الأزمات بالطول أم بالعرض؟
الآن، وبعد أن انزاح كثير من الهمِّ أعتقد أنه قد آن الأوان لمناقشة مشكلة الأولويات في حل مشاكلنا، فهناك اتفاق يكاد يكون عامًّا — ولا أدري ما الذي جعله كذلك — على مبدأ أن نحل مشاكلنا بطريقة الأولويات، فبعد أولوية مشكلة الجلاء عن سيناء تبدأ «أولوية» حل مشكلتنا الاقتصادية ثم بعدها تأتي «أولوية» حل مشكلتنا السكانية، ثم يليها حل مشكلة التضخم السكاني وهكذا.
وكأننا نريد أن نصف مشاكلنا طابورًا ونحلها بادئين بالأكثر حدة فالأقل وهكذا. والغريب أن أحدًا لم يناقش للآن هذه الطريقة في حل المشاكل وكأنها قضية مسلَّم بها مع أنها في رأيي طريقة أبدًا لا يمكن ومن المستحيل أن تنجح، فلو افترضنا الوضع السابق، وجعلنا من المشاكل طابورًا، فإن الذي سوف يحدث أننا حين نكون قد انتهينا من حل المشكلة رقم «٣» مثلًا في هذا الطابور تكون المشكلة رقم «١»، وقد خُيِّل إلينا أننا انتهينا منها بإعطائها الأولوية في الحل، تكون قد عادت للظهور وبطريقة أحدَّ، وهكذا بالنسبة للمشكلة رقم «٢» ذلك أن رصَّ المشاكل على هيئة طابور قد يصلح في علاج مشاكل الفرد الواحد أو العائلة الواحدة — رغم أنه في هذه الحالات الفردية أيضًا لا يصلح، ما دامت المشاكل موجودة معًا فالطريقة الوحيدة لحلها هو أن تحلَّ معًا، وفي آن واحد، ولا تحول حدة مشكلة وبين أن نولي نفس الاهتمام للمشاكل الأقل حدة، فالعلم يؤكد لنا أن مشاكل الشعوب كلها جميعها مترابطة ومتساببة وكل منها يؤدي إلى الآخر بحيث لا يمكن أبدًا الفصل بين المشكلة النتيجة والمشكلة السبب؛ فالمشكلة الاقتصادية تُعتبر مشكلة زيادة السكان في وجهها الآخر، والمشكلة الاقتصادية والانفجار السكاني، هما بعينهما المشكلة الإسكانية، ولا يمكن أن يُحلَّ أيٌّ منهما بمعزل عن حل الأخريات.
أقول هذا بمناسبة التركيز على حل المشكلة إلى حد البدء بعقد مؤتمر خاص لها، فمؤتمر كهذا كان واجبًا أن يكون مجرد لجنة من مؤتمر قومي عام، تُطرح فيه كل مشاكلنا دفعة واحدة، وتتدارس العلاقات بينها، ونصل أولًا إلى حلول «عامة» لكافة المشاكل ثم نبدأ في عمل لجان تخصص لإضافة ما تستلزمه كل مشكلة خاصة من إجراءات خاصة للحل.
وما ابتكرت كلمة «ثورة» للدلالة على هوجة سياسية عنيفة تجتاح البلاد، إنما الحل «الثوري» هو في حقيقة أمره حل كافة المشاكل دفعة واحدة؛ إذ إن الإجراء الثوري ليس هو الإجراء الأحمق أو الأهوج أو المتسرع وإنما هو الإجراء العلمي الذي تمتد آثاره إلى مُختلِف المجالات ليحدث التغيير في وقت واحد.
والإجراء الثوري تلجأ إليه الدول حين تتساند المشاكل وتتكاتف وتتكاثر بحيث لا يمكن رصها في طابور، وإنما لا بد من رصدها رصدًا عرضيًّا وإيجاد الحل الواحد الذي يقضي عليها معًا وفي وقت واحد.
وأنا لا أعني بالحل الواحد الحل الوحيد وإنما قد يكون الحل الواحد عدة حلول تُنفَّذ معًا.
وأيضًا أنا لا أتحدث هنا عن «مضمون» الحل، ولكني أتحدث عن شكل المعالجة؛ إذ مضمون الحل لا يمكن أن يضعه قلم واحد أو إنسان واحد وإنما هو مؤتمر واحد لا يناقش «مصر الغد» وإنما أولًا يناقش «مصر اليوم» لنعرف أين نحن أولًا قبل أن نعرف إلى أين نسير.
أليس هذا هو المنطق في أبسط صوره؟