القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
نحن نعيش في المجتمع المتمدن بدستور أخلاقي نأخذه كله أو ٩٩ في المائة من العائلة التي نشأنا فيها، والشارع الذي مارسنا فيه اختبارات الطفولة، ومن زملاء المدرسة والحرفة، ومن غير هؤلاء ممن تحمِلنا حياتنا الحرفية أو الاجتماعية أو السياسية على الاحتكاك بهم. ونحن نزن الرذائل والفضائل بميزان هذا المجتمع، ونأخذ بالقيم التي يعيِّنها لنا.
وكثيرًا ما نأخذ بقيم وأوزان فاسدة؛ لأن المجتمع الذي نعيش فيه فاسد، وكثيرًا ما يخفى علينا هذا الفساد فنندفع في التيار لا نقف ولا نتردد، ولكن أحيانًا نقف ونتردد، وعندئذ يكون التقلقل والبحث والتجديد، ثم تكون قيم وأوزان جديدة.
والقيم والأوزان إما أن تكون اجتماعية، وإما أن تكون بشرية، وإذا كان المجتمع راقيًا كانت كل أو معظم أوزانه بشرية. ومثال الأوزان البشرية: استنكار القتل والفقر والمرض والجهل، وصيانة الصحة، ومكافحة المرض، وتنوير الذهن بالمعارف، وتوزيع الثروة؛ بحيث لا يكون فقر مؤذٍ ولا ثراء مبطر. ومثال الأوزان والقيم الاجتماعية: التزين، واقتناء القصور والضياع، والتفاخر بالولائم وأبهة العرس أو المأتم ونحو ذلك.
وكي نزيد الإيضاح نفرض أن صديقًا عائلًا مات وترك زوجته وجملة أولاد؛ فالرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم الاجتماعية سيحضر المأتم، ويسير خلف الجنازة، ويحضر الصلاة، ويعزي أسرة المتوفَّى، ثم يعد نفسه قد أنجز جميع واجباته، وربما قد يبالغ في هذه الواجبات فينعيه في الجرائد. ولكن الرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم البشرية قد يهمل كل هذه الواجبات، ثم يبحث عن حال الأرملة وأولادها، فإذا وجد أنهم في حاجة إلى المال تبرع من جيبه وجمع من غيره ما يقيتها، ثم هو يرعى الأولاد بالنصيحة، ويهيئ لهم وسائل التعليم، ويرعى العائلة تلك الرعاية الاقتصادية التي فقدتها بموت العائل.
ومن هنا نعرف أن الضمير الحسن هو الضمير البشري، وليس هو الضمير الاجتماعي.
ومن هذا المثال الذي ذكرناه نستطيع أن نتوسع فنقول: إن للصحة قيمة بشرية مطلقة، ولكن للمال — بعد أن يتجاوز حدًّا ما — قيمة اجتماعية فقط، والشاب الذي ينشد في الفتاة جمالها إنما ينشد قيمة بشرية، ولكنه عندما ينشد ثراءها إنما ينشد قيمة اجتماعية. ومن هنا أيضًا نقول: إن للزواج قيمة بشرية، ولكن أبهة العرس وجهاز العروس ونحو ذلك تعد من القيم الاجتماعية.
وكثيرًا ما تستهلك القيم والأوزان الاجتماعية مجهودنا وصحتنا، كما تحُول بيننا وبين القيم البشرية؛ كأن نندفع في جمع المال فنفقد صحتنا قبل الخمسين أو الستين؛ لأن المجهود في هذا الجمع كان أكبر مما نتحمل، وفي الوقت نفسه حال هذا الجمع دون العناية بترقية شخصيتنا وتنوير ذهننا، وهما من القيم البشرية. وكثير من الناس يغمرهم المجتمع بقيمة وأوزانه فلا يرتفعون فوقها؛ ولذلك تجد أن كل اهتمامهم ينحصر في شراء أتومبيل من الطراز الجديد، أو يغمرهم الهم والنكد لأنهم فقدوا صفقة تجارية، مع أن زيادة ألف جنيه أو نقصها في حساب البنك لن يضيرهم!
ومن هنا، ذلك الرجل المحموم بالنجاح ينفق كل مصادره الحيوية في التفوق في حرفته، ثم يفشل في عائلته أو مجتمعه، ولا يدري أن النجاح يجب أن يكون كليًّا يشمل العائلة والمجتمع والحرفة والفراغ. وكثير من الأمراض النفسية الفاشية في أيامنا تعزى إلى الاندفاع في هذه القيم الاجتماعية دون التفكير في القيم البشرية، وذلك «الرجل الأجوف» الذي تحدَّث عنه الشاعر إليوت إنما هو رجل قد غمره المجتمع بقيمه وأوزانه، فنسي كلمة الإمبراطور ماركوس أوريليوس حين قال: إن أعظم ما يشتاق إليه ويتمناه في هذه الدنيا كسرة من الخبز مع قطعة من الجبن يأكلها تحت ظل شجرة.
والمحك الذي يفصل بين القيمتين والوزنين أن نسأل عندما نسأل عن شخص ما: ما هو؟
فإننا هنا نسأل عن قيمته البشرية: هل هو جميل، سليم، مثقف، صادق، أمين، سعيد؟
وحين نسأل عن قيمته الاجتماعية نقول: ما عنده؟
فنجيب بأن عنده منزلًا به أثاث فاخر، أو عنده ضيعة وأتومبيل وعشرة آلاف جنيه في البنك، ولقب بك … إلخ.
والحياة الفنية تقتضينا التمييز بين القيم، وأن نجعل للقيمة البشرية المكانة الأولى في جميع اعتباراتنا؛ سواء في أنفسنا أم في غيرنا، والرجل الطيب هو في النهاية الرجل البشري وليس الرجل الاجتماعي؛ أي الرجل الذي يتعمق ويصل إلى الجذور.
وعندما نتأمل الأنبياء، بل كذلك الفلاسفة والأدباء، نجد أن كل اهتمامهم كان منصرفًا إلى تغيير المجتمع بوضع القيم البشرية مكان القيم الاجتماعية.