نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
غاية الحياة هي الحياة. وليست غايتها أن نكون أثرياء أو أصحاء أو علماء أو سعداء؛ لأننا إذا كنا نطلب الثراء أو الصحة أو العلم أو السعادة؛ فإنما لأن كل واحد من هذه الأشياء يؤدي في النهاية إلى الحياة المثلى التي نتمناها.
فيجب لهذا السبب ألا نخطئ الهدف، وهو أن نحيا لأجل الحياة، وإذا نحن جعلنا هذا الهدف نصب عقولنا؛ فإننا لن ننحرف؛ إذ نجد أنه على الدوام يصحِّح ويقوِّم انحرافاتنا.
وأعظم ما نقع فيه من انحراف، بل اعوجاج، هو أن المجتمع يؤثر فينا بأوزانه وقيمه، فيحملنا على أن ننسى أن هدف الحياة هو الحياة، حتى إننا نجد كثرة الناس، بل ربما كلهم — أي كلنا — ننتهي إلى عادات فكرية ونفسية لو أنها امتُحنت في نزاهة وذكاء لكانت أقرب إلى الجنون والشذوذ منها إلى التعقل السوي.
وأسوأ هذه العادات عند الطبقة المتوسطة والثرية هي أن نحيل الحياة إلى حساب؛ ذلك أن أحدنا ينسى أنه يجب أن يعيش فيستمتع بحياته ذكاءً وصحة واجتماعًا ومعرفة وحكمة، ينسى كل هذا ثم يرصد وقته وجهده في الحساب، وما هي زيادة دخله هذا العام على دخله في العام السابق؟ وماذا يستطيع أن يشتري بما ادَّخر مما يزيد هذا الدخل؟ إلخ.
وأحيانًا تستحيل هذه العادة إلى جنون؛ فلا يشتغل الرأس إلا بها، ولا يتحرك النشاط إلا لأجلها؛ حتى إننا لنرثى لصاحبها؛ إذ نجد أنه مأسور قد استرقه الجمع والاقتناء، فلا يعرف لذة الطعام أو الشراب أو التنزه أو الاجتماع بالأصدقاء. وقد يسأل أحدنا عندما يتأمل هذه الشخصية ويقارنها بشخصية أخرى كثيرًا ما يحتقرها، مثل شخصية المستهتر في الشراب أو النساء؛ أيهما أفضل؟
وليس هذا السؤال لأن الاستهتار حسن، ولكن لأن قصر الحياة على الحساب بالجمع والطرح، والزيادة والنقصان في الاقتناء أسوأ من أي استهتار؛ لأن أقل ما يقال في المقارنة هنا أن المستهتر مستمتع، ولكنه مبالغ مسرف في الاستمتاع إلى حد الضرر. ولكن هذا الحاسب لا يستمتع بتاتًا إلا كما يستمتع النيوروزي؛ أي المريض النفسي بعادة تملكته واستبدت به، وهي بعيدة عن العقل، بل متمردة عليه.
ونحن في عصرنا الحاضر نحتاج إلى كاتب مثل د.ﻫ. لورنس؛ كي يبين لنا أن واجبنا في الدنيا هو أن نعيش؛ فقد ألَّف هذا الكاتب قصته «عاشق الليدي شاترلي»، وأسرف في دعوته إلى الاستمتاع الجنسي باعتبار أنه أهم من الاعتبارات الاجتماعية التي تنكر علينا ملذاتنا، وتشغلنا بألوان أخرى من النشاط الذي ننحرف به ونزيغ عن هدف الحياة، وهو أن نحيا ونستمتع.
وليس شك أنه أسرف، بل إنه وقع فيما أراد أن يحذرنا منه؛ إذ هو جعل الاستهتار الجنسي هدفًا، وكأنه اعتقد أن اللذة الجنسية هي كل ما في الحياة، وهذا خطأ فاضح.
وصحيح أن الاستهتار الجنسي، في القيم والأوزان الصحيحة، خير من قضاء العمر في الحساب لاقتناء المال وزيادته، ولكن الاستهتار على كل حال إسراف، ثم إن اللذة الجنسية جزء من الحياة، وليست الحياة جزءًا من اللذة الجنسية، فإذا نحن تحرَّينا الحياة المثلى؛ فإننا بلا شك لا نهمل الملذات الجنسية، ولكننا أيضًا نضع هذه الملذات في مكانها، فلا تتجاوزه وتطغى على حياتنا كلها؛ إذ إن هناك ملذات أخرى تحتاج إليها الحياة المليئة الحافلة السامية؛ مثل الصحة والمعرفة والصداقة والذكاء والحكمة.
وإسراف لورنس في الإكبار من شأن اللذة الجنسية إنما هو مبالغة يرمي بها إلى تأكيد الظاهرة الجنونية الحاضرة في اندفاع الناس إلى جمع المال وقضاء العمر في الحساب؛ حتى أننا لنجد رجلًا في الستين أو في السبعين ليس له من همٍّ سوى الدفاتر يراجعها، والاهتمام بدخله، والتفكير في شراء عقار جديد أو نحو ذلك، مع أن كل ما بقي له من العمر قد لا يتجاوز سنة أو سنتين هو أحوج فيهما إلى أن يعرف ما جهل، أو بعض ما جهل، قبل أن يغادر هذه الدنيا.
ووطأة المجتمع علينا هي التي تسوقنا إلى أن نستبدل الحساب بالحياة، وإلى أن نسخِّر أنفسنا للجمع والاقتناء دون الاستمتاع بالعيش. وعادات المجتمع هذه تَرسَخ في نفوسنا بحيث نعيش في هذا الحساب كما لو كنا نملًا أو جرادًا ننشط نشاطًا غريزيًّا لا نعرف غايته.
والرجل الذي ارتفع إلى أن يجعل من حياته فنًّا يجب من وقت لآخر أن يسأل نفسه: هل أنا أعيش للحياة أم أن قيم المجتمع وأوزانه قد غمرتني وسخَّرتني حتى صرت آلة جمع وطرح للحساب؛ أي لزيادة المال والدخل فقط؟
ويجب على كل منا أن يذكر نصيحة المسيح لنا، وهي أن نعيش كالأطفال؛ أي أن ننزل على القيم البشرية الساذجة، نحب الجمال والاقتحام، ونستطلع الدنيا كما يستطلعها الطفل.