عن الزمن والزمان
إذا لم يأتِ التغيير في أوانه
يقولون إن لكل شيء أوانه، ولكل فاكهة موسمها، ولكل حال مقتضى أو الوقت المناسب الذي حين يحدث الشيء خلاله يأخذ كل أبعاده ويتحقق له المعنى والهدف.
والمسائل في الكون لا تأتي صدفة؛ البطيخ يُؤكل في الصيف إذ هو فاكهة صيف، ولو أُكِل في الشتاء لما أحسسنا له بذلك الطعم الخاص به، والذي يعطي للبطيخ نكهته الخاصة، تلك النكهة التي تبلغ نهايتها العظمى وفاعليتها الكبرى فقط في عز الصيف؛ ولهذا لا ينضج البطيخ إلا في الصيف، نفس درجة الحرارة التي تنمو فيها بذوره. ودرجة الحرارة وكم الرطوبة التي بدونها لا ينضج، هي نفسها العوامل التي تخلق عند الإنسان «ملتهمة» الرغبة والشوق لالتهامه.
وليس الأمر مقصورًا على الفاكهة والخُضر وحدها، بحيث يئين أوان بعضها شتاءً ولا يثمر البعض الآخر وتشتاق له إلا صيفًا، وإنما كل ما يحدث في الكون له أوان، ثمة ساعة كونية منضبطة تمسك بأحداث الكون وتغير الفصول في موعد محدد تمامًا لا يتغير أبدًا، وتعطي للأشياء والأحداث موسمها الذي إذا تزحزح عن موعده فقدت معناها، بل هو مستحيل أن يتزحزح عن موعده إلا إذا تدخَّلنا نحن بإرادتنا وغيَّرنا من طبيعة الجو وقوى الطبيعة لنجعله يثمر في غير الأوان، ولكننا حتى إذا فعلنا هذا لا نستطيع أن نغيِّر من طبيعتنا نحن بحيث نتقبَّل الشيء في غير أوانه.
بل إن رغبات الإنسان وحنينه إلى التغيير له أيضًا أوان، فالشوق إلى الأشياء والأحداث له أيضًا أوان، بحيث إذا لم يحدث التغيير في أوانه، فمن المؤكد أنه يفقد طعمه وفاعليته. وربما من أجل هذا جعلوا تغيير الحكم وإجراء الانتخابات في النظم الديمقراطية بأوان، أو أنه لم يأتِ عبثًا، وإنما ظلَّت تلك النظم تُجرِّب وتخطئ وتختار حتى وجدت أن الشعوب في حاجة لإعادة النظر في حياتها وممثِّليها وحكوماتها كلَّ أربع سنوات أو خمس؛ إذ ربما لو جعلوها كلَّ سبع سنوات لَفقدت فاعليتها وفائدتها، أو لو قصروا المدة إلى عامين أو عام لَجاء التغيير بغير أن تكون الرغبة في التغيير قد تكوَّنت؛ ولهذا لا يأبه الناس له.
أقول هذا بمناسبة الحديث الكثير عن ضرورة التغيير ونوع التغيير، وأي تغيير يكون، فمهما كانت نوايانا أن نغير، فالأهم من التغيير أن يجيء في موسمه تمامًا، وفي لحظةِ حاجةِ الناس له وشوقهم إليه بحيث لا نقدِّم لهم البطيخ في الشتاء، أو شربةَ العدس في الصيف، وحينذاك يكون التغيير قد فقدَ أهمَّ ركن من أركانه؛ فاعليتَه التي لا تتأتَّى إلا والناس متحمِّسون له ومشتاقون إليه، لا قبل الأوان ولا بعد فواته.
عن الزمن والزمان
يا له من شعب عجوز حكيم ذلك الشعب، شعبنا!
كنت أتأمل تلك الحكمة الإلهية التي قضت أن يخلق الله سبحانه الدنيا في ستة أيام، إننا نعرف تمامًا أنه القادر وحده على أن يقول للشيء كن فيكون، بمعنى أنه كان قادرًا سبحانه أن يقول للدنيا كوني فتكون، وأن يحدث ذلك في ومضة، فما هي الحكمة أن يخلق الله الدنيا في ستة أيام؟!
أيكون لأنه سبحانه أراد أن يُعلِّمنا درسًا وأن يرينا أن عنصر الزمن يُشكِّل أهم عنصر في الوجود؛ بحيث إنه أدخله في صميم عملية الخلق ذاتها، فما بالك بالإنسان؟
فما بالك بنا — نحن المصريين — وعنصر الزمن عندنا يلعب أتفه الأدوار في حياتنا؛ إذ هو عندنا لا قيمة له بالمرة، مع أن العُمر زمن، والتحضُّر زمن، والنجاح زمن، والثروة زمن، والفشل أيضًا هو ذلك الزمن الممتد الأجوف الذي لا يحدث له أو فيه أيُّ تغيير.
بل إننا إما يأسًا أن يدخل الزمن في تركيب عقلنا وتصرُّفاتنا، أو ربما إهمالًا تامًّا لشأنه، قد صغنا نحن المكَّارين لنتخلَّص من عبء الزمن ومروره السيفي القاطع معجزة لغوية لا يقدر عليها إلا شعب مثلنا حكيم جدًّا وعجوز جدًّا وشديد الذكاء؛ فنحن لا نقول الزمن ولكننا نقول الزمان، وكأنما نستخفُّ به أو نُدلِّلـه، بل إننا لَنفعل أكثر من هذا بكثير، فبواسطة حرف واحد «الألف»، الذي أدخلناه على كلمة الزمن، فجعلنا له ثلاثة معانٍ أو ثلاثة أبعاد، فنحن حين نقول الزمان، إنما نعني به الزمن الذي يُقاس بالدقيقة والثانية، ونعني به وبنفس الكلمة عتبًا على الزمن الذي صنع بنا ما صنع، والذي يكبر به الناس ويرتقون ونحن به قد ضعفنا وانحططنا خلال عشرة آلاف عام كان من الممكن أن تخلق منا أرقى وأغنى وأقوى شعوب الأرض، ولم نكتفِ بمعنيين أو بُعْدين أخذتهما الكلمة، وإنما بذلك الحرف أيضًا صنعنا معنًى ثالثًا له وبُعدًا آخر، إن الزمان أيضًا هو المقدر والمكتوب علينا. بحرف واحد جعلنا للكلمة الواحدة ثلاثة معانٍ: الزمن، ورأينا فيه وعتبنا عليه، ثم غيظنا منه باعتباره مُقدَّرنا ومكتوبنا. مَن يدري، ربما لو قصرنا الزمن على الوقت لَأدركنا قيمته وخطره مثلما أدركت باقي الأم فسبقتنا، ولكن لأننا، كعادتنا، لعبنا بالزمن مثلما نلعب بالكلمات وأضفنا له ذلك الحرف، ربما لهذا لعب بنا الزمن هو الآخر وشبع لعبًا، فكما أن ذكاء المرء محسوب عليه، ففصاحته أيضًا قد تضيِّعه مثلما ضيَّعتنا.
لا ننبش الماضي ولكن …
الزمن إذن ليس سوى لعبة في يد الزمان، هكذا تصوَّرناه — نحن المصريين — وانكببنا على فكرة الزمان إلى درجةِ أن نسينا تمامًا عنصر الزمن في الزمان، نسينا البُعد الأساسي والرئيسي لأي شيء وكل شيء، عنصر الزمن، والزمن مستمر أبدًا لا يتوقف، المستقبل يتحوَّل إلى حاضر، يتحوَّل بدوره إلى ماضٍ، وهكذا الدنيا.
والإنسان هو الكائن الحي الوحيد المُدرك أو الذي أدرك ووعى بفكره الزمن ومروره وخطورته الكبرى، ووعي الإنسان بهذا هو المسئول في رأيي إلى حد كبير عن هذا التطور الهائل الذي قطعته وتقطعه البشرية، بل هو المسئول عن فكرة التسارع المهولة في رأيي؛ لأنها في بضعة أجيال قليلة نقلت الإنسان فجأةً من سرعة الحصان إلى سرعة الكونكورد الأسرع من سرعة الصوت، وسنتطوَّر إلى أسرع وأسرع بطريقة ندوخ حتمًا لو فكرنا فيها، والكارثة أننا شئنا أم أبينا لا بد أن نفكر فيها بمعنًى آخر؛ إذ يتسارع أيضًا كمُّ ما نعانيه من قلق ورعب كالراقصين المضطرين أن يغيِّروا سرعة الحركة كلما تزايَد الرتم أو الإيقاع، وكما يحدث لبعض الناس في حلقات الذِّكر، ونتيجة لانطلاق حركة داخلية عنيفة عُنف حركات الذِّكر، يبدأ بعض الذاكرين يتكلَّمون بالسرياني، ونعتبرها هلوسة أو تخاريف في حين أنها ليست سوى تسارُع في تعبير المخ عما يدور داخله بحيث لا يعود مهمًّا أن يفهمنا الآخرون أو نفهمهم نحن أنفسنا؛ فينفلت منا العيار وتنطلق الأفكار تلو الأفكار.
الزمن والزمان، لا بد أن نتذكر دائمًا عنصر الزمن؛ فنحن نعيش في عالم تتسارع فيه خطوات شعوبه إلى الأمام بطريقة تُذهل، إن القفزات الهائلة التي قفزتها بلاد كاليابان والهند وكوريا وحتى سنغافورة من شرق آسيا إلى غربها، آسيا بالذات، قارة القرن الحادي والعشرين مرحبًا بذراعنا الآسيوية، سيناء تعود، فربما انتشلتنا من حظ قارة أفريقيا السيئة الحظ الغارقة وحدها في عالم كل ما فيه طافٍ. أذكر هذا كله وأتحدث عن فكرة الزمن والزمان بالذات؛ لأننا نعيش قضية غريبة هي قضية علاقتنا بالماضي، وهل ننبشه أم نُهيل عليه التراب ونمضي نتطلع إلى المستقبل فقط. كل ما أخشاه أن يسيء البعض فهم قضية، أن ننسى الماضي تمامًا وأن نتطلَّع إلى المستقبل، صحيح أن مَن يَتُبْ يَتُبِ الله عليه، ولكن لا بد حتى لكي يتوب الإنسان عن شيء أو من شيء أن يعرف ويدرك أنه كان على خطأ، وأنه يريد صادقًا أن يعود للطريق القويم، حسن تمامًا، ولكن المشكلة أن بعض الناس لا يريدون أن يدركوا أنهم أخطئوا وأنهم يحيَوْن خطأ الماضي بزعم أنه أصبح حاضرًا وانتهينا. لا أيها السادة، إن فكرة عدم نبش الماضي مقصودٌ بها بالتأكيد استنكار أن يحاول البعض نبش الماضي لمجرد التشهير بالماضي أو استغلاله كوسيلة لعقاب الناس. مَن تاب تاب الله عليه، ولكن لا بد أن يدرك أنه تاب حتى لكي نعرف نحن أحياء الحاضر إن كنا على خطأ أو صواب؛ إذ لا يمكن إقامة حاضر متين ونتطلَّع لبناء أدوار عُليا في المستقبل إلا على أساس، والأساس هو الماضي؛ ولهذا فنحن مضطرون — شئنا أم أبينا — أن نعرف، ونحفر من أجل أن نعرف، لكي نضع أساس البناء؛ ولهذا فهناك فارق كبير بين السكوت تمامًا عمَّا حدث في الماضي، وبين نسيانه تمامًا وكأنه لم يكن، لقد كان، لقد حدث، ولكن مشاكل الحاضر ليست إلا امتدادات لأحداث وعوامل حدثت في الماضي، ولكي نحلها لا بد أن نعرف لماذا حدثت ومَن أحدثها، وكي لا نقع في نفس الخطأ مرةً أخرى نحن مضطرون إذن أن نضع الماضي نُصبَ أعيننا دائمًا حتى لا نفقد الطريق إلى المستقبل الأحسن. وحين أقول الماضي لا أعني به فترة عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة مضت؛ حين أقول الماضي أعني به التاريخ كله، تاريخ كل شخص وكل حدث وكل واقعة، وعلى رأي الصديق الكبير أحمد بهاء الدين: كل أيام لها تاريخ، وكل إنسان له تاريخ، بل إن الإنسان يتطور؛ لأنه الكائن الوحيد الذي يعي تاريخه ولا ينساه بحيث بتراكُم خبراته تحدث التغيرات. لا ننبش الماضي لمجرد النبش والإذلال. كلام نحن موافقون تمامًا عليه. لا ننبش ولكن أيضًا لا ننسى؛ إذ لو فعلنا هذا لَارتكبنا جريمة في حق أنفسنا نحن الحاضرين، وفي حق أجيالنا القادمة أيضًا؛ لأننا نكون كالشاب السعودي الذي يُفقِد نفْسَه ذاكرتَه باعتبار أنها معوِّق لنظرته إلى المستقبل. إن أي مستقبل لا يمكن أن يأتي من فراغ، إن المستقبل إفراز الحاضر، والحاضر إفراز الماضي، ولكي يكون هناك مستقبل؛ فلا بد أن يكون ثمة حاضر وثمة ماضٍ، نراها جميعًا بكل وضوح ودون أي تعامٍ أو تناسٍ، ولتصبح القاهرة مكة بعد الفتح الإسلامي العظيم يومَ قال رسول الله ﷺ لكل الكفار: اذهبوا فأنتم الطلقاء. اذهبوا إذن أيها السادة فأنتم الطلقاء، ولكن الطلقاء إلى أين؟ تلك هي المشكلة، إلى العودة للعبث بالذِّمم والقِيم والضحك على الناس الطيبين، لا وألف مرة لا. أنتم الطلقاء وإن كان كل كافر منكم في حاجة لفتح ملفه الخاص ليقول له الشعب: من أين لك هذا؟ وكيف أصبح لك ذاك؟ وكيف وصلت إلى النفوذ أو النقود؟ لنغلق الملفات؛ فالآن ليس وقت الحساب ولكن فَلْنحفظْها ونَعِها جيدًا ونعلِّم أبناءنا محتواها ونَقِهم ونَقِ أنفسنا من الوقوع مرة أخرى في خية أي ثعلب أو مسعور أو أفعى سامة رقطاء.
أجل لا بد أن ندخل في سباق مع الزمن؛ فلقد تأخرنا وبشدة ومطلوب أن نُسرع ونتسارع وننطلق، فَلْننطلق، ولكي نندفع بأقصى قوتنا لا بد أن نقف على أرض ثابتة وقِيَم ثابتة، وإلا نكون كمَن يخدع نفسه. وليس كمثل الإنسان قدرة على خداع نفسه وفي ظنه أنه بهذه الطريقة سينجح أيضًا في خداع الآخرين. أنه لجدُّ واهمٍ؛ إذ هو لا يخدعن سوى نفسه، فكل العيون شاخصة كاشفة ساخرة، إذ العيون هي الأخرى لها ذاكرة.