الخلوة
يبدو الإنسان كأنه حيوان اجتماعي لا يطيق العيش منفردًا، وهو يعد الحبس الانفرادي أقسى أنواع الحجر والتقييد لهذا السبب؛ فإن المسجون لا يطيق انفراده بين الجدران في الزنزانة، ولذلك يُعاقب المسجونون أحيانًا بحرمانهم من رفقة زملائهم المسجونين، ويوضعون في الزنزانة. وحضارتنا ولغتنا وديانتنا وأخلاقنا تدل على الحياة الاجتماعية.
ولكنا، لأننا نعيش في مجتمع، نجدنا منساقين في تياراته، آخذين بأساليبه، معتمدين على قيمه وأوزانه، فتبرز في وجداننا حقائق العيش والكسب والوجاهة والأبهة، ونعمى عن حقائق أخرى أكبر قيمة وأعظم وزنًا؛ أي إن الحقائق الاجتماعية التافهة كثيرًا ما تغطي على الحقائق البشرية الجليلة.
ومن هنا قيمة الخلوة؛ فإن التفكير بطبيعته اجتماعي؛ أي إننا نفكر بالقيم والأوزان الاجتماعية، بل بكلمات اجتماعية، ولكنا لا نحسن التفكير إلا في الخلوة بعيدين عن صخب المجتمع وضوضائه. والخلوة والهواية كلتاهما ضرورية لنا كي نجد الاتزان النفسي والتأمل الفلسفي، وكأننا بهما نبتعد عن المجتمع، ونستقل من جميع اعتباراته، ونحاول أن ننحرف عن طرقه وأوضاعه كي نرى أنفسنا.
وإذا كانت الهواية تربينا لأنها تتيح لذكائنا أو عضلاتنا تدريبًا، وتبسط لنا آفاقًا، فإن الخلوة تتيح لنا الوقت والانفراد كي نبحث من وقت لآخر عن مراسينا في المجتمع، بل في الكون؛ لأنها تنزعنا من هذا الموكب الذي نسير فيه، أو بالأحرى ننساق فيه ذاهلين، إلى موقف الوجدان والتردد والتأمل، والتساؤل: هل نحن على صواب أم خطأ؟ هل عاداتنا ومألوفاتنا قد غمرت حياتنا حتى صرنا نعد العرف ناموسًا أزليًّا، والوضع القائم سنَّة مقدسة يجب ألا تتغير؟
والتأمل في الخلوة يرفعنا فوق هذه الاعتبارات؛ لأننا نحاول أن نفهم الفهم الموضوعي، فهم الوجدان والتعقل، بدلًا من الفهم الانسياقي الاجتماعي، كأننا بهذه الخلوة نأخذ من المجتمع «إجازة» كي نفكر وحدنا بلا تدخل منه، فنعتكف ونقارن بين القيم القديمة والقيم الجديدة، وبين ما يجري وما يجب أن يجري، وبين القيمة الاجتماعية والقيمة البشرية. والخلوة هي التي تحملني — مثلًا — على أن أحس أني لست مصريًّا فقط؛ إذ أنا قبل ذلك بشريٌّ أنتمي إلى ٢٢٠٠ مليون إنسان، وليس إلى ١٧ مليون مصري فقط، وهؤلاء هم عائلتي الكبيرة التي ترتفع فوق الوطنية والمذهب والسلالة واللون. هم البشرية التي توج بها التطور بعد ألف مليون سنة من الكفاح البيولوجي هذا الكوكب، والذين أفكر فيهم حين أتخيل الإنسان بعد مليون سنة.
وما أبدع غاندي حين يصر على أن يختص بيوم كل أسبوع يصوم فيه عن الكلام، فلا يخاطبه أحد ولو لم يختلِ ولم يعتكف؛ لأنه في هذا الصمت يجد خلوه ذهنية يستطيع أن يفكر فيها دون أن يرتطم ذهنه بسؤال أو اعتراض أو اعتبار.
وكل منا محتاج إلى مثل هذا اليوم الأسبوعي، ولكن الخلوة يجب أن تكون مادية؛ لأننا لم نرتفع إلى مقام غاندي حتى نأمر فنطاع؛ أي نطلب ألا يخاطبنا أحد فيسمع لنا، وإذا نحن اختلينا وانفردنا وجدنا هذه الفرصة. ويحسن أن نختلي بلا كتاب أو جريدة، ولكن مع ورقة وقلم كي ندون ما يستحق من أفكارنا الطارئة. وقد عرفت اللغة العربية كلمة «خلوتي»، وهي صفة المتصوف الذي كان يخلو ويعتكف كي يتأمل منفردًا دون أن يشغله شاغل بشري أو مادي. وفي حياتنا مشكلات كثيرة تطالبنا بأن نخلو ونفكر: ما هو الدين؟ ما هو الشرف؟ ما هو الكون؟ ماذا بقي لي من العمر؟ وماذا أنا فاعل به؟
وما هو برنامجي — برنامج الحياة — في السنوات الخمس القادمة؟ هل درست ديانتي؟ هل درست الفلك وهو أقرب العلوم إلى الديانة؟ هل حياتي الماضية أو الحاضرة يصح أن تستمر كما هي في المستقبل؟ أو هل يجب أن أتغير؟
ومثل هذه المشكلات تحتاج إلى الخلوة؛ لأنها بشرية كونية لا تضيق ولا تُحدُّ بالاعتبارات القومية أو الاجتماعية. والذهن الناضج لا يفتأ يفكر فيها، ولكن لا يحسن التفكير فيها إلا في خلوة، وقد كان جيته يقول: «بدون الوحدة التامة لا أستطيع أن أنتج شيئًا بتاتًا.»
والواقع أن كل مفكر يرتفع إلى مستوًى عالٍ من المركبات الذهنية يحتاج إلى خلوة من وقت لآخر، وإذا نظَّم كل منا خلواته وجعل لها ميعادًا معينًا، مرة في الشهر أو في الأسبوع، ويومًا كاملًا أو بعض يوم، فإنه يجد أنه في مراجعته لحياته الماضية، وفي تبصُّره بالمستقبل قد اهتدى إلى أساليب وأهداف ما كان ليصل إليها لو أنه استسلم وانساق في المجتمع.
وهذه الحياة الاجتماعية التي تلابسنا في البيت والقهوة والنادي والمكتبة، بل حتى في الجريدة والكتاب تحول دون التفكير المثمر، وتشغلنا بتوافه وصغائر تتبدد بها حياتنا، ولكن الخلوة تجمع تفكيرنا في بؤرة، وتفتح لنا نوافذ على فضاء آخر قد نجد فيه ما نتغير به إلى أحسن.
وليست الخلوة التي نقترح بالشيء الجديد؛ لأن الواقع أن كلًّا منا يخلو ويعتكف من وقت لآخر؛ فإن أحدنا يخرج إلى قهوة نائية كي يخلو ويفكر، وعقب الغداء قد ننسطح في الفراش لا لننام بل لنفكر في موضوع معين، بل ربما قصد أحدنا إلى طريق متنحٍّ كي يمشي فيه منفردًا للتفكير، وهلم جرًّا. فنحن نحس الحاجة إلى الانفراد والخلوة، ونمارسهما دون أن نحتاج إلى إرشاد، ولكن إذا جعلنا خلوتنا معينة بمواعيد كان ذلك أنجع لتفكيرنا، وأنظم لحياتنا.