الحياة مغامرة
عندما نتأمل القصص السامية التي ألَّفها كُتَّاب خالدون، نجد أننا إنما نقيس هذا السمو بشيئين: إما بشخصية فذة تغمر القصة، وتجعل من العيش اقتحامًا، وتجد مرح الحياة في المغامرة والدخول في الغمر العباب دون القناعة بالشواطئ والمخاضات، وإما نجد، بدلًا من هذه الشخصية، مشكلة حيوية عظمى، نصل فيها إلى الأعماق، فنفهم أكثر ونعرف أكثر في الحياة.
ومع أننا نقرأ كثيرًا؛ فإنه قلما يخطر ببال أحدنا أن يعيش في هذه الدنيا كما لو كان بطلًا في قصة سامية؛ وذلك بأن يكون هو نفسه شخصية فذة، أو يكون قد اعتنق مشكلة من مشكلات البشر الحيوية فيطابق بينها وبين نفسه ويعيش لها؛ فهي هو وهو هي.
ولكن الواقع أن كثيرين منا — على الرغم مما قلنا — يطابقون بين حيواتهم وبين القصص التي يقرءون؛ فالشاب الذي ينكبُّ على قراءة قصة ما إنما يطابق بين نفسه وبين هذه الغراميات المتأججة في القصة، والفتاة التي تدمن الذهاب إلى الدور السينمائية إنما تطابق بين نفسها وبين فتيات الدراما التي تشاهدها؛ وهي تعيش بجميع إحساساتها فيما ترى من اقتحامات هؤلاء الفتيات، ولكن، وهذا هو المهم، هذه القصص والدرامات ليست سامية؛ ولذلك فإن المطابقة بين قارئها أو مشاهدها وبين أبطالها أو حوادثها ليست مما يرفع؛ أي ليست مما يساعدنا على أن نجعل حياتنا سامية نعيشها في فن وحذق وتأنق ومجد.
ويجب أن نجعل حياتنا مغامرة، بل هي كذلك من أول ساعة نخرج فيها من الرحم إلى هذا العالم؛ فإن الموتى الذين لا يطيقون هذا الخروج كثيرون جدًّا. فإذا كانت بداية حياتنا مغامرة فيجب ألا يغيب عنا هذا الرمز، ويجب أن نستبقي هذا الشعار سائر عمرنا، ويجب ألا ننسى أبدًا أن الطمأنينة التي نتوخاها هي على الدوام جزئية ونسبية وظرفية؛ لأن الطمأنينة التامة هي الموت.
ومن أجمل أو أحكم الكلمات التي خلَّفها لنا نيتشه قوله: «كل ما لا يقتلني يقوِّيني»، وأيضًا قوله: «عش في خطر». وذلك أن الحياة اختبارات، فإذا واجهنا خطرًا وخرجنا منه دون أن يقتلنا فقد كسبنا الاختبار، وازددنا بذلك عرفانًا بالدنيا، وحكمة في الحياة. وإذا عشنا في خطر زال عنا الذهول الذي تتسم به العامة، وصرنا في يقظة وتنبُّه وذكاء وفهم، فتكون الدقائق عندنا بمثابة الساعات عند غيرنا، والساعات بمثابة الأيام.
والحياة القصيرة الحافلة بالمغامرات والاقتحامات خير من حياة طويلة هزيلة يعيشها الإنسان في ذهول كأنه بلا وجدان. والمخترع والمكتشف كلاهما يعيش مغامرًا لأنه يسير في أرض مجهولة لا يعرف نهايتها، وهو في هذا الاكتشاف أو الاختراع يحس من لذة الحياة ما يجعله ينسى جميع المشقات والمصاعب. ومن منا لا يحب مغامرة كولومبية يعيش فيها شهرين أو ثلاثة أشهر فقط وهو يتطلع إلى قارة جديدة، ويكاد يهبط عليها، بدلًا من قضاء مائة سنة وهو منزوٍ في شارع لا تضيق حدوده الجغرافية فقط، بل تضيق فيه أيضًا حدوده الذهنية والنفسية؟!
ونحن نعجب بحياة نابليون أو غاندي؛ لاقتحامات الأول الحربية، واقتحامات الثاني الروحية، ونقرأ سير القديسين والمصلحين والمخترعين في شوق؛ لأننا نطابق بينها وبين أنفسنا في رغبة حارة للاقتحامات التي امتحنت حياتهم فخرجوا منها أوفر حكمة وأعمق فهمًا.
ولنا مما قلنا مغزيان؛ المغزى الأول: ألا نلتزم الدعة والطمأنينة فنحجم ونتقلص ونتراجع أمام الأخطار، والمغزى الثاني: ألا نبالغ في شأن الكوارث التي تصادفنا؛ لأننا ما دمنا لم نمت فيها سنعيش وقد كسبنا اختبارها ومعرفتها اللذين ازددنا بهما فهمًا وحكمة.
وكُتب الأدب العالي تُكسبنا من الاختبارات ما لا نحصل عليه في مجتمعنا. والشعر العالي هو أحسن ما في الأدب؛ لأن الشاعر يعرف أنه لن يثير في القارئ حماسة أو يلهب فيه نارًا، إلا إذا ارتفع عن المبتذل المألوف من الاختبارات، سواء في الموضوع أم في التعبير، فهو يحمِلنا على اقتحامات ذهنية حتى ولو كانت هذه الاقتحامات مقصورة على التعبير، واستخراج المعنى الخفي الفذ من الموضوع الواضح المبتذل.
واسأل — أيها القارئ — أي إنسان متقدم في السن؛ فإنه لا بد آسفٌ على تلك الفرص التي عرضت له ولم يغامر فيها، بل آثر الدعة والطمأنينة. وهو لا يأسف لأن الفرصة كانت تلوح له من الفرص الكاسبة؛ بل لأنه يحس أنه كان يكون أسعد لو أنه اختبرها وعاش فيها.
وقد كان المتنبي يقول:
الشجاعة مع الحكمة تغني في النهاية، العاطفة مع الوجدان أي الشراع مع الدفة؛ العاطفة تدفع والوجدان يوجِّه.
والخوف من الاقتحامات هو في صميمه خوف من الحياة، أو هو أسف على الخروج من الرحم، وحنين إلى العودة إليه. والرجل الذي يخاف لا يعيش غير تلك الحياة النباتية البقلية؛ يعيش آمنًا في مكانه يخشى أن يتزحزح لئلا يسقط.