رسالة قديمة منسوبة إلى أفلاطون

توطئة

وصفنا غير مرَّةٍ في المشرق (١٦ [١٩١٣]: ١٧٣–١٧٨) مجموعة فلسفية قديمة نقلنا عنها خمس مقالات نفيسة، نشرناها في المجلة في أوقاتها. والمجموعة هذه كانت أوَّلًا في ملك جناب القانوني الشهير جرجس بك صفا، وهي اليوم في مكتبة السيد الجليل أحمد باشا تيمور. فالعدد الرابع من محتويات المجموعة المذكورة هذا عنوانهُ «رسالة أفلاطون الحكيم في حقيقة نفي الغم والهم وإثبات الزهد جوابًا عن سؤال كان سبق منه إليه» يتناول من الكتاب ١٢ صفحةً من الصفحة ١١٢ إلى ١٢٣.

ومن تصفَّح هذه الرسالة وجدها أهلًا بقدماء الفلاسفة من حيث صورتها ومعانيها ومسحتها اليونانية، أمَّا نسبتها إلى أفلاطون فغريبة؛ إذ ليس بين أعمال هذا الفيلسوف الشهير التي نعرفها باليونانية ما يدلُّ على مثل هذه الرسالة، اللهمَّ إلَّا رسالتَهُ المُعَنْونة بشفاء أدواء النفس de curandis animæ morbis التي لها بعض الشبه بالرسالة التي نحن بصددها، وأغرب من ذلك توجيه أفلاطون رسالتهُ إلى فرفيريوس وبينهما ستة قرون؛ إذ عاش أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد وفرفيريوس في الثالث بعدَهُ. والغالب على رأينا أن الرسالة لأحد المنتمين إلى أفلاطون المتمذهبين بمذهبه العلمي وكان عددهم كثيرًا. وعلى كل حال إنَّ الرسالة هذه من الآثار الحَريَّة بالذكر، وقد أسعدنا الحظ بوجود نسخة ثانية منها أحدث عهدًا دخلت منذ زمن قريب في مكتبتنا الشرقية، فأمكنَّا بالمقابلة بين النسختين أن نصلح عدَّة أغلاط أو تصحيفات وقعت فيهما، فدلَّلنا على القديمة بحرف ق وعلى الحديثة بحرف ح. أمَّا معرِّب هذه الرسالة فلم يُذكر ولعلَّهُ حنين بن إسحاق المذكور في مقالة أخرى من هذا المجموع.

(١) رسالة أفلاطون الحكيم إلى فرفيريوس في حقيقة نفي الغمِّ والهمِّ وإثبات الزهد جوابًا عن سؤال كان سبق منهُ إليهِ

باسم الله الملك الحق والإله الصادق (الصفحة ١١٢) المسمَّى بلغات الافتراق (كذا) المقصود بالاتِّفاق، القديم الذي لم يزل منشئ مبادئ الحركات الأولى، خالق الأضداد من الإصلاح والإفساد، أظهر بذلك قوَّتهُ، وأبان قدرته، تجاوز حدَّ العقول والأفهام والخواطر والأوهام، غير منعوت الذات، ولا مُدرَك الصفات، سبحانه عنصر العناصر، وقوي القوَّات ومحرك الحركات، تقدَّس اسمُهُ وعلا قدرُهُ، نور الأنوار وزمان الأزمان، والدهر الداهر سبحانه وتقدَّس سبحانًا يتَّصل بدوامهِ الذي لا تغيُّر له، ولا فصوم١ لمدته أبدًا أبدًا قدُّوسًا قدُّوسًا إيَّاه أسأل وإليه أضرع أن يجعلني وإياك ممن خصَّهم بصفاء العقل وتسديد الفعل٢ [بما هو منه وله وإنَّهُ وليُّ الخير وذاتهُ]٣ وهو٤ على كل شيء قدير.
ورد كتابُك أيَّدك الله بكرامة٥ التوفيق تسأل إن أبين لك ما الغمُّ والهمُّ العارضان لكثير من العالم وقل النَّاجي والمتخلص منهما، وكيف استحواذُهما عليهم مع ما فضَّلهم به الرَّبُّ (١١٣) جلَّ اسمُهُ من العقل والتمييز إذ كان تعالى لم يخلق في مصنوعاته خِلْوًا في مصلحته؛ بل كلُّ ما خلقهُ من خلقهِ مكفيٌّ غنيٌّ، فلا يُرَى شيء من الحيوانات محتاجًا إلى غيره. ثمَّ فضَّل الإنسان بالنطق والبيان ومعرفة الدلائل والبرهان، ثمَّ إنَّه يعرض لهُ مع ما هو عليه من شريف الخلق وسني العقل الهمُّ والغمُّ، فهل ذلك بحقيقة٦ موجودة في الحقيقة أم عرَضٍ داخل وفكرٍ فاسد بفساد ذاتهِ ونقص آلاته الشفَّافة بالعقل٧ المؤدية للفهم؟
فرأيتُ أن أُجيبك أكرمكَ الله بما أعلمهُ وبما قُسِم لي من تدبُّرهِ٨ إذ كان ما نُبادي إليه وإن تناهينا فغير واجدين نهاية من العلم حتى نبلغ إلى نهايتهِ؛ فتبارك نهاية النهايات وغاية الغايات وفَّقك الله للخير، وجعلك له أهلًا أن تعلم أن كل ألم غير منعوت الأسباب غيرُ موجود الشفاء، فيجب أن نبيِّنَ لك ما الغمُّ والهمُّ، وما سببُهما ليكون شفاؤهما ظاهر الوجود إن شاء الله.
فالهمُّ تقسيم الأفكار وحيرة النفس وخمولها، وهو سريع الزوال والانتقال، وأمَّا الغمُّ فخطرٌ كبير وأمرٌ عظيم [يذيب القوَّة ويقهر الحرارة ويهدم الجسم ويكدِّر الأوقات] ويقصِّر مادَّة العمر، وهو ألمٌ نفساني يعرضُ لفَقْد محبوب أو فَوت مطلوب (١١٤). ولو فكَّر أهل هذا العالم الدني التالف بما هم وفيما هم؛ لعلموا أنهم أعراض زائلة وأشباه حائلة تتصرَّف بهم الأيام وتقلِّبهم الأحكام، فالواجب أن يبدءوا بالغمِّ على نفوسهم، فهي أولى من الغمِّ على محبوباتهم ومطلوباتهم إذ هم يعلمون أنهم سيعدمون ما عدموه ويفقدون ما فقدوه، وتقدَّمت معرفتهم بذلك وتيقَّنوا أن نفوسهم وأغراضهم غير باقية؛ لأنَّ كل ما في عالم الكون والفساد مضمحل زائل، فكان معنى مرادهم أن طلبوا الثبات والدوام من الفانية المضمحلَّة الفاسدة، وإنَّما الدوام والثبات موجودان في عالم العقل، فكأنَّ من طلب من الزمان ما ليس فيه أراد منهُ ما ليس في طبعه، ومن أراد من الطبع ما ليس في الطبع أراد ما ليس بموجود، ومن أراد غير الموجود عُدم طلبتَهُ، والعادِمُ طلبته مُعَنًّى شقي، فينبغي للعاقل أن يطلب ما يُسعده دون ما يُشقيه، ويحترس٩ من سلوك طريق الشقاء والجهل.
وأقول إنَّ من لم يعرف الزمان ويختبر أصول الأحوال متى زالت عنه عادةً وجوه الدنيا، فارَقَ معها الشهوات الحسِّيَّة من لذيذ الطعام، وطيب الشراب، ومُلَح الملبوس والمنكوح وما شاكل ذلك، وقد تقرَّرت معرفتهُ أنها (١١٥) أعراض لا تُملك إلَّا من جهتين: إما اكتساب مغالبة أو اكتساب بضرب من الحِيَل التي تسمِّيها الناس تجارةً أو صناعةً، وتيقَّنْ أنه لا بُدَّ أن تضمحلَّ محبوباتُهُ، ومن لم يدرك ذلك فكأنَّه أراد ما قدمنا ذكره من الفاسد أن لا يكون فاسدًا، ومن الزائل أن لا يكون زائلًا، فإذا أردنا أن لا نُصاب بمصيبة فكأنا أردنا أن لا نكون١٠ البتَّة؛ لأن المصائب لا تكون إلَّا بفساد الفاسد، فإن لم يكن فاسدٌ لم يكن كائن،١١ ولو قصد بمحبوباته الثبات والبقاء لقصد طبع البقاء للظاعنة١٢ والزم نفسَهُ١٣ في العاجلة القناعة، ولم يستقبل ما يأتيه بحرص ولا يُتعب نفسه بما زال عنه وفاتَه بندمٍ وأسفٍ؛ بل يؤدِّب نفسه تأديب الملوك الأجلَّاء الآخذين نفوسهم بحقيقة١٤ الأدب فهم لا يستقبلون آتيًا ولا يودِّعون ظاعنًا. فأمَّا حشو الناس وهمَجهم فمشيِّعو كل غائب ومستقبلو١٥ كل آنب، فإذا أدَّب الإنسان نفسهُ بأدب الحق، وألزمها دلائل الصدق استعجل١٦ نفي الغم وزوال الهم، كما قد بينا قبلًا واستمتع بالمدَّة اليسيرة من عمرهِ.
ثمَّ رأينا العادات في الناس تجري مع الطبع بمجاراتهِ١٧ وتنقُّلهِ ويستحوذ١٨ عليها فيألفها الطبع ويلزمها بالهمِّ،١٩ وينصرف إليها (١١٦) ولو ألزم نفسه لذيذ الطعام فأكل من دونهِ لأشبعَهُ وأجزاه، إذ كانا يتساويان بعد ساعةٍ ويبينان القصد اطرادًا من الشبع، وإنَّما تحصل له لذَّة ساعة حتى لو دام لهُ ما قد استطابَهُ لرفضَهُ إذا شبع منه ولقلأَهُ.
وكذلك الملبوسات يحرص الإنسان على ما قد ألزمهُ نفسهُ وأَلِفَتْه عادته من جليلها ومستحسنها ولو لبس دون ذلك أقنعة، وكل يتساوى في ستر العورة وشرعة البقاء، ولو تدثَّر بالحكمة وتزَّين بزينة العلم الذي هو أفضل مذخور وملبوس ومزين لم يغتمَّ لفقد الملبوس، وكان كما حُكي عن ديوجانس الحكيم لمَّا عبر به إنطياخوس٢٠ الملك فلم يقم له، فركَلَهُ الحاجب برجلهِ، فقال له الحكيم: أَخُلقُ إنسانٍ أو خلقُ بهيمة. ما حملَك على ما صنعت بي؟ قال: إذ لم تقم للملك إجلالًا. فأجابه الحكيم: ما لأَقُوم لعبد عَبْدتي. فأدركهما٢١ الملك وسمع المقالة ثم قال لهُ: من أين لك أنَّني عبدُ عَبْدتك؟ قال الحكيم: لأنك عبد الدنيا وخادمها ومن ترك شيئًا فقد اقتدر عليه، فلما تركتُها أنا اختيارًا وخدمتها أنت اضطرارًا وجب أن تكون لها عبدًا، فعلم الملك مُرادَهُ وأنه حكيم. ثمَّ عطف عليه بالقول فقال: هل لكَ في صحبتي فإني مفوَّض إليك خزائن الذهب والفضَّة. فقال له الحكيم: لو يكون (١١٧) لهما قدرٌ٢٢ لما اشتُري بهما خسيس الأشياء. فقال له الملك: فأُطعمك الطيِّبات. قال له: ما فضلُ شبع الملوك على غيرهم؟ قال له الملك: فأزينك بأفخر الثياب.٢٣ فأجابه الحكيم: إنَّ الوصيَّة سبقت لنا من الحكماء أن نزيِّن أجسادنا بزينة العلم والتُّقى؛ فبكى الملك وانصرف آئسًا منه.
ثم رأينا في عادات كثيرة من الناس شدَّة حرصهم على المكسب، وجمع ما يجمعونه حتى إذا تكامل معهم ما فيه وضوءٌ عمدوا إليه فأتلفوه بالعياث٢٤ ورأوه غمًّا، ولو مُنعوا من ذلك لرأوه غمًّا ومصيبةً. وهذا المخنَّث٢٥ بالشهوة الفاضحة [من نَتْف لحيته وحلقها]٢٦ وحرصه على الأخلاق الدنيئة٢٧ لو مُنع منها وأُكره على الدخول في زيِّ أكابر الناس وأخلاقهم لاغتمَّ لذلك ورآه مصيبةً، وترى الشاطر مع هو عليه من قبح السياسة وكثرة الخطر بالحركات وقطع الأعضاء وأليم العقوبات، وربَّما آل أمره إلى القتل والصلب والشهرة والتنكيل، فلو أكرهه مكروه على لزوم السلامة لرآه نقصًا وغمًّا. فنقول الآن: هل٢٨ غمَّهُ واجب في العقل؟ أَوَ ليس ذلك عرضًا فاسدًا٢٩ مازج حسًّا فاسدًا، وإن العادات المقدَّم ذكرها جرت ممَّن ألفها مجرى الطبع وألزم نفسَهُ طلبها.
فإذا قد بيَّنَّا (١١٨) أنَّ العادة تجري مجرى الطبع فتصلحه وتُفسدهُ وتغمهُ وتسره، فيلزم النفوس طبع القناعة والخير وإزالة الغم فيما يدخلهُ٣٠ عليها بسوء الطبع والاختيار؛ لأن المحبوب والمكروه في الحسَّين ليسا بشيء لازم في الطبع بل بالعادات، فسبيلنا أن نعود نفوسنا السلوة والرياضة، وإن تَعِبَت فلنصبر على التعب٣١ والمنازعة منها لما نرجوه٣٢ لها من الراحة في العاجلة والآجلة، ألا ترى أنَّ كثيرًا ممَّن تعارضهم العلل، فيؤول أمرهم إلى قطع أُرَب وكي عضوٍ يتكلَّفون٣٣ مضضَهُ، وربما استعملوا البط والضماد ومضض الأدوية مع ما يتعجَّل من النفقة والغرامات والصبر على ما ذكرناه لما يُرجى من عُقبى الراحة، فكيف لا نصبر على مضض النفس في المنازعة إلى الباطل، وإكراهها على المعاودة إلى طرق الحق والسلامة، إذ علاج النفس أقلَّ خطرًا وأخفُّ مؤونة وأعظم قدرًا، وإذ هي ملكة البدن وبفساد المَلِك يفسدُ أمرُ الرعيَّة، والشهوات٣٤ ملكةٌ على النفس مسلَّطة عليها، والعقلُ ملكٌ على الكل ومادَّة من الأصل. فمن كان له عقل أثر مصلحة نفسه على فسادها، وبُرْءَها على سقامها وليعالجها بأدوية الحق ومرارة الصبر، وأخْذ اليقين والكلفة حتى تسلم لهُ وتصبو إلى الشهوات الباقية، وسكنى دار البقاء من بعد استعجاله إسقاط الغمِّ والهمِّ، إذ كنَّا (١١٩) قد بيَّنَّا أنهما كما روي عن هرمس الحكيم أنه قال: أوْلى الناس بالرحمة من وقع في سوء الملَكَة. قيل له: ومن ذلك؟ قال: من كثرت شهواتُهُ فأُديمت حسَراتهُ، فهو مبغوت بتصاريف كُلِّفَها فإن نفاها عقلُهُ وقهرها فهمهُ فهو عتيق العقل والعقلُ مادَّة من الأصل، ومن أعتَقَه الله ورحمه من شقاء الدنيا كان أولى برحمتِهِ وعتقه من شقاء الأخرى.٣٥ فمن٣٦ أراد طريق الحق وهو الواضح لمن سلكه، فليفك نفسه من وثاق الغم حتى يخلص لطلب ما هو أحوج إليه، وليقل قُنيتَهُ من أثقال ما في هذا العالم الدنيء التالف. فقد رُوي عن سقراط أنه كان يأوي إلى كَسْر جبٍّ قد طوي ووطي فيه بتراب، وقال لمن حضَرَه: من أراد قلة الغم فليُقل القُنْية. فقال بعضهم: يا معلم وإن انكسر بقيَّة الجب. قال: إن انكسر لم ينكسر المكان ولم أعدم التراب.
وقد حُكي عن الزر (كذا) ملك رومية أنه أُهدي إليه قبَّة ثمينة عجيبة خطيرة، ففرح بها وزادت بهجتُهُ [ومَن حضره بحسنها]،٣٧ وكان في جملة الحاضرين حكيم فقال له الملك: ما تقول أنت في هذه القبَّة٣٨ إذ أنت مُمسك عن الكلام؟ فقال له الحكيم: أقول إنَّها أظهرت منك فاقةً وفقرًا، ودلَّت منك على عظيم مصيبة متى لحقها (١٢٠) خطر عارض. فحُكي أنَّ الملك أراد التنزُّه في بعض الجزائر٣٩ من بعد حينٍ من مجلسه٤٠ هذا فأمر بحمل القبَّة لتُنْصَب له في منتزههِ، فكُسِرت بها٤١ المركب وغرقت فدخل على الملك عظيم المصيبة، ولم يقيَّض٤٢ منها بسلوة إلى أن مات فكان من أمره ما رآه الحكيم بعين الحكمة.
وينبغي أن تعلم أنَّ كل مصيبة ومحزنة من تالف أو نائبة مما قدَّمنا ذكره إذا تأملناها، وجدناها نقضت همومنا واشتغال قلوبنا، وإذا تيقَّنَّا ذلك زال الهم عن طبع المصائب [إلى طبع النعم ومن ها هنا يتيقَّن أصحاب العقل إنَّ المصائب نِعَمٌ]٤٣ يجب عليها الشكر فالحمد لوليها.
فتأمَّل أيُّها الأخ هذه القضايا تأمُّلًا ثابتًا في نفسك، فتنجو بها من آفات الحزن وتبلغ بها درجات أهل الزهادة٤٤ غير مُمَلك أعراض الشهوات على نفسك ولا سالك بها مسالك الغم لا سيما على ما ليس بواجب في العقل؛ لأنَّا قد بيَّنَّا ما فيه مُقنع لمن تدبَّره إن شاء الله. مع أنَّ الذي نحزن عليه لا يخلو من أن يكون فِعْلنا أو فعلَ غيرنا، فإن كان فعلنا فينبغي أن لا نفعل ما يُحزننا، فإنَّا إن فعلنا ما يحزننا ولا نمسك عن فعلهِ أتينا نحن ما لا نريد٤٥ وهذا هو الحال، وإن كان المحزن لنا فِعلَ غيرنا، فلا نحزن على ما ليس لنا وما عارية معنا (؟) ولصاحبه استرجاعُهُ (١٢١) إن شاء.٤٦ فمن رُزق التدبير لما قد بيَّنَّاه فَلْتَقُل منافستُهُ في الأعراض٤٧ الفانية، وليتأمَّل حقائق دلائل الآخرة ولينافس في طلب اللذَّات التي لا يمازجها الكَدَر، ولا يعارضها الفساد إن كانت المصائب تغمُّهُ.٤٨
وكثيرًا ما يقدر الناس مصيبة الموت ويكرهونه، وأنا أقول إنما يَكْرَه المقتضي من لم يُعِد وفاء الدَّيْن، فأما من أعدَّهُ فهو أشهى٤٩ إلى مقتضيهِ من مقتضيهِ، ولو تدبر الناس أمر الموت لعلموا أنه محمود غير مذموم؛ لأنَّ الموت تمامُ طبيعتنا ولو لم يكن موت لم يكن إنسان؛ لأنَّ حدَّ الإنسان وصِفَتَه هو الحي الناطق الميِّت، فإن لم يكن بميِّت فليس إنسان، ومع ذلك فهو البريد إلى دار الآخرة وإن كانوا يكرهون ذلك ومناله في الحقيقة، ولو عَقَل الإنسان وهو نطفة ممازج للقوة ثمَّ خُيِّر نقلَهُ من نفس الطبائع الممازجة له لم يكن يختار غير ما هو عليه. ثمَّ إذا سبقت المشيَّة من بارئه والإرادة من خالقه، فنقَلَه إلى أن صار في الأنثَيين فلو خُيِّر الانتقال لم يختر ذلك. ثمَّ ينتقل إلى الرحم وهو أوسع مجالًا من الأنثيين لو خُيِّر لاختار الثبات، ثم ينقل كرهًا بعد كرهٍ إلى الأحشاء والمشيمة لتمام الكمال والكون، فلو خُيِّر نَقْلَهُ إلى فسحة العالم لكره ذلك (١٢٢) ولاختار مقامَهُ، ثم أنه لو سِيم الرجوع إلى ما كان يضيق عليه من الرحم من قبل اختياره ما سواه لما كان يؤثر العودة. ثمَّ إذا قصدَت الإرادة إزعاجه من جوف أمِّه، وخروجه إلى نسيم هذا العالم إنما ذلك على الكره منه، ثم لو قيل له من بعد مشاهدة فسحة العالم «ترجع إلى جوف أمك وما كنت عليه شحيحًا لَرَدَّ٥٠ ذلك وأباهُ، فكذلك أقول من نُقل إلى عالم البقاء وفسحته، وإن كرهَه لكلفة النقلة وقلَّة المعرفة بما هو إليه صائر من الاغتباط٥١ بدوام البقاء الروحاني لو خُيِّر من بعد مشاهدته عالم البقاء الرجوع إلى الدنيا، فتكون له بجميعها كان كمن قيل له ترجع إلى جوف أمِّك من بعد مشاهدتهِ هذا العالم، وليس الموت مكروهًا لمن قدم وعقَلَ وتبيَّن، إذ نحن في عالم محدود وفلكٍ محصور ودار زوال وسكنى انتقال.

وقد بيَّنا الآن ما هو الهمَّ والغمَّ على جميع ما في هذا العالم غير ثابتَيْن في الحقيقة، وبيَّنَّا ما يألفُهُ الطبع إلى أن يصير سُلَّمًا للهمِّ وسببًا للغمِّ، وإنَّ كل ما كثر من الناس طالبيهِ، فغير طالبي حقيقةٍ بل باطل ومحالة، وبيَّنا أنَّ الموت غير مكروه، ورأس السياسة العقلية هو ترك اتباع الشهوات والهوى وقمع النفس عن باطل الأماني، وكاذب المواعيد، ولا بُدَّ من قطع المدَّة وبلوغ الغاية فمن سامح هواهُ ونفسَهُ ندم، ومن تدبَّر بتدبير العقل (١٢٣) رَشَدَ، ومن سمع الوعظ والحكمة ثمَّ لم يعمل بهما كانا شاهدين عليه، وهو محجوج بهما والسلام.

(تمَّت الرسالة والحمد لله جلُّ الحمد.)
وجاء في آخر الرسالة السابقة قول لفيثاغورس نلحقهُ بها كما في الأصل:

قال فيثاغورس: إذا ألقيت شهوة الاستغناء فقد استغنيت، وما أكثر من ظنَّ أنَّ الفقير هو الذي لا يملك شيئًا، وأنَّ الغني الذي يملك الشيء الكثير، وهذا فقرٌ وغنًى بالعَرَض، فأمَّا الفقير الطبيعي فهو الذي شهواتُهُ كثيرة، وأمَّا الغني الطبيعي فهو الذي لا يحتاج إلى أحد؛ أعني الذي قد مَلَك شهوته وضبط نفسهُ؛ لأنك إذا ملكت شهوتك فذاك هو الغنى الأكبر؛ لأنَّ من ملك شهوتَهُ فقد استغنى عن العالم بأسرِهِ (تمَّ والحمدُ لله).

١  في النسخة الحديثة (ح): ولا تصرُّم.
٢  روى ح: وترشيد الفهم.
٣  ما نرويه بين معقَّفين ناقص في ح.
٤  في ح: وهو الأزليُّ.
٥  ح: ببركة.
٦  ح: لحقيقة.
٧  ح: في الحقيقة.
٨  ح: من تَدْبيرهِ.
٩  ح: ويتحرص.
١٠  ق: يكون.
١١  الأصل فاسدًا … كائنًا.
١٢  ق: بالطاعة.
١٣  ح: النفس.
١٤  ح: الآخذين بنفوسهم حقيقة.
١٥  الأصل: مشيعي … مستقبلي.
١٦  ق: واستعجل.
١٧  ق: مجاراهُ.
١٨  ق: ويستحق.
١٩  ق: بالهمَّة.
٢٠  ح: تيتوخوس؟
٢١  الأصل: أدركهم.
٢٢  في الأصل: قدرًا.
٢٣  الملبوس.
٢٤  في الأصل: العيان. ولعلَّه القيان.
٢٥  ح: وهكذا المحبَّة (؟).
٢٦  ينقص في ح.
٢٧  ح: والزينة.
٢٨  ق: ن.
٢٩  ح: أو عرضٌ فاسدٌ.
٣٠  ح: يدخلها.
٣١  ح: على مضَض التعب.
٣٢  ق: يرجوهُ.
٣٣  الأصل: يتكلَّفوا.
٣٤  ح: والشهوة.
٣٥  ح: الآخرة.
٣٦  ق: إن.
٣٧  ح: بهجتهُ فيها.
٣٨  ق: أنت فيها.
٣٩  الأصل: الحرائر.
٤٠  ق: محبسه.
٤١  ق: فكسرتها.
٤٢  ق: يعيض.
٤٣  ق: تغم. وما وُضع بين معكفين وقع من أصل ح.
٤٤  في الأصل: الزيادة.
٤٥  في الأصل: يريد.
٤٦  في الأصل: إني أساء.
٤٧  ح: الأغراض.
٤٨  في الأصل: إذ كانت المصائب تغمر.
٤٩  ح: اقضى.
٥٠  ح: لكره.
٥١  ح: من قبل الاغتباط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤