تعقيب على السعادة
كلنا تقريبًا ننشد السعادة ونتحدث عنها كما لو كانت من البديهيات التي لا تستحق مناقشة؛ لأننا نعد السعادة خير ما يُطلب في هذا الوجود.
ولكننا نختلف كثيرًا في معنى السعادة، وإن كان المألوف أننا نعني بهذه الكلمة الأمن من الكوارث وراحة البال؛ أي سلام النفس والصحة.
ولكن إذا كان هذا هو كل ما نعني بالسعادة، فإن كثيرين، بل كثيرين جدًّا يحققونها، ومع ذلك لا يجدون منا غير الاحتقار؛ لأننا لا نحسدهم على حالهم هذه؛ إذ هي تشبه الركود والذهول، بحيث تستحيل حياتهم نباتية خالية من التفزُّز والتنبُّه، ثم ما يعقب هذا من تبلُّد ذهني يشبه الجمود.
والرجل الذي تنزل به الكوارث المتعددة هو — في القيم الإنسانية كالذكاء والاختبار والتعلم — خير من السعيد الذاهل الذي لم تنبهه قط نكبة فادحة تجعله يقف ويتساءل: «أين موقفي من هذا العالم؟»
والسعداء الذاهلون كثيرون جدًّا، وهم يستغرقون في المسرات، وينشدون الثراء ويبلغونه ويحققونه … وقد يعيشون في القصر الفخم، ويأكلون أطيب الطعام، ويتنقلون في الفصول من الصيف إلى المشتى، ويجدون حاشية من الخدم، كما أن شهواتهم تجد الإشباع الدائم، وراحتهم رفاهية، ورفاهيتهم ترف وبذخ.
ولكن قليلًا من الحديث مع أحدهم يوضح أن سعادتهم إنما هي ذهول وخمود وتبلد، وأنهم لو كانت الأقدار قد رفقت بهم لكانت قد كرَثتهم بنكبة فادحة توقظهم من سُباتهم.
وهؤلاء السعداء الذاهلون يجدون في الكائنات الدنيا ما هو أسعد منهم؛ فإن الديدان والحشرات — مثلًا — أسعد؛ لأنها أكثر ذهولًا منهم، وهي أيضًا أبعد عن الكوارث؛ إذ أقل ما يقال فيها إنها لا تعرف الكوارث حتى وقت وقوعها بها.
وعندي أن مثل هذه السعادة يجب ألا ننشدها؛ لأن السعادة العليا التي هي صفة الإنسان العالي هي الوجدان، وكلما زاد الوجدان زادت السعادة، ولكن … زادت الكوارث والهموم والاهتمامات أيضًا! ونعني بكلمة الوجدان هنا ما يسميه غيرنا «الوعي».
والناس في أغلب أحوالهم يعيشون بالتصوير الحسي؛ لأنه هو التصوير البدائي بل الحيواني الذي لا يحتاج إلى مجهود، ولكن الرجل الراقي يدرب نفسه على التصوير الوجداني؛ فنحن — مثلًا — نتأثر عندما نرى طفلًا قد وقع من الترام فقطعت ساقه، ولكننا حين نقرأ أن ثلاثة ملايين هندي ماتوا بالقحط لا نكاد نقف عند سطور هذا الخبر كي نتصور هول هذه الكارثة! فالحادث الأول سريع إلى حواسنا؛ لأننا قريبون منه، وتأثرنا لذلك سريع، ولكن الحادث الثاني يحتاج إلى مجهود عقلي حتى نتأثر به.
وعلى هذا القياس نقول: إن السعادة نوعان؛ الأول: هو سعادة الحواس؛ أي المسرات الحسية المادية، أما الثاني فهو سعادة الوجدان؛ أي سعادة التعقُّل والتصوُّر؛ السعادة الفكرية. وهذه السعادة الفكرية لا تبالي الكوارث، بل إن الكوارث تخصبها وتزيدها نضجًا وإيناعًا، بحيث إننا عندما تمر بنا السنين ننظر إلى التقلبات والنكبات التي نزلت بنا كما لو كنا قد عشنا حيوات عديدة بدلًا من حياة واحدة. وكثيرًا ما أعود بالذكرى إلى بعض الصدمات والكوارث والأحزان التي مرت بي، فأجد كلًّا منها كان بمثابة الدرجة التي ارتقيت عليها صاعدًا في سلم الحياة؛ لأنها زادت وجداني، فزادت تعمقي في الحياة، وتوسعي في الاختبارات، وأكسبتني همومًا قد استحالت إلى اهتمامات لا أرضى بالنزول عنها الآن.
ولذلك أستطيع أن أقول: إن الحياة السعيدة هي الحياة الحيوية التي تزيد فيها درجة الحياة حدة ويقظة وتنبهًا؛ أي وجدانًا، والهموم والأزمات والكوارث تجعل حياتنا لذلك حيوية، وهي تزيدنا سعادة، أما الأمن من الكوارث والمعيشة الحسية والمسرات، فتجعلنا نعيش فيما يقارب الذهول، فلا ننتبه ولا نحتد؛ أي لا نتعقل في حدة ودقة وإمعان، ولو كانت هذه السعادة هي ما يجب أن نطلب لكان أدنأ الحيوانات أسعد منا، بل عندئذ كنا نكون أسعد بالنوم منا باليقظة، وبالموت منا بالنوم.
ولذة الدنيا هي في النهاية اختباراتها ومشاكلها ومآزقها وأزماتها، ثم تحدي كل هذه الأشياء بالوجدان والتعقل؛ وذلك الذي يبغي السعادة في معناها الإنساني العالي يجب أن يزيد حياته حيوية، لا أن ينقص هذه الحياة بالاقتصار على المعيشة الحسية، على المسرات. هذه هي السعادة التي تستحق أن ننشدها؛ السعادة هي الفهم بالوجدان والتعقل.