العمل والفراغ
- (١)
مشكلة العمل الذي نرتزق به.
- (٢)
مشكلة الفراغ الذي نقضيه مختارين.
- (٣)
مشكلة الزواج والعائلة والأولاد.
- (٤)
مشكلة المجتمع الذي نعيش فيه، وتنظيم علاقاتنا المختلفة به.
والإهمال في واحدة من هذه المشكلات يتعسنا ويجعلنا في خصومة دائمة إما مع غيرنا وإما مع أنفسنا؛ بحيث نعيش في غير يسرٍ كأننا نكافح تيارًا بلا هدف يقتضي المكافحة. والقارئ لهذا الكتاب يعرف أننا نعزف على لحن يتكرر، هو أن النجاح يجب ألا يقتصر على ناحية أو جملة نواحٍ من الحياة، وإنما يجب أن يكون قبل كل شيء نجاحًا في الحياة كلها.
ومشكلة العمل الذي نرتزق به تبرز في عصرنا بروزًا واضحًا؛ لأن العلم لم يُستخدم في الإنتاج إلى الحد الذي تتوافر فيه حاجات الناس، ولو استُخدم لانتقلت بؤرة الاهتمام من الارتزاق بالعمل إلى الانتفاع بالفراغ، بل كذلك كانت بؤرة الاهتمام في المدارس والجماعات تنتقل هذا الانتقال.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال التي نرجوها يجب أن نجعل الاهتمام بالعمل الارتزاقي في مقدمة شئوننا التي نتدرَّب لها، ونُثابر على تفهُّم تفاصيلها. وأعظم ما يجب أن نهتم به هنا هو اختيار العمل بحيث يلائم ميولنا وكفاءاتنا معًا؛ لأن معظم التَّعَس الذي يعانيه الناس من أعمالهم يعود إلى أنهم لم يختاروها، بل قضت المصادفات والظروف بأن «يقعوا» فيها، وأجبرتهم حاجات العيش على ممارستها كارهين أو متبرمين. وهذه الحال تجعلهم يتبرمون بالحياة كلها؛ أي يكرهون المنزل والنادي والأصدقاء والكتب؛ لأنهم يكرهون أعمالهم كأن حياتهم قد غشيت بغشاء من التبرم والسخط.
وعلى هذا نقول: إن اختيار العمل الملائم الذي نحبه ونستطيعه هو نصف الانتصار في معركة الارتزاق، بل ربما أكثر؛ لأننا بعد ذلك ننشط إلى الحذق والمثابرة والدرس. ونحن في العادة لا نشرع في الاختيار قبل السادسة عشرة من العمر، ولذلك نحتاج قبل ذلك إلى الإرشاد؛ لأننا نجهل ميولنا وكفاءاتنا، ونحتاج إلى من يحللهما ويخبرنا عن حقيقتيهما.
وكثير من التخلف الذي يصيب الموظف يعود إلى كراهته لعمله؛ لأنه أساء في اختياره؛ فهو يتهاون ويتثاءب ويكره رئيسه، أو يعتقد أنه يرهقه بالواجبات، بل أحيانًا يحس صداعًا بسبب هذه الكراهة، وهو يتعلل بهذا الصداع لطلب الإجازات، أو للزيادة في التهاون والتكاسل حتى تسوء العلاقات بينه وبين رؤسائه.
وعلاج هذه الحال — إذا كانت الوقاية لم تتخذ من قبل — أن يكون باستخدام الفراغ؛ بحيث يعوِّض من سأم العمل، وذلك بأن نمارس هواية ما تشغلنا وتعوضنا من النفور من العمل، وتعيد إلينا اتزاننا. ويجب لهذا السبب أن يكون لكل منا هواية، بل هوايات تتوافر بها اهتماماتنا، وعندي أن أعظم هذه الهوايات هو القراءة وتعوُّد الدرس؛ لأنها الهواية الباقية إلى سن الشيخوخة، وهي في ظاهرها هواية واحدة، ولكنها في صميمها جملة هوايات؛ لأن الذي يعشق الدراسة يجد نفسه مشغولًا بألوان مختلفة من الاهتمامات؛ يقرأ الجريدة والمجلة، ويناقش في السياسة، وقد يكافح لمذهب فيها، كما يقرأ الكتب ويقتنيها، ويضع المشروعات لدراسات جديدة، فيتجدد بذلك شباب ذهنه، وتتسع آفاقه العملية والأدبية. ومثل هذا الشخص لن يسأم فراغه، ولن يقضيه ذاهلًا في غيبوبة نفسية على القهوات، ولن يقع في العادات السيئة؛ كالتهالك على التدخين أو الشراب.
والرجل الموفق هو الذي يجعل هوايته مرتزقة، ولكن يجب أن نعترف أن هؤلاء قليلون في مجتمعنا، حتى الأديب الذي يرتزق بقلمه لا يكتب على الدوام ما يهوى؛ لأن الضغط الاقتصادي يحمِله في كثير من الأحيان على ألوان من الإنتاج الكمي لا الكيفي، يهدف منه إلى الكسب لا إلى الفن.
ولهذا نحتاج جميعنا إلى أن يمارس كل منا هواية ما تُحَل بها مشكلة الفراغ، ومتى حللنا هذه المشكلة فإن العمل الارتزاقي يسهل علينا، فلا يكون ذلك المضض الذي نراه في كثير من الموظفين وهم إلى مكاتبهم يتجهمون لأوراقهم ورؤسائهم.