الاستغناء أم الاقتناء
نحن نعيش في مجتمع «اقتنائي» ننشأ فيه منذ الطفولة على أن هذا لي وهذا لك، وعلى أن أحدنا يُسَرُّ بأن يكون له أكثر مما للآخر، ثم نشِبُّ بعد ذلك فنزداد رغبة في الاقتناء، واندفاعًا نحو الامتلاك؛ لأن العادة قد أصبحت عاطفة ومزاجًا، ونعيش طوال حياتنا ونحن في تعب؛ لأننا لم نقتنِ كما اقتنى فلان الذي كنا نعرفه أقل ثروةً منا، ونعيش بين جيراننا في مباراة؛ نرقبهم حين تخرج إحدى بناتهم في ثوب زاهٍ، أو حين نقرأ في الصحف عن الترقيات والعلاوات فنمتلئ حسدًا؛ لأن هذا الشخص الذي كنا على الدوام نتفوق عليه، أو على الأقل نساويه، قد ارتفع وارتقت أحواله دوننا.
ونحن ننشد الاقتناء والامتلاك لا لأننا في حاجة إلى زيادة، ولكن لأن المجتمع «الاقتنائي» الذي نعيش فيه قد غرس فينا هذه العواطف، فأكسبنا همومًا شخصية تنزع بنا إلى الجهد، وتحمُّل المتاعب؛ كي نتفوق في الجمع، ونستمر في الزيادة، ونبقى على ذلك طوال حياتنا، حتى إننا نرى ناسًا قد تقدمت بهم السن وأثقلتهم الشيخوخة ومع ذلك يتعبون ويقلقون بشأن مقتنياتهم وعقاراتهم؛ فهم في هموم دائمة وحسابات لا تنقطع، حتى ليتساءل الإنسان وهم في هذه الحال: هل هم يملكون هذه العقارات أم أن هذه العقارات هي التي تملكهم؟!
وأعظم ما يعود من الضرر على هؤلاء أن هذه الهموم الشخصية تحول دون الاهتمامات العامة، حتى ليقول لك أحدهم: إنه لا يملك الوقت كي يقرأ الجريدة لأنه مشغول بأعماله التي لا تترك له فراغًا.
وقد أصبحت أعباؤنا الخاصة ثقيلة حتى إننا جعلنا الفرار منها سنَّة؛ فنحن نصطاف لا لأننا نرغب في تغيير الجو من الحر إلى البرودة، بل لأننا نحب أن نفر من هذه الأعباء؛ فالتغيير هنا سيكلوجي وليس مناخيًّا. وعندما نتأمل المصطافين في رأس البر أو الإسكندرية نجد أنهم ينطلقون من القيود، ويحاولون أن يتصلوا بالطبيعة في بساطة من التكاليف والأعباء، تشهد على أنهم كانوا متعبين بما كانوا يقتنون من ملابس غالية مرهقة في المدن.
والحق أننا عندما نتأمل معيشتنا في وسط متمدن، وما يجلبه علينا هذا الوسط من تكاليف، وما يطالبنا به من مطامع، نجد أننا جميعًا في حال سيئة من القلق النفسي، مَسُوقين بأوهام الاقتناء كما لو كنا مسخَّرين. وهذه الأوهام هي في نهايتها مصطلحات ليست لها قيمة بشرية، وهي لا تزيدنا إلا أعباء وهمومًا؛ إذ نستطيع أن نستغني عنها، فقد استغنى شبابنا مدة الحرب الأخيرة — مثلًا — عن الطربوش، ولم يجدوا سوى الراحة والصحة عندما تخلصوا من هذا التكليف، وسبق أن استغنت الفتيات أيضًا — قبل الحرب — عن الجوارب، ولم يشعرن إلا بالراحة والزيادة في الصحة بهذا الاستغناء. أجل، ازداد الجميع صحة لأن الاستغناء عن الطربوش والجوارب قد زاد في تعرض الأعضاء لأشعة الشمس، ولأثرها الصحي في تنبيه الجسم.
وأعود فأقول: إن معظم ما نبذل من مجهودات عظيمة، بل أحيانًا مجهودات مضنية مميتة في الاندفاع نحو الاقتناء، إنما هو مصطلحات اجتماعية لا أكثر؛ أي ليس لها في نفوسنا حاجة طبيعية؛ فحاجاتنا الطبيعية قليلة جدًّا. وقد قنع غاندي — مثلًا — بأن يعيش بنحو ثلاثة جنيهات أو أربعة في العام كله؛ فهو يكتفي من اللباس بقطعة من القماش غير مخيطة يتلفع بها، بينا يحتاج أصغرنا إلى عشر قطع كي تغطي بها جسمه كأنها ضمادات مجروح، أو كأنها خرق ملونة لمهرج على مسرح!
وإذا كنا نحن نستبعد أو نستغرب معيشة غاندي، فليس ذلك لأن غاندي مخطئ، بل لأننا نعيش في أَسْر مصطلحات اجتماعية قد تغلغلت في نفوسنا حتى أضحت عقائد وعواطف.
والرجل الحكيم هو الذي يعرف كيف يستغني دون أن تنقص حاجاته الضرورية، ومن هنا قيمة الدعوة إلى الحياة البسيطة؛ أي إلى بساطة العيش. وهذه الدعوة هي نداء قديم يتردد صداه عبر التاريخ منذ آلاف السنين. وكلنا نذكر «ديوجينيس» الإغريقي الذي لقيه الإسكندر المقدوني وسأله عما يستطيع أن يؤديه له من مساعدة، فأجاب بأن كل ما يطلبه إنما هو أن يتنحى عنه حتى لا يمنع أشعة الشمس عن جسمه!
ونحن نقرأ هذه النادرة كأنها نكتة، ولكن لماذا؟ أليس أمامنا البرهان على أن ديوجينيس كان على حق، وكان سعيدًا ببرميله الذي كان ينام فيه، في حين كان الإسكندر شقيًّا بما جلب إلى نفسه من هموم وأعباء؟! ألم يعمد الإسكندر إلى الانتحار وهو في الثلاثين؟!
كان الإسكندر يندفع بروح الاقتناء إلى الفتح والحرب، وكان ديوجينيس يندفع بروح الاستغناء إلى العيش في برميل. وكلاهما مسرف، ولكن إسراف ديوجينيس أقرب إلى الحكمة من إسراف الإسكندر.
وغاندي في عصرنا يجري على مذهب الفيلسوف الإغريقي، ويجحد مذهب الفاتح المقدوني، وهو حكيم في هذا السلوك.
وقد كان جان جاك روسو أول من بصر بعبء التكاليف المرهقة التي تفرضها علينا الحضارة، رغم أن حضارة العصر الذي كان يعيش فيه هي البساطة والسذاجة بالمقارنة إلى ما نعيش نحن فيه؛ فقد دعا هو دعوة الريف وتجنب المدينة، ولكن مدينته، حوالي سنة ١٧٧٠، كانت قرية هادئة بالمقارنة إلى المدن التي نعيش فيها الآن؛ فلم يكن في مدينته ترام أو سيارة أو راديو، ولم تكن مضارُّ المباراة وما تجلب من حسد وهزيمة وقلق جزءًا من مائة مما يكابد أبناء المدن في هذه الأيام، وقد ترك بعده «ثوور» الأمريكي المدينة الأمريكية وعاش في الغابة، وترك إدوارد كاربنتر المدينة الإنجليزية وعاش في الريف، وفعل كذلك تولستوي وغاندي.
وليس هؤلاء شاذين؛ لأننا حين نقارن بين حياتنا وحياتهم من حيث القيم البشرية، وسلام النفس، والفراغ للتأمل والراحة، نجد أن الحكمة في جانبهم، والجنون في جانبنا؛ فقد عاشوا بالاستغناء، في حين نعيش بالاقتناء، وامتازوا بأنهم نفضوا عن نفوسهم وأجسامهم وضمائرهم جبالًا من الواجبات والأثقال التي ننوء بها ونزعم أننا بفضلها سعداء، مع أن الحقيقة أننا مسخرون في الجمع والاقتناء، ثم في زيادة الجمع والاقتناء، وسنظل على هذا المنوال حتى نموت بالنقطة أو السكتة مجهودين مرهقين.
وأسوأ ما في الحياة التي نعيشها ونحن نعدو وراء المطامع وكأننا نجري في سباق أننا لا نعرف ماذا نقتني ولمن نقتني، ثم هذا العَدْو في هذا السباق لا يتيح لنا فرصة الوقوف كي نتأمل ونفكر. والواقع أن غريزة الاقتناء تدفعنا مسخرين؛ فلا يلتمع لنا ذكاء، ولا يتردد في رءوسنا خاطر، ولا نتساءل: لماذا كل هذا؟!