العيب ليس فينا
إحساس غريب يخرج به القارئ المصري لدى قراءته لما يُكتب في بعض جرائدنا وبأقلام بعض كتابنا عن «الانفتاح» فهؤلاء السادة يصورون الأمر كما لو أن المستثمرين الأجانب والعرب، وحكومات الدول الغنية تنتظر ومعها كنوزها الهائلة من الأموال والدولارات على حدودنا، وقد جاءت يدفعها الحماس الصادق لإقالة شعبنا من عثرته الاقتصادية، كلُّ ما في الأمر أن «بيروقراطيتنا» هي التي تمنع هذه الأموال من التدفق وهؤلاء المستثمرين عن البدء فورًا في المشروعات. إحساس غريب؛ لأن القارئ يخرج بانطباع إننا «نحن» وليس «الآخرون» هم السبب في عدم ورود أموال الانفتاح الطائلة إلينا، وفي هرب المستثمرين منا. بمعنى أن العرب الأغنياء والأجانب الأغنياء لا غبار عليهم بالمرة إنما العيب فينا نحن وفي أجهزتنا وفساد تليفوناتنا ومواصلاتنا وضيق مساكننا عن أن تتسع لمكاتب هذه الشركات القادمة أو تلك، وضيق فنادقنا أن تتسع لأصحاب رءوس الأموال القادمين وقد أحضروا معهم الجمل بما حمل.
ويستطيع أي منصف حسن النية أن يسمى تصويرًا كهذا مجرد مغالطة يرتكبها الكاتب بحسن نية، فهو مثله مثل الشعب المصري المسكين كان يتوقع بمجرد أن نقول كلمة «انفتاح» أن تغرق مصر فورًا في بحر من النقود والازدهار والعسل، وألا يكون شيء كهذا قد حدث فليس له من تفسير إلا أن أجهزتنا هي السبب، باعتبار أن الآخرين لا يمكن أن يكونوا السبب؛ فالآخرون دائمًا لا يخطئون وإنما الخطأ — إذا كان هناك خطأ — دائمًا من جانبنا.
ولكن أي شكاك قد يفسر هذا التطوع من جانب بعض الكُتاب بأنه محاولة يائسة للدفاع عن موقف أغنياء العالم — حكوماته وأفراده، عربه وأجانبه — منا.
وبادئ ذي بدء أقول ليس معنى كلامي هذا أني أدافع أو ألتمس العذر لأجهزتنا ومرافقنا؛ فهي لا شك في حالة من السوء الأقصى، ولو كان الأمر كما يصورون، وكانت الأموال الهائلة المخلصة المتحمسة رابضة على حدودنا، وتلك الأجهزة والأشخاص هي التي تمنعها لكُنا دعونا فورًا إلى تحطيم العوائق حتى بالقوة الجسدية.
ولكن المؤسف أن الأمر ليس هكذا أبدًا. فليس هناك حلم وردي كهذا، ولا الأموال رابضة على الحدود، تنتظر الإشارة. المؤسف أن شعبنا يجوع مرتين، مرة بجوعه وأزمته الاقتصادية ومرة بالأحلام الزاهية البراقة عن جنة نحن الذين — بأجهزتنا — نرفضها ونرفسها.
وأنا هنا لن أتحدث عن الحكومات والشركات الأوروبية والأمريكية فهؤلاء إن قدموا شيئًا فلا بدَّ أن يكون الأمر في النهاية لصالحهم وحدهم وليس شفقة أو تقديرًا أو من أجل سواد عيون شعبنا العظيم. إنما سأقصر حديثي على «الإخوة» العرب. ولا شك أن هناك معونات وقروضًا جاءتنا من بعض دولنا وحكوماتنا العربية، ولكنها فيما أرى جاءتنا على سبيل «أكرموا عزيز قوم ذل» ولا أريد أيضًا أن أمنَّ هنا بما فعلته وقدمته مصر في سبيل القضية العربية وأنه لولا القوة المصرية ولولا أكتوبر الخالد لما تضاعفت عائدات البترول إلى أضعاف أضعاف ما كانت عليه. لا أريد شيئًا من هذا. بل لا أريد أن أقارن بين ما قدمته هذه الدول إلى بلاد غنية كألمانيا الغربية وبريطانيا وفرنسا واليابان بل وحتى أمريكا نفسها، أريد في الحقيقة أن أتحدث من وجهة نظر البلاد العربية النفطية نفسها وليس من وجهة نظر أي طرف آخر. إن ما تقدمه الدول الصناعية من ثمن للبترول، لا يشكل في الواقع «ثمنًا» للبترول الخام إنما هو المقابل المادي «للقوة» العربية. فلو تصورنا العرب ضعافًا وجهلة ومتفرقين لما حفلت تلك الدول بتقديم أي ثمن في مقابل النفط الذي تحصل عليه أو لقدمت في مقابل الطن بضعة قروش، ولكن لأن هذا النفط في أيدٍ قوية ومؤثرة فإنها تُقدم له ثمنًا. والعرب سيظلون يقبضون هذا الثمن طالما هم أقوياء، وسيتوقف تدفق المال إذا ضعفوا.
إن حجر الزاوية إذن كما يقولون — هو القوة العربية الذاتية — والمثل قريب فحرب أكتوبر والقوة التي أظهرتها مصر وسوريا والمقاومة هي القاعدة الصلبة التي ارتكزت عليها الدول العربية في المقاطعة البترولية أولًا ثم في رفع أسعار البترول بعد هذا. والعرب حين يستثمرون أموالهم الفائضة في شراء مصانع مرسيدس بنز، أو ناطحات السحاب في نيويورك أو الكازينوهات في الريفيرا لا يقوون، وبالعكس، إنهم يبعثرون معادل القوة، وهم لن يقووا أيضًا بتقوية الدول الصناعية المتقدمة اقتصاديًّا وبمنحها القروض. إنما يقوى العرب بأن يتحولوا إلى مجتمع منتج يحول الأوراق المالية والسندية إلى إنتاج مادي حقيقي وليس مجرد أرقام في البنوك. إن الغرب يأخذ المادة الخام — النفط — مادة حقيقية كالدم ويعطيك في مقابلها دولارًا أو ينًّا أو إسترلينيًّا ولكنه مجرد ورقة، ورقة لا يمكن أن تكون لها قيمة إلا إذا تحولت إلى بضاعة أو مصنع.
وحين رفعت مصر شعار الانفتاح لم ترفعه لمجرد أن يأتيها بعض الطعام وتنشأ فيها بعض العمارات. الانفتاح مفروض أن يكون أصلًا لزيادة «الإنتاج» أي لإقامة مؤسسات وشركات «تُنتج» ويأكل المصريون ويأكل العرب من حاصل الإنتاج. وبالإنتاج الصناعي يقوى العرب ونقوى نحن فالإنتاج أيضًا هو المعادل الكامل للقوة العسكرية.
وأنا لا أعرف بالضبط ماذا يحدث على الصعيد الاقتصادي العربي، ولا معنى كل هذه اللقاءات والمؤتمرات الاقتصادية العربية.
ولكن الواضح أنه للآن لم يبدأ تنفيذ أي مشروع عربي إنتاجي حقيقي، لا في مصر فقط ولكن في أي بلد عربي آخر، أيكون الأمر لا يحدث صدفة أبدًا، وإنما مخطط مستهلكي البترول أن يضعفوا على الدوام منتجيه وبالذات يُضعفوا أكبر إمكانية إنتاجية يملكها الشعب العربي، مصر؟!
ذلك هو الواضح إلى الآن، وذلك هو السبب الحقيقي، وفي رأيي أن الأموال ليست رابضة على الحدود — كما يحلو لبعض كتابنا أن يصوروا الأمر.
إن السياح العرب لم يجدوا صعوبة أبدًا ولم يشتكوا من عطل أية أجهزة تليفونية مصرية أو مواصلات، إنهم، ها هنا، مئات الآلاف، يقومون بالاستثمار الجسدي خير قيام، لماذا إذن نجح هذا الانفتاح البشري بالذات، وتلكًا طويلًا الانفتاح الإنتاجي الحقيقي. الآن هذا الانفتاح البشرى بما يصاحبه من آثار سيئة جدًّا على مجتمعنا المتماسك يساهم في إضعاف الإمكانية الإنتاجية المصرية وبالتالي يضعف أكثر وأكثر من قوة العرب، بينما الانفتاح الإنتاجي الحقيقي يقوينا ويقويهم؟
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لنا في هذه الأيام الصعبة ألا نرى بوضوح وأن يساهم نفر منا في إفقادنا القدرة على الرؤية، ولا شك أن هؤلاء الذين يصورون لنا تقهقر المال العربي عن أن يتقدم بكم هائل لدعم «الإنتاج» في مصر وفي كافة الدول العربية أولًا وربما أخيرًا باعتبار أن العيب فينا وفي أجهزتنا واتصالاتنا، إنما يخدعون أنفسهم ويخدعوننا، بل ويخدعون رأسمال العربي نفسه عن أن يرى ما يفعله بنفسه وبنا.
إن كل العون الذي عُرض علينا — بل والمعروض حاليًّا — لا يتعدى ذرة مما يجب أن يكون. وليس هناك إلا تفسير واحد لهذا؛ إما إنها سياسية مرسومة لإضعاف العرب، وإما أن نظرتنا من القصر بحيث لم نعد نعرف ماذا يضرنا وماذا ينفعنا، ليعذرني الاقتصاديون أن أتحدث عن الاقتصاد، فعذري أنني مواطن كأي مواطن أصبح الاقتصاد هو شغله الشاغل، وأيضًا، كأي مواطن، أصبح لا «يأكل» الأحلام، خاصة إذا كانت فاسدة وكاذبة.