الحياة المليئة
عندما نتأمل المخ، أو بالأحرى قشرته الرمادية، نجد شبكة من ملايين الخلايا التي تربط وتستطيع أن تؤلف ملايين الأفكار والمركبات الذهنية الجديدة، ولكننا نقنع من حياتنا العقلية العادية بالقليل من هذه الأفكار، حتى لنستطيع أن نقول: إن عُشر المخ كان يكفينا. ولو أننا عنينا منذ ميلادنا بالحياة الفكرية، وجعلنا التربية تتجه نحو الاستنباط والاختراع والتفكير البكر، بدلًا من التسليم بالعقائد والجري على الأسلوب الاجتماعي الفاشي، لو أننا عنينا بهذا لكان كلٌّ منا فيلسوفًا أو عالمًا مخترعًا؛ لأن في القشرة المخية من ملايين الخلايا ما يتسع لملايين المركبات الفكرية، ولكننا نتركها بائرة في جدب بلا حرث أو غرس، فلا نعيش ملء حياتنا الذهنية، بل نقنع بالقليل منها.
وحياتنا الفكرية هي بعض حياتنا البشرية، وإن يكن هذا البعض أفضل ما نملك. ونحن — للأسف — لا نعيش ملء حياتنا البشرية؛ فقد تطول حياتنا، ولكنها لا يكاد يكون لها عرض، أو هي تمتلئ بالسنين ولكن هذه السنين لا تمتلئ بالحياة. وقد دعانا الإنجيل إلى التوسع والتعمق في الحياة حين نبَّهنا إلى قيمة «الحياة الوفيرة»، وما الوفرة في الحياة سوى وفرة الاختبارات بالنشاط والتجدد؛ فالحياة الراكدة أو الجامدة ليست وفيرة أو — على الأقل — ليست في وفرة تلك الحياة التي تتذبذب طربًا ومرحًا في الدنيا.
وهنا تخطر بالذهن كلمة «الحماسة» التي اختارها أبو تمام لمجموعة الأشعار التي جمعها من الشعراء الذين سبقوه؛ فإن البيت الخالد من أبيات الشعراء هو العدسة التي تجمع المتشتت من النور في بؤرة مركزة، فنحس العاطفة الذهنية في حماسة تثيرنا طربًا أو إعجابًا أو تفكيرًا. ومن الحسن أن ننقل هذا المعنى إلى الحياة؛ إذ يجب أن نعيش في حماسة بلا ركود أو جمود أو تبلد، يجب أن يكون لكل منا «بيت قصيد»؛ أي هدف سامٍ يتبلور فيه النشاط، وتتجه إليه الحياة.
وهذه كلها من المعاني الفنية، معاني الشعر التي يجب أن ننقلها إلى الحياة.
وعند التأمل نجد أن لنا ثلاث حيوات نمارسها جميعًا، وهي في صميمها ثلاث ذوات.
فإن لنا الذات الصغرى الأميبية، ذات الرجع الانعكاسي التي نشاهدها في الأميبة والإسفنج وأحط الأحياء. ولنا الذات الصغيرة الحيوانية، ذات الشهوات والغرائز للأكل والتناسل والتسلط، التي نشاهدها في الحيوانات الدنيا والعُليا، ثم هناك الذات البشرية ذات الوجدان؛ أي التعقل والقدرة على أن نرى الدنيا بما يقارب حقيقتها عندما نتجرد من غرائزنا، وننظر النظر الموضوعي.
والحياة المليئة هي الحياة الوجدانية التي تحملنا على التخلص من الأنانية الآسنة إلى الغيرية الحية؛ فنتوسع ونتعمق بما يشبه البر الذهني، كأن حياتنا ليست مقصورة على أبعادنا الجسمية الشخصية، بل تشمل غيرنا من البشر. وقد تكون هناك حياة أملأ، هي تلك التي يقول بها أو يبصر بها فرويد ويسميها «الحاسة الأوقيانوسية»؛ أي زيادة في الوجدان تجعلنا نحس الاندغام الشخصي في الكون كله، بحيث نحيا في ذراته وجزيئاته وكواكبه ونجومه ونباته وحيوانه.
ولكن هذا حدس فقط، وقصارى ما نستطيع أن نقوله في يقين: إن الحياة المليئة تحتاج إلى سخاء وتفاؤل؛ لأن أعظم ما يحدد حياتنا ويقيم حولها السدود هو البخل. وهذا البخل ينشأ من التشاؤم الذي يحدث لنا الخوف من الاقتحامات؛ فنتبلد ونجمد، ثم نعيش في حياة ضنينة قليلة الاختبارات، وقد ننتهي إلى أسلوب من الزهد والنسك؛ فنكاد ننكر الحياة.
ولست مع ذلك أنكر قيمة النسك والزهد، ولكنهما يجب أن يكونا وسيلة وليسا غاية؛ أي إننا ننسك ونزهد ونعتكف كي نستجِمَّ ونعود إلى الاختبارات الفنية والذهنية والعاطفية؛ أي نعود بقوة متجددة. وكذلك يجب أن نمارس العفة؛ حتى نسمو بالتعارف الجنسي إلى مستوى من التأنق والفن يرفعنا عن التبذل الرخيص للعاطفة، فنضع الوجدان والتعقل مكان الغريزة الغشيمة؛ فلا تكون العلاقة الجنسية نهبًا وخطفًا، بل تأملًا وحبًّا، فنتحدى الجمال بوجداننا في فن وتفكير إذا تحدى غرائزنا هو في إغراء وإغواء.
والحياة المليئة تحتاج — كما يجب أن نكرر — إلى وفرة الاختبارات، ومعنى هذه الوفرة أن نعيش لنتعلم وندرس الكتب والطبيعة والمجتمع، ونهتم بالسياسة والاقتصاد والتطور البشري، نهتم بها جميعًا متفرجين وعاملين، ونعيش فيها بروح الابتكار والتساؤل والاستطلاع؛ حتى نفهم ويستيقظ ذكاؤنا، وتستفيض شبكة المركبات الذهنية في القشرة الرمادية المخية، وإذا ذكرنا البخل فلا نذكره بشأن الحرص على المال فقط، وإن كان هذا أفشى مظاهره؛ لأن أسوأ ما في البخل نزوعنا فيه إلى التبلد والاعتكاف الذهني والعاطفي وكراهة الاختبارات؛ فهو لا يعيش ملء حياته.
والحياة المليئة تحتاج إلى التفاؤل بالدنيا والمستقبل، وإلى السخاء، وإلى دوام الاستطلاع والنمو.