الهواية
فراغنا يزداد، وسيزداد في المستقبل أكثر فأكثر، وسيكون ملؤه أو الانتفاع به من أعظم المشكلات في التعليم والتربية، بل سوف تكون الغاية الوحيدة من التربية هي الانتفاع بالفراغ؛ أي كيف نعيش ١٢ أو ١٥ ساعة كل يوم بلا عمل كاسب. أما التعليم الحرفي فلن تكون له هذه الأهمية.
وفي عالمنا الحاضر طبقة من الأثرياء تعيش في فراغ كامل أو تكاد؛ لأن وسائل العيش الممتاز موفرة لها؛ إذ إن أفرادها يستغلون أفراد الطبقات الأخرى. ولكن عندما نتأمل الطرق التي تتبعها هذه الطبقة الممتازة في قضاء فراغها أو استغلاله، نجد أنها ليست مما يغري؛ فإن سباق الخيل، وصيد الحمام، والصيد بالقنص في مطاردة الثعالب أو الأرانب، وقضاء الليل في المقامرة أو العربدة الجنسية أو الكئولية. كل هذا أو أشباهه لا يدل على أن هذه الطبقة المترفة الممتازة قد عرفت شيئًا يمكن أن يوصف بأنه «فن الفراغ»، بل هو يدل على أن هذه الطبقة لا تطيق فراغها، ولا تستخدمه إلا على سبيل الفرار من الوقت بقتل الوقت.
وتطور الآلات، والزيادة في الإنتاج، وتوافر الضروريات لكل إنسان، ثم توافر الكماليات في المستقبل، ستجعلنا جميعًا في شبه تعطل؛ لأن طرق الإنتاج العلمية التي لا مفر من استخدامها في العالم كله قريبًا ستوفر للإنسان حاجاته بأقل الجهد في أقصر الوقت؛ ولذلك سنجدنا جميعًا معطَّلين فارغين معظم النهار والليل نحتاج إلى ما يشغلنا، فإذا لم نجد المفيد الذي يرفعنا ويرقينا عَمَدنا إلى المضر الذي يحطنا.
بل نحن، قبل أن نفكر في المستقبل، نجد أن حاضرنا يوفر لنا، أو بالأحرى لبعضنا من أعضاء الطبقة المتوسطة، فراغًا يترجَّح بين أربع وعشر ساعات كل يوم، فيجب أن نملأه، وأن نتعلم كيف نملأه. وعند الإنجليز كلمة «هوبي» لما نسميه بالعربية: «الهواية»؛ أي العمل نعمله للذة فقط لا نبغي منه كسبًا، وعندما نملأ فراغنا بهواية نجد في الفراغ تخفيفًا، بل معالجة للتوترات التي نستجيب بها حانقين مرهقين لمصادفات الحياة المعاكسة المناوئة. وكلنا يعرف أن الحركة والنشاط والعمل، كل هذه تخفف التوترات وتفرج عن العواطف المكظومة. فإذا كانت الحركة في عمل محبب تتجه إليه الإرادة في نشاط حتى تستحيل إلى حماسة، فإن الاتزان النفسي الذي ربما يتزعزع من إرهاق العمل الحرفي يعود إلينا فنستأنف هذا العمل مرتاحين مستجمِّين.
لهذا السبب يجب أن يكون لكل منا هواية، وأن نعلم أولادنا وهم في الطفولة والصبا كيف يشغلون فراغهم، وأن ننفق بسخاء على ما يحتاجون إليه لشغله؛ وذلك لأن فراغهم في المستقبل سوف يزيد على فراغنا نحن، وسوف يثقل عليهم — لهذا السبب — أكثر مما يثقل علينا.
وعلى القارئ أن يقصد إلى إحدى المكتبات في القاهرة، ويطلب إحدى المجلات التي تعالج الهوايات، واسمها «هوبيس»، وهي في الأغلب إنجليزية. ومن هذه المجلات يستطيع أن يستنير، وأن ينتفع أو ينفع أولاده.
وأقرب الوسائل إلى الانتفاع بفراغنا أن تتعدد اهتماماتنا ودراساتنا وأعمالنا، أو بكلمة أخرى: يجب ألا يكون طريقنا منفردًا في الحياة، لا نعرف غير وسيلة واحدة للكسب والعيش، ولا غير وسيلة واحدة للترفيه والترويح؛ إذ يجب أن يكون طريقنا مزدوجًا، بل خير لنا أن تتعدد الطرق.
وقلما يخلو بيت في أوروبا من غرفة يستأثر بها الزوج لا يجوز لزوجته أن تتدخل في ترتيبها، وفي أغلب الأحيان تكون هذه الغرفة منزوية قريبة إلى سطح البيت، وهي مريحة في فوضى الأثاث والأوراق، وهي ملجأ أو معتكف يلجأ إليها الزوج كي ينفس عن كظومه، أو يفرج عن توتراته، وهي من المرافق الاجتماعية التي تمهد العقبات، وتسوي النتوءات التي تنشأ من العمل أو من العائلة.
وقد تكون الهواية دراسة أو دراسات معينة. ومعظم الذين يسعدون بشيوختهم، حين يحيلهم المجتمع على التقاعد، يكونون — في الأغلب — قد هووا الدراسة فلازمتهم هوايتها إلى الشيخوخة، وهناك هوايات أخرى عملية؛ كالنجارة، أو تجليد الكتب، أو — للمرأة — أنواع من التطريز والوشي والنسيج.
وأذكر أني زرت ذات مرة أحد الأندية النسوية في القاهرة، فوجدت طرازًا جميلًا خفيفًا من الكراسي، عرفت حين سألت عن صانعه أن هذا الصانع موظف كتابي في الحكومة قد هوى هذا العمل وأتقنه، لا يبغي منه فائدة مادية، ولكن الفائدة المادية جاءته عفوًا بحيث يستطيع الآن أن يستغني عن وظيفته الحكومية ويقتصر على النجارة.
والرجل أو المرأة الذي تشغله هواية ما يسعد بفراغه، ويستطيع أن يفتنَّ بهوايته ويتأنق في أدائها؛ لأنه لا يعجل ولا يهرول؛ إذ هو في فراغ ينبسط أمامه، فهو يتقن ويتأنق. وحبذا المرأة تشغل فراغها بهواية مفيدة ترتقي بها اجتماعيًّا أو إنسانيًّا، وتجد فيها أيضًا ما يغنيها عن الاستماع للفارغات من النساء اللاتي يملأن فراغهن بالقيل والقال.
وربما لا يكون الزمن بعيدًا حين تعلِّم المدارس وتخرِّج تلاميذها أو طلبتها للحياة وليس للحرفة، وحين تعنى بالفراغ والهواية أكثر مما تعنى بالعمل والكسب. وفي هذه الدنيا الواسعة هناك لا أقل من مليون هواية تنتظر من يبحث عنها ويهتدي إليها. وقد تكون إحدى هذه الهوايات بذرة لاختراع أو اكتشاف جديد يحتاج إليه البشر. وهل فكرت — أيها القارئ — وذكرت أن كثيرًا من المخترعات والمكتشفات إنما كان ثمرة إحدى الهوايات التي ملأت فراغ أحد الهواة؟
وفي ظروفنا الاجتماعية الحاضرة يحتاج كل منا إلى هواية؛ أولًا: لأن حياتنا حافلة بما ينغص ويبعث على توترات وكظوم مختلفة متكررة، والهواية هنا تخفف وتعيد لنا اتزاننا النفسي؛ لأننا نجد فيها كل يوم انتصارًا وحماسة، وثانيًا: لأننا نرتقي بممارسة هواية ما؛ إذ نتعلم فنًّا أو أي مهارة أخرى تحرك ذكاءنا أو عضلاتنا، وثالثًا: تَحُول الهواية دون الوقوع في العادات السيئة.
وأنت — أيها القارئ — عندما تجول في شوارع القاهرة، وتجد المئات من الشباب السادرين الذين يقعدون على القهوات، ويدخنون في ذهول كأنهم نائمون، أو يكرعون الخمر في غير مبالاة، أو تجد النساء في شجار سافر أو مستتر، فإنك لا بد عند التأمل واجدٌ أيضًا أنهم يكابدون توترات وكظومًا قد جهلوا طرق التخلص منها، وخير الطرق في ظروفنا الحاضرة هو هواية لذيذة تملأ فراغهم.
وكثير مما ذكرنا في هذا الفصل قد سبق أن أشرنا إليه في فصول سابقة، ولكنا احتجنا إلى جمع بعض الملاحظات هنا لما لها من الدلالة على قيمة الهواية.