قيمة الحب للحياة الفنية
كلمة «الحب» من الكلمات التي تتعدد معانيها وتختلف؛ ولذلك احتاج مترجم الإنجيل إلى أن يستعمل كلمة «المحبة» للمعنى المسيحي الخاص. وهذا التعدد يتضح عندما يقول أحدنا: إنه يحب البرتقال، أو يحب زوجته، أو يحب النظام، أو يحب الله؛ فإننا هنا إزاء طائفة من المعاني المختلفة التي كان يجب أن يكون لكل منها كلمة خاصة.
ونحن نقتصر هنا على معنيين؛ هما: الحب الجنسي، والحب البشري؛ فإن كثيرين من المفكرين يرجعون حب البشر؛ الإخاء والصداقة والتعاون، إلى الحب الجنسي، كأن هذا هو الجذر الذي إليه ترجع عواطفنا البشرية السخية، ولكن الحقيقة أن كلًّا منهما يرجع إلى أصل منفصل عن الآخر؛ فغاية الحب الجنسي هي التناسل، وغاية الحب البشري هي تكبير الشخصية، والتعاون الاجتماعي، والرقي العائلي، والنمو الذهني.
وليس هذا الذي نسميه «حبًّا جنسيًّا» ضروريًّا للتناسل؛ فإن السمك — مثلًا — يتناسل بالملايين، ومع ذلك لا يعرف الحب؛ لأن الذكر يلقي بجراثيمه في الماء، وكذلك الأنثى تلقي بويضاتها في الماء مثله، ثم يتم التلاقيح في الماء دون أن يعرف الذكر الأنثى.
وعندما نتأمل الحيوان وقت التلاقح نجد أن العاطفة الغالبة، والتي تتضح من سلوكه، هي عاطفة الافتراس والأكل والالتهام؛ فإن الذكر يفترس الأنثى، وليس بين الاثنين حنان، وأحيانًا ينقلب التلاقح إلى شجار وقسوة وافتراس. وإذا كان الحب الجنسي بين البشر قد خالطته رقة وحنان أو عطف، فإنما مرجع ذلك إلى الثقافة الاجتماعية التي ارتقت بها عواطفنا.
أما الحب البشري فمرجعه إلى ينبوع آخر هو حب الأم لأولادها، وحب هؤلاء لها، وهذه العاطفة بعيده جدًّا عن الحب الجنسي؛ إذ هي تنضح حنانًا ورقة، وهي تحمل الأم والأبناء على أن يترافقوا ويتعاشروا ويتعاونوا.
والإنسان البدائي كان دائم الارتحال، فكانت الأم مع أولادها ترعاهم وتربيهم، وكان تعلُّقهم بها يحملهم أيضًا على أن يتعلق أحدهم بالآخر؛ فإذا ماتت الأم — مثلًا — بقي الأبناء على قواعد رفقتهم السابقة يتعاشرون ويتعاونون. وهذه الأُخوَّة بينهم هي أصل الإخاء البشري، بل أصل المجتمع.
بل نستطيع أن نزيد هذا التمييز بأن نقول: إنه إذا أحب الرجل المرأة حبًّا عميقًا بشريًّا فإن هذا الحب يحول دون الحب الجنسي؛ كأن هناك تناقضًا بين الاثنين: الأول كله حنان ورقة، والثاني بعضه افتراس وقسوة.
وعندما نتأمل الحب الجنسي نجد أنه غريزة ذاهلة، ولكن الحب البشري عقل ووجدان؛ ولذلك نحن نزداد وننمو بالحب البشري الذي ترتقي به شخصيتنا؛ لأن هذا الحب يستنبط منا أحسن الخصال في الحنان والرقة والظرف والكياسة، بل أحيانًا في التضحية. وهذا الحب هو الذي يجعل الإنسان إنسانيًّا، وما ندعو إليه من إخاء بشري، أو ما نقدره من خصال في صديق، أو ما نتعلق به من آمال نرضى بأن نضحي لتحقيقها، إنما كل هذا يعود إلى الحب البشري الذي كسبناه من عواطف الأمومة والبنوُّة.
قلنا: إن الحب البشري عقل ووجدان، ولذلك نحن نزداد فهمًا بالحب؛ لأن الحب ينبِّه الذهن ويوقظه، وهو هنا نقيض الحب الجنسي الذي ننساق فيه بالغريزة؛ ولذلك أيضًا كثيرًا ما نجد أن بذور العبقرية، أو على الأقل النبوغ، تعود إلى الحب؛ لأن الصبي الذي يحب الطبيعة ويجمع الأحياء أو الزهور أو الأصداف والمحار، هذا الصبي يحدوه حب بشري قد استحال إلى حب للطبيعة، ينبِّه ذكاءه، ويبسط آفاقه، ويكبر شخصيته. وهو بهذا الحب أقرب ما يكون إلى النبوغ أو العبقرية؛ لأنه — بالحب — يرى أكثر، ويفهم أكثر، كما ترى الأم في ابنها وتفهم أكثر مما يرى غيرها فيه؛ للحب الذي تحس به نحوه.
والحياة الفنية تطالبنا بأن نجعل الحب شعارنا؛ لأنه، أي الحب، يملؤنا تفاؤلًا فنبتعد عن الخوف والقلق والشك، ونستكثر من الأصدقاء، أو على الأقل نلتزم أصدقاءنا، ونخدمهم في سرور. وإذا جعلنا أساس علاقتنا بالناس والدنيا حبًّا فإننا لا نسأم الحياة، بل نجد كل ما فيها يدعو إلى العطف والفهم.
ولكن الحب مثل الشجاعة يحتاج إلى تدريب. وصحيح أننا نكسب شيئًا من الحب العائلي؛ أي من علاقتنا بالأم والإخوة والأب، ولكن هذا الذي نكسبه عفوًا في طفولتنا وصبانا يحتاج إلى الرعاية والتنمية. ونستطيع أن نتعود الحب بالصداقة والتعاون والضيافة والخدمة، حتى ولو كانت طفولتنا قد أهملت، أو كانت الفرص فيها قليلة لتنمية الحب.
والرجل الذي تنبعث فيه عاطفة الحب نحو المجتمع أو البشر هو أقرب الناس إلى السعادة، وهو أبعد الناس عن الشقاء النيوروزي. وكلمة السعادة من الكلمات التي يجب ألا نخلطها بإحساس السرور، ولكن الحب يبعث السعادة الحقة الدائمة أكثر مما يبعثها السرور الزائف الزائل.
ومن هنا تأكيد الأديان جميعها للحب؛ إذ لا يمكن أن يتأسس دين على غير الحب؛ لأن الدين ينشد السعادة، والحب بجميع مركباته الذهنية والعاطفية هو أعظم الأسس للسعادة. وعبارة «المركبات الذهنية والعاطفية» تحمل معنى توضيحيًّا للحب؛ ذلك أن الحب يحتاج إلى تربية كما يحتاج إلى مرانة، ويجب لذلك أن يكون مثقفًا من ناحية بالتربية، وعمليًّا من ناحية أخرى بالمرانة.
فنحن نعرف أن الرجل المثقف الذي يتجه الوجهة العالمية، ويدرك المغزى للتطورات البيولوجية والتاريخية، ويدأب طوال عمره في درس الشئون البشرية، مثل هذا الرجل المثقف يحب؛ لأنه يعرف أكثر من غيره، وقلبه سمح؛ لأن قلبه أعرف؛ فاتساع المعرفة سبيل إلى اتساع الحب؛ ولهذا السبب أيضًا يعد الأدب في صميمه والفلسفة في صميمها دعوة إلى الحب البشري والخير العام.
ولكننا نحتاج كي نجعل الحب مزاجنا النفسي واتجاهنا الأخلاقي، إلى المرانة؛ أي يجب أن نؤدي عملًا ما يحمل معنى الحب، وكل منا يستضيء هنا بمعارفه السابقة؛ لأنه على قدر هذه المعارف يكون الضوء المنير الذي يعيِّن الهدف والسلوك. وقد يقنع أحدنا بالإحسان لمعاونة الفقراء، أو الانضواء إلى جمعية لمنع القسوة على الحيوان، أو معاونة الصبيان المشردين، أو نحو ذلك، ولكن هناك من يعرف أكثر لأن ثقافته أوسع وأعمق، وهو لذلك أنفذُ بصيرةً في الأسباب التي تجر البؤس والمرض والرجعية والجهل. وقد يجد — لهذا السبب — أن الدعوة الاشتراكية والكفاح لنشرها خير الأعمال التي يجب أن يقوم بها؛ لأنها جماع الإصلاحات التي ينشدها غيره متقطعة مجزأة. وقد يجد عملًا آخر، ولكن المهم أننا نحب بممارسة الحب، وأن هذه الممارسة تزيد حبنا للبشر كما تزيدنا فهمًا وسعادة، ولو شاء أحدنا أن يصف الدين الذي يؤمن به دون أن يعيِّن اسمه بأنه دين الحب، لقال أحسن ما يقال وأسمى ما يقال عن الدين.