الاتصال بالطبيعة
لا يسهل على أي إنسان أن يتجرد من القيم الاجتماعية، أو حتى يتسامح في الكثير منها إلا بمجهود شاقٍّ يضنيه، ويُقِيم من المجتمع، الذي يرتضي هذه القيم، خصمًا له، ولكن يجب أن نتنبه من وقت إلى آخر إلى هذه القيم الاجتماعية حتى لا ننساق فيها ذاهلين، وحتى لا ننسى أننا بشر قبل أن نكون مصريين أو فرنسيين أو عربًا، واتصالنا بالطبيعة جدير بأن يحدث لنا هذا الوجدان.
ذلك أن حياة الحضارة تغمرنا وتسومنا أوزانها وقيمها؛ فالنجاح فيها يقاس بالقدرة على اقتناء المال، والجمال فيها أثاث فاخر أو جواهر غالية أو أتومبيل مطهَّم أو رسم على جدران، أو نحو ذلك مما ننساق فيه فنتوهم أننا سادة نختار ونقرر، مع أن الواقع أننا — في الأكثر — عبيد العرف الاجتماعي الذي يأبى علينا الاستقلال.
ومن وقت لآخر نرى أو نقرأ عن أولئك البشريين الثائرين على هذا العرف الاجتماعي؛ مثل تولستون الذي هجر المدن وعاش في عزبته يصنع حذاءه بيديه، أو غاندي الذي نزع عن جسمه ملابس الحضارة، وقنع بشملة يبسطها على عاتقيه أو يأتزر بها. وهذا إلى قنوعه من الطعام باللبن والفواكه، أو ثورو الكاتب الأمريكي الذي ترك المدن وبنى لنفسه كوخًا لم يكلف أكثر من ستة جنيهات، عاش فيه سنتين إلى جنب الغابة، حيث كان يحصل على طعامه من صيد السمك وصغار الحيوان والطير، وقد قال عن هجرته هذه في الغابة وحياة الفطرة: «إني أردت أن أسوق الحياة وأحرجها في زاوية كي أعرف هل هي شيء جليل أم حقير.»
وبكلمة أخرى، أراد ثورو أن يخلو إلى نفسه، ويستمع إلى همساتها بعيدًا عن ضوضاء المدينة وضجيج الحضارة، خاليًا من تكاليفها الصغيرة والكبيرة؛ كي يستكنه أسرارها، ويصل إلى أصولها، ويتعرف إلى الطبيعة، ويقف على علاقته منها ومراسيه فيها.
وكلنا يحس في أعماق القلب والمخ أننا في حاجة إلى مثل هذه التجربة، وأن العمر لا يصح أن يُقضى على هذا الكوكب وهو مبعثر بين هموم واهتمامات صناعية؛ أي صنعتها لنا الحضارة.
ولذلك يجب على كل من ينشد الحياة الفنية أن ينظم هذه الحياة، بحيث لا تنقطع عن الطبيعة، وبحيث تبقى القيم والأوزان البشرية ماثلة في ذهنه عالقة بقلبه، يشتهيها ويتعب لها ويستمتع بها، وهو عندما يفعل ذلك، وعندما يألف الطبيعة، سيحسُّ أنها؛ أي الطبيعة، تحوي ألوانًا من الجمال في الشفق عند الغروب، وفي بزوغ الشمس عقب سكينة الفجر، وفي رهبة الجبل، وبسطة الصحراء، بل في تنوع النبات والحيوان، مما يجعله يحتقر الكثير مما تَحمِلنا الحضارة على اقتنائه، ونعتني في جمعه والتفاخر به.
وليس من الضروري أن نسلك سلوك ثورو في الهجرة إلى مكان قصيٍّ، نعيش مستوحدين سنتين أو أكثر كي نصل إلى جمال الطبيعة، وكي نهتدي إلى مراسينا منها؛ فإن اللجوء إلى الريف من وقت لآخر وقضاء أيام، بل أحيانًا الساعات فيه، يضيء بصيرتنا، ويقرب ما بيننا وبين الطبيعة، ويحملنا على التخلص من الزيادات والنوامي التي تنمو حولنا كما تنمو الأعشاب والطفيليات حول السفينة فتعطلها عن الملاحة؛ فإن غاندي لم يخسر حين نزع ١٥ قطعة من الملابس الحضارية واكتفى بقطعة واحدة؛ إذ الواقع أنه كسب، أو بكلمة أصح: هو كسب من حيث القيم البشرية، وخسر من حيث القيم الاجتماعية.
وأحيانًا حين أقعد في الريف وأتأمل القمر وهو يحيل كل شيء على الأرض إلى خلق سحري، أو حين أتأمل الشفق في رائعة جماله، أو حين أخرج في الفجر أنتظر بزوغ الشمس والدنيا هادئة صابحة كأنها لم تخلق إلا منذ دقائق، أو أتأمل أسراب الغربان وهي عائدة إلى عشاشها عند الغروب، أو اليمام وهو يغازل على استحياء وفي طمأنينة، أو حين أتأمل هذه الحرب الخفية السرية بين النبات والحيوان في دَيسة أو خميلة على جدول، أتعجب من إنسان يرضى بقضاء دقيقة واحدة فيما يسميه قتل الوقت على القهوة، بدلًا من أن يجري ساعيًا لاهثًا إلى الريف كي يختبر هذه الدنيا في أعماقها وصميمها.
وأتعجب من إنسان، أو بالأحرى إنسانة، تعتقد الجمال في عقد من اللؤلؤ أو قلادة من الألماس، مع أن جبلًا من هذه الجواهر لا يساوي في جماله جمال الشفق أو القمر.
ويفشو الجهل بالطبيعة؛ أي بالدنيا، حتى نجد إنسانًا «يعرف» طائفة من المعارف المكروسكوبية عن الأدب أو العلم، وهو يجهل هذه الدنيا العظيمة؛ وطنه الأول، فلا يعرف روائعها من جماد ونبات وحيوان.
وقد جزَّأتنا الوطنية أجزاء على هذا الكوكب حتى صرنا لا نشتاق إلى رؤية جبالنا الشامخة؛ مثل هملايا، أو مساقطنا الرائعة؛ مثل نياجرا؛ لأننا نحس كأن جبل هملايا هو ملك خاص بالهنود، ونياجرا هو ملك خاص بالأمريكيين.
بل الواقع أننا لا نشتاق إلى رؤيتهما؛ لأن القيم الاجتماعية قد تغلبت علينا، فنحن نهتم باقتناء البهارج «الجميلة» بدلًا من الاهتمام بالاقتناء النفسي لجمال هذا الكوكب. وكثيرًا ما أدخل البيوت التي تمتاز بحدائق فأجد أشجارًا أسأل أصحابها عن أسمائها فلا يعرفون … لأنهم إنما غرسوها انسياقًا وراء العرف، وليس تقديرًا لقيمة النبات، أو إحساسًا بأن الشجر قريبنا نحن. وهم يعيشون في وحدة وجودية؛ ولذلك لا يهتمون بالتعرف إلى اسمه أو أصله.
وأحيانًا أجد من الحسن أن أرد بعض الذاهلين إلى الوجدان، وأعيد إليهم القيم البشرية بأن أسال أحدهم: هبْ أنك أُصبت بمرض قاتل، ووثقت من الأطباء أنك لن تعيش على هذا الكوكب سوى عام واحد، ثم خيِّرت بين أن تقتني ألف آقة من الألماس واللؤلؤ، ومئة قنطار من الذهب، أو تقضي هذا العام الباقي من عمرك على هذا الكوكب في زيارات رائعة إلى القطب الشمالي، وجبال هملايا، ومساقط نياجرا، وغابات إفريقيا، ترى بواسق الشجر، ووحوش الحيوان، وتشترك في صيد القيطس عند القطب الجنوبي، وترى الفيلة في غاباتها في الهند. أجل، وفوق ذلك تعرف الشعوب البشرية في الهند واليابان ونروج وأستراليا، وترى الإنسان البدائي والإنسان المتوحش والإنسان المتمدن، ومقدار التدمير الذي أحدثه هذا الأخير بكنوز كوكبنا.
لو خيِّرت بين هذين لاخترت بلا شك أن تقضي عامك في زيارة الأرض التي عشت فيها ماضي عمرك وأنت محبوس محجوز في بقعة معينة تظن أنها كل شيء، وتقضي سنيك في اقتناء بهارج ليس لها غير القيمة الاجتماعية التي تعمينا عن الاستمتاع بكوكبنا.
ولا بد أن البشر في المستقبل سينفضون عن عواتقهم التكاليف الباهظة العديدة التي يحتملونها الآن من الحضارة، ويفكرون في القيم البشرية، وسوف يجدون في الآلات المنتجة، بل في الطاقة الذرية، ما يجعل العمل الإنتاجي سهلًا لا يحتاج منا إلى قضاء الوقت أو الجهد العظيمين، وعندئذ يعود هذا الكوكب وطن البشر جميعًا، وعندئذ تصير الجبال والبحيرات والغابات، بما تحفل به من حيوان ونبات، كنوزًا يحتفظون بها ولا ينقطعون عن زيارتها.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال يجب أن نذكِّر أنفسنا على الدوام بضرورة اتصالنا بالطبيعة، ويجب أن نحتال بالتوفيق بين ضرورات العيش والمجتمع واللجوء إلى الريف، ويجب أن تكون لنا هوايات ريفية طبيعية؛ فإن صيد السمك ينزعنا أحيانًا يومًا كاملًا من الوسط الحضاري الصناعي إلى وسط طبيعي. وكثير من المفكرين يحتاج إلى مثل هذه الهواية التي تختمر فيها الكامنة وقت السكينة عند شاطئ النهر، ثم يؤدي اختمارها إلى تهيئة الوجدان للإنتاج المثمر.
أجل يجب أن نتنبه على الدوام إلى القيم البشرية، ولا ننساق في قيم اجتماعية تستعبدنا، ويجب أن نذكر أن الطبيعة؛ أي الأرض والنهر والجبل والغابة والبحر والصحراء والنبات والحيوان، هي كنزنا الأول الذي يجب أن نقتنيه اقتناء نفسيًّا، وندرس جماله ونستمتع به، وذلك بالاتصال الذي لا ينقطع به.