يجب أن نعيش في حاضرنا
نحن لا نعيش حياة واحدة؛ لأن لنا حيوات مختلفة: حياة الطفولة، ثم الصبا، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ولكلٍّ من هذه الحيوات أفراحها وأتراحها واختباراتها، وليس من حق أحد؛ كالوالدين أو المربين، أن يحرمنا من إحدى هذه الحيوات. وإذا فاتتنا حياة الصبا بلا تمتع، وإذا عوملنا في أثنائها كما لو كنا شبانًا، فإننا — عندئذ — نكون بمثابة من لم يحيا حياة معينة كان من حقه أن يحياها؛ إذ هي لن تعود.
ولكن هذا هو ما نرى في عصرنا؛ فإن كثيرًا من الآباء يحرمون أبناءهم من صباهم، ويكلفونهم واجبات الشباب إعدادًا للمستقبل؛ كأن الحاضر لا قيمة له، وكأنه يجب أن يُضحَّى به من أجل المستقبل، كما يضحى بالصبا من أجل الشباب. وكثيرًا ما نرى صبيانًا بين الثامنة والخامسة عشرة يقضون فراغهم بعد المدرسة في الدراسة؛ إما بضغط آبائهم، وإما بترتيبات جهنمية حين يحضر المعلمون إليهم في البيت ويقهرونهم على الدرس، مع أن هذه الفترة من العمر تنادي باللعب والمرح، وبالتجارب التي يخترعها الصبي لفهم الدنيا، وليس من حقنا أن نحرمه منها.
وهنا نعود إلى القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية؛ فإن الأولى تطالبنا بمعاملة الصبي باعتبار أنه صبي فقط يعيش ويستمتع بحاضره؛ لأن هذا هو حقه الطبيعي، ولكن القيم الاجتماعية تتغلب علينا فنفكر في مستقبله، ولأننا نخشى هذا المستقبل للمباراة العامة التي نتوهم أنها تسوده، نبالغ في تفكيرنا إلى حد القلق، فلا نفكر في منطق وتعقل، ولكن في خوف وفزع، ونسرف في تأكيد الدراسة وحرمان الصبي من صباه؛ أي حرمانه من إحدى حيواته التي لن تعود إليه، ولو عقلنا لأحسسنا الإجرام في هذا العمل.
وليس من شك في أن نظام المباراة الذي نعيش فيه، والذي يسود مجتمعنا، يجعلنا جميعًا في خوف دائم من المستقبل؛ ولذلك نكاد نقضي عمرنا كله في التهيؤ لهذا المستقبل. وهذا الخوف يستحيل أحيانًا إلى قلق نيوروزي؛ أي إرهاق نفسي نعجز عن تحمله، وهو يبدو في خوف أو فزع؛ فإن البخيل الذي يحرم نفسه من المتع الصغيرة وهو يجمع قرشًا على قرش، إنما يفعل ذلك لمركبات نفسية هي في حقيقتها أمراض يحتاج إلى المعالجة منها، وهو حين يُسأل عن الأسباب التي تحمله على هذا البخل يجيب بأنه يخشى المستقبل، ويتهيأ لليوم الأسود بالقرش الأبيض، مع أن من يتأمل صميم نفسه يعرف أنه لن يُخرِج هذا القرش الأبيض المدَّخَر مهما اشتدت الحلوكة في هذا اليوم الأسود المنتظر؛ لأن الواقع أن البخل نشأ عنده من الخوف من المباراة العامة التي لا تجعل أحدًا مطمئنًّا على مستقبله، فأسرف في التهيؤ لهذا المستقبل، واتجه الوجهة النفسية التشاؤمية حتى صار البخل عادة. وهذه العادة تجعله يعيش على هامش الحياة التي قد تطول، ولكنها تطول هزيلة بلا عرض أو عمق. والعادة لثبوتها تحرمه من الترفيه عن نفسه مهما ساءت الأحوال.
ونحن جميعا نحتقر البخل، ولكننا ننسى أننا حين نحرم الصبي من صباه إنما نتجه وجهة هذا البخيل في الخوف من المستقبل، وننسى أننا حين نرصد من وقتنا أحسن ساعاته لاقتناء العقارات والإثراء إنما نتجه هذه الوجهة أيضًا، وإن كنا لا نبلغ درجة البخيل في الحرمان.
وفن الحياة يقتضينا أن نعيش في حاضرنا؛ فنتمتع بمتع الطفولة في طفولتنا، ومتع الصبا في صبانا، ومتع الشباب في شبابنا، ولا نؤجِّل شيئًا من ذلك تهيُّؤًا للمستقبل؛ لأننا لسنا واثقين من هذا المستقبل ثقتنا بالحاضر، فإذا حرمنا الشاب من متع شبابه بدعوى أنه يستعد للمستقبل؛ فإننا لا نثق بأنه سيعيش إلى هذا المستقبل المنتظر.
ولسنا مع ذلك ننكر هذا المستقبل ونتعامى عنه، ولكنا نعتقد أن من يعيش في حاضره إنما يعيش أيضًا لمستقبله، ونعني المعيشة السليمة؛ فإن هناك فرقًا بين اثنين يخافان المستقبل؛ أحدهما يبخل ويقتر ويبالغ في الحرمان، والآخر يؤمن بأداء قسط سنوي لإحدى شركات التأمين — مثلًا.
وهناك أيضًا فرق بين تلميذ يدرس في المدرسة ويلعب خارجها، أو يستمتع بصباه أو شبابه، وبين آخر يُرهَق بتكاليف مدرسية أخرى في بيته، تراه قد حبس نفسه بعيدًا عن والديه وإخوته، وسهر الليالي.
والرجل السويُّ الذي تتزن أعصابه يكتسب من حاضره بصيرة لمستقبله، ويستطيع لذلك أن ينظر إليه مطمئنًّا؛ فلا يجنح إلى التقتير، ولا يهرول في جهده لاقتناء المال.
وإذا عشنا في حاضرنا، ومارسنا اهتماماته وهمومه، وتمتعنا بمتعه، فإننا بهذا السلوك نفسه نجدنا قد استعددنا للمستقبل؛ فالرجل الذي تعوَّد — مثلًا — القراءة واقتناء الكتب، ومداومة القراءة للجريدة والمجلة، إنما يتمتع بكل هذه الممارسات، ولكنه زيادة على ذلك يتهيأ بها لشيخوخة يقظة بعيدة عن السأم والتبلد.
وكذلك الرجل الذي مارس عملًا كاسبًا، وانتفع بالتأمينات المألوفة يسير نحو المستقبل في طمأنينة.
أما إذا كانت الأيام حبلى بمفاجآت — كما رأينا في الأزمات الاقتصادية الماضية — فإن بصيرة العاقل وفزع المجنون وتقتير البخيل، كل هذا يستوي أمام تلك المفاجآت؛ أي جميعنا — عندئذ — سواء، وعندئذ ينتقل الاهتمام بالمستقبل من يد الفرد إلى يد الدولة.
ومن المألوف أن نجد شخصًا يكدُّ متعبًا مهمومًا في اقتناء الثروة، وفي نفسه شوق إلى الاستمتاع؛ فهو يحلم بالبيت الذي سوف يبنيه، أو ببضعة الفدادين التي سوف يزرعها، ويجد فيها الاتصال بالطبيعة، أو هو يحلم بالسياحة في أوروبا، وقد يحلم أيضًا باستمتاعات ثقافية مختلفة، ويضع في برنامجه شراء مكتبة تحوي آلاف المجلدات التي تنيره وتثقفه، ويفعل ذلك وهو في الثلاثين أو الأربعين، ويرصد كل وقته للجمع والاقتناء والإثراء.
ومثل هذا يجب أن نقول له: أنت مخطئ؛ لأنك حين تصل إلى سن الستين تكون العادات التي مارستها كل يوم من حياتك الماضية قد رسخت فيك، فلن تستطيع تغييرها.
ثم وأنت في الستين سوف تكون لك أذواق تختلف عما لك الآن وأنت في الثلاثين أو الأربعين.
ولذلك يجب أن تعيش في حاضرك، وتبدأ الآن في استمتاعاتك وتحقيق أحلامك، ولا تؤجل متعك إلى سنين قادمة ربما تموت أنت قبل بلوغها، أو ربما تموت كفاءتك للاستمتاع بها؛ إذ إن لكل سن متعها الخاصة، فمتع الشباب غير متع الكهولة، ومتع الكهولة غير متع الشيخوخة، ومتع الصبا غير متع الشباب.