كاتبة جديدة حقًّا
ولكن الأمر لا يسلم أحيانًا من بارقة تُضيء كالشهاب في قلب الظلام، وأن تجيء هذه البارقة من كتاب يصدر عن مجلة الإذاعة والتليفزيون، مع أن مجلة الإذاعة والتليفزيون — مشكورة — ليس من عملها أبدًا أن تصدر كتبًا، وبالذات أن تصدر الكتب الأولى لمؤلفين شبان، إنما هو عمل دار النشر الحكومية التي مفروض أن «ترعى» الإنتاج الأدبي والفكري، ولكن هكذا تحدث المسائل في بلادنا.
الكتاب مجموعة قصص لكاتبة شابة تنشر مجموعة كاملة من قصصها القصيرة لأول مرة. ولقد بدأت قراءة الكتاب بحذر، ذلك أن القصة القصيرة من فرط ما تبدو سهلة وقصيرة. تشكل دائمًا منطقة جذب للكاتب المبتدئ، وحتى لغير المبتدئ، والنتيجة أن يتصور أن أية حكاية قد تصلح قصة، وفي السنين الأخيرة، أي أسلوب ملتوٍ وأي تيار للوعي يخلق أسلوبًا، وهكذا أصبحت القصة القصيرة بؤرة شديدة الوطأة «للعك» والتجارب الفاشلة والمهيضة.
ولكن فوجئت بسكينة فؤاد، صاحبة الكتاب، فلم أكن أتصور أن يتفجر النبع هكذا فجأة، وبلا مقدمات، وأن أجد أمامي كاتبة موهوبة حقًّا، بحرارة ماسَّة تكتب، وبقدرة مكثفة، وباللمسات السريعة الخاطفة ترسم وتعبر، والمهم أنها بلغة العصر تتناول الشخصية والموقف، ولغة العصر مهمة؛ فبلاغة الجاحظ ليست قصصية، ولا أسلوب القرن التاسع عشر والتتابع الرتيب للأحداث ونمو الشخصيات والأفكار — أسلوب الحكي — لا يؤثر في قارئ اليوم؛ فقارئ اليوم مزدحم الخواطر بالأزمات والتوترات ولا سبيل إليه إلا باقتحامه أسلوبًا وفكرة تفجيرًا للمشاكل. قارئ اليوم من فرط ما هو فيه من ضجيج لا يمكن أن يفيق إلا بقنبلة، والقصة القصيرة وإن كانت أقل الأحجام الأدبية، إلا أنها كالقنبلة الذرية الأصغر ولكنها الأفعل، كل ما في الأمر أنها قنبلة لا تنتجها إلا موهبة، وموهبة من نوع خاص جدًّا لا سبيل إلى العثور عليها كل يوم.
ليس هذا بنقد — فلست بناقد — إنما هي دعوة للقراء، اقرءوا هذه المجموعة واقرءوا الكثير غيرها وإلا آمنت بذاك الذي قاله لي طبيب شيخ مستقيم الجسد بلغ الثمانين ولا يزال يتمتع بوعي كامل وبذكاء شديد وقد فسَّر لي هذا بقوله: من زمن بعيد وأنا أدرك أن شعبنا لا يحب شيئين: الرياضة، والقراءة. ومتعه دائمًا متع سلبية محضة كالطعام والشراب، وقد آليت على نفسي أن أقاوم هذه الخاصية القومية وأن أستمتع إيجابيًّا بالقراءة والرياضة، والنتيجة هي كما ترى، بلغت الثمانين، ولا أزال شابًّا.
لا أزال شابًّا. وكان الرجل على حق.