عزف وهَّابي منفرد
الأسلوب العبقري الجميل يخلق لصاحبه أسلوبًا أكثر عبقرية وجمالًا، والصوت الجميل يظل يجمل الصوت حتى ليبلغ به الإعجاز، الجمال يجمل، والقبح يقبح، والصفاء يؤدي إلى الصفاء، جميل أن تسمع عبد الوهاب المتحدث، مثلما هو جميل وأنت تسمع أغانيه، وما الفارق؟! لا فارق إلا أنه حفل ذو جمهور واحد، وأسطوانة لك وحدك. وهات يا عبد الوهاب ما عندك والحديث كان عن الندوة الحكيمية التي أقامها الشاعر الجميل فاروق شوشة وحشدنا فيها حتى أصبحنا «فرجة» يخيل إليَّ أن ربع الساعة الأولى من الندوة انقضى في عملية تأمل لما سماه فاروق ﺑ «العمالقة» أرقى الكائنات في حديقة الإنسان، يتطلع إليها الجمهور، كائنات غريبة «تفكر» ويقولون إنها «تنفع»، تُرى كيف يؤلف هؤلاء القصص والروايات، ويسرحون تلك السرحات التي تملأ المجلدات وتسوِّد بنَمَش مُلحٍّ غريب صفحات بأكملها من أوراق الصحف.
قلت لعبد الوهاب: افتقدتك في هذه الأمسية الثقافية.
قال عبد الوهاب بتواضعه الذي أعرف أن له ما بعده: وما لي أنا والثقافة يا عم؟ أنا راجل بتاع موسيقى.
هو يعرف تمامًا رأيي، ويدرك بشعيرات ذكائه الإلهي أطراف أطراف انفعالي به. يعرف أن النموذج الأعلى للثقافة في رأيي أن يكون الإنسان موسيقارًا؛ فالثقافة ليست معلومات تُحشر في أدمغة الناس، وليست دراسات عليا وإنسيكلوبيدات، الثقافة ببساطة متعة عليا جدًّا من متع النفس البشرية. تشبه إلى حد كبير مرحلة «النيرفانا» في عبادة اليوجا، حيث يظل الإنسان بروحه يصعد ويصعد إلى قمة بلا جبل، وإلى حيث تصبح الحياة بكل متطلباتها ومتعها ومباهجها قاعًا بلا بحيرة، يظل عليها إنسان ملك الدنيا إذ ملك نفسه، ملك السعادة لأنها أصبحت بإرادته بل لأنها أصبحت تأتي حتى بلا إرادته؛ إذ إرادته تكون موجهة للكمال الأعلى، وكلما صعدت وصعد بها تجتذب نسمات الاكتفاء السعيد «السعادة» كما تجتذب الزهرة، بلا إرادة أو جهد نحلها، وفي هذا الجو المشبَّع بالمجد والذوبان تحمل النحلة حبات اللقاح، ويحبُّ الكون نفسه من خلال الذكر والأنثى تلك الحيلة التي ابتدعها ليخلق اللذة من ذاته وبذاته ولذاته، ما أروعه من كون مخلوق خالق، وما أروعها من ثقافة!
فعلًا افتقدت الموسيقى مجسدة في عبد الوهاب في تلك الأمسية الثقافية ورحتُ، وأنا أحدثه، ونستعيض بالحديث عما كان ممكنًا أن يكون، رحتُ أستعيد تاريخي الغنائي من خلال هذا الرجل — الموهبة — الحنجرة أغانيه من خلال «ماكينة الغناء» الوحيدة التي نملكها في العزبة، ثم من خلال الراديو الزينيت هائل الضخامة الذي اشتراه أبي واشتركت القرية كلها في الترحيب به وحمل بطارية العربة الثقيلة التي يعمل بها. في الليل لما خلا إلا من الشاكي، الصوت يأتي، تحمله نسمات الصيف وأتصور هذا الذي يغني، أجمل إنسان ممكن أن تقع عليه عينك، شاب شعره من فضة ووجهه من ذهب وعيونه من ماس، يغني لليل فأذوب عشقًا لليل، وللحبيب فأخلق وأختلق الحب والهجر والعذول. ويقول: يا دنيا يا غرامي فأذوب في الدنيا غرامًا وهيامًا، ويضيع في الأوهام عمره، فبكل ما أملك من كرم وبذخ أضيع معه أنا الآخر عمري وحلمي وأتمنى استحالة صباي أوهامًا أبعثرها في مدينة أسطورية يجوبها جندول حالم، ومعي هذا المستحيل الحبيب الذي كلما قلت له خذ، قال: هات. يا حبيب الروح. يا حبيب الروح فعلًا يا عبد الوهاب. حتى اسمك، حين يقوله الصوت الأجش في بداية الأسطوانة: الأستاذ محمد عبد الوهاب. تشرئبُّ أعناق انتباهنا، ونستعذب، ونجلُّ ونعشق الاسم وحتى كلمة الأستاذ: حديث. والصوت جميل والموضوع عذب. لحظة من تلك اللحظات القليلة التي يستمتع الإنسان فيها أنه قريب من ذلك العالم المجهول، عالم الفن، وأن الفن أولًا أساسًا وبادئ ذي بدء، ليس همًّا فوقه هم، وليس مسئوليات وأكوام هباب أسود وأزرق، وإنه إذا لم يكن عمله الأول أن يسعد النفس، نفس منتجه ونفس مستقبله فلا كان الفن ولا كان الفنانون.
يبدو أننا فعلًا كثيرًا ما نقسو على ذواتنا بلا داعٍ أو معنًى، وبدلًا من أن نخفت من نار الجحيم الذي أحيانًا ما نعيش فيه نزيد ناره اشتعالًا نتعذب بعض الشيء فنعذب أنفسنا ونعذب الآخرين، وعذابًا بعذاب فلتستحيل الحياة إلى جهنم لا تطاق.
وليته جحيم الحركة لأمام، أو جحيم حل، ولكنه جحيم محلك سر، وزئير «الجير بوكس» والفيتيس في حالة «مور» ذلك الذي يهري الموتور ويبري الحديد. وما نحن بحديد. إن نحن إلا خلايا حية بالغة الرهافة. أرواحنا أرق وأدق من حفيف الفراشات، ما أسهل، بضغطة من هنا، وضغطة من هناك، أن تختنق، وتموت ونموت، حتى لو بقينا أحياءً، فما فائدة البقاء بلا روح، أو بروح غير بشرية من حجر أو فولاذ.
«أعد يا عبد الوهاب.»