فذلكة تاريخية
فتح الرومانيون وادي النيل، وأقاموا به قرونًا ظهر في أثنائها الدين المسيحي وانتشر في العالم، ودخل الديار المصرية فاعتنقه المصريون، وهم الأقباط، ثم اتَّخذته الدولة الرومانية دينًا لها بدلًا من الوثنية، وهدمت تماثيلها.
ولكن ما كادت تستقر الأمور حتى حدث نزاع ديني بين كهنة القسطنطينية عاصمة المملكة الرومانية الشرقية، وكهنة الإسكندرية عاصمة الديار المصرية، واشتد هذا النزاع حتى تسكنت الضغائن بين الرومانيين، وهم الفئة الحاكمة، وبين الأقباط وهم الشعب المحكوم، وعُرف المذهب الروماني بالملكي، والمذهب المصري باليعقوبي، فآل ذلك إلى نفور الأقباط من الرومانيين واستبدادهم، وإلى رغبتهم في التخلص من نيرهم بأية وسيلة.
وفي أوائل القرن السابع الميلادي، كان يحكم مصر والٍ يوناني الأصل. اسمه المقوقس حنا بن قرقت، وقد يدعونه بأسماء أخرى، وكان متشيعًا لأهلها ومذهبهم وتقاليدهم، وأقام بالإسكندرية شأن ولاة الرومانيين إلى ذلك العهد؛ لأنها كانت عاصمة الديار المصرية ومقر الإمارة فيها. ولم تكن القاهرة قد وجدت بعد، بل كان في مكانها بساتين وغياض يتخللها بعض الأديرة والكنائس، وقليل من البيوت مبعثرة بين جبل المقطم والنيل، وإلى جنوبها بلدة صغيرة اسمها بابل، بناها الفرس حين قدموا مصر قبل الميلاد ودعوها باسم عاصمة دولتهم، وكان موقعها فيما هو الآن دير مار جرجس وما جاوره من البيوت، وجامع عمرو بن العاص، وبعض مصر القديمة.
•••
وكان في وسط تلك البلدة حصن كبير يدعى حصن بابل، أو قصر الشمع، مبني على الطراز الروماني، هو الذي يقوم في مكانه الآن دير مار جرجس، وكان النيل يجري أمامه، وتلاطم أمواجه بابًا كبيرًا من أبوابه، ما زال رسمه باقيًا في سوره الغربي حتى الآن، وقد طمرت الأتربة أسفله حتى لم يعد ظاهرًا منه إلا عتبته العليا، إلى أن أزالت الحكومة تلك الأتربة، فظهر الباب كله. وهو قائم بين برجين كبيرين مستديري الشكل، في أحدهما كنيسة المعلقة حتى الآن ولكن بناءها تهدم.
•••
أما مصر القديمة — ما بين هذا الحصن إلى النيل — فلم يكن لها أثر البتة؛ لأن النيل كان يجري في موضعها بجانب الحصن كما قدمنا، وكان بين هذا الحصن وجزيرة الروضة جسر من السفن، يمر عليه الناس من البر الشرقي إلى الجزيرة، وجسر آخر من الجزيرة إلى البر الغربي يمرون عليه إلى الجزيرة ومنها يذهبون إلى منف — عاصمة مصر القديمة — حيث كان المقوقس يقيم بعض أشهر الشتاء. برغم أنها في عهده كانت قد انحطَّت وكادت تئول إلى الخراب.
ولم يكن للأقباط همٌّ في تلك الأيام إلا التخلص من الرومانيين والتحدث بفظائع أعمالهم وظلمهم واستبدادهم، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون المجاهرة بعداوتهم، خوفًا من سخطهم وزيادة الضغط عليهم.