صحوة الإسكندرية
في هذا الخضم الهائل من العواطف المتناقضة والمشاعر المتباغضة والأفواه المفتوحة لا تعرف العدو من الصديق، وسط الطوفان هذا يسعد الإنسان حقًّا حين يعثر على لمسة تقدير أو وفاء أو حنان. ولقد هزني الحدث حقًّا؛ فرغم أنه كتاب، إلا أنه في رأيي حدث. الكتاب عن الفنان السكندري الموهوب سعيد العدوي، ذلك الذي اختطفه الموت من عامين شابًّا لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، والذي، رغم هذا العمر القصير، ترك ثروة من الأعمال التجريبية والطليعية في حقل الفن التشكيلي في بلادنا. الكتاب حدث لأنه في الحقيقة كتاب فاخر. وأن يصدر هذا الكتاب الفاخر عن وزارة الثقافة أو أية هيئة رسمية أخرى مسألة لا تدعو للدهشة، أما أن يصدر بقروش وجنيهات أصدقاء الفنان الراحل ويتكلف في رأيي ما لا يقل عن الألف جنيه، أصدقاء لا بد يعانون كما نعاني جميعًا من الأزمة، ومع هذا، يُصدرون الكتاب، على ورق جيد، ويقومون، وفي الإسكندرية نفسها، بهذا الجهد في سبيل عمل الأكليشيهات وطبع اللوحات، شيء لا بد يدعو للفرحة، فما زلنا رغم كل شيء نحيا، وما زلنا نستطيع، في سبيل الهدف، أن نعتصر أنفسنا حينًا ونمضي نفرض على الحياة وجودنا.
لقد بهرتني فعلًا بعض لوحات سعيد العدوي، تلك أول مرة أرى له إنتاجًا من سوء حظي. شعبي خارق إلى درجة العالمية، عميق إلى درجة البساطة وحتى السذاجة، تلقائي إلى درجة الصوفية، وحسن أنه كان يعيش في الإسكندرية، وجميل جدًّا أنه كان مُحاطًا بهؤلاء الأصدقاء، وله مثل تلك الزوجة المتفانية في رعايتها ووفائها. إن الفن، قبل أي شيء، رسالة خاصة جدًّا، من إنسان لإنسان، إنه نوع من البوح والاعتراف، ولا يمكن أن يصل الفنان لهذا التواصل العميق إلا وهو محاط بهذا الحب العميق، ورائع جدًّا أن يظل يحاط بهذا الحب وهو لم يعد يوجد، فأعماله هي الفنان، وكتاب «سعيد العدوي» الذي صدر عن أسرته وأصدقائه هو سعيد العدوي الذي يجب أن يظل حيًّا. ليس هذا فقط، بل أن يأخذ مكانته الجديرة به في سماء حياتنا الفنية. أليس هذا دور الثقافة ووزارة الثقافة؟
•••
رائعة أخرى تلقيتها من الإسكندرية، مجلة شكلها — صحيح — ليس كما يجب، ذكَّرتني بالمجلات التي كنا نُصدرها في ثانوي ونجمع ثمنها سلفًا من تلاميذ المدرسة لقاء إيصالات. ولكنها حافلة؛ حافلة بزهور حقيقية (وليست كزهور الهلال صناعية محنطة). براعم كُتاب يتلمسون طريقهم بأصالة وتفرُّد للتعبير عن الذات. شعراء يعزفون ذلك العزف الرقيق الأصيل الذي لا بد كان سيضيع تمامًا في ازدحام القاهرة وضجتها.
المجلة اسمها «الصحوة» وأعتقد أن مجموعة الكُتاب والفنانين الذين أصدروها لا يريدون بتعبير «الصحوة» أن يخاطبوا أنفسهم، إنما هم في الواقع يريدون لأمتنا كلها أن تصحو. وحقيقة، أمَا آن لأمتنا أن تصحو؟
إن أزمة نشر الإنتاج الأدبي في مصر لا تزال مستحكمة، وأنت لا تستطيع أن تنشر كتابًا في القطاع الخاص إلا إذا كنت توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ أو على الأقل تهاجم «العصر البائد» إذ قد بدأت دور النشر عندنا تعتمد على مصادر تمويل خارجي تؤثر بل وتختار ما يُنشر وما لا يُنشر، وأخوف ما أخافه أن تنقلب إلى بيروت أخرى. والأجيال المتعاقبة الجديدة تنمو وتصطدم رءوسها بالسقوف المسلحة ويحبط بعضها ويهاجر بقلمه من يستطيع أن يهاجر أو حتى يرحل بنفسه وجسده من يستطيع أن يرحل والغيوم شديدة الوطأة، ودور النشر في القطاع العام مشغولة تمامًا بالتجارة في كتب التراث، والبخار يتكاثف داخل الصدور بشدة، بخار التعبير المكبوت عن النفس والعصر، أمَا من طريق لنزع الفتيل عن القنبلة — قبل أن تنفجر — على حد التعبير الأساسي؟!
ﻓ «الصحوة» الإسكندرانية ليست هي الحل الأزمة التعبير في بلادنا؛ فنحن إذا كنا جوعى اقتصاديًّا، فظمؤنا الثقافي والتعبيري أكبر، وحلوقنا مشققة بالرغبة والحاجة، ولا بد من حلٍّ.