الرجل والمرأة والزواج
نحن نعيش في بيوتنا أكثر مما نعيش خارجها، ولن تهنأ حياتنا لهذا السبب إلا إذا عنينا أكبر العناية بأن نجعل بيوتنا حاوية لصنوف الراحة والرغد. وحياة العزوبة هي حياة ناقصة قليلة الاختبارات والمتع، والمتزوج قد لا يطول عمره أكثر من الأعزب، ولكن حياته أعرض، وهي أعرض بالمسرات والأحزان التي لا يعرفها الأعزب.
ومعظم العمر نقضيه مع زوجة قد عرفناها في الأغلب بعد سن العشرين أو الثلاثين، وقد عاش كل منا قبلًا في بيئة تختلف عن البيئة التي عاش فيها الآخر؛ ولذلك ليس بعيدًا أن نصطدم وأن تحفل الحياة الزوجية بالمتاعب.
ولكن هناك ما هو أخطر من هذا، ذلك أننا نعيش في مجتمع اقتنائي تحاسدي، يجعل الأنانية فضيلة، ويحملنا على المباراة واقتناء المال، ثم يشملنا هذا الروح فنُعَوَّد الأنانية والرغبة في الخطف والاقتناء والحسد والحقد والبعد عن الحب والتعاون، كل هذا يعود كما لو كان هو الطبيعة البشرية الأصلية؛ فإذا تزوجنا عاملنا الزوجة وفق ما تعلمنا وتدربنا عليه في المجتمع، فنطالب الزوجة بالخضوع، ونطالبها بأن تخدم ملذاتنا، ثم نلتذ ملذاتنا على انفراد نفسي، وفي خطف ونهب كما كنا، ولا نزال نعيش في المجتمع.
وليس هذا المجتمع الذي وصفنا جديدًا ظهر في عصرنا، إذ هو قديم قد رسخت أخلاقه في سلوكنا وتصرفنا، وهو يشقي حياتنا الزوجية، وله علامات تخفى أحيانًا على الناقد فضلًا عن عامة الناس، فإن أتوقراطية الرجل ورغبته في أن تكون زوجته أداة للذة يقابلها دلال المرأة وغيرتها الجنونية من الأوهام والحقائق، وكلاهما يسير بروح الاقتناء والخطف كما لو كان كل منهما تاجرًا يشتري رخيصًا لكي يبيع غاليًا.
وأسوأ ما تعلمناه من هذا المجتمع الأناني التحاسدي الاقتنائي الذي نعيش فيه أننا ننظر إلى المرأة جنسيًّا بدلًا من أن ننظر إليها إنسانيًّا؛ فهي امرأة فقط وليست إنسانًا؛ نعني أننا نقتنيها كي تخدم ملذاتنا وتغسل أولادنا، فهي ليست الإنسان المتعاون الصديق الزميل الذي نرافقه ونصادقه؛ ولذلك كثيرًا ما تستحيل البيوت إلى مطاعم أو فنادق للأكل أو النوم فقط، وهذا المنظر يوهم الكسب للرجل، ولكنه في صميمه يعود عليه بالخسار أيضًا حتى من ناحية اللذة الجنسية؛ إذ هي في هذا النظام تتقلص إلى الخطف والنهب، فتجري وكأنها صرع تشنجي، أو كأنها طرب جنوني، يغمر الجسم في عجل ثم ينطفئ فجأة.
لذة عابرة خاطفة لا نذكرها بالحنان والحب والصداقة، ولكن بالخطف، وأحيانًا بالقسوة والاغتصاب. وكثير من الشذوذات الجنسية لهذا السبب يعود إلى المبالغة في الانسياق في الصفات الاجتماعية التي يطالبنا بها النجاح في الكسب والوجاهة والتفوق؛ إذ إن هذه جميعها تحتاج إلى الخطف والنهب والقسوة والحسد والأنانية، بل أحيانًا إلى الغش، والشذوذات الجنسية هي في صميمها غش، واللذة الجنسية هي في صميمها وفي أسلوبها نقطة التبلور لاتجاهنا الاجتماعي وأخلاقنا الاجتماعية، فليذكر هذا كل شاب وكل فتاة.
ومن هنا الكثير من الرذائل التي تحسب في ظاهرها رذائل روحية، ولكنها في باطنها رذائل اجتماعية؛ فإن الشاب الذي يخشى أن يتزوج الفتاة المتعلمة إنما هو في صميمه يخشى المساواة التي لم يتدرب عليها في المجتمع؛ إذ هو نشأ في مجتمع قد غرس فيه الرغبة في التفوق والتسلط والأنانية والخطف والخوف، فكيف يمارس كل هذه الصفات في حرفته ومعاملته وينساها في الزواج؟ فهو يعامل زوجته تلك المعاملة الحميمة التي تعلمها من البَغِي حين كان يؤدي ثمن لذته بالقرش والمليم، ويخطف هذه اللذة خطفًا. وهذه المعاملة ترسخ فيه فلا يعرف كيف يغيرها، ولو أنه كان قد نشأ بروح التعاون والحب والمساواة لكانت اللذة الجنسية نفسها لا تتم إلا بهذه الصفات، وعندئذ كانت تكون متبادلة هنيئة للزوجين.
ولهذا أصبح الزواج كأنه صفقة بيولوجية تتم بين الرجل والمرأة، لا يسودها الحب والثقافة. أجل، الحب والثقافة، وكلاهما لا يعرفه الحيوان.
ولكن حتى المقارنة بيننا وبين الحيوان لا تدل على أن الكسب في جانبنا؛ لأن أقل ما يقال في الحيوان أنه ينساق بغريزته الساذجة الفطرية، ولكنا نحن نفسد هذه الغريزة بوجدان المجتمع الانفرادي القائم على الخطف والخوف والنهب والحسد والاغتصاب. فنحن لا نتعاون في اللذة الجنسية، بل نتخاطف في طرب ماني وصرع وقتي، سرعان ما نفقدهما ونعود إلى ما يقارب اليأس والجمود والنفور.
ولن يتحقق الهناء الزوجي إلا بعد أن يعيش النساء والرجال في تعاون، وما يجلبه هذا التعاون من حب وإخاء ومساواة وطمأنينة واستبشار بالمستقبل؛ لأن المجتمع الذي نعيش فيه في الوقت الحاضر يشقينا بالقلق؛ فنحن نقلق ونخاف، نخاف من الفقر والمرض والهزيمة في المباراة الاقتصادية والإفلاس، وكل هذه الصفات تنتقل إلى العلاقة الجنسية، فتعود هذه العلاقة قلقة غير مطمئنة.
أي إن نظامنا الاجتماعي ينتقل بأساليبه إلى نظامنا الجنسي؛ فإذا كنا نخاف من الدنيا ونهرول ونخطف ونقلق ونحسد، ونؤثر أنانيتنا على مصلحة إخواننا في المكتب والمتجر والسوق والمصنع، فإننا ننقل كل هذه الصفات إلى العلاقة الجنسية، فلا نستمتع بالغريزة الفطرية التي يستمتع بها الحيوان، بل نفسدها بوجدان سيئ من حياتنا الاجتماعية السيئة.
ولذلك نحتاج كي تهنأ الحياة الزوجية وتزول الشذوذات الجنسية إلى مجتمع تعاوني سوائي يقوم على الحب وليس على المباراة؛ أي يجب أن نعيش في نظام اشتراكي، وأن يتعلم الرجال والنساء منذ ولادتهم إلى وفاتهم الاختلاط والتعاون والمساواة، وأن نطمئن على عيشنا؛ فلا يكون هناك قلق يغمر شخصيتنا، ويحملنا على الهرولة والخطف: هرولة وخطف في المجتمع يؤديان إلى هرولة وخطف في التعارف الجنسي.
فإذا تم هذا؛ أي إذا تغيرت «الطبيعة» البشرية، وهي في صميمها طبيعة اجتماعية، وإذا تساوى الرجال والنساء عمَّت الطمأنينة، وزالت الرغبة في التسلُّط، وعندئذ تهنأ الحياة الزوجية، وترقى على أسس من التعاون والحب والثقافة، فلا تكون غريزية كالحيوان، ولا شقية بالوجدان الاجتماعي السيئ الحاضر، وتخرج المرأة من أنثويتها الضيقة إلى ميدان الإنسانية الواسع.