
•••
أيكفي هذا ليعذرني القارئ في الشارع في العمل، في البحر، والبر وكل مكان، الذي يسأل: لماذا لا تكتب. وأين كنت. وهل أنت ممنوع أو مُصادَر؟
أيكفي ما سبق وذكرته إجابة تشفي الغليل!
فأنا شخصيًّا غير مقتنع.
لا بد أن هناك شيئًا أكبر وأخطر وأشمل هو الذي يُخيِّم علينا جميعًا ولا يكفي قلم واحد، بل لا تكفي كل الأقلام مجتمعة أن تقنعنا بوجوده أو بعدم وجوده، فحنانيكم أرجوكم. إذا لم أكن عند كل حسن ظنكم فلا تسيئوا بي الظن، وإذا كنت عند بعض حسن ظنكم فلا تعتقدوا أن هذا — في وقتنا ذاك — شيء مهين.
يا صديقي المواطن. بطل والله أنت، وأي بطل.
ليست البطولة أن تُجيد التصويب وتذهب إلى ساحة الوغى أو عند الكمين وتقتل أول عدو تُصادفه.
هذا في رأيي هي البطولة الصغرى.
البطولة الكبرى حتى ليس أن تعبُر المانش أو تُجيد سباحة المسافات الطويلة.
البطولة الكبرى أن تُغرق أنت البحر.
وبلادنا في مرحلتنا هذه بحر عالي الأمواج صاخبها.
بحر وكأنما يريد أن يبتلع الناس والزرع والأشياء وكل ما على سطح الأرض.
ولكنا، بوجودنا هذا الذي يبدو فوضويًّا وبلا معنًى وشديد البشاعة، نصنع المعجزة نُغرق البحر فعلًا.
لا، نحن لا نَغرق.
نحن نُغرق.
تجرح أجسادنا وتمزق ثيابنا ويصيب الرشاش كرامتنا، ونفرِّط في أشياء عزيزة وغالية كنا نسميها قيمًا.
ولكنه كفاح «البطل»، ليعيش، ليُغرق الحُفر والبِرك والمستنقعات والبحور.
بطل أنت يا مواطني العزيز وأنت تُخرِّب ما أصلحه الدهر، بطل وأنت تُصلح ما خرَّبه الدهر، بطل، وأنت على أي الحالين ما زلت تعيش بطلًا.
ولا أقول هذا نفاقًا لك أو تعزية …
فأنت في غنًى عن النفاق لأنك في لحظة تُحدد الحياة والموت، وفي غنًى عن التعازي لأنك تعرف أن المُعزِّين هم المنافقون السائرون — أو الذين يريدون السير — وراء نعشك.
متأكد أنا تمامًا أنك تفهمني، برغم أني أتكلم، وكأنما «باللاوندي» ولكني متأكد أنك تفهمني.
فأنا، بفوضاك، أفهمك.
بكل منا وقد راح يخترع لنفسه قانون وجودٍ، أفهمك، بل وينتج عن ملايين القوانين، ويا للغرابة، قانون واحد يحكمني ويحكمك وكلانا عليه نتَّفق.
وأنا مثلك لم أمت.
وأنت مثلي لا تعيش كما تريد وكما يجب.
وأنا وأنت البطل.
•••
يُخيَّل إليَّ أنَّ ما من شعب عاش على سطح الأرض ومرَّ بما مررنا به من تجارب وأزمات.
خُذ عصر المماليك أو عصر البطالسة.
خذ أي عصر.
واقرأ كيف جاوزناه واجتزناه وما زلنا باقين وسنظل إلى ما شاء الله نبقى.
أنا هذه المرة لا أكتب لأشرح وضعًا سياسيًّا استعصى عليَّ أو علينا فهمه.
ولا لأُثير مشكلة أو أثور على مشكلة.
أنا في الحقيقة أكتب لأُونس نفسي.
وأُونس من يريد الونسة معي.
أكتب كما أريد أن يكتب لي وأحس به طبطبة حنان صادقة، تُخفِّف عني، تشجعني، تطمئنني، تُنشقني جرعة أكسجين أرى بها المستقبل أو على الأقل تنفتح أبوابه أمامي.
وما دامت العِبرة بالنوايا؛ فليحاسبني الله سبحانه على نيتي، أو فليغفرها لي فما أكثر ما تكون النوايا الحسنة ذنوبًا على الطريق.
•••
بالأمس سألني ابني الأكبر «إيه» النظام؟ والتعبير أحد نتاجات المرحلة، ويعني شيئًا أكثر دقة من قولك: ماذا سيحدث؟
وكأنما فُوجئت بالسؤال؛ فقد اضطربت.
وكأن السؤال ليس همي صباحَ مساء.
قلت: أن يكون هناك نظام.
ولكني أيضًا وأنا أقولها كنت أفعل وكأني أعتذر أو أقول: يا بني لست أدرى.
وأمسِ، سألتُ ابنتي ذات السنوات الخمس: ما هو الحل يا نسمة؟
قالت الشقيَّة وهي تحاورني: حل «إيه»؟
قلت: يعنى الحل. أي حل.
قالت بتأنيب: الحل بيبقى حل مسألة فأنت «مش» عارف المسألة «وعايز» تعرف الحل «إيه اللخبطة دي»!
شكرًا يا نسمة. فعلًا لكي نعرف ما هو الحل لا بد أن نعرف ماذا نريد حله.
أو بالتعبير الرياضي يا نسمة، لا بد أن نعرف «رأس» المسألة لكي، يا عزيزتي وحبيبتي، نحلها.
فإذا لم نكن نعرف الرأس ولا المسألة ومع هذا فنحن نحلها وماضون في حلها، وببطولة نفعل، ونوجد، ونكتب، ألا يعد هذا ما يشبه المعجزة؟!
بل المعجزة الأكبر والتي لم تحدث أبدًا في التاريخ ولكنَّا لا بدَّ أن نُحدثها هي أن نعرف من خلال حلنا لمسألة لا نعرفها، رأس المسألة.
أجل يا بني ويا بنتي حينذاك فقط نعرف ما هو النظام وما هو الرأس.
قد لا تفهماني، ولا تفهموني ولكن، يكفي إحساسكم بي وإحساسي بكم.