مجرد ملاحظات
اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي يُشكِّل — أو على الأقل مفروض أن يُشكِّل أكبر ظاهرة ديمقراطية — ولقد قرأت وحاولت فعلًا أن أُمعن النظر في كل قرارات اجتماعها الأول وأتفاعل معها، ولكن ثمة حزن داخلي كان يحول بيني وبين الاندماج الكامل؛ ففي الوقت الذي يتحدث فيه العالم كله عن قضيتنا الوطنية ومفاوضات كيسنجر المكوكية والانسحاب وشروط الانسحاب وشروط الشروط، وموقف مصر عربيًّا ومحليًّا ودوليًّا، في هذا الوقت بالذات الذي «يتصادف» أن اللجنة المركزية تجتمع فيه لا نجد أثرًا لهذا كله داخل اجتماعات اللجنة. العالم كله واقف على قدم وساق يناقش احتمالات النجاح واحتمالات الفشل، ولجنتنا المركزية المنبثقة عن مؤتمرنا القومي العام — أعلى سلطة في الدولة — ولا هي هنا اكتفت بفض الاشتباك بين دولة أخبار اليوم ودولة روز اليوسف، أما مسألة اشتباكنا مع إسرائيل وفضِّه فتلك مسألة يبدو أنها لا تخص اللجنة المركزية. وهذا النشاط الهائل داخل إسرائيل من اجتماعات ومناحرات ومظاهرات مع الاتفاقية وضدها حتى لو كانت تمثيلًا أو محاولة للضغط على أمريكا وعلى مصر ولكنه على الأقل رواية تتناول حدث الساعة فعلًا، أما أن يكون حدث الساعة واقعًا وقائمًا وفي سبيله لأن يصبح نصوصًا وتوقيعات ويخلو اجتماع اللجنة الأول من أي شيء أو بادرة تشير من قريب أو بعيد إلى ما يحدث، فالمسألة في رأيي تبدو محيرة فعلًا.
الكتابة مهنة شاقَّة حقًّا والدليل على هذا أن بعض كُتابنا يقومون بمعجزات لا يستطيعها كاتب من الشرق أو من الغرب أو ليس معجزة أن تظل تكتب كل يوم أو كل أسبوع ولمدة عشر سنوات أو ربما عشرين دون أن تقول للناس شيئًا. إنها لقدرة خارقة فعلًا أن تكتب دون أن تكتب، أن تقول كثيرًا دون أن تقول شيئًا، أن تصر على أن تظل صاحب قلم وأحيانًا صاحب مبادئ دون أن يُخطئ قلمك مرة ويأتي برأي مفيد أو بوجهة نظر تورطك في قضية أو من اتجاه. إنها لعبة شبه لعبة المشي على السلك المعلق في السيرك، كل ما في الأمر أن لاعب السيرك يسير أمام عينيك فعلًا أما لاعب القلم فيُمثل أمامك، بدقة متناهية، وبتقمص زائد أنه أمامك يسير، دون أن يسير.
أتتبع بحماس زائد وبكثير من الإشفاق جهود السيد ممدوح سالم رئيس الوزراء المستميتة لاستعادة هيبة الدولة ولبدء الإصلاح في كل مكان. ولكن المشكلة هي كيف يتأتَّى لرجل بمفرده أن يقوم وحده بكل العمل. لقد قرأت مثلًا أخبار زيارته لمجمع استهلاكي وسؤاله المواطنين الواقفين في الطابور عن متاعبهم وعن رأيهم في نظام البطاقات وعن … وعن … أشياء كثيرة. أثلج صدري فعلًا أن ينزل رئيس الوزراء إلى الشارع وإلى المواطنين ويحمل عنهم المشاكل والهموم. ولكن المدهش أن يحدث هذا ونحن في النصف الأخير من القرن العشرين، وفي ظل جهاز دولة والحمد لله رهيب وذي تاريخ طويل ووظائف واختصاصات. إن معنى أن يضطر رئيس الوزراء لأن ينزل بنفسه إلى طابور المجمع الاستهلاكي، معناه أن مدير المجمع لا يقوم بعمله كما ينبغي ومفتش المجمع لا يقوم بعمله، ومفتش التموين لا يقوم بعمله، ورئيس قطاع التموين في الحي ثم في المدينة ثم في المحافظة لا يقوم بعمله، ووزير التموين لا يقوم بعمله، أو على الأقل معناه أن كل هؤلاء السادة يقومون بأعمالهم فعلًا لكنهم لا يقومون بها على ما يرام إلى الدرجة التي لا بد لرئيس الوزراء نفسه أن يترك عمله كرئيس للوزراء. وينزل ليفتش عليهم ابتداء من طابور المجمع في الحي. إنها قد تكون ظاهرة همة غير عادية لرئيس وزرائنا ولكن معناها الحقيقي أن لا أحد — دونه — يعمل، معناها أن الماكينة الضخمة التي اخترعناها وجهزناها باللوائح والشرائح والقوانين لتحمل حياتنا إلى الأمام توقفت مما اضطر السائق لأن يهبط منها ويأخذ على عاتقه مهمة دفعها ودفع ما تحمله من مواطنين إلى الأمام.
شكرًا للسيد رئيس الوزراء. ولكن المسألة فوق طاقة البشر.
وبالمناسبة، سائق شارع الهرم المشهور الذي توقف في الطريق وأبى أن يكمل الرحلة، رغم كل المآسي الكامنة وراءها إلا أنها تشكل في رأيي فاصلًا كوميديًّا في حرِّ أغسطس اللعين، تشبه إلى حد بعيد قصة الممثل حين يكتشف في منتصف الرواية أنه وحده «المحموق» الذي يحمل أعباء المسرحية كلها على كاهله، وأن كافة الممثلين الآخرين يلهون ويلعبون ويلطشون ويرتشون ويتبادلون النكات البذيئة من الجمهور فكانت النتيجة أنه فض يده من اللعبة وجلس واضعًا ساقًا فوق ساق على خشبة المسرح قائلًا: هه، مش لاعب. اشمعنى أنا!
وصحيح، هذا السائق المحبوس في كابينة القيادة لا وسيلة ولا طريقة لأن يزداد دخله. لا بواقي نقود مما تخص الكمساري. ولا سيجارة، ولا أمل أن يكسب مليمًا واحدًا فوق مرتبه، يكاد يكون الوحيد الذي يعمل في القطاع العام بانضباط وطوال ساعات العمل، وبلا أمل في أية فرصة للتزويغ؛ فهو يحمل داخل أتوبيسه وفوق أتوبيسه عشرات المواطنين على هيئة مفتشين دائمين أرواحهم في يده وروحه في يدهم.
يخيل إليَّ أن الموضوع وإن كان كوميديًّا إلا أنه لا يمكن أن ينتهي بضحكة أو بإجراءات إدارية ومجرد عقوبات، الموضوع في حاجة لمناقشة واسعة، أو على الأقل بداية مناقشة عن وضع العمل والعاملين في مصر وبالذات في القطاع العام.
أليس كذلك؟!
في الحديث الخطير الذي أدلى به الدكتور أحمد أبو إسماعيل وزير المالية في أهرام الجمعة الماضي حقائق كثيرة جعلتني أقرأ الحديث بضع مرات لأستطيع أن أستوعب ما فيه من معلومات خطيرة عن أوضاعنا الاقتصادية.
ولقد استوقفتني بضعة أرقام رهيبة في هذا الحديث.
الرقم الأول خاص بالقروض التي عقدتها الحكومة خلال عام ١٩٧٤م إذ ذكر الوزير أن الحكومة اقترضت في ذلك العام ٩٤٠ «تسعمائة وأربعين مليون جنيه» بفائدة قدرها ١٩٪، وهي تسهيلات أو ديون قصيرة الأجل يبلغ مجموع الفوائد عنها — مجرد الفوائد في العام الواحد — ١٧٨ مليون جنيه وكسور!
الرقم الثاني يقول إن القروض التي حصلنا عليها خلال الأعوام الماضية بلغت ٢٧٩ مليون جنيه من الدول الغربية و١٤٤ مليون جنيه من الدول العربية «فقط مائة وأربعة وأربعون مليون جنيه» أي حتى لا ترقى إلى قيمة الفوائد مجرد الفوائد على ديوننا. أما الكتلة الشرقية «الشيوعية من فضلك!» فقد أقرضتنا ٩٥٨ «تسعمائة ثمانية وخمسين مليون جنيه» لم نستخدمها كلها وقد تبقَّى منها ٣٣١ مليون جنيه بدون استخدام.
هذه الأرقام أبلغ من عشرات المقالات في توضيح موقفنا الاقتصادي: وأيضًا في توضيح — ليس فقط ضآلة وإنما يكاد يكون — انعدام المساعدة العربية، فإن رقمًا كهذا الرقم الذي ذكرناه إذا قورن بدخول تلك الشقيقات العربيات أو حتى إذا قورن بمجرد الزيادة الناتجة عن حرب أكتوبر في تلك الدخول يعد شيئًا تافهًا وكان مجرد «شلن» يمنحه مواطن منا لأي صبي موقف يحرس سيارته. فما بالك ببلد يحرس بدماء أبنائه وبقوت يومه حياة الأمة العربية كلها، يخيل إليَّ أن الاعتذار عن قبول هذا «الشلن» كان أكرم لنا وأجدى.