عادة القراءة
تحدثنا في بعض الفصول السابقة عن القيمة العظمى لعادة القراءة، ولكنا مع ذلك نحتاج إلى التوسع في إيضاح هذه القيمة. وهذا الكتاب الذي نتوخى فيه جعل الحياة فنية يجب أن يحوي فصلًا عن القراءة؛ لأن القراءة وحدها تجعل الحياة فنية في الكثير من معانيها؛ إذ هي ترفع القارئ من الاعتبارات المحلية ومن الضروريات المعيشية إلى قيم بشرية سامية، وإلى كماليات وتأنقات ذهنية لا يحصل عليها الأمي أو ذلك القارئ الذي يحيل نفسه إلى أمي لأنه يكره القراءة.
وفي أيامنا يعد توافر الكتب والمجلات والجرائد من أعظم انتصارات الحضارة العصرية؛ لأنه قد جعلنا بالقراءة المثابرة على وجدان دائم بعصرنا ودنيانا؛ فاتسعت آفاقنا الفكرية والعاطفية، وحفلت حياة القارئين باهتمامات جديدة ومتجددة، ولم يكن آباؤنا يعرفون شيئًا منها. فإذا لم تكن حياتنا أطول من حياتهم فإنها على الأقل — بالقراءة — أعرض وأعمق منها.
وواضح أننا نقصد هنا القراءة المنيرة المنبهة لا القراءة المظلمة المخدرة؛ فإن هناك قراء وقارئات يشترون المجلة كما يشترون اللب أو اللبان للتسلية وقتل الوقت، كما أن هناك مؤلفين قد زودوا السوق «الأدبية» بهذه المخدرات التي تُبنِّج العقل وتلغي الوجدان.
ولكن القارئ الذي يُعنى بحياته يأبى التخدير؛ لأنه لا يجب أن ينسى أنه حي. وهو يقرأ كي يزيد حياته حيوية، وليس كي ينام ويتخدر، وهو يزداد بالقراءة سرورًا وإحساسًا بالنمو، وقراءته دراسة مقصودة مرتبة على مراحل حياته؛ كأنها البرنامج للنمو والتطور. والقارئ الذي يحس بعد سنوات من دراسته أنه لم يتطور يحتاج إلى المراجعة والتساؤل؛ لأن أغلب الظن أنه أساء في اختيار الكتب، وانغمس في دراسات جامدة لا تبعثه على الرقي أو النمو أو التطور.
والقراءة الجزافية سيئة، وهي كالأكل الجزافي؛ لأننا نحتاج في الحياة الفنية إلى التنظيم والترتيب، ووضع البرامج كي تفتح الميادين الجديدة؛ فالرجل المستنير لا يرضى لنفسه هذه الأيام أن يعيش على هذا الكوكب دون أن يحاول الوقوف على الطاقة الذرية، كما لا يرضى لنفسه أن يجهل نظرية التطور؛ التطور البيولوجي والتطور الاجتماعي.
وهناك عشرات من الموضوعات الحيوية التي لا يجوز لمستنير أن يهملها، وهي تستغرق الحياة كلها، بل إن المتعودين للدراسة يجدون أنهم في شكوى دائمة من قلة الوقت؛ ولذلك لا يعرفون السأم، واهتماماتهم متعددة متجددة.
والحياة الفنية تتجه نحو العناية بالفنون الجميلة قبل كل شيء؛ أي بالأدب والشعر والموسيقا والرسم وما إلى ذلك؛ لأن هذه الفنون تزيدنا تأنقًا، فنتوخى الجمال في تصرفنا كما نتوخاه في بيئتنا، ولكن التعمق يقتضي ألا يقف أحدنا من الدراسة موقف القارئ المطالع القانع بزيادة معارفه؛ إذ يجب أيضًا أن يشترك ايجابيًّا في ثقافة معينة تكون عنده كالبؤرة الأصلية التي تتشعع إلى ثقافات فرعية عديدة. وهو يحسن إذا مارس الكتابة عما يقرأ؛ يشرع أولًا بمراسلة بعض المجلات، ثم يرتقي إلى كتابة المقالات، ثم إلى التأليف إذا استطاع ذلك. ولكن يجب على كل حال أن يحاول الكتابة التي تزيده ارتباطًا بالثقافة، وتحمله على زيادة البحث والاستقصاء لما يدرس.
وثَمَّ اعتبار آخر في قيمة القراءة أو الدراسة للحياة الفنية هي أنها أعظم الوسائل للاحتفاظ بشباب الذهن في الشيخوخة؛ فالشباب الذي تعوَّد قراءة الجريدة والكتاب أيام شبابه، ثم واصل هذه العادة في كهولته وشيخوخته يحتفظ بالكلمات ماثلة حية في ذهنه حين تتبلد العواطف فلا تحرِّك الذهن إلى التفكير والاهتمام، بل حين تأخذ خلايا المخ في التدهور، وتعجز الشرايين الدقيقة المتصلة عن تغذيتها وتنظيفها، ففي هذه الحال يرافق الشيخوخة نسيان للكلمات يؤدي إلى تعطيل للتفكير، ولكن عادة القراءة كل يوم تجعل الكلمات — كما قلنا — ماثلة، ومتى مَثُلت الكلمات مَثُلت الأفكار، فيبقى الذهن شابًّا حيًّا، وتعود الشيخوخة حافلة بالاهتمامات حتى ولو بلغنا التسعين أو المائة.
ونرى هذا واضحًا في جميع الأدباء أو العلماء الذين لم ينقطعوا عن الدراسة في شيخوختهم؛ إذ في الوقت الذي تجد فيه غيرهم قد تبلد ذهنه وجمد، أو حتى خرف، نجد أنهم لا يزالون يقرءون ويكتبون كما لو كانوا في الشباب. وقليل منهم من يمتاز بشرايين طرية أو صحة عامة تختلف عن سائر الناس، ولكن ميزتهم الوحيدة هي الميزة اللغوية؛ إذ قد احتفظوا بالكلمات؛ فاحتفظوا بالمعاني أيضًا، وبقيت الأفكار حية عندهم تحرِّكهم إلى النشاط والاهتمام.
ولذلك تعد القراءة خير ما نهيئ للشيخوخة، ويجب ألا يقل الاهتمام بها عن الاهتمام بالصحة الجسمية، بل ربما كانت هي أهم وأنجع لاستبقاء الحيوية عند المسنين. وعندنا من الأمثلة في مصر ما يبرهن على صحة قولنا؛ ففي هذا الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات (١٩٤٦) يعيش عبد العزيز فهمي باشا في السادسة والسبعين وهو محطم الصحة الجسمية، ولكن ذهنه في شباب عجيب؛ لأنه لم ينقطع يومًا عن القراءة الجدية، فالكلمات (أي الأفكار) ماثلة في ذهنه تبعثه على اهتمامات ثقافية مختلفة، وقد زرته قبل شهرين فوجدته ينقل كتابًا عن القانون الروماني إلى اللغة العربية، وهو يقرؤه في حماسة، ويراجعه في نقد وتغيير.
ولذلك نحن على حق حين نقول: إن صحة الذهن للمسنين أهم من صحة الجسم، ومداومة القراءة اليومية هي خير ما يؤدي إلى صحة الذهن. ونستطيع أن نذكر عشرات من المسنين استبقَوا بالقراءة شباب أذهانهم، ولكنا نحب أن نغير كلمة القراءة فنقول: الدراسة؛ لأننا نقصد إلى الجد والترتيب، ووضع البرامج للتوسع الذهني، ولا نقصد إلى القراءة التي تقوم مقام أكل اللب أو مضغ اللبان.
والبيت المتمدن في عصرنا هو البيت الذي يعرف أن أفخر ما فيه من أثاث إنما هو الكتب؛ لأنها غذاء نفوسنا وعقولنا التي هي أحق بالعناية من بطوننا. ومن عجب أن هناك من يعد نفسه متمتعًا بحياته لأنه يأكل أفخر الأطعمة، ويلبس أجود الملابس، ولا يدري أن المتع البشرية السامية تتجاوز هذه الحاجات البيولوجية إلى الوقوف على ذلك التراث البشري العظيم؛ من مؤلفات أفلاطون، إلى صلوات إخناتون، إلى فلسفة بوذا، إلى دراسة الكتب المقدسة، إلى تواريخ الأديان وحياة القديسين، إلى حقائق العلوم وتطورات الأمم، وغير ذلك. وأي شيء من أثاث المنازل عند المليونيين يعادل الذهن المؤثَّث بالاختبارات والنظريات والأفكار التي تبسط تاريخ المستقبل فضلًا عن تاريخ الماضي؟!
والقيم البشرية تعد على الدوام في المرتبة العليا بالمقارنة إلى القيم الاجتماعية؛ ولذلك لا يمكن أن يقارن الثراء والوجاهة والمال وترف المنزل والمعيشة، بالذهن الثري بالثقافة، المتمرن على التفكير، اليقظ بالوجدان العالمي. وذلك الشاب الذي يهمل تعوُّد الدراسة، ويبخل في شراء الكتب والمجلات، ويُؤثِر عليها الرياش النفيسة أو اكتناز المال إنما يبخس نفسه التي هي أولى من أي شيء آخر بالإنفاق، بل بالإسراف في الإنفاق.