السعادة
السعادة هي سلام النفس، وأول ما يجب أن نعرفه عنها أنها ليست مادية، ويجب أن نميز هنا بين السعادة والسرور؛ لأنهما كثيرًا ما يشتبهان؛ ذلك أن السرور أو اللذة، مادية، أما السعادة ففكرية. فنحن نسعد بالفكر أو بالإيمان أو الرؤيا أو الأمل، بحيث يحفزنا واحد من هذه الأشياء الأربعة إلى كفاح، ولكنا نُسَرُّ ونلتذ بالطعام أو اللباس أو المال أو الشهوات الجسمية.
والمسرات واللذات لأنها مادية تتوقف على جوع يُشبَع أو طمع يُحقَّق، ثم تؤجم في النهاية، أو تؤدي إلى السأم، ولكن السعادة، لأنها فكرية تنهض على إيمان أو كفاح أو اتجاه، لا تؤجم ولا تؤدي إلى سأم؛ فالقديس — مثلًا — سعيد بإيمانه، وهو يستشهد في فرح وطرب، وسعادته هنا فكرية، ولكن لذة الطعام تنتهي عند الشبع، وقد تُحدِث صدودًا.
وهناك اعتبارات أخرى تجعل السعادة دائمة باقية، والسرور وقتيًّا زائلًا؛ ذلك أننا حين نسعد بالفكرة لا يعيق سعادتنا حدٌّ، أو غيرة، أو مقارنة مهينة لنا بغيرنا، أو إحساس النقص بأن هناك من يحوزون أكثر مما حُزْنا؛ فقد أُسَرُّ لأني اشتريت عزبة أو اقتنيت أتومبيلًا أو غير ذلك من المقتنيات المادية، ولكني في هذا السرور أحس أيضًا أني كنت أكون أكثر سرورًا لو لم … فإن العزبة كانت تكون أَسَرُّ لي لو كانت أكبر وأخصب، وكان الأتومبيل يمتعني أكثر لو كان من طراز آخر، وهلم جرًّا. ولكن السعيد بفكرة ما لا يحسد ولا يغار، ولا يحب أن يستأثر بفكرته، بل هو يحب العكس؛ وهو أن جميع الناس يسعدون بمثل سعادته، كما يحدث لأحدنا حين يطرب لاستماعه إلى لحن جميل، أو لأنه يتأمل مبنًى عظيمًا، فإنه يحثُّ رفيقه على أن يستمع أو ينظر ويتأمل.
والسعادة، كالشعر عند إسحاق الموصلي، أيسر مما نظن؛ فهي لا تحتاج إلى التكلف أو المشقة، بل إن السرور أدعى إلى التكلف أو المشقة من السعادة؛ وذلك لأن السعادة ذاتية، في ذوات أنفسنا؛ إذ هي حال معينة أو اتجاه معين، أما السرور فمادي نحتاج فيه إلى الاقتناء.
وقد يكون أيضًا من الحق أن نميز بين السرور والسعادة بأن نقول: إن السرور اشتهائي غريزي يتعلق بما نأكل أو نلبس أو نسكن أو نقتني، ولكن السعادة وجدانية مرجعها الفكر؛ أي العقل. والسعادة لهذا السبب تحتاج إلى التربية الفنية، بل إلى المعارف العلمية التي تكشف عن خبايا وكنوز لا تصل إلى كنهها الغرائز؛ فأنا حين أمارس الزهو الاجتماعي باقتناء الأثاث الفاخر، أو بالقيام بالضيافة المطهَّمة أو نحو ذلك أمارس نشاطًا غريزيًّا شهوانيًّا له ذيول وهوامش من الغيرة والحسد والطمع؛ أي إنه سرور معلق، ولا أحتاج أن أتعلم كيف أمارسه، ولكني حين أقعد إلى جدول الماء، وأتأمل الطبيعة وهي ترغي وتزبد في الحقول أيام الربيع، وأتابع فراشة في نشاطها الغذائي أو الجنسي أحس سعادة مطلقة؛ سعادة مُخيَّة وجدانية، وليست غريزية شهوانية. وهذه السعادة تحتاج إلى تعلم.
وإذا كان القارئ قد تابعنا من منطقنا، فإنه يستطيع أن يعرف لماذا نكون سعداء عندما نتأمل مقطوعة فنية من الشعر أو الرسم أو البناء، أو نستمع إلى مقطوعة فنية من الغناء أو الموسيقى، فنحن هنا إزاء سعادة مطلقة هي فوق الشهوات الغريزية. ونحن لا نأجم هذه السعادة ولا نملها، كما أنها لا تبعث فينا غيرة أو حسدًا أو طمعًا، ومن هنا سعادة الفنان وسعادة الفيلسوف؛ كلاهما سعيد بفكرته، بل إن العالِم الذي يبحث موضوعًا علميًّا سعيد أيضًا بعلمه؛ لأنه يحاول كشف سر من أسرار الطبيعة المغلقة؛ فهو هنا كالقديس يرى رؤيا ويعتقد أنها ستتحقق.
وليس شك أن السعادة هي سلام النفس، وهل شك أحد في أن سلام النفس هو فكري وليس ماديًّا؟
والعجب أن المتع الحقيقية في هذا العالم، تلك المتع التي نسعد بها، أسهل حصولًا وأرخص قيمة من المتع الزائفة التي قصارى ما تؤدي أننا نُسَرُّ بها سرورًا وقتيًّا زائلًا، وهي يجب أن تكون كذلك؛ لأن السعادة فكرية، والفكر لا يكلفنا مالًا، ولكن السرور مادي يكلفنا مالًا وجهدًا، وأحيانًا تفوتنا فرصة السعادة، فرصة الحياة الفنية؛ لأننا استغرقنا حياتنا في السرور واللذة.
ونستطيع أن نعود هنا إلى المقارنة بين القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية؛ ذلك أن قيمة السعادة بشرية: في الفكر، والاتجاه، والتأنق الفني، والتأمل الفلسفي، والرؤيا للمستقبل والمثليات، والكفاح لهذه الأشياء جميعها. وجميع هذه الصفات ذاتية في ذات أنفسنا، وهي بشرية لها قيمة اجتماعية، ولكن قيمة السرور اجتماعية في الأغلب؛ لأنها تنشأ من اعتبارات المجتمع؛ لأني أُسَرُّ — مثلًا — باقتناء أتومبيل؛ إذ إن مثل هذا الاقتناء قد عدَّه المجتمع تبريزًا وتفوقًا، أو أُسَرُّ بالثراء؛ لأن المجتمع يعدُّ الثراء تفوقًا ونجاحًا.
وهل نستطيع أن نتعلم كيف نكون سعداء؟
أجل، نستطيع ذلك بأن نجعل وجداننا فوق غرائزنا؛ أي نجعل التعقل فوق الشهوات، وكذلك بأن نتعلم ونهتم بما هو أسمى من همومنا الشخصية؛ نهتم بالناس والسياسة، والهند، والإمبريالية، والنجوم والكواكب، والحيوان والنبات، ومستقبل الصحة والحيوان والنبات، ومستقبل البشر وماضي الأحياء، والتطور الماضي والقادم، والمرض والصحة، والدين والأدب والفلسفة. وهذه الاهتمامات المتعددة تبسط لنا آفاقًا رحبة للتفكير، فلا تحدُّنا حدود الشهوة، ولا تستعبدنا الغرائز في اهتمامات مادية غايتها لذة الطعام، ومتعة اللباس والمسكن، واقتناء مواد لا تحصى، بل لا تفتأ تبعث فينا الرغبة في الزيادة. هذه الرغبة التي تجهدنا، بل أحيانًا نسير فيها سادرين ذاهلين، وقد نموت قبل أواننا ونحن لا ندري أننا كنا مَسوقين باعتبارات اجتماعية هي أبعد ما تكون من السعادة.
قلنا في أول هذا الفصل أننا نسعد بالفكرة أو الإيمان أو الرؤيا أو الأمل إذا كان أحد هذه الأربعة يحفزنا إلى الكفاح. وهنا نحتاج إلى تفصيل موجز: ذلك أن الطاقة النفسية لا تطيق الحبس والكتم والكفاح؛ ولذلك فإن لشأن ما، أي شأن نعتقد أنه حسن، يفتح لنا قناة تنصرف إليها الطاقة. أما إذا حبست هذه الطاقة فإنها تحدث لنا في الحالات الخفيفة نيوروزا؛ أي ضيقًا عاطفيًّا، وفي الحالات الخطيرة تحدث سيكوزا؛ أي جنونًا.
ولذلك كثيرًا ما نجد الشاب مضطربًا متشائمًا تسوده هموم مبهمة لا يعرف مأتاها، فإذا انضوى إلى حزب سياسي — مثلًا — انطلق في تفاؤل يعمل ويُسَرُّ بعمله، وهو سعيد بهذا الكفاح الذي يبعث فيه نشاطًا، ويحمله على الدرس والخدمة والتعاون، ويخرجه من أنانيته، وهو هنا يشعر بالسعادة.
وعلى هذا نقول: إن السعادة تحتاج إلى كفاح، وسلام النفس لا يعني ركودًا وجمودًا، بل هو أحرى بأن يبعث نشاطًا وهمَّة، وإنجازًا لأمل، أو تحقيقًا لرؤيا، بحيث يكون هذا الأمل أو هذه الرؤيا عند أحدنا أسمى وأعم من همومه الشخصية الذاتية؛ لأنها بسموها وعموميتها تكسبه كرامة، وتجعل لحياته معنًى، بل مغزًى. وهنا السعادة.