التثقيف اللاسلكي
وأنا أستعد لمواصلة الكتابة ومناقشة الدراما في التليفزيون تُوفِّيت أماني ناشد. نشرت الصحف خبر وفاتها وفي اليوم التالي شُيِّعت جنازتها. وحتى قبل أن تُشيَّع الجنازة، لم أُفاجأ حين أصبح الخبر حديث الناس، وكذلك أصبح الموضوعَ العاجل لأكثر من تعليق متحسِّر ودمعة باكية مكتوبة. كم قرَّبتنا أحداث الأعوام الأخيرة حتى لتكاد تجعلنا — رغم تضاعف عددنا البشري — عائلة حميمة يتتبَّع كل منا فيها أخبار الآخر وكأنه قريبه أو رفيقه، ويصبح الموتُ الواحد مأتمَنا كلنا، والعزاء نكاد نتقبله ونتلقفه جماعة. أحسست بالحرج؛ فأنا أريد مواصلة الحديث الذي بدأته، وأريد في نفس الوقت أن أقول كلمة في حق إنسانة عرفتها وشاهدتها ولي رأي فيها، حرجي أن شتان بين الموضوعين، ما أريد قوله وحادث الوفاة، فإن أنا تجاهلت وفاة أماني واستمررت فيما بدأته كذبت على مشاعري العميقة، وإن أنا انسقت وراء تلك المشاعر، خرجت عن الموضوع الذي وعدت القارئ باستكماله، ولكن، يا لغرابة ما اكتشفت! إنني مهما قلت عن أماني ناشد، حتى ولو كان شرحًا لأحاسيس ذاتية، فأنا داخل الموضوع لن أخرج عنه؛ إذ الموضوع هو ثقافة الشعب من خلال وسائل الإعلام الواسعة الانتشار وعلى رأسها التليفزيون، وانعكاس ما يقدِّمه جهاز كهذا من ثقافة على سلوكنا كجماهير وتصرفاتنا، وأماني ناشد — في رأيي — كانت وسيلة من وسائل التليفزيون الثقافية، ولقد حزن الناس عليها، هذا حقيقي، ولم يحزنوا عليها باعتبار أنها نجمة أو وجه أليف كاد يصبح من مكونات وجوه العائلة المصرية. السبب الأعمق للحزن عليها هو أن الناس افتقدوا فيها وسيلة مُثلى من الوسائل الثقافية التي يُطالعهم بها هذا الجهاز. في الأسبوع الماضي انتهيت إلى أن الثقافة في التليفزيون لا نتلقاها فقط من خلال البرامج الثقافية المباشرة التي يقدِّمها ذلك الجهاز، وإنما الأخطر من هذه الثقافة المباشِرة هو ما نتلقاه من ثقافة غير مباشرة، وعلى رأسها مظهر وسلوك وثقافة المذيعات ومقدِّمات البرامج فيه. وكما قلت، لم أدهش لمبادرة أكثر من صاحب قلم ومُعلِّق وصحفي للكتابة عن أماني ناشد، بل أيضًا لم أستغرب اشتراك هذه الأقلام في عزف نغمة تكون واحدة وفي التحسر على سيدة شابة جادة غير مبهرجة المظهر أو مفتعلة الظرف، تحرص على موضوعها الذي تقدِّمه أكثر مما تحرص على طريقتها في اختيار مظهرها، بصدق تتناول المادة التي تتناولها وبصدق تقول رأيها، وببساطة، وبعناد أيضًا، تُناقش ضيفها، وتُخرِج أسئلتها وكأنما قد جمعتها من فوق ألسنة المشاهدين. هذه الصفات، وكثير غيرها، نعاها الكُتَّاب والمشاهدون، ذلك أنها بالضبط تلك الصفات التي تثبت ما أردت قوله من أن الثقافة غير المباشرة التي يقدِّمها التليفزيون، ونماذج التصرف من نجومه والعاملين فيه، هي مصادر ثقافية أساسية أهم كما قلت من محتويات أي برنامج مقصود به أن يقدِّم علمًا أو ثقافة أو رأيًا. والفرق بين أماني ناشد في هذا وبين غيرها، أن نموذجها هي وهِمَّت مصطفى وسلوى حجازي وليلى رستم ودرية شرف الدين وأخريات قليلات، نموذجٌ للتصرف والمظهر والمثل الرفيع في الشكل والسلوك، ذلك الذي يوصل للجمهور ويعكس ثقافة لا بد أن تكون رفيعة هي الأخرى وجادة ومفيدة.
هل توقفنا — أكثر مما يجب — عند الشكل؟
لا أظن، فالشكل أبدًا ليس شكلًا؛ الشكل هو الجزء الظاهر من جبل الثلج، وقد يزعم كثيرون أن الظاهر غير الباطن، وأننا إذا كنا جادين في مناقشة أية قضية فلا بدَّ أن نتجاوز الشكل إلى المضمون، وهذا غير صحيح على إطلاقه؛ فالشكل مضمون، والمضمون شكل، وما الثورة التي أحدثها التليفزيون سوى إكمال مضمون أو موضوع أو حديث، وذلك بإضافة «شكل» المتحدث، و«شكل» الممثل، و«شكل» المتحدثين، للوصول بطريقة أكمل وأعمق إلى صافي ما يقدم من «صدق».
والناس أكثر حساسيةً مما نتصوَّره بكثير، والمُشاهِد العادي باستطاعته — لو أوتي القدرة على التعبير عما يحسه تجاه ما يراه — أن يُسطِّر صفحات عما يستشفه تجاه «شكل» المتكلم مهما حاول ذلك المتكلم أن يُخفي. يكاد المريب يقول خذوني، ويكاد الوجه والملامح والعيون تقول لكلِّ مَن باستطاعته الإدراك أنا كذا وكذا وكيت، حتى لو تحصَّن ذلك القائل خلف متاريس هائلة وأقنعة. ولست أدري، هل أسدت السيدة تماضر توفيق صنيعًا لكثير من فتياتنا، حين أعطتهن فرصة الظهور في التليفزيون تحيُّزًا منها — وأنا معها — للمرأة المصرية، أم أضرتهن؟ ذلك أن الإنسان في كل مكان يجد فتيات كثيرات حلمهن الأوحد أن يعملنَ مذيعات تليفزيون، ذلك الحلم الذي يسخِّرْنَ أهلَهن وكلَّ مَن يعرفنَ من صغار أو كبار لتحقيقه. وتسأل الفتاةَ من هؤلاء: لماذا؟ لماذا بالذات تريدين العملَ كمذيعة تليفزيون؟ وتظفر دائمًا بإجابات أغلبها غير مقنع، ذلك أن كلًّا منهن تكتم السبب الحقيقي، وهو ببساطة: حبها للظهور والشهرة والأضواء. وهذا أبدًا ليس عيبًا؛ فكل إنسان يريد الشهرة أو المال أو القوة أو الحُكم أو المعرفة على أوسع نطاق أو غيرها من الآمال العريضة، والمشكلة أنك إذا أردتَ المال كان عليك أن تستعد لبذل مجهود بشري هائل طوال ربع القرن القادم لكي تكون غنيًّا. كان هذا في الزمن الماضي إذ يبدو أننا في زمننا الحاضر أصبحت المشكلة ليس أن تَعدَّ نفسك لمجهود خارق طوال ربع قرن لتُثرِي، إنما أن تفكر في أسرع وأبسط طريق للحصول على النقود، حتى لو كان بالاختلاس أو السرقة، كذلك الشهرة والذيوع؛ لم يَعُد مهمًّا لماذا تريد أن تكون مشهورًا، وإنما المهم أن تصبح وبأية طريقة — أو بالأصح بأبسط وأسهل طريقة — مشهورًا، وأبسطُ وأسهل طريقة للظهور أن تعمل الفتاة نجمة تليفزيون. نجمة تقول ماذا، أو تقدِّم ماذا، أو تصنع ماذا، غير مهم، المهم أن تكوني جميلة وجذابة، والبقية تأتي من تلقاء نفسها. وبما أن أية فتاة تعتقد أنها بالضرورة جميلة، فإنها بالضرورة تعتقد أنها لو أعطيت لها الفرصة، ووجدت «الواسطة» المضبوطة، فإنها حتمًا تستطيع أن تكون نجمة تليفزيون، وحاوِلْ أن تُقنِع أيَّ إنسانة (أو إنسان) أنها (أو أنه) ليست (أو ليس) بهذا الجمال، وحاوِلْ أن تقول إن الجمال وحده ليس مؤهِّلًا، وإن الظهور إلى الناس يحتِّم أن يكون لدى طالب الظهور رسالةٌ معينة يريد أن يوصلها أو مبدأ أو كلمة صدق وحق، وإن هذا كله يحتم أن يتسلَّح المتصدي لأمل كهذا بأن يكون لديه حصيلة وافرة من المعرفة البشرية وقدرة فذَّة، غير عادية، على إقناع الآخرين بوجهة نظره، حاوِلْ وستجد المستحيل. وربما لهذا استحال التليفزيون إلى لجنة امتحان للمذيعات والمقدِّمات؛ إذ يبدو أن الأمر أفلت من اللجان المختصة، والوسايط أصبحت أقوى من أن تُقاوَم (أصل البنت ح تموت لو ما اشتغلتش مذيعة يا فندم). وهكذا على جمهور التليفزيون أن يبلغ كل ما يسقط من ثقوب غربال اللجان. وغربال اللجان لا بد أنه أصبح يفوت حتى الدبش والزلط، حتى لو اتخذ شكل تماثيل جميلة، ليس مهمًّا ماذا تقول أو ماذا تعاني حين تقول، المهم أن البنت تكون قد ظهرت «يا فندم» في التليفزيون.
ونعود إلى موضوعنا: الثقافة ودراما الإذاعة والتليفزيون.
أسافر كثيرًا، وأستمع، حتى وأنا في القاهرة إلى إذاعات العالم، وأشاهد برامج تليفزيونية، وأبدًا لم أجد لا في شرق العالم أو غربه، ولا في شماله أو وسطه أو جنوبه، هذا الكمَّ المخيف من المسلسلات والسباعيات والشهريات والثلاث عشرات حلقات من التمثيليات والمواد الدرامية التي تقدِّمها الإذاعة المسموعة والمرئية؛ مظاهرة دراما تظن إذا ما عددت ساعات إرسالها في البرنامج العام وصوت العرب والشرق الأوسط والشعب والبرنامج الثاني والقناة «٩» والقناة «٥»؛ أن لدينا جيشًا وافرًا من المؤلفين؛ إذ إن حركة درامية بهذا الكم لا يمكن أن تنتجها إلا حركة مسرحية في ضخامة الحركة المسرحية في إنجلترا أو فرنسا أو أمريكا أو كلها معًا، فما بالك ونحن لم نعرف المسرح بشكله الحديث إلا منذ أقل من خمسين عامًا، وليس لدينا حتى قسم تأليف في معهد الفنون المسرحية، وعدد الذين «يفهمون» في الدراما في مصر كلها لا يزيد على المائة مواطن، عدد الذين يستطيعون التأليف الدرامي منهم فعلًا لا يتعدى العشرين، منهم عشرة من «الكبار» الذين يكتبون إذا ألَّفوا للمسرح، ويتبقى بعد هذا عشرة، ربما أكثر قليلًا أو أقل قليلًا، هم الذين عليهم أن يملئوا كل هذه المساحة الدرامية! إن فنَّ الدراما في حد ذاته فَهمٌ واستيعاب، والقدرةُ على الانتماء، مجرد الانتماء إليه، مشكلة، فما بالك إذا كان عليك ليس فقط أن تؤلف، وإنما أن تؤلف لأجهزة خاصة مثل الإذاعة التي تحدد لك الأذن وسيلة وحيدة لتلقِّي الأثر الدرامي، أو الفيديوتيب الذي يحدد لك الزمان والمكان ولا يترك لك إلا فرصة ضيقة جدًّا عليك أن تركز الدراما فيها تركيزًا شديدًا كي تقنع الآخرين أو تؤثر فيهم.
النتيجة إذن، مأساة.
مساحة هائلة عليك أن تملأها ولأن «غنمك» يا جحا قليلة جدًّا، فالنتيجة أي كلام. النتيجة عشر دقائق من زمن الراديو أو التليفزيون، الذي تباع فيه الثانية بالشيء الفلاني، تضيع في تبادل التحيات والسؤال عن الصحة، وإلى أن تأتي للُب الموضوع وإلى أن يبدأ خيط الحلقة الماضية يمسك بخيط الحلقة التالية تكون قد مرت حلقة.
مناقشة المستوى هنا إذن مسألة ميئوس منها تمامًا، أي مستوًى ذلك الذي تطالب به في وضع كهذا الوضع في معظم الأحيان لا مستوى بالمرة، لا أقول ضعيفًا ولكن فعلًا لا يوجد مستوًى تستطيع أن تقول إنه ضعيف أو أقل من المتوسط.
ويبقى بعد هذا وبعد اليأس الكامل من قضية أن تسمع أو تشاهد موضوعًا يستحق الاهتمام؛ تبقى قضية الأثر، أو بالأصح تأثير هذه المسلسلات.
ذات مرة قضيت في الولايات المتحدة شهرًا كان عليَّ أن أمضي فيه معظم الوقت ملازمًا حجرتي في الفندق، ولن أُحدِّثك عن التليفزيون الأمريكي ذي الاثنتي عشرة قناة أو إمكانيات هذه القنوات، ما أريد قوله أن هناك عروضًا للأفلام الأمريكية القديمة تكاد تستمر في بعض أيام الأسبوع، الليل بأكمله. فيلم من ٩–١٢، ومن ١٢–٣، ومن ٣–٦. وهكذا شاهدت خلال هذا الشهر جزءًا كبيرًا جدًّا من أفلام رعاة البقر، ومع أن أفلام رعاة البقر يُنظَر إليها بكثير من التأفُّف والاستنكار، إلا أن الشيء الغريب الذي لاحظته أنَّ ما من فيلم منها إلا وقد احتوى داخله على نواة أخلاقية سامية ما؛ فالبطل إما يدافع عن مبدأ، أو ينتقم لمظلوم، أو يأخذ بيد ضعيف مغلوب على أمره … إلى آخره. فصحيح أن المستوى هنا مستوى رعاة بقر، ولكن الأثر أو المضمون الأخلاقي للعمل دائمًا يغفر هذا المستوى أو ذلك الإطار الذي توضع فيه القصة.
المشكلة الملحَّة الغريبة التي تغيظيني في مسلسلاتنا المرموقات تلك أن أيًّا منها لا يتناول قضية ما بالمرة، أو يدعو لمبدأ أو يمثل بطلها قيمةً من القِيَم الرفيعة التي يصبح الإنسان من أجلها بطلًا. أغلب هذه المسلسلات يدور حول العلاقة بين الرجل والمرأة، ليست حتى العلاقة الواسعة الرحبة بين «عالَم» المرأة و«عالَم» الرجل، ولكنها العلاقة المحدودة التي تكاد تكون المريضة بين رجلٍ في الغالب محبط وامرأةٍ في الغالب تعيسة معه أو خائنة أو ظالمة، أو لا حول لها ولا قوة بالمرة. علاقة محدودة تمامًا، المسافة التي تتحرك فيها أبدًا لا تتعدى المسافة بين غرفة النوم والمطبخ، أو بين غرفة النوم والسطوح، أو بينها وبين بلكونة الجيران أو حمام الجيران. قضايا ما أنزل الله بها من سلطان، واحد يحب واحدة مصابة بعاهة وتُخفِي عنه، أو هي في سبيلها إلى الموت، ولهذا تفتعل قصة تبدو فيها أمام الحبيب بمظهر الخائنة حتى تصرفه عن حبها، مُضحِّيةً كما يقولون بحبها هي، زوجة لأن زوجها كثيرًا ما يزجرها تخونه مع ذلك الذي يخدرها بالقول المعسول، تلك التي تقول: «أنا مظلومة، وربنا عارف كل حاجة، وما دام ربنا عارف كل حاجة، أنا ما يهمنيش.»
العالم الرحب الفسيح يظل يضيق ويضيق حتى يُطبق على علاقة محدودة جدًّا، بين رجل محدود جدًّا وامرأة محدودة جدًّا، وعلى هذا الرجل المحدود جدًّا والمرأة المحدودة جدًّا أن يغطيا «نصف ساعة مرتين يوميًّا في خمس إذاعات وقناتين» يغطيان مائتين وخمسًا وعشرين ساعة دراما كلَّ شهر؛ أيْ على هذا الرجل المحدود جدًّا والمرأة المحدودة جدًّا أن يقوما بتمثيل ما لا يقل عن مائة وثلاث عشرة مسرحية كلَّ شهر؛ أيْ ١٣٥٦ مسرحية كلَّ عام.
وإذا فرضنا أن المعدل العالمي المتعارَف عليه هو أن المؤلف المسرحي المتوسط ليس بإمكانه أن ينتج إلا مسرحية كلَّ عام، فمعنى هذا إننا لملء المساحة الدرامية المطلوبة إذاعيًّا وتليفزيونيًّا نحن بحاجة إلى ٦٧٨ مؤلفًا مسرحيًّا، بل مؤلفًا مسرحيًّا متخصصًا.
ولأنه بالطبع ليس لدينا هذا العدد ولا نِصْفه ولا رُبْعه، ولا واحد على مائة منه، فالنتيجة هي المأساة كما ذكرت.
كمسرح إذن لا تؤثر هذه المسلسلات كمرشد أخلاقي أو قِيَمي، لا تفعل كأداة تسلية وترفيه لا أظن (فما أصعب تأليف المسليات والمرفهات).
وباعتبار أن ما لا يؤثر بالكسب يؤثر حتمًا بالخسارة، فلا بد أن النتيجة أن هذه الساعات المجهضة تضر أبلغ الضرر؛ إذ لا بد أنها تقول شيئًا ما، وما دامت لا تقول إلا التافه فإنها حتمًا تؤدي إلى تتفيه (إن صح هذا التعبير) العقول، وهذا أهون الضرر. ولكنها بالقطع تفعل ما هو أفدح، لا تفعله بإرادتها وإنما تفعله بغير إرادة؛ فنتيجةُ هذه الفوضى العجيبة أن مستوى الأداء التمثيلي لا أحد يلتفت لإتقانه، وكذلك الإخراج ونحت الأنماط وابتكار النماذج، لا أحد لديه وقت لهذا كله، ولتجرِ الأمور كيفما اتفق، ولننظر إلى الحادث أمامنا، هذه الطريقة التي تتكلم بها مَن يسمونهن «النساء البلدي» في مسلسلاتنا، أسمعتم بذمتكم نساء في مصر يتحدَّثن بهذه الطريقة، إنها وإن كانت تصلح لحارة مهجورة من حارات شارع محمد علي نسيها التاريخ من أيام الدعارة المرخصة، فإنها أبدًا لا تصلح لزماننا ولا تمتُّ بِصلة أبدًا إلى الطريقة التي يتكلم بها نساؤنا وبناتنا، والفلاحون أو الصعايدة أو البحاروة الذي يظهرون في حلقاتنا أبدًا، أنا أعرف فلاحي مصر جيدًا، أعرف لهجات الناس في دمياط والمنوفية والأقصر وبورسعيد، وأبدًا ما سمعت أو شاهدت فلاحًا أو بحراويًّا أو ابن بلد أو تاجرًا يتحدث بمثل تلك الطريقة الإذاعية أو التليفزيونية المدهشة أبدًا.
لا الموضوع إذن يمتُّ إلينا.
ولا الأشخاص منا.
ولا لغتهم لغتنا.
إنما هو عالم غريب يخلقه لنا أولئك الذين ينتجون الحلقات والمسلسلات، عالم غريب قائم بذاته لا مكان له على خريطة الدنيا أو بالذات خريطتنا، لا القرية قريتنا ولا المدينة مدينتنا ولا الفلاحون فلاحونا ولا أولاد البلد عندهم يمتُّون بِصلة إلى أولاد بلدنا.
بل حتى لنذهب معهم إلى آخر المدى ونقول: لنفرض أنه عالم وهمي أو أسطوري أو حواديتي لا يمتُّ للواقع بصلة، فما المانع والفن مفروض أن يكون افتراضيًّا وتصوريًّا؟
لا مانع هناك فعلًا، ولكن المشكلة أنه عالم رقص على السلم، فلا هو أسطوري نفترضه ويفترضه معنا المشاهدون، ومعظمهم تكاد تشكِّل لهم مسلسلات الإذاعة والتليفزيون كل مصادرهم للثقافة وحتى للتعلم، ولا هو أسطوري لا نأخذه على أنه واقعنا، ولا هو واقع نقول إن العيب فيه هو وليس العيب فينا نحن الذين ننقل عن الواقع.
المشكلة أن كثيرًا من جمهور هذه المسلسلات يعتقد أن ما يسمعونه ويشاهدونه أشياء حقيقية من الواجب الأخذ بها والتمثُّل بما تشيعه من تصرُّفات ومضايق، النتيجة أن هؤلاء المتلقين بوعي أو في معظم الأحوال بلا وعي، يقلِّدون ما يتلقَّونه، وإذا مددنا الخطوط إلى آخرها فإنهم يُغيِّرون حياتهم لتصبح مثل هذا الذي يشاهدون أو يسمعون، باعتبار أن هذه المسلسلات تصنع نوعًا من غسيل المخ للناس، تطمس ما هو موجود في عقولهم وتُرسِّب ما تريد، والنتيجة أنه حتمًا، وغدًا أو بعد غد، سيصير مجتمعنا إلى نفس المجتمع والقضايا والأشخاص الذين نراهم أو نسمعهم، وبالتالي تتحدد مشاكلنا وقضايانا، وتضيق إلى أن يصبح لها نفس الحيز الكائن بين غرفة النوم والمطبخ، أو بين الشقة وبلكونة الجيران. وما أسوأ هذا، وما أبشعه!
وما الدراما في الإذاعة والتليفزيون إلا نموذج واحد لما أصبح لا بد من تغييره.