العائلة والمجتمع
النجاح العائلي أكبر من النجاح الحِرفي، ويجب أن يكون كذلك؛ لأن القيم العائلية بشرية في حين أن القيم الحرفية اجتماعية. والعائلة هي زوجة وأولاد وبيت، والرجل الذي وفِّق إلى اختيار زوجته واستمتع بحبه لها وعنايتها به، وأعقب أولادًا وتعب لهم حتى نموا وأينعوا أمام عينيه، مثل هذا الرجل قد حظي بنصيب عظيم من متع الحياة.
واختيار الزوجة هو، مثل اختيار العمل، نصف المعركة؛ لأننا إذا لم نحسن الاختيار تعرضنا لألوان من التعس كنا نستطيع تجنبها، وأعظم ما يتيح لنا الاختيار الحسن أن نطيل مدة الخطبة؛ حتى نعرف بالاختلاط شخصية الفتاة التي سنتزوجها.
وواضح أن الخطيبين يحرصان مدة الخطبة على أن يظهر كل منهما للآخر بأحسن مظاهره، ولكن حتى مع هذا الحرص يستطيع كل منهما أن يفطن إلى الاتجاهات والميول في الآخر.
ويجب أن يتجنب كل منهما إغراء الفتنة؛ فقد يفتتن الشاب بنغمة الصوت، أو زرقة العينين، أو تورُّد الوجنتين في خطيبته، ثم ينخدع بهذه الصفات إلى الانزلاق في الاختيار السيئ. وخير ما يكفل الاختيار الحسن أن يسأل الشاب نفسه: كيف نكون معًا، أنا وهذه الفتاة، في بيت وحدنا بعد خمس سنوات، ثم بعد عشر سنوات؟ كيف نتحدث، وكيف يعاشر أحدنا الآخر، وكيف يكون أولادنا معنا؟
وخير للخطيب أن يختار خطيبته بوجدانه؛ أي في تعقُّل ودراية، من أن ينزلق في الإغراء الجنسي. والحب الضعيف مع الأمل في نموه في المستقبل يَفضُل الحب العظيم الذي لن ينمو. ويجب هنا ألا ننسى أن الحب هو غير الافتتان؛ الأول وجداني تعقلي، والثاني غريزي شهوي، بل هما أحيانًا متناقضان؛ بحيث إذا زاد الحب ضعفت الشهوة.
ويجب أن يكون للقيم والأوزان البشرية التفضيل على القيم والأوزان الاجتماعية في اختيار الزوجة؛ فالجمال والصحة والذكاء قيم بشرية، ويجب أن تفضُل لذلك على الثراء والمكانة والثقافة؛ لأن هذه قيم اجتماعية. ولكن من الحسن ألا يختار الشاب فتاة من غير طبقته الاجتماعية أو دون ثقافته؛ لأن التفاوت هنا يعني تفاوتًا في الذوق والعادات والاتجاهات، وإذا كان الاختلاف صغيرًا فإن النتائج لن تكون خطيرة، ولكنها تفدح إذا كان الاختلاف كبيرًا. وفي بلادنا، حيث تتجه العناية إلى تربية الشبان دون الفتيات في أغلب الحالات، نجد هذا الاختلاف واضحًا؛ ولذلك لا بد من التسامح، ولكن مع النصح للزوج بأن يُعنى بتربية زوجته، وتنبيهها إلى ترقية شخصيتها وزيادة ثقافتها.
والتوفيق بين الزوجين لا يتأتى مع الحماة أو الحمى من أية الناحيتين؛ ولذلك يجب أن يعيش الزوجان مستقلين في بيت منفصل عن الآباء والأمهات، فإذا لم يكن هذا ممكنًا للظروف الاقتصادية — مثلًا — فيجب على الأقل أن تعرف هذه الحقيقة، وأن يؤسس البيت مع اعتبار هذه «الضرورة» التي تواجه كما لو كانت صعوبة قهرية لا مفر منها، وبهذا الاعتبار يمكن أن تواجه المواجهة السليمة، وأن توزن الوزن الصحيح.
وكل ما قلناه عن الشاب ينطبق أيضًا على الفتاة.
ويجب على الزوجين أن يجعلا من البيت متحفًا، وليس مأوًى فقط، فإذا جاء الأولاد صار معهدًا حرًّا للجميع آباء وأولادًا، فلا سيد ولا مسود، ويجب أن تُقتنى التحف الفاخرة، وتُهيأ الغرف بأغلى الأثاث؛ حتى يجذب البيت الزوج، ويصير مرتكز نشاطه واهتمامه، كما يجب أن يكون البيت مضيفة راقية يجد فيه الزائرون متعًا مختلفة من الرسوم الفنية والموسيقى العالية، إلى السَّمَر المنير والمناقشة المربية.
والنجاح في المجتمع يأتي بعد النجاح في العائلة، وهو يحتاج إلى أن ندرس المجتمع بتتبع السياسة العامة؛ عالمية وقطرية، وإلى أن نطابق بين مصالحنا ومصالحه حتى لا يكون تنافر. هذا التنافر الذي يبلغ القمة عند المجرمين؛ لأن المجرم يتصرف وهو على غير وفاق مع المجتمع، ويصل إلى غايته وهو على تنافر مع الأساليب الاجتماعية.
والنجاح الاجتماعي يقتضي العناية بالأصدقاء ورعايتهم، وتجنب التفريط في صداقتهم، وقد يكون الاهتداء إلى صديق وملازمته أمتع متعة في الحياة.
والمجتمع يحتاج إلى المزاج الانبساطي؛ أي مزاج ذلك الشخص الذي يحب الاختلاط، ويغشو الأندية والمطاعم والمسارح والمصايف، ويميل إلى الزيارات.
وصاحب المزاج الانطوائي ينفر من هذه الانبساطية، ولكن عليه أن يتمرن على ممارستها إلى حد ما، كما يجب على صاحب المزاج الانبساطي أن يتمرن على ممارسة الخلوة والقراءة والدراسة والتفكير إلى حد ما.
والخلاصة أنه يجب على كل شاب أو شابة أن يسأل نفسه: هل أنا نجحت في حل هذه المشكلات الأربع: الحرفة والفراغ والعائلة والمجتمع؟ وإلي أي حد بلغ نجاحي؟