عقد الصلح
ساء أرمانوسة كثيرًا كدر أركاديوس، ولكن سرَّها نجاح حيلتها، ولم تكن تخشى بأس العرب لعلمها أن أباها ضالع معهم، فانصرف همها إلى تخفيف وقع المصيبة على أركاديوس وحمله على التسليم بما حدث، فلما ذهب مرقس أمرت بطعام فأعد لهم، والشمس قد مالت إلى المغيب، فجلسوا إلى المائدة وأركاديوس يحسب أنه في حلم، ولا يكاد يصدق خبر سقوط الحصن وفرار حاميته، فقال لأرمانوسة: «أراني في حلم، ولا أستطيع تصديق الخبر. أيدخل هؤلاء العرب الحفاة العراة حصوننا ونحن جنود الروم لنا العدة والسلاح وهم شرذمة قليلة، إنها لخيانة أو لعله سحر أو لعله غضب من الله!» فقالت أرمانوسة: «لعله الأخير»، وتبسمت تريد مداعبته، فاستمر قائلًا: «ولنفرض أنهم أخذوا الحصن، فلسوف يخرجون قهرًا؛ فإنه سهل علينا أن نحصرهم فيه، ونقطع عنهم المئونة برًّا وبحرًا حتى يسلموا أو يهلكوا جوعًا؛ إذ لا سبيل لهم إلى المئونة لأن بينهم وبين بلادهم شقة بعيدة وجنودنا تملأ القطر.»
فقالت أرمانوسة: «سوف نرى.» وقد آلت ألا تدعه يبتعد عنها مهما يحدث، وبعد أن تناولا شيئًا قليلًا من الطعام نهض الجميع وذهب كل واحد إلى حجرة نومه، فلما أصبحوا وجدوا أهل منف في قلق يتأهبون للفرار، وأما أرمانوسة فلبثت يومها تنتظر عودة مرقس، فقضوا نهارهم في الانتظار والقلق، وكان أركاديوس قد خف يأسه وعادت إليه آماله في استرجاع الحصن، وفي اليوم الثالث، أطلوا من شرفة القصر فرأوا قارب مرقس فعرفوه، فدنا وصعد إليهم وجلس يقص عليهم رحلته، وكلهم آذان وأعين، وليس في الغرفة إلا هو وأرمانوسة وأركاديوس وبربارة، وهذا ما حكاه:
وصلت إلى الجزيرة مساء أمس الأول فوجدت جندنا معسكرًا فيها، فذهبت إلى سيدي المقوقس فقبلت يده ويد سيدي أرسطوليس وطمأنتهما على سيدتي أرمانوسة، وقضينا الليل في حديث الحصن، فعلمت أنه أُخذ مفاجأة وأن العرب مقيمون به الآن، وأما جند الروم فساروا إلى الإسكندرية، وفيهم مولاي الأعيرج، وقد فهمت من حديث سيدي المقوقس أن الناس في ريب من أمر سيدي أركاديوس، فمن قائل إنه قُتل قبل فتح الحصن وقائل إنه فر بعد الفتح، وظن بعضهم أنه قُتل وضاعت جثته — حرسه الله — وعلمت أيضًا أن سيدي المقوقس بعث إلى أمير العرب يعرض عليه صلحًا على أمر فيه خير للفريقين، وأرسل إليهم قاربًا يركبه وفدهم إلينا، فبتنا ليلتنا وأصبحنا ننتظر مجيء الوفد، فلما كان الضحى جاءنا نبأ بأنهم وصلوا إلى الجزيرة، فبعث سيدي وفدًا استقبلهم عند الشاطئ وجاءوا بهم إليه، وكان في مجلسه، وأنا بين يديه، فما لبثنا أن رأينا الوفد قادمين، وكانوا عشرة من البدو، وقد رأيت أزياءهم في بلبيس، وتقدم واحد منهم لم أرَ أفظع منه منظرًا، أسود فارع الطول، ضخم الجثة، قالوا إنه زعيمهم وخطيبهم، واسمه عُبادة بن الصامت، وقد رأيت منه جرأة لم أعهدها في أحد من الناس حتى اليوم، ولحظت أن سيدي وأهل مجلسه هابوا منظره، وكأني سمعت سيدي يطلب منهم أن يستبدلوا به غيره فقالوا: «هو كبيرنا المقدم فينا.» فقال له سيدي والترجمان ينقل كلامه: «تقدم يا أسود وكلمني برفق، فإني أهاب سوادك.» فتقدم وقال: «فهمت قولك، وإن فيمن خلَّفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سوادًا وأفظع منظرًا، وأشد هيبة مني، وقد وليت وأدبر شبابي، ولكني بحمد الله لا أهاب مائة رجل، وذلك لرغبتنا في الجهاد واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا، ولا زيادة فيها، إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا منه حلالًا، وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار ذهب أو درهم واحد؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها ليسد بها جوعه ليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في سبيل الله، واقتصر على هذا الذي في يده؛ لأن نعيم الدنيا ليس نعيمًا، ورخاءها ليس رخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمر به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همَّة أحدنا الدنيا إلا ما يمسك به جوعه ويستر به عورته، وأن تكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه.»
فلما سمع سيدي هذا الكلام قال لنا بالقبطية: «هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط، لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب. إن الله أخرج هذا وأصحابه لخراب الأرض، وما أظنهم إلا الغالبين.» ثم التفت إلى عبادة وقال له: «أيها الرجل الصالح قد سمعت قولك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري إنكم لم تبلغوا ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليهم إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه منا لقتالكم جمع من الروم لا يُحصى عددهم، عرفوا بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلَّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرًا وأنتم في ضيق وشدة ومسغبة، وها نحن أولاء نعرض عليكم الصلح على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار، ولخلفيتكم ألف دينار تأخذونها وتنتقلون إلى دياركم قبل أن يغشاكم ما لا طاقة لكم به.» فأجابه عُبادة: «لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنَّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا مما يخيفنا، ولا الذي يثنينا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقًّا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشد لحرصنا عليه؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه وقد قُتلنا عن آخرنا، فهذا أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقرُّ لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإننا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين، فإما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال في كتابه: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين»، وما منا إلا من يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يردَّه إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همٌّ فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده، وإنما همُّنا ما أمامنا، وأما قولك إننا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة، ولو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذي تريده فبيِّنه، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ونجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت، ولا تُطمع نفسك بالباطل. بذلك أمرني الأمير، وبه أمر أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله من قبل إلينا، أما إن أجبتم إلى الإسلام دين الله القيم الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، والذي أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله، أما إن أجبت إلى هذا وقبلته أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلَّ أذاكم ولا التعرض لكم، وإن أبيتم فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، على أن نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدًا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا السيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.»
فعجبنا لجرأته وقوة جأشه، فأجابه سيدي: «هذا ما لا يكون أبدًا. ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدًا ما كانت الدنيا.» فقال عبادة: «هو ذاك، فاختر لنفسك ما شئت.» فقال سيدي: «أفلا تجيبوننا إلى غير هذه الخصال الثلاث؟» فرفع عبادة يده إلى السماء حتى كادت تدرك سقف الغرفة لطولها وقال: «ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، ورب كل شيء، مالكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.»
فالتفت سيدي إذ ذاك إلى أرباب مجلسه وقال: «قد فرغ القوم، فما ترون؟» فقالوا: «أيرضى أحد بهذا الذل؟! أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم فهذا لا يكون أبدًا أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل في دين لا نعرفه، وأما أن يَسْبُونا ويجعلونا عبيدًا فالموت أيسر من ذلك، فلو رضوا أن نضاعف لهم ما أعطينا مرارًا كان أهون علينا.» فقال سيدي لعبادة: «أبى القوم فما ترى؟ فراجع أصحابك على أن نعطيهم في مدتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون.»
فقال عبادة وأصحابه: «لا.» فقال سيدي لأرباب مجلسه: «أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فوالله مالكم بهم طاقة، ولئن لم نجبهم إليها طائعين لنجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.»
فقالوا: «وأي خصلة نجيبهم إليها؟» قال: «أما دخولكم في غير دينكم فلا يسلم أحدكم به، وأما قتالكم فأنا أسلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.» قالوا: «فنكون لهم عبيدًا أبدًا؟!» قال: «نعم، تكونون عبيدًا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، فأطيعوني قبل أن تندموا.» فرضوا بالجزية على صلح يكون بينهم يعرفونه. فقال سيدي للأسود: «قل للأمير أن يجتمع بنا لنكتب عهد الصلح.»
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافتهم وصاعهم ومددهم وعددهم، لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقص، ولا يساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية، إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم، خمسين ألف ألف، وعليه ممن جنى نصرتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رُفع عنهم من الجزية بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم عن غايته إذا انتهى رُفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله ما لهم وعليه ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا، وعليهم ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم. على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألا يُغزوا، ولا يُمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير، وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.
ولما كتب على هذه الصورة قرئ على الحضور من القبط والعرب باللغتين، فتصافح الفريقان وصاروا جميعًا يدًا واحدة، ثم كتب سيدي إلى البطريق حاكم الإسكندرية يخبره بالأمر، ولا ندري ما يكون جوابه.
وفيما كان مرقس يتكلم كانت أرمانوسة وبربارة ترقبان أركاديوس وما يبدو منه. أما هو فكان مصغيًا إلى مرقس وقلبه يتقطع، ويكاد يتميز غيظًا، حتى سمع شروط الصلح، وأن العرب والقبط تصافحوا بعد كلام المقوقس وتثبيط عزائم رجاله، فوثب بغتة ونادى: «يا للعار، قد قُضي الأمر يا أرمانوسة، لم يبقَ لي مقام بهذه البلاد، فها هو ذا والدك قد أتم ما كان يبغيه من صلح العرب، ولم تبقَ لنا حيلة في دفعهم عنا، وليس في طاقتي أن أنظر إلى أبيك، وقد تحققت الآن أنه هو الذي ساعد العرب على فتح الحصن وإخراج جندنا منه، فالإقامة هنا لا أستطيعها، وقد عاهدتك وأقسمت لك الأيمان المعظمة أن لا أفارقك بعد واقعة الحصن، فها قد انتهت الواقعة، فنحن — أنا وأنت — روح واحد، وبقاؤنا هنا تحت سلطة هؤلاء البدو مستحيل، وإذا ذهبنا إلى الإسكندرية فلا آمن غضب أبي لأنه علم بمساعي أبيك، فلا يرضى ببقائنا معًا، فما الحيلة إذن؟» قالت: «إني رهينة أمرك.»
قال: «اعلمي يا أرمانوسة أن أباك قد ارتكب خيانة لن تمحو ذكرها الأيام؛ لأنها ستؤدي إلى خروج وادي النيل من أيدينا إلى أيدي العرب، فإذا عرف هؤلاء المحافظة عليه طالت إقامتهم به قرونًا. لأنه من خير بلاد الله تربة وأكثرها خصبًا، فجعله أبوك غنيمة باردة للعرب، وأصبحت الروم ومنازلهم وما ملكت أيمانهم في قبضة هؤلاء العرب. إنها خيانة لا أستطيع عليها صبرًا، فإقامتي معه ضرب من المستحيل، ولولا حبك الراسخ في هذا القلب لسعيت إلى قتله بهذا الحسام.»
وكانت أرمانوسة أثناء كلامه مطرقة خجلًا لما أتاه والدها، وكأنها استيقظت من سبات فأدركت كُنْه الجريمة فلم تُحِرْ جوابًا.
فأتم هو كلامه وقال: «ولكنني لا أمسه بسوء إكرامًا لعيني أرمانوسة، وطالما دافعت عنه عند أبي، وكثيرًا ما غالطته، مع علمي بالخيانة، فكأني شاركته فيها، وأنا لا أصبر على جواره، فإذا أطعتني هجرنا هذه البلاد، وأقمنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد إلى أن يقضي الله بما يشاء.»
فقالت: «إني معك حيثما توجهت؟»
فقال: «أما والحالة هذه فلنتروَّ ولنتعقل، فنحن الآن متحدان قلبًا، فلندعُ قسيسًا يُتم عقد اتحادنا الجسدي.»
وكان مرقس وبربارة يصغيان ليعلما عاقبة الحديث، واستحسنا الرأي، فأسرع مرقس فجاء بقسيس من منف فصلى وبارك قرانهما، فلما تمت صلاة الإكليل قال مرقس: «وأنا لا إقامة لي هنا بعدكما، فهل تسمحان بأن أكون في خدمتكما أنا ومارية؟»
فنصحا له بألا يلقي بنفسه فيما هو في غنًى عنه، فأصر، وبعث إلى مارية ووالدها فحضرا فأنبأهما بقصده، فقالا: «نحن نسير معكم أيضًا، ثم صلى القسيس وعقد قران مرقس بمارية.
•••
خلا أركاديوس بأرمانوسة يتشاوران، فقرَّ رأيهما على الذهاب إلى بلد لا يعرفهما فيه أحد، أما أرمانوسة فإنها لما تحققت أنها أصبحت زوجة أركاديوس، وسكن قلقها عليه، انتبهت وكأنها أفاقت من سبات: كيف تعقد قرانًا لا يعرفه أبوها؟ وشعرت أنها أثمت في حق أبيها، وبأنها خرجت من بيته في غيابه، ثم تخيلته وقد جاء منف على أثر ما قاساه في أمر الحرب ولم يجدها في منزله، ولم يعرف أين هي، وقد كانت منذ حداثتها تسليته الوحيدة بعد وفاة والدتها، ولم يكن يهمه شيء لا يهمها، ولولا اشتغاله بالحرب ومعداتها لما فارقها يومًا واحدًا، فقد كان ينتظر عودته إلى منف بفارغ الصبر ليقضي بقية أيامه بجانبها، فكيف يأتي ولا يجدها، وهي تعلم منزلتها عنده؟ فجعلت هذه الهواجس تجول في خاطرها، وتتجاذبها وهي صامتة، وأركاديوس يفكر في مثل ذلك، لأن حاله تشبه حالها من هذا القبيل، وبعد أن صمتا برهة هب أركاديوس فجأة ورفع يده إلى صدره، وجعل يبحث بين أثوابه كأنه أضاع شيئًا، فنظرت أرمانوسة إليه فرأت البغتة والقلق باديين عليه فقالت: «ما بالك يا حبيبي؟ ما الذي جرى؟»
قال: «لقد أضعت شيئًا لا تقل خسارته عن خسارة هذا الحصن.»
قالت: «وماذا عساه أن يكون ذلك؟»
قال: «أضعت الصليب الذي أهديتنيه، وقد كان معلقًا في صدري تحت ثوبي حتى ليلة مجيئي إليك، وكنت أخرجه لأقبله وأنا أنزع ثيابي للرقاد، ووضعته أمامي، ثم جاءني رسولك على عجل، فاضطررت إلى المجيء عملًا بأمرك، فلبست ثيابي ونسيته هناك، وإني لأتشاءم أن نجتمع ويضيع الصليب؟»
قالت: «وكيف تستطيع الوصول إليه، وفي دخولك الحصن بعد احتلال العرب ما فيه من الخطر؟»
قال: «أرى أن أصطحب مرقس إلى الدير؛ فهم يعرفون أنه من أتباعك فلا يسيئون الظن به، وألبس أنا لباسًا مثل لباسه فندخل معًا للبحث عن الصليب.»
قالت: «وماذا بعد ذلك؟»
قال: «نضرب موعدًا نلتقي فيه في موضع نسير منه إلى حيث نريد.»
قالت: «كيف الفراق بعد الاجتماع؟»
قال: «لا بد من خروج كل منا على حدة لئلَّا ينكشف أمرنا، فأذهب أنا أولًا، وغدًا أو بعد غد تلحقين بي، وأكون بانتظارك في عين شمس ومعي كل المعدات اللازمة، فأرسل مرقس ليأتي بك وبأهله، فنسير معًا إلى حيث نريد، وليكن خروجك متنكرة.»
فعظم عليها الفراق وما وراءه من الفرار فبُهتت ولم تُجب، فحمل ذلك منها على محمل الحياء، ودعا مرقس، ثم ودَّعا أرمانوسة وخرجا، وظلت هلي في حجرتها وحيدة، وقد عظم عليها الأمر، كأنها في حلم، وعادت إليها هواجسها، وشعرت بحال والدها وما بينهما من الرابطة، وبحبه لها، فكيف تتزوج بلا علمه؟ وكيف تهجره إلى الأبد؟ وتصورت حاله بعدها، ثم تحول ذهنها إلى أركاديوس وحبها له، وما قاسته لأجله، فانشرح صدرها انشراحًا أشبه بلهيب أضاء بغتة في ليل دامس ثم انطفأ، فأخذت في البكاء، وكانت بربارة في شاغل من أمر البيت، تعد معدات السفر وتجمع المتاع اللازم مما خف حمله وغلا ثمنه، فعادت إلى الغرفة لتسألها عن شيء أشكل عليها فرأتها تشرق بدموعها، فهمَّت بها وقالت: «ما بالك يا سيدتي تعودين إلى البكاء وقد تم لك فوق ما كنت تتمنين، فأركاديوس زوجك، وقد قيل: «ما يجمعه الله لا يفرقه إنسان»، ولم يبقَ لهرقل ولا ابنه سلطان عليك، لخروج البلاد من قبضته؟»
فتنهدت أرمانوسة وقالت: «آه يا بربارة! لا أدري أين هي السعادة؟! فقد كنت أحسبها في لقاء الحبيبين فقط، فلما ظفرت به، نقصتني فيه السعادة، فما أنا بسعيدة يا بربارة.»
قالت: «ولماذا؟» قالت: «أتسألينني وأنت أعلم الناس بحال أبي الذي لو فتشت قلبه وبحثت بين جوارحه لم تجدي غير أرمانوسة؛ فأنا تعزيته في أواخر أيامه. كيف يعود من تكاليف حياته غدًا ولا يراني في البيت؟! ما الذي يخطر في خاطره؟ وإذا عرف بعد ذلك سِرَّ غيابي ألا يعيش بقية عمره حزينًا كئيبًا؟! أأرضى له ذلك؟! أليس هذا عقوقًا مني؟! قد كنت يا بربارة تائهة وعلى عيني غشاوة. كان لهفي على أركاديوس وشوقي إلى لقياه قد شغلاني عن برِّي بأبي، ولم أكن أتوقع الخروج من بيته هربًا على هذه الصورة.»
وكانت أرمانوسة تتكلم وهي تبكي، وبربارة مصغية لا تبدي حراكًا وكأنها أفاقت هي الأخرى من غفلة، ولسان حالها يقول: «لقد صدقت.» فلما أتمت أرمانوسة كلامها ظلتا صامتتين برهة، ثم قالت بربارة: «وما العمل يا مولاتي؟ إن أركاديوس لا يرضى الإقامة مع أبيك بعدما ظهر له من أمر الحصن وتسليمه.»
قالت: «لا أدري يا بربارة، انجديني برأيك، فإني لا أعي شيئًا.»
قالت: «دعيني أفكر في الأمر، وقومي إلى الحديقة روِّحي عن نفسك ونزِّهي طرفك، وإن غدًا لناظره قريب.»
فنزلت أرمانوسة إلى الحديقة، واشتغلت بربارة بتهيئة المعدات، وهي لا ترى بدًّا من السفر، لعلمها أن تأخيره يحبط كل مساعيهم، وقد عولت على استرضاء المقوقس واستعطافه بعد انقضاء الحرب.
•••
لم يغمض لأرمانوسة جفن في تلك الليلة لما تقاذفها من الهواجس وما تولاها من التردد، وفي صباح اليوم التالي نهضت لصلاتها المعتادة فسمعت لغطًا ووقع خطوات عرفت أنها خطوات بربارة. فتوقعت دخولها عليها، وهي تدخل بلا استئذان، فلم تدخل حتى أتمت أرمانوسة الصلاة، فقالت لها: «ما وراءك يا بربارة؟» قالت: «ما ورائي إلا الخير، لقد جاء المبشرون بقدوم سيدي المقوقس الآن.»
فبغتت أرمانوسة، وكانت لا تزال جاثية تصلي، وصاحت: «جاء؟ أواه! ما الذي جاء به؟! ما العمل يا بربارة؟ إني أرتعش خوفًا وازداد خفقان قلبي، وكنت قد ارتحت قليلًا وأنا أصلي. لأني توسلت إلى الله وألقيت حملي عليه.» قالت ذلك واستلقت على السرير، وهي لا تدري كيف تقابل والدها. فقالت لها بربارة: «لعل الله قد هيأ لنا الخير، سكِّني روعك.»
فما لبثت أن سمعت وقد أقدامه وقرع عصاه وصوت سعاله في الدار، فازداد خفقان قلبها، وتحفزت للقيام وركبتاها ترتجفان، وإذا به قد دخل، وأسرع إليها وضمها إلى صدره وقبلها. أما هي فألقت نفسها على صدره، وتذكرت حنانه فهاجت شجونها وتذكرت ما هي فيه مما لا يعلمه، فغلب عليها البكاء، فجعلت تبكي وتنتحب، فبكى والدها وهو يعجب لحالها، وكان يحسبها تبكي بكاء الفرح، فلما طال بكاؤها سألها عما يدعوها إلى ذلك فلم تجب.
أما بربارة فهمَّت بيدي المقوقس فقبَّلتهما وقلبها يخفق مخافة أن تبوح أرمانوسة بسرها، فيقع الجميع في مأزق حرج، فجعلت تلتمس الأعذار عن بكاء أرمانوسة، وتحذرها خلسة أن تقول شيئًا. وقالت للمقوقس: «إن طول غيابك يا سيدي سبب هذا البكاء، فقد تركتنا والبلاد في حرب، وسيدتي أرمانوسة وحيدة هنا، فهي لا تكاد تصدق أنها تراك، فغلب عليها البكاء وهو بكاء الفرح.»
قال: «ولكنكم تعلمون ألا خوف علينا من هذه الحرب؟»
قالت: «لم نخف الخطر، ولكننا استوحشنا، فالحمد لله على سلامتك.»
قال: «وهذا ما أشكو منه أنا أيضًا، ولذلك فإني إذا سرت إلى مكان يطول غيابي فيه اصطحبتها معي.»
قالت: «عسى ألا يحدث بعد اليوم سفر طويل.» فتبسم وقال: «لا بد من السفر، وإني إنما أتيت لنذهب معًا إلى الإسكندرية.»
فخفق قلب أرمانوسة، وعلا وجهها الاحمرار، ثم امتقع لونها حيرة ووجلًا، وأدركت بربارة ذلك، فقالت للمقوقس: «وما الذي يدعو إلى هذا السفر يا مولاي؟»
قال: «إن العرب الذين دخلنا في ذمتهم، وأنقذونا من ظلم الروم، ذاهبون غدًا إلى الإسكندرية لفتحها، وقد طلبوا إليَّ أن أصحبهم إليها لنعد لهم المئونة بعد طول الغياب ونسهل وسائل النقل. ولما كان شوقي قد اشتد إلى أرمانوسة فقد جئت لأصطحبها، ولا خوف علينا لأننا سنكون بعيدين عن مواقع الحرب.»
فلما سمعت أرمانوسة ذلك ازدادت حيرتها، ولبثت صامتة، وذكرت دعاءها ربها في صلاتها في الصباح: «لعل الله قد فعل ذلك لأجلي.» ولكنها لم تدرك الخير في بعدها عن أركاديوس، فسلمت أمرها لله وقالت لأبيها: «أذهب معك إلى حيث شئت.»
قال: «هلمي يا بربارة مري الخدم بإعداد ما تحتاج إليه سيدتك من معدات الأسفار، فإذا أحبت الركوب على فرس أو هودج أو عربة فليهيئوا لها كل ما تريد، وليحملوه في القوارب إلى الضفة الشرقية، ونحن نلتقي بهم أمام الحصن بالقرب من معسكر العرب، ليركبوا ونحن في مقدمتهم، وحولنا حرس منهم حتى نأتي الإسكندرية.» قال ذلك وخرج فنادى الحراس وأمرهم بإعداد القوارب. فلما خرج قالت أرمانوسة: «ماذا نعمل يا بربارة لأركاديوس؟» قالت: «نترك له خبرًا مع مارية ليوافينا إلى الإسكندرية، فإن العرب لا يلبثون أن يفتحوها، وبعد ذلك نتدبر سبيلًا ينجيك من هذه القلاقل.» وسارت بربارة للتأهب فأخذت كل ما خف حمله وغلا ثمنه، وأطلعت مارية على ما وقع وأوصتها بما تفعله، ثم عادت وقد تم كل شيء، فركبوا جميعًا وجرت بهم السفن نحو الحصن، فالتفتت أرمانوسة إلى منف تودعها وهي تخاف ألا تراها بعد اليوم. كانت تظن أن والدها يعرج على الحصن، فلما دنت منه أخذت تنظر إلى مراميه وأبوابه وأسواره فلم ترَ أحدًا، وتجاوزته السفن إلى معسكر العرب حتى رست عند الضفة، وكان رجال القبط في انتظار مولاهم، فنقلوا الأمتعة إلى مكان أعدوه لها، وكانت أرمانوسة قد اختارت العربة لركوبها فأعدوها لها هناك، ولكنها عدلت عنها إلى السفر في النيل، ونزلت أولًا في خيمة ومعها أبوها وبربارة، وكان عمرو يهم بالسفر، وقد أمر بتقويض الخيام وتحميل الأحمال إلى الإسكندرية، فلما علم بمجيء المقوقس مر بخيمته فحياه، ورحب به وبمن معه، وجلس إليه يستشيره في الطريق الذي يختاره في الذهاب إلى الإسكندرية، ودار بينهما الحديث في شتى الشئون، والمقوقس يصف له بواسطة الترجمان الطرق وقوات الروم والأماكن الحصينة عندهم، وبربارة مشغولة بالحديث مع أرمانوسة، ورجال عمرو مشتغلون بالتقويض والتحميل.
وفي الصباح التالي أرسل المقوقس أرمانوسة وبربارة، ومعهما بعض الحاشية والخدم، في سفن تسير في النيل، على أن يوافيهم إلى مريوط، وفي الضحى أقلع العرب والمقوقس وحاشيته قاصدين الإسكندرية، وكان المقوقس يتقدم العرب مسافة يوم أو نحوه ليصلح الجسور ويسهل الطرق ويهيئ ما يحتاجون إليه من المئونة ووسائل الحمل، والروم يفرون أمامهم إلى الإسكندرية، وهي آخر ملجأ يلجئون إليه، فإذا أخرجوا منها لم يبقَ لهم مقر.
•••
أما أركاديوس فتنكر بلباس جند القبط، واصطحب مرقس إلى حجرته التي كان ينام فيها بالقرب من كنيسة المعلقة، فمرا بالكنيسة، وكان أركاديوس يتوقع أن يراها خرابًا محطمة الأيقونات متهدمة المذابح، ولكنه بغت لما رآها لا تزال سليمة، والمسلمون والأقباط يدخلونها ويخرجون منها باحترام ووقار، فعظم أمر المسلمين في نفسه، ولم يكن مرقس أقل استغرابًا منه؛ لأنه لم ينسَ ما فعله جند الروم في تلك الكنيسة يوم جاءوا لاحتلال الحصن منذ بضعة أشهر، وأركاديوس معهم، فحدثته نفسه أن يذكر أركاديوس بذلك، ومشيا في الكنيسة لا يعترضهما أحد؛ لأن أكثر الناس هناك يعرفون مرقس لعلاقته بالمقوقس ولدخوله معسكرهم مرارًا، وفيما هما ماشيان لقيتهما الراهبة التي كانت قد حفظت كتاب البطريرك بنيامين للمقوقس حتى أخذته بربارة لتوصيله إليه، فلما رأت مرقس هشت له واستقبلته محيية وهي تبتسم مستبشرة، فسلم عليها وسألها عن حال الراهبات، فقالت: «نشكر الله على نجاتنا من الروم (ولم تكن تعلم أن رفيقه رومي) وأبشرك يا بني بأن البطريرك بنيامين حبيبنا التقي الورع سيأتي عما قليل.» فتجاهل مرقس قولها إخفاء لقصة البطريرك، فقال لها: «كيف هؤلاء العرب معكن؟» قالت: «إنهم من خيرة الناس وقد كنت أخشى أن يفعلوا بنا في هذه الكنيسة ما فعل الروم يوم دخلوها، فما شعرت إلا والأمير نفسه قادم إلينا يطمئننا ويخفف عنا، ويقول: «لا بأس عليكن»، فلما آنست فيه هذا اللطف دعوت له وطلبت إليه أن يستقدم إلينا البطريرك بنيامين، فوعدني خيرًا، حفظه الله وأدام سلطة العادلين.»
وكان أركاديوس يسمع كلامها وهو يتَّقد غضبًا، ولكنه علم أن إطلاعها على أمره لا يخلو من الخطر الشديد فسكت، وقد شعر بما كان يقاسيه الأقباط من العنف والاستبداد في أيام دولتهم. وظلَّا سائرين حتى دخلا الغرفة، وبحثا فيما بقي من الأثاث، فوجدا السلسلة والصليب في بعض أركان الحجرة، لم يمسهما الفاتحون، فتناولهما أركاديوس وقفل راجعًا، وكان الليل قد أسدل نقابه، وفي اليوم التالي أنفذ مرقس إلى أرمانوسة، وكانت قد خرجت من منف، فلا تسل عن حاله لما عاد مرقس وأنبأه بالخبر، فإنه استعاذ بالله، واسودت الدنيا في عينيه، فقال له مرقس: «لا تجزع؛ إن سيدتي أرمانوسة في حفظ وأمان، لا خوف عليها في صحبتها والدها، فإذا رأيت أن تسير إلى الإسكندرية فتلقى أباك وتخبره بما أنت عازم عليه فافعل، فلعل القلوب تصفو، وأنا ذاهب إلى سيدتي أرمانوسة لأكون بمعيتها حيثما توجهت، وآتيك بأخبارها وآتيها بأخبارك، حتى ينقضي أمر الإسكندرية، فتكون مصر إما للروم وإما للعرب، وفي الحالين أنت لأرمانوسة وهي لك، فهي لا تلام على ذهابها مع أبيها، وهو لا يعلم شيئًا من أمركما، فأرجو أن تتدبر الأمر حتى يرتاح ضميرها.»
فقال أركاديوس: «لا لوم عليها ولا تثريب.» ثم فكر قليلًا وقال: «إني أعهد في أمر أرمانوسة إليك، وما دمت الواسطة بيني وبينها، فإنك لا شك تقوم بما فيه نفعنا.»
قال: «إني عبدكما، وكل ما أتيته فهو منكما وإليكما، ولم يكن لي في الدنيا مأرب غير اجتماعكما على سكينة وطمأنينة.»
فقال أركاديوس: «بورك فيك، وها أنا ذا ذاهب إلى الإسكندرية لعلِّي ألقى أبي هناك، أو ألقاه قد يئس من حياتي وسافر إلى القسطنطينية، وعلى كل حال فإني سأقيم في معسكر الروم لعلِّي أشفي غليلي من العرب، وأما أنت فجئني بخبرها ومكانها بعد أن يصل العرب إلى الإسكندرية.»
فقال مرقس: «ولكن كيف أستطيع الوصول إليك، والأقباط الآن أعداء للروم؟ على أن في استطاعتك أن تحل هذه المشكلة، ومشكلة غيابك عن الحصن معًا، فتذكر لهم أني جاسوس على المقوقس، وأني أنبأتك بخيانته فلم تصدق وخرجت معي متنكرًا لتتحقق الأمر، فسقط الحصن خلال ذلك.» فوافقه أركاديوس على هذا الرأي.