أقوى من الأسود
ما من مجلس يضم أناسًا من أي مستوًى أو لون إلا ويبدأ كالعادة يناقش أمورنا العامة، وما من نقاش لأمورنا العامة يتم إلا ويئوب في النهاية إلى عملية نقد لاذع لجمهورنا وشعبنا وإنساننا، تبدأ عيوبه تتفتق، ومِن قائل إن النظافة طبع ويبدو أنها ليست في طبعنا، ومِن قائل إننا لا نملك شجاعة المواجهة، ومِن قائل إن آلاف السنين من الاستعمار ومن حكم الأتراك والمماليك قد علمتنا السلبية والجبن أمام السلطة والنميمة خلف الظهر والتقارير السرية والنفاق، النفاق بكمٍّ ونوع وبابتكار، نفاق نبزُّ به شعوب العالم أجمع ولا يتمتع بالقدرة عليه أي أناس على وجه الأرض … و… لا تنتهي قائمة العيوب.
أرى كل ذلك، وأرتد بذاكرتي إلى حقبة مضت، كنا نراهق فيها مع الثورة ونكاد نقول إننا نحن شعب الله المختار، أذكى الناس وأصل الناس وأشجع الناس وأقوى الناس وأحكم الناس وأمجد من وُجد.
وهكذا الأمر في رأينا في أنفسنا يتذبذب بين أقصى التمجيد ساعات الامتلاء بشعور النصر ولو كان كاذبًا، ويهوي إلى أسفل قاع أيام الإحساس بالضعف أو الشعور أن المشاكل أكبر منا. بمعنى أن نظرتنا إلى أنفسنا أبدًا ما كانت في لحظة من لحظات وجودنا نظرة موضوعية.
أن نأتي إلى إدراك أننا لسنا أشجع الناس ولسنا أجبن الناس، لسنا أذكى الناس ولسنا أغبى الناس، لسنا أنظف الناس ولسنا أقذر الناس، أن نأتي إلى شيء كهذا مسألة غير واردة بالمرة أو تلك هي الحقيقة، ومواجهة الحقيقة ليست في حاجة إلى شجاعة خارقة أو حتى جبن خارق وإنما هي في حاجة إلى الاتزان، سمة النضج، سمة البلوغ مبلغ الرجال، سمة ترك مرحلة الصبيانية والمراهقة ودخول عالم الواقع، الدنيا الكائنة خارج النفس، دون انفعال، تلك هي مشكلتنا.
ورغم هذا، ورغم أن الشعوب إذا اختلت نظرتها إلى أنفسها بمثل ما اختلت نظرتنا، تئوب في العادة إلى ضياع، إلا أننا لم نضع، وبالقياس على ما كان وما هو كائن يبدو أننا لن نضيع.
إننا نمرُّ بمحنة وجود. هذا حقيقي. وأنا شخصيًّا أُفاجأ حين أزور موقعًا أو مؤسسة وأجد أعمالًا كثيرة تنجز، وتقدمًا حقيقيًّا يحدث، ذلك أننا، بالطريقة التي نحيا بها، كان مستحيلًا أن نعمل أو ننتج أو ننجز. يصحو الإنسان من النوم، وارم القلب بما دار بالأمس، مثقلًا بالمطالب التي يحملها يوم آخر قادم، يوم رهيب آخر، يترك بيته لا بد بمشادَّة أو بخناقة أو بتهديد أجوف يزعق به هابطًا السلم أنه لن يعود. وهو عالم تمامًا أنه سيعود.
في العمل تجتمع القلوب الوارمة وتتحادق الأجفان الوارمة وميل غريب إلى تسفيه أي شيء وتتفيه كل شيء. وأي إنسان هو بالضرورة سيء وبالضرورة ملعون. أبدًا ما تسمع كلمة طيبة تقال في حق غائب أو غائبة؛ إذ ما تكاد تبدأ طاحونة السيرة تدور إلا وتطحن في طريقها كل من يلقي به سوء حظه في طريقها. آراؤنا في بعضنا سُمٌّ زعاف يهري أي نموذج طيب ويدمر أي نية لسلوك طيب. في الشارع في الترام والأوتوبيس وركوب التاكسي وبين السيارات، الزقِّ والدفع والزغد والشد والجذب، لم يعد احترام في الجامعة أو حتى في أرقى المواقع في القضاء، في أعلى المجالس، المقالب والمفاجآت السيئة بتصرفات كريهة الرائحة فاقعة الدناءة. ماذا حدث؟ مفروض أن تقوم القيامة قبل الوصول إلى هذا بكثير، ولكنا وصلنا إلى ما هو أدنى ولم تقم بعدُ القيامة، ولا هناك علامات للساعة، ما سبب كل هذا الاختناق إذن؟ لماذا نخربش بعضنا البعض بأظافر من صفيح جارح لا يرحم وكأن كلًّا منا زوج أُمِّ الآخر أو ابن الحرام لإخوة أشقاء حلال؟ كمية الغيظ التي يحملها أي منا لأي منا أكبر بكثير من أن يحتملها قلب بشر. الابن مغتاظ بلا سبب من أبيه، والأب من الأم، والأم من الأب والدنيا وحتى الأولاد. في حياتنا لم نشهد إلا كل عشر سنوات مرة أن تقتل أمٌّ طفلها، ما لهذه الحمى من أمهات خلال شهر واحد تخنق الأطفال، لم نعد نقرأ حوادث تُنشر عن الرشوة فقد أصبحت القاعدة والنشر إذا حدث لا بد أن يكون عن الشاذِّ الذي رفض. لم تعد هناك أخبار عن انتحارات، والانتحار الوحيد الذي تم ونشرت عنه الصحف كان عن غيظ دفين من الناس ورغبة عارمة في تدميرهم وتفجير عشر أنابيب بوتاجاز لتنهار فوق رءوسهم العمارة. ليس انتحارًا وإنما رغبة دفينة في القتل، قتل الآخرين، وقتل النفس غيظًا من الآخرين. إنني، أحيانًا، وفي لحظات وضوح الرؤيا القليلة، أرفع عيني عن الواقع، وأتساءل: أليست معجزة حقيقية أننا نحيا؟ ألسنا جبابرة، إننا رغم كل ما نحمله داخلنا وخارجنا يستطيع، بعضنا على الأقل، أن ينتج، ويدير عجلة حياتنا الهائلة!
أليست البطولة الحقة هي أن لا تفعل كما يفعل المتوحشون في أمكنة أخرى من العالم وتمسك بالسلاح الأبيض أو الأحمر وتفرغ من عدوك أو وضعك وإنما، هكذا، تتحمل، وتمضي بالحياة قدمًا وأنت مدرك، بحكمة عليا قلَّ أن يمتلكها شعب، إن مصير السواد إلى زوال، وحتمًا إلى بياض.
ومع احترامي لكل المتحمسين لشعبنا ولرفعه فوق كل الرءوس، وكل الناقدين له وحارميه من أية ميزة، أقول، أنتم بعد لم تفهموه.
ولكي تفهموه، انظروا ماذا تفعل الحياة به الآن، وماذا يفعل هو بها. إني لأنحني أمام قدرتك الخارقة أيها الشعب. أتعلم منك ومن صبرك، أتلمس حكمة سكوتك وحكمة لطفك؛ فلا أصدقاؤك عرفوا مواطن عظمتك ولا أعداؤك فهموا سرَّ تصرفك، وبرعونة وصفوك بالأوصاف الجاهزة، فسرُّك أيها الشعب من سر الحياة. أنت أول من أدرك أن الحياة ممكن خلقها واستنباتها فكانت الحياة، ومنذ ذلك التاريخ السحيق، صنعتك، بينما كانت الخناجر والسيوف والديناميت والطعن — ولا تزال — صنعتهم.
ما أسهل وأحمق ما تحل الرصاصة مشكلة عاطفة أو إحساس.
وما أصعب أن تحل الإحساس بالإحساس، والظلم بالعدل والإهانة بالترفع.
ولهذا فالضغائن الصغيرة الكبيرة التي تحفل بها صدورنا حلول مصرية تمامًا لمشاكل يحلها الآخرون بالمدفع.
والحل الإنساني بالتضاغن أرفع ألف مرة من حل وحشي بالتقاتل فالإهانة أكبر، الإهانة ليس أن يهينك أحدهم أو يظلمك، ولكن الإهانة الحقيقية لك أنت ولكرامتك ولإنسانيتك أن تقتل الآخر، أن تواجه الظلم بأن تظلم حل ليس من شيمنا، ويبدو أننا نفضل أن نمرض من أن نلعن أو نضرب. حل مصري آخر وليس تبريرًا، ولكنه حل واحد من كثير من الحلول غير التقليدية التي نواجه بها عالمًا لم يفهمنا، ولم يدرك مثلًا حكمة الأمثال الشعبية التي قيلت عن «الغز» أي الممالك وقت حكم وظلم ولاة الترك والمماليك.
ربما لو تأملنا، بدل أن نسخط على أنفسنا، أو نمجِّد أنفسنا أو ننهش أنفسنا بأنفسنا، ربما لو تأملنا لأرحنا واسترحنا، على الأقل أرحناها من رأي الآخرين فينا، أولئك الذين لا يفهمون، والذين يؤرقهم أننا لا نحل المشاكل على طريقتهم، وحين نتبنَّى رأيهم فينا نتعذب، وانتهت الصفحة، ولكن الخواطر لم تنته، فماذا أفعل؟!