مجتمعنا الانفصالي الحاضر
نحن أقل مسرات ومباهج من الأوربيين؛ لأن هؤلاء يلقون الدنيا في صراحة أكثر منا، ونحن بالمقارنة إليهم نوارب ونداري كأننا ملوَّثون بتهمة نخشى أن تُفتضح؛ يعيش رجالنا منفصلين من النساء، لهم مجتمعهم الخاص ومسرَّاتهم الخاصة، فإذا كانت هناك علاقة بين الجنسين فهي ليست علاقة الأنسة والرفقة والزمالة الاجتماعية كما هي الحال في الأمم المتمدنة، وإنما هي العلاقة البيولوجية البدائية التي قد ترتقي أحيانًا إلى أنسة اجتماعية محدودة بالبيت، ولكن ما أصغرها وأضيقها!
كل هذا لأننا نعيش في مجتمع انفصالي؛ الرجال ينفصلون من النساء.
والآثار التي يخلِّفها هذا الانفصال لا تقدَّر؛ فإن الزمالة الزوجية التي تعد شرطًا ضروريًّا للحياة السعيدة بين الزوجين ليست من المعجزات التي تباغتهما منذ العرس؛ لأن هذه الزمالة تحتاج إلى مرانة قد حرم منها شبابنا وفتياتنا؛ لأننا حرَّمنا الاختلاط بينهما قبل الزواج، فأصبح كل منها منكفئًا على نفسه، له عقلية خاصة، وإحساسات نفسية خاصة؛ كأنه مخلوق من كوكب آخر؛ ولذلك يلتقيان بعد الزواج وهما غريبان يحتاج كل منهما إلى مجهود جديد للتوفيق في الحياة المشتركة الجديدة.
والأوربيون يختلطون؛ يتعلمون وهم صبيان في مدرسة واحدة، وأحيانًا يتعلمون معًا أيضًا في المدارس الثانوية. أما الجامعات فالتعليم على الدوام مشترك لا ينفصل فيه جنس من آخر، وهذا إلى الاختلاط بالضيافة التي لا تنقطع؛ ولذلك ينشأ الشبان والفتيات على دراية ومعرفة، فإذا دخلوا في بيت الزوجية كان دخولهم على نور وهدًى، وليس بمثابة الكشف عن أرض مجهولة كما هي الحالة الأسيفة عندنا.
ومنع الاختلاط بين الشبان والفتيات يعقب آثارًا من الأمراض النفسية يعرفها الدارسون لهذا الموضوع؛ لأن هذا الفصل يجنح بالشاب أيام المراهقة إلى الاستسلام للخيال الذي لا تردُّه ولا تحدُّه حقائق الاختلاط ولمس الواقع؛ فهو ينتقل من خيال إلى خيال، ويشطح ويتطوح إلى أن يجد نفسه يومًا وقد بعد إلى منأًى تخصب فيه الشذوذات الجنسية التي يشق عليه، وأحيانًا يستحيل، أن يتخلص منها حتى بعد الزواج.
ونحن الرجال نحتاج على الدوام إلى الاختلاط بالجنس الآخر منذ أن نولد إلى أن نموت؛ لأن أقل ما يقال في تبرير هذا الاختلاط أنه هو الوضع الطبيعي الذي يجب ألا يناقضه وضع اجتماعي. والشاب المختلط — زيادة على أن غرائزه تبقى سليمة بعيدة عن الشذوذات — يرقِّي شخصيته بالاختلاط بالجنس الآخر؛ إذ هو يُعنى بلباسه ولغته وصحته؛ لأنه يجب أن يبدو بأحسن ما يستطيع؛ حتى يجلب الإعجاب والرقة من الجنس الآخر، بل هو يرقِّي ذهنه ويربِّي حواسه لهذا الغرض أيضًا. ونحن نستطيع بالفراسة السيكلوجية أن نعرف الشاب المنفصل الذي لم ترتقِ نفسه وحواسه وذهنه بالاختلاط الجنسي.
وأول ما نجد فيه إهمالًا في هندامه؛ إذ هو لا ينتظر إعجابًا ولا يتكلف عناية لجلب هذا الإعجاب من الفتاة، وهو يؤمن بالشهوة لا الحب؛ لأنه لم يسامر قط فتاة، ولم يعرف قط أن للفتيات ميزات روحية ونفسية وثقافية وذوقية، وأنهن يمتزن أيضًا بالشجاعة والتضحية والشرف.
ومثل هذه الحال التعسة تكون أيضًا عند الفتاة المنفصلة، مع الاختلاف الذي تقتضيه ظروفها، بل هي أتعس من الشاب؛ لأن حبسة البيت أسوأ أثرًا هنا، والشاب مع انفصاله لا يُحبس في بيته؛ ولذلك تفقد الفتاة حيويتها، ويستولي عليها جمود يُنقِص — إن لم يلغِ — جاذبيتها، مع أن مواهبها الطبيعية في الجمال قد تكون كبيرة جدًّا، ثم تسودها عقلية المنع والانكفاف؛ لأن الإحجام المادي يتشعع من بؤرته في البيت إلى ألوان من الإحجام الذهني والنفسي، «فيجب ألا تنظري، ويجب ألا تقرئي، ويجب ألا تعرفي … إلخ».
وقد أكون قد بالغت في وصف المساوئ التي تعود من الانفصال بين الجنسين؛ لأن الحدود والسدود قد تحطمت إلى حد ما، ولكن يجب أن نسلِّم أنها — مع الأسف — لا تزال قائمة في كثيرة من أوساطنا، وهي أحيانًا، مع تحطمها في الواقع المادي، لا تزال قائمة في بعض الأذهان والنفوس.
يجب أن نعدَّ الاختلاط جزءًا من تربيتنا العامة، وأن ندعو إلى التعليم المختلط في المدارس الابتدائية، وإلى تشجيع الضيافة الراقية، بل أيضًا إلى غشيان المطاعم والقهوات العامة مختلطين.
وعندما ينتقل مجتمعنا من حال الانفصال إلى حال الاختلاط سوف نحس أننا أمة متمدنة، وسوف يربينا الاختلاط، ويحدث بيننا زمالة واحترامًا، ثم يؤدي إلى الحب. أجل، هذا الحب المكشوف الصريح الشريف الذي لا يحتاج إلى اختلاس النظر من خلف الأبواب والأستار.