رسالة تدبير المنزل لأرسطو
تمهيد
لقد طالعت في الجزء الثالث الماضي من «المشرق» الأغر مقالة «تدبير المنزل» لمؤلفها «برسيس» مع مقدمتها وحواشيها بلذَّة؛ لما فيها من المباحث الجديرة بالثناء على الفلاسفة القدماء في ما وضعوه لنا من كتب التربية وتدبير الأسرة والمنزل … إلخ، وما عانى علماء العرب في نقلها إلى لغتهم وحفظها بعد ضياع أصول كثير منها، ونشرها الآن بعناية مجلة المشرق. ولقد عُنيتُ بالبحث عن مثل هذه الآثار النادرة؛ لنشرها على صفحات مجلتي «الآثار» أو غيرها من المجلات الكبرى حفظًا لها من الضياع، ومما أظفرني به الحظ منذ سنوات مقالة «تدبير المنزل» لأرسطو الفيلسوف اليوناني في مجموعة طبية طبيعية فنية قديمة الخط نادرة الوجود اتصلت بمكتبتي مثل غيرها من المخطوطات النادرة التي حرصتُ عليها كل الحرص، ولا سيما في أثناء الحرب العامة ونكباتها فزدتها عشرات من النوادر، وقبل وصف الكتاب والرسالة استأذن ناشر المقالة المذكور صديقي العلَّامة صاحب المشرق بتقديم كلمة في هذا الموضوع.
(١) كتب تدبير المنزل
لقد وقفتُ على أسماء كثير من المؤلفات المتعلِّقة بتدبير المنزل وشئون الأسرة والتربية البيتية، وسياسة أربابه وعرَّفتُ بعضها وما بحثت فيه؛ فرأيتها ترمي إلى أغراض كثيرة مثل تدبير الزوجة، وتربية الأولاد، وتدريب الخدام، وآداب الصحبة، وحسن المعاشرة، وصحَّة المخالقة، وآداب الإنسان في مأكله ومجلسه وملبسه وسفره وإقامته، وإدارة البيت، وإعداد المآكل والتمريض، وما يتعلق بذلك من الآداب الرائعة، ولولا ضيق المقام في هذه العجالة لعددت منها عشرات بأسماء مؤلفيها مواضيعها وما شاكل، ولكنني أقتصر على الإشارة العامَّة منتقلًا إلى وصف هذا الفن من مؤلفاتهم.
ثم قال بعد تعريفه الحكمة العمليَّة ما نصُّهُ، وهو يدلُّ على علاقات التقسيم: «ثم أن الحكماء ذكروا علومهم العملية، وبحثوا فيها عن الأعمال الصادرة عن البشر، وتلك الأعمال؛ إمَّا أن تتعلَّق بالشخص وحده وهي «علم الأخلاق». أو تتعلق بأهل المنزل لدوام الأنس والائتلاف وهي «علم تدبير المنزل». أو تتعلَّق بأحوال أهل البلد لنظام أحوال الملك والسلطنة، وهي «علم السياسة» وهذه علوم ثلاثة، ولنذكر كلًّا منها في شعبة ثم نردفها بشعبة رابعة لبيان فروعها.»
وإليك ما ذكرَهُ في الشعبة الثانية عن «علم تدبير المنزل»: «وهو علم يُعرف منه اعتدال الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجته وأولاده وخدَّامه، وطريق علاج الأمور الخارجة عن الاعتدال ووجه الصواب فيها، و«موضوعه» أحوال الأهل والأولاد والقرايب والخدَّام وأمثالها، و«منفعة هذا العلم» عظيمة لا تخفى على أحد حتى العوام؛ لأن حاصله انتظام أحوال الإنسان في منزله؛ ليتمكن بذلك من رعاية الحقوق الواجبة بينه وبين الأشخاص المذكورة، ويتفرغ باعتدالها وانتظامها إلى كسب السعادة العاجلة أو الآجلة.»
ثم قال: «وأشهر كتب هذا العلم «كتاب بروش»، وفي هذا العلم كتب كثيرة غير هذا، وستعرف الكتب الجامعة للثلاثة.»
انتهى ما رأيت ذكره من هذا الكتاب الذي اعتمد عليه الحاج خليفة في كشف الظنون ونقل عنه التعاريف والحدود أحيانًا بالحرف الواحد، كما ترى في علم تدبير المنزل.
(٢) مؤلف الرسالة المنشورة في المشرق
ولقد عارضت ما نُشر في الضياء بما نُشر في المشرق، فرأيت الكتاب الذي نقل عنه الضياء أسد مرمى في بعض المواضع ممَّا نقل عنه المشرق، ولعلَّه أقدم وأضبط على أن ما في المشرق قد يزيد فقرات لا توجد في الضياء أحيانًا شأن ما ينقل عن المخطوطات القديمة، ولا سيما غير المنقوطة منها أو التي لم تقابل على أصلها وتضبط بقراءتها على مشاهير العلماء.
بقي البحث في «اسم مؤلف الرسالة» فإن ما فيه من التصحيف والتحريف وكثرة الإشكال يشوش الذهن، حتى إن الاسم جاء في مجلة «الضياء» هكذا «ىرسس» مهملًا. وفي آخر مقالة المشرق «برولس» ولعلها «پروبس»؛ لأن ما جاء في فهرست ابن النديم هو الأقرب إلى الأصل، والفيلسوف «روفس» كان من أفسس مقدَّما في صناعة الطب، ولم يكن في الروفسيين أفضل منه، وهو قبل جالينوس المشهور «فهرست ص٢٩١»، ولا خفاء بالتبادل بين الفاء والباء، فيقال روفس وروبس.
ولقد ترجم هذا الفيلسوف ابنُ القفطي «ص٢٩١» وابن أبي أصيبعة «١: ٣٣» في كتابيهما «تاريخ الحكماء والأطباء» على أن ابن أبي أصيبعة سمَّاه «روفس الكبير»، مما يدل على أنه يوجد حكيم آخر باسم «روفس الصغير» لعله هو واضع هذه الرسالة. ولقد عدَّد مؤلفاته. وذكر له أيضًا ابن أبي أصيبعة «١: ٢٠٠» كتاب «حفظ الصحة» الذي فسَّره حنين بن إسحق، ولكنهما لم يصرِّحا باسم هذا الكتاب كما اشتهر اسمه «تدبير المنزل» على أن ابن أبي أصيبعة ذكر له مقالة «في تدبير الأطفال»، ولعلَّها إحدى المباحث الأربعة مفردة أو سمَّى الكل باسم الجزء، وذكر له ابن النديم كتاب «التدبير مقالتان» فأفرد له بعض مباحث الرسالة أيضًا. أما علوسوس الذي ذكره ابن النديم فمما لا يُهتدى إليه، ولعله هو الذي دعا إلى هذا التحريف والتصحيف.
(٣) تدبير المنزل لأرسطو
هو رسالة من كتاب طوله ٢٣س، وعرضه ١٦، وكل صفحة معدَّل أسطرها ١٧ في نحو ٤٠٠ صفحة مخروم من أوله وآخره، ولكنه قديم الخط مجلد بالخشب بقطع ربع عريض خشن الورق، مختلف الخط بالحبرين الأسود والأحمر اتَّصل بمكتبتي، وفيه مقالات «التعليلات» للإسكندر الأفروديسي. و«ثمار المسائل الطبية» لثاوفرسطس، و«مسائل ما بال» لأرسطو في ٢٥ مقالة، و«ثمرة من كلام يحيى وجالينوس» في الترياق، ومقالات أُخر مختلفة المواضيع لعيسى بن ماسويه ولجالينوس وبعضها لم يُذكر مؤلفها، وهي في تركيب الأدوية والأغذية والحيوان والشعر والروح والنفس والعطش والروائح … إلخ وآخرها «في الموسيقى» لأبي الفرج بن الطيِّب. وكلها من نوادر المواضيع الجديرة بالنشر. على أن خط الكتاب القديم كان مهملًا، فأعجمه بعض مطالعيه فشوَّشوا بعض ألفاظه، وسأصف هذه المجموعة مع غيرها من نوادر المخطوطات التي أحرزها في مكتبتي حرصًا على فوائدها، وحفظًا لها من الضياع متى سنحت لي فرصة كافية.
(٤) معارضة الرسالتين
بدأ أرسطو رسالته في الفرق بين السياسة المنزلية والسياسة المدنية فأبدع في التفرقة بينهما، ولم يقتضب الكلام اقتضابًا كما فعل «بروفس» وجعل أول حاجات المنزل المرأة، فبحث عنها ثم عن الرجل وسياستهما معلِّلًا عن مبادلة التعاون مفرقًا بين الإنسان والحيوان في الزواج باحثًا عن زينتهما، وأنها خارجية لا تأثير فيها على الأخلاق مفضلًا هذه عليها، وتطرَّف إلى الخدام وعبَّر عنهم «بالعبيد» ونهى عن السماح لهم بشرب المسكرات، وحضَّ على تعهدهم بالاستخدام والتأديب والإشباع واسترسل إلى وصف أخلاقهم، وما يجب أن يفضَّل منها على غيرها.
ثم استرسل إلى المال وتحصيله وخزنه وإنفاقه، وما شاكل ذلك مشيرًا إلى تربية الأُسرة وما يجب فيها من الحكمة.
على أن الفرق بين الرسالتين؛ أن أرسطو أدمج كلامه بدون تبويب، وبدأ في وصف تدبير المنزل وشئون أربابه متطرقًا من موضوع إلى آخر بعلاقات قاده إليها البحث معتمدًا على فلسفة التدبير العامَّة معتمدًا على آداب العبيد المستخدمين، ممَّا يدل على شدَّة عناية القدماء بهم، ولا سيما في عصره. بخلاف تقسيم بروفس مقالته إلى أربعة مباحث معنونة.
وعبارة رسالة أرسطو تنم عن أساليب التعريب القديمة لكبار المعرِّبين مع ما في ألفاظها من الإشكال لإهمالها، ثم إعجامها مما يحتاج إلى إعمال النَّظر لرده إلى نصابه.
وعلى الجملة فالرسالة جديرة بالنشر بعد تحقيق بعض ألفاظها وإزالة ما شوَّهها من التصحيف مع كرور الأيام على هذه النُّسخة واصطلاح الخط القديم، وكثرة الأيدي التي اشتغلت في الكتاب المجموعة فيه نسخًا وتنقيطًا وتشكيلًا. وسأتفرَّغ لذلك عند سنوح الفرصة.
ختام
ومزية المقالات جميعها أنها عبِّر عنها في الطب «بالعلَّة» وفي غيرها «بالثمرة»، فلذلك سُميت مقالات كثيرة فيه بالتعليلات وأخرى بالثمار، وفيها مباحث مفيدة في الطب والطبيعيَّات والآداب منها في الخمر والمُسكر والتعب والإعياء والعدوى التي عبَّر عنها بالمشاركة في الألم وخواص الحيوانات، والصوت والأمزجة والعطش وأكثرها لأرسطو وغيره من كبار الفلاسفة، ولعلها من تعريب أبي الفرج بن الطيب والله أعلم.