عمرو بن العاص
وكان اليوم التالي، فاستيقظ مرقس على ضوضاء الجند، ونهض مذعورًا، وإذا به يراهم قد تجهزوا وخرجوا من المعسكر ينظرون إلى جهة الصحراء، ثم رأى غبارًا يتصاعد والناس يتطاولون بأعناقهم، وقد علا ضجيجهم، وفي مقدمتهم «يوقنا» يجر حسامه وراءه تيهًا، وقد أحاطت به حاشيته، وكلهم ينظر إلى جهة الغبار، فسأل مرقس عن ذلك، فقيل له: «إن العرب قادمون.» فأظهر أنه عالم بقدومهم لئلَّا يسيئوا الظن به، ثم علم أن القادمين هم جند عمرو بن العاص القادم لفتح مصر فلبث واقفًا في جملة الواقفين، وقد نسي رجل الأمس، على أنه حاول أن يراه فيمن حوله من الناس، فلما لم يرَه عوَّل على أن يستطلع مكانه بعد ذلك.
ونظر إلى موكب البطريق يوقنا فإذا هو مؤلَّف من حاشيته، وكلهم في اللباس الروماني إلا هو، فقد لبس العمامة وتقلَّد الحسام، وسمع الناس ينادونه باسم عبد الله، فتحقق لديه إذ ذاك أنه اعتنق الإسلام لا محالة، وبخاصة لما رآه مستبشرًا بقدوم جيش العرب.
ثم جيء إلى يوقنا بجواد ركبه وركب معه بعض رجاله، وخرجوا للقاء العرب، فلبث مرقس واقفًا ينظر إلى موكب يوقنا ذاهبًا، وجند العرب يتقدم حتى انكشف الغبار عن جند عظيم يتقدمهم الفرسان على خيول عربية تسابق الرياح، والأعلام تخفق فوق رءوسهم يحملها القواد، وفي المقدمة رجلان على هجينين فعلم أنهما الدليلان يقودان الجند، ومن ورائهما الفرسان، وفي مقدمتهم فارس على جواد من خيل اليمن، وعليه العدة والسلاح، وفي ركاب الفرسان جماعة من العبيد يسوسون الخيل، فلما التقى الفريقان ترجَّل يوقنا، وترجَّل فرسان العرب، وتقدَّم يوقنا إلى كبيرهم وتصافحا وتعانقا، ثم سلَّم على الآخرين وعاد معهم وقد أخذ كبيرهم بيده، فسأل مرقس عن اسمه فعلم أنه البطل الشهير عمرو بن العاص، وكان قد سمع به كثيرًا، فتفرَّس فيه جيدًا، فإذا هو قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عليه ثياب موشَّاة كأن بها الذهب يأتلق، ومنها حلَّة وعمامة وجبَّة، وقد أحاط به وبيوقنا رجال من كبار العرب يهلِّلون ويكبرون، فتنحَّى مرقس جانبًا ليرى مقدار الجند، فإذا بهم يملئون الصحراء، وفيهم الفرسان والهجانة والمشاة وحملة الأعلام، وقد لبس كبارهم العمائم الخضر، وتقلدوا السيوف والخناجر، وأما المشاة ففيهم نقلة الرماح والنبال، ثم أخذوا يتفرقون كل جماعة إلى ناحية يتقدمهم علم خاص بهم، ينصبون الخيام ويضربونها، وأول خيمة ضُربت فسطاط الأمير، وهو خيمة كبيرة مبطنة بالحرير الأحمر نصبوها على أعمدة من القصب الهندي، وضربوا أطنابها وفرشوا أرضها بالبُسُط والطنافس وهيئوها لاستقبال الأمير. أما عمرو فسار مع يوقنا حتى دخلا خيمته للاستراحة، فلبث مرقس ليشاهد بقية الجند، وقد أراد أن يعرف مقدارهم فعلم أنهم يزيدون على أربعة آلاف، وبعد أن تفرق الجند فرقًا ونصبوا الخيام جماعات، وصلت جمال الساقة ومعهم الهوادج والأحمال، وفي الهوادج النساء والأولاد، وهم يصيحون.
وتحول مرقس إلى خيمة الأمير فرآها قد شغلت بقعة كبيرة من الأرض، ولكنه لم يشاهد في فرشها كرسيًّا ولا مقعدًا كما كانت الحال بخيام الروم إذا نزلوا، وشاهد أمام الخيمة علمًا هائلًا عليه رسوم كأنها كتابة باللسان العربي لم يفهمها. أما جند الروم فكانوا يهللون ويرحبون بجند العرب كأنهم كانوا على موعد، ففهم من ذلك أنهم كانوا في انتظار وصولهم.
ثم تحوَّل نحو خيمة يوقنا فرأى عمرو بن العاص قد خرج منها وسار نحو خيمته يصحبه كبار قواده، فاقترب منها جهده فإذا بعمرو قد جلس في صدرها على وسادة من الحرير، وقد وضع السيف على فخذه، وإلى كل من جانبيه رجال من العرب في مثل لباسه، ويوقنا بين يديه يرحب به، وبينهما ترجمان كان قد شاهده مع عمرو يحمل العلم، ثم علم أن اسمه «وردان» إذ سمع عمرًا يدعوه به.
وبعد هنيهة سمع قراءة باللسان العربي وترتيلًا، فنظر فرأى رجلًا عربيًّا جالسًا في بعض جوانب الخيمة يقرأ عن ظهر قلبه بنغم مطرب، والناس جلوس ووقوف يصغون ويطربون لسماع ذلك النغم، ثم التفت بغتة إلى من حوله فإذا بالرجل الذي كان قد شاهده بالأمس واقفًا إلى جانبه، فأراد أن يخاطبه، فسأله عن اسم الرجل الجالس في صدر المكان فقال باليونانية: «هو الأمير عمرو بن العاص.» فأدرك مرقس من لهجته أنه دخيل على اللسان الرومي، فخاطبه بالقبطية وسأله عن ذلك الترتيل فقال: «إنهم يتلون كتابًا عندهم اسمه القرآن، وهي عادة يتبركون بها.» فأدرك مرقس أن اللسان القبطي أيضًا ليس لسانه، فرغب في الاستفهام عن حاله فقال له: «وبأي لسان يقرءون؟» قال: «باللسان العربي» فقال: «وهل تفهم لسانهم؟» قال: «نعم أفهمه جيدًا، وهو لساني، وأنت ما لسانك؟» فقال: «إني من جند الروم.»
قال: «ولكنني أراك تتكلم القبطية، وملامحك قبطية، فهل أنت من أهل مصر؟» فاضطرب مرقس عند ذلك وخاف أن ينكشف أمره فقال: «قلت لك إني من جند الروم وفيه من سائر المِلل.»
فتبسم الرجل وقال بالقبطية همسًا: «ولكن قل ولا تخفِ الحقيقة، إني لا أريد بك سوءًا، ولعلك إن صدقتني تنال خيرًا»
فتحير مرقس ولم يعلم بماذا يجيبه وسكت لا يتكلم.
فأدرك الرجل أنه يراوغه ويريد إخفاء أمره، فأعاد سؤاله قائلًا: «قل ولا تخفْ، فإنني أعرفك، ولو أخفيت حقيقة حالك ما خفيت عليَّ.»
فقال مرقس: «وأظنني أعرفك أيضًا وكأنني رأيتك قبل هذا اليوم في الإسكندرية.»
فقال الرجل: «أنت إذن مرقس تابع المقوقس.» فاختلج قلب مرقس في صدره وخاف عاقبة الأمر، فقال له الرجل: «لا تخفْ، إني لك نصير، فهل عرفتك أم أنا مخطئ؟»
قال: «أصدُقك الخبر، إنني أنا مرقس، ولكن أين رأيتني؟»
قال: «رأيتك وقد جئت بيت يحيى النحوي الإسكندري بعد انحيازه لجماعة اليعاقبة مع سيدك المقوقس، ألا تذكر ذلك؟»
قال: «نعم أذكر ذلك جيدًا، فأنت إذن زياد العربي.»
قال: «نعم أنا هو زياد فلا تخفْ، هل جئت هذا المعسكر تتجسس حال العرب؟»
قال: «لا والله، إنما ساقتني إليه الأقدار عن غير قصد مني، وأنت ما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟ هل تأذن لي بالسؤال عن ذلك.»
قال: «أما مجيئي إلى هذا المكان فقد كان لمهمَّة لا أخفيها عليك؛ فإني لا أخافك؛ فقد آنست فيك إخلاصًا.»
قال: «لقد أصبت، وإني أعدُّ نفسي سعيدًا لاجتماعي بك، وقد رأيتك بالأمس وآنست فيك خيرًا، وكنت مهتمًّا باستطلاع حالك مذ كنت جالسًا على الأكمة خارج المعسكر مساء الأمس وبيدك الرَّقِّ، فأفصح ولا تخف.»
قال زياد: «ليس يخفى عليك أن وجودي في الإسكندرية كان محض اتفاق؛ إذ يندر أن ترى عربيًّا في بلادكم، وأما قصتي فسأقصها عليك على انفراد لئلَّا يسمعنا جند الروم نتكلم بالقبطية فيَشُوا بنا، والأفضل تأجيل حكايتي إلى المساء.»
قال: «حسنًا فلنتكلم الآن بالرومية، فإني أريد الاستفهام عن بعض ما أشاهده في هذا الجيش، وقد عجبت لحال هذا الأمير وسرَّني ما أرى في وجهه من الصباحة وما يتجلَّى في محياه من الشجاعة والشهامة، لا عجب إذا ساد العرب الدنيا بأجمعها إذا كانت هذه حالهم، وهل عرفت شيئًا عن حال يوقنا؛ فإني أراه روميًّا ولكنه يلبس العمامة ويتزيَّا بزي العرب، وهذا جنده في لباس الروم!»
فتبسم زياد كأنه يفتخر بجنس العرب وقال: «إن العرب أهل شهامة وإقدام وشجاعة، ولا غرو إذا فتحوا الأمصار وأخضعوا الملوك؛ انظر إلى ابن العاص فإنه من خاصَّة رجالهم، وأنا أعرفه منذ كان جاهليًّا، وهو يعرفني جيدًا، ولعله إذا رآني الآن يناديني باسمي ويرحب بي ويجلسني إلى جانبه، ولكني لا أريد أن يكون ذلك بمشهد من الناس؛ إكرامًا لمن أرسلني؛ لأنه يود أن تكون رسالته سرِّيَّة.»
فقال: «ومن هو هذا الترجمان الذي ينقل الكلام بين يوقنا وعمرو؟»
قال: «هو وردان مولى عمرو، ويعرف اليونانية جيدًا، ويعرف القبطية أيضًا، وأنا لا أعرفه من قبل، ولكنني فهمت ذلك من كلامه، وسأعرف الليلة حكايته وحكاية هذا الجند وأطلعك عليها.»
فقال مرقس: «أحب كثيرًا أن أعرف حقيقة حالك وما جئت من أجله؛ لكي يكون كلامنا أكثر إيضاحًا.»
قال: «تعالَ ننفرد جانبًا.» وأخذ بيده وخرجا من المعسكر والجند مشغول بشئونه، ولم يلتفت إليهما أحد حتى وصلا إلى مأمن فجلسا.
فقال زياد: «اسمع يا مرقس، أقص عليك خبري على شرط أن تحكي لي حكايتك وما جئت لأجله.» قال: «أقسم برأس سيدي المقوقس وحرمة الصليب أني أصدقك القول.» ومضى زياد يروي حكايته كما يلي:
«كان سبب دخولي إلى الإسكندرية وتمصُّري واعتناقي النصرانية أني كنت من رفقاء عمرو بن العاص مذ كان في الجاهلية؛ أعني قبل أن يظهر الإسلام وينتشر، وكانت ديانتنا الوثنية مثل أكثر عرب الجاهلية، وكنت أصحب عمرًا حيثما توجَّه، وكنا نحمل تجارة على جمالنا إلى بيت المقدس في جماعة من قريش، فمررنا بضواحي تلك المدينة فإذا بشمَّاس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة في بيت المقدس، فخرج إلى بعض جبالها يسيح، وكنا وعمرو نرعى إبلنا، تناوبًا بيننا، فبينما عمرو يرعى إبله إذ مر به الشماس وقد أصابه عطش في يوم شديد الحر، فوقف واستسقاه، فسقاه من قربة له، فشرب حتى روي، ونام حيث هو، وكانت إلى جنبه حفرة خرجت منها أفعى كبيرة فبصُر بها عمرو فرماها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر إلى الحية التي أنجاه الله منها وقال لعمرو: «ما هذه؟» فأخبره خبرها، فأقبل على عمرو يقبل رأسه ويقول: «قد أحياني الله بك مرتين: مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟» قال: «قدمت مع صحبي نطلب الربح في تجارتنا.» فقال له الشماس: «وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك؟» قال: «أرجو أن أصيب ما أشتري به بعيرًا، فإني لا أملك إلا بعيرين، فلعلِّي أصيب بعيرًا ثالثًا.»
فقال له الشماس: «أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي؟» قال: «مائة من الإبل.» فقال له الشماس: «لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير.» قال: «تكون ألف دينار.» فقال له الشماس: «إني رجل غريب في هذه البلاد، وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس وأسيح في هذه الجبال شهرًا، وكنت قد جعلت ذلك نذرًا على نفسي، وقد قضيته، وأنا أريد الرجوع إلى بلادي، فهل لك أن تتبعني إليها، ولك عليَّ عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ لأن الله عز وجل أحياني بك مرتين.» فقال له عمرو: «أين بلادك؟» قال: «مصر — في مدينة يقال لها الإسكندرية.» فقال له عمرو: «لا أعرفها ولم أدخلها قط.» فقال الشماس: «لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل مثلها.» فقال له عمرو: «وتفي لي بما تقول، ولي عليك العهد والميثاق؟» فقال له الشماس: «نعم لك عليَّ العهد والميثاق أن أفي لك وأردَّك إلى أصحابك.» فقال له عمرو: «وكم يكون مكثي في ذلك؟» قال: «شهرًا، تنطلق معي ذاهبًا عشرًا، وتقيم عندنا عشرًا، وترجع في عشر، ولك عليَّ أن أحفظك ذاهبًا وأن أبعث من يحفظك راجعًا.» فقال له عمرو: «أمهلني حتى أشاور أصحابي في هذا.» وجاء فشاورنا فيما عاهده عليه الشماس، وقال لنا: «تقيمون هنا حتى أرجع إليكم، ولكم عليَّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به.» فقلنا: «نعم.» وبعثوني معه، فانطلقنا مع الشماس حتى انتهينا إلى مصر فرأينا عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير، فقال عمرو للشماس: «ما رأيت مثل ذلك.» ومضينا إلى الإسكندرية فنظرنا إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة وزخرف بنائها وكثرة أهلها فازددنا عجبًا، ووافق دخولنا الإسكندرية عيدًا عظيمًا يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم كرة من ذهب يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم، وفيما أخبروا عن تلك الكرة، وفيما وصفها من مضى منهم، أنها إذا وقعت في كمِّ رجل واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم. وأكرمنا الشماس الإكرام كله، وكسا عمرًا ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس حيث يترامون بالكرة، وهم يتلقونها بأكمامهم، وأنا جالس على حدة، فرمى بها رجل فأقبلت تهوي حتى وقعت في كمِّ عمرو، فعجبوا من ذلك وقالوا: «ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا، هذا ما لا يكون أبدًا.» ثم مشى الشماس في أهل الإسكندرية، وأعلمهم أن عمرًا أحياه مرتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا ودفعها إلى عمرو فانطلق ومعه دليل يريه الطريق. أما أنا فلما رأيت الإسكندرية وما هي عليه من العظمة وأسباب الرفاه آثرت البقاء فيها، فاستأذنت عمرًا في ذلك فأنكر عليَّ الأمر فقلت: «أبقى فإن لم أرَ خيرًا عدت إليك.» فتركني ومضى وبقيت أنا، وكان في جملة من لقينا من رجال الإسكندرية عالم كبير هو يحيى النحوي، وكان يعرف شيئًا يسيرًا من اللسان العربي، فأمسكني عنده لأعلِّمه لساننا هذا، أو لعل له غرضًا آخر لم أعلمه، فسُررت ببقائي عنده، وأُعجبت بزينة الإسكندرية وبذخها وعمارتها، ولم يمضِ عليَّ زمن طويل في بيت هذا الرجل حتى تعلمت اللسان الرومي وأحببت ديانة النصارى، وفضَّلتها على ما كنت فيه من وثنية الجاهلية، فعُمدت وصرت نصرانيًّا، وبقيت في بيت يحيى هذا؛ لأني علقت به لعِظم ما لقيته من حسن سريرته وتقواه وعلمه، ثم حدث ما حدث بينه وبين جماعة الروم من الاختلاف المذهبي، وانحاز إلى حزب الأقباط اليعاقبة، فاضطهده الروم اضطهادًا شديدًا وجرَّدوه من رتبه وأملاكه، فانزوى بنفسه كما تعلم، وقال لي: «اسمع يا زياد، ها أنا ذا قد أصبحت مضطهدًا، وربما لا أستطيع القيام بما فيه راحتك أو لعل في وجودك عندي ضررًا عليك من جماعة الروم، فإذا رأيت أن تذهب إليهم فافعل.» فثارت في نفسي الحَمِيَّة العربية وقلت: «والله لأبقين على ولائك، فإنا نحن العرب إذا آكلنا إنسانًا أو آخيناه كان لنا ما له وعلينا ما عليه، فأنا باقٍ على ولائك أقوم بخدمتك ما استطعت إلى أن يقضي الله ما يشاء.» فبقيت عنده أقوم بخدمته إلى أن سمعنا بظهور الإسلام وانتشاره ونهوض رجاله للفتح، وما فتح الله على أيديهم من الأمصار كالشام وغيرها، وعظمت شوكتهم وتوطدت دولتهم، ونحن في الإسكندرية نقاسي العذاب ألوانًا من جرَّاء الاضطهاد الذي يسومنا إياه الروم، لأننا على غير مذهبهم كما تعلم، وكنت قد علقت بيحيى هذا وعلق بي، وصار يأتمنني على أسراره ويركن إليَّ في كل شئونه، فبعث إليَّ ذات يوم فجئته فقال لي: «ما رأيك يا زياد؟» قلت: «فيمَ يا سيدي؟» قال: «إني أرى من ظلم هؤلاء الروم وعسفهم ما تكاد تزهق له روحي، وقد سمعت بما قام به عرب الحجاز هذه الأيام وما فتحوه من الأمصار حتى أخرجوا الروم من الشام والعراق وغيرهما، وقد علمت أنهم قادمون إلى مصر وأميرهم صاحبك عمرو، ويلوح لي أنهم سيفتحونها عَنْوَة كما فتحوا غيرها من الأمصار، وقد أخبرني بعض الرهبان الذين فروا من وجوههم من دمشق وغيرها أنهم أقوام أشدَّاء يصبرون على الحرب صبر الأسود، لا يهابون الموت ولا يخافون السيوف، وأنهم مع ذلك أهل مروءة وذمام، فإذا جاءوا مصر فلا شك أنهم يفتحونها، ولا يخفى عليك أن جماعة القبط يكرهون الروم لما بينهما من الاختلاف المذهبي المشهور، والمقوقس رئيس القبط، وهو حاكم البلاد، وقد أسرَّ إليَّ أنه يفضل العرب على الروم إذا ضمنوا له حياته وعاهدوه على الدفاع عن القبط، ولكن المقوقس لا يستطيع المجاهرة برأيه هذا، ولا يرى وسيلة لإبلاغه العرب، وقد وكل إليَّ أن أفعل ذلك، ولا أرى رجلًا أثق به وأركن إليه غيرك، ولا سيما أنك تفهم لسانهم وتعرف قائد حملتهم نفسه، فأنت أفضل من ننتدبه لهذه المهمة، فهل لك أن تقوم بها؟ وهل تظن العرب إذا عاهدوا على أمر قاموا بعهدهم؟» قلت: «نعم يا سيدي، إن العرب أكرم الناس أخلاقًا وأوفاهم عهودًا، ولك في خادمك هذا دليل واضح، وأنا واثق أن العرب إذا عاهدوكم على أمر قاموا بعهدهم.» فدفع إليَّ كتابًا مكتوبًا على ورق البرديِّ باللسان القبطي، وهو الذي رأيته بيدي أمس، وقال لي: «خذ هذا الكتاب، واذهب به إلى معسكر العرب حتى تلتقي بهم فادفعه إلى عمرو بن العاص بعد أن تشرح له الحالة شفاهًا.» فحملت الكتاب وخرجت من الإسكندرية أبحث عن العرب ومقامهم حتى علمت أنهم قادمون إلينا وسينزلون هذا المكان، فوصلت صباح أمس إلى هذا المعسكر فرأيته للروم، وفيه بعض العرب، فاختلطت بهم، وتظاهرت بأني من عرب غزة، وأني رافقتهم، وأن ثيابي هذه سلبتها من عساكر الروم هناك ولبستها، فعلمت منهم أن عمرًا سيصل قريبًا إلى هذا المكان، فقلت: لأصبرن حتى يجيء وأقضي مهمتي.»
•••
فلما سمع مرقس قصة زياد وثق به وركن إليه، وعلم أنه على دعوته، وأنهما شريكان في الأمر، ولكنه استغرب حكاية عمرو، واستبشر بوقوع الكرة في كمِّه وقال: «يلوح لي يا زياد أن الكرة لم تخطئ موضعها.» ثم عاد إلى ما شغل باله من أمر يوقنا فقال: «وهل علمت أمر البطريق يوقنا وسبب إسلامه؟»
قال: «علمت من بعض رجاله العرب هنا أنه كان حاكمًا على مدينة حلب من بلاد الشام، وأنه لما رأى فوز العرب وشدة بطشهم وأنهم فتحوا مدينته انحاز إليهم واعتنق ديانتهم، وأما رجاله فهم مطيعون له في حربه، ولكنهم في الغالب باقون على ديانتهم.»
فتذكر مرقس حينئذ ما قاله رسول يوقنا الذاهب إلى أرمانوسة، فقال في نفسه: «إن الرجل مخادع ممارق، وأظنه يريد بسيدتي أرمانوسة سوءًا، فهو يتظاهر بأنه قادم بأمر قسطنطين بن هرقل، بينما يريد حملها لنفسه، والله لأكيدن له كيدًا.»
ثم قال زياد: «ها أنا ذا قد أطلعتك على حقيقة أمري، فما هي حقيقة أمرك؟»
قال مرقس: «أرى يا أخي أن بين حكايتي وحكايتك مشابهة، وما يهم أحدنا يهم الآخر.» وحكى له ما جاء من أجله، ثم قال: «ولكنني في شغل شاغل الآن بسيدتي أرمانوسة، ولا أدري كيف أنقذها، فقد علمنا الآن أنه إنما جاء نصيرًا للعرب على فتح مصر، فما العلاقة بين الأمرين؟ إني لأراه يريد شرًّا بسيدتي، وقد أصبحت في قلق عليها، فما رأيك؟»
ففكر زياد قليلًا ثم قال: «لا تُبالِ بهذا الخائن، فإني على يقين من حسن ذمام العرب، وإذا أخبرنا عمرًا بحقيقة الأمر وعاهدناه على صيانتها وحفظها فإنه يقوم بعهده، وغدًا إن شاء الله أدخل عليه وأطلعه على جليَّة الخبر، وإذا شئت أن تكون معي فإنك ترى بعينيك وتسمع بأذنيك ما قلته لك عن شهامة العرب وكرم أخلاقهم، ولكنني أود أن أدخل عليه بلباس البدو لكي يعرفني حالما يراني.»
فتذكر مرقس ثياب البدو التي حملها من بلبيس فقال: «إن عندي ثوبًا بدويًّا حملته من بلبيس، فهل تريد أن تلبسه؟» ففرح زياد به وقال: «أود كثيرًا أن أدخل عليه به، فأين هو؟» قال: «قد خبأته في مكان ما، وسأعطيكه الليلة.»
ثم رجع الاثنان وقد سُرَّ كل منهما بالآخر، وقضيا بقية ذلك اليوم في المعسكر يتفرجان. ثم غادراه فرأيا عبيد العرب قد خرجوا يجمعون الحطب، ولما أمسى المساء ظهرت النيران، فرأيا الأسمطة أمام خيمة كل أمير والذبائح قد ذُبحت وجلس الناس للطعام.
ولما غابت الشمس سمعا المؤذن يؤذن، وقد قام المسلمون للوضوء والصلاة، وبعد تناول الطعام اجتمع الأمراء إلى خيمة عمرو، وبين أيديهم قراء القرآن يتلون الآيات، والناس يذكرون ويكبرون ويشكرون الله على ما آتاهم من النعم ويسألونه النصر على الأعداء، فقضيا تلك الليلة في عسكر يوقنا، لأنهما كانا في لباس الروم مثل عسكره، وفي الغداة لبس زياد لباس البدو، فالتحف الشملة وتعمَّم بالعمامة، وسار هو ومرقس من معسكر يوقنا حتى وصلا إلى معسكر عمرو، فدخلا بين الخيام فإذا بالعرب قد قاموا للصلاة وكلهم رُكَّع يصلُّون، وشاهدوا على كثير منهم ثيابًا رومانية ودروعًا وأسلحة وأدوات يستعملها الروم في قضاء حوائجهم، فقال زياد: «انظر يا مرقس إلى آثار النصر وبقايا الفتح، إن هؤلاء العرب لم يرتدوا في حياتهم مثل هذه الألبسة، ولا رأوا مثل هذه الأدوات التي غنموها من الروم في حروبهم بالشام.»
وكانا قد شاهدا بين أيدي هؤلاء البدو كثيرًا من الأثاث الروماني كالأبسطة والطنافس وعليها رسوم رومانية، وفيها صور بعض القديسين والأبطال، قد فرشها العرب على التراب يجلسون عليها أو يلتحفونها، وبين أيديهم طسوت من الفضة، وصحف من أبدع الصنائع، وكلها أسلاب من مدن الشام.
•••
سار مرقس وزياد حتى وصلا إلى فسطاط الأمير فإذا هو قائم على عُمُد متشامخة، والفسطاط أبيض من الخارج، وداخله مبطن بالحرير المزركش، وفي أرضه البسط والطنافس، وعرفا خيمة عمرو من العلم الأسود والكتابة التي عليه، وكانا قد شاهداه بيد وردان ساعة وصول الجند، فلما اقتربا من الفسطاط استقبلهما وردان عند الباب، وقد عجب لاجتماع هذين الرجلين على تناقض لباسهما، فسألهما عن غرضهما فقال زياد بلسان عربي فصيح: «نريد مقابلة الأمير.» فقال وردان: «ومن الرجلان؟» قال زياد: «رسولان يريدان الدخول على الأمير.»
فدخل وردان ثم عاد ففتح لهما الباب، فدخل زياد بعد أن خلع نعليه كعادة العرب، وعمرو جالس في صدر الخيمة جلوس العرب في خيامهم؛ لأنها لخلوها من الجدران الصلبة لا يستطاع الاستناد إليها، فكانوا يجلسون الأربعاء، أو يجثون قعودًا ويُلقون أيديهم على الركبتين أو يعقدونها عليها فيستريحون، ويقوم ذلك عندهم مقام الاستناد. أما عمرو فكان على ركبتيه سيف طويل صنع اليمن، وأمراؤه بين يديه وفي مثل جلوسه، وفي بعض جوانب الفسطاط رجل جالس الأربعاء يتلو القرآن والكل يصغون إليه يرددون ما يقوله بين شفاههم، فلما دخل زياد أراد أن يبغت عمرًا بتحية الجاهلية لينبهه إلى حاله فقال: «أبيت اللعن أيها الأمير.»
فبُغت عمرو ومن في مجلسه من هذه التحية، وقد كادوا ينسونها لاستبدالهم بها بعد الإسلام تحيته: «السلام عليكم»، فأجابه عمرو على الفور: «أعوذ بالله من كفر الجاهلية، ما بالك تحيينا بتحية الجاهلية يا أخا العرب؟» قال ذلك ونظر إلى الرجل، فتذكر أنه يعرفه، ولكنه نسي اسمه؛ لأنه قد فارقه منذ عشرين سنة أو تزيد، وقد كان شابًّا فأصبح كهلًا، فأمعن النظر فيه وزياد لا يزال واقفًا ينتظر الأمر بالجلوس، وكان القادم على الأمير عندهم لا يجلس إلا بعد أن يدعوه الأمير إلى ذلك ثلاث مرات، فقال عمرو: «من الرجل؟»
فأجاب زياد: «إن الرجل أخوك في الجاهلية، ورفيقك إلى الإسكندرية.»
فتذكره عمرو، فنهض له قائلًا: «أهلا بزياد.» وعانقه، وبعد أن تصافحا أمسكه بيده وأجلسه إلى جانبه وهو يقول: «مرحبًا برفيق الصبا، أهلًا بالقادم، أين كنت؟ وما طِلْبتك؟ وما الذي جئت به؟»
قال: «هل يأذن لي الأمير بخلوة؟»
قال: «أجل.» ثم أشار إلى أهل مجلسه فخرجوا، وبقيا وحدهما.
فقال زياد: «لي رفيق لا يزال بالباب، فهل يأمر الأمير بإدخاله؟» فأمر عمرو وردان فجاء بمرقس، وفعل مرقس مثل ما فعل زياد، فخلع نعليه وقبَّل يد الأمير، فأذن له بالجلوس فجلس وقد هاله الموقف.
فقال عمرو: «ومن الرفيق؟» قال زياد: «رسول من رسل القبط، وسأشرح لك حاله يا مولاي.»
قال: «قل يا زياد، إني والله قد أنست بلقائك بعد طول الفراق، ولكنني آسف لبقائك على جاهليتك، وقد منَّ الله على خلقه بالإسلام، وهو الدين الحق الذي سيظهر على الدين كله.»
قال زياد: «لست جاهليًّا، ولكني من أهل الكتاب.»
قال: «وأي كتاب؟» قال: «النصرانية.»
قال: «إن النصارى أهل كتاب حقًّا، وقد أوصانا بهم النبي ﷺ خيرًا. قص علينا خبرك يا زياد، إني والله في لهفة لمعرفة حالك وما كان من أمرك بعد أن فارقناك بالإسكندرية. ألا يزال ذلك القسيس حيًّا؟»
فقال: «لا يا سيدي، إنه مات، وطالما أثنى على شهامتك وذكرك بالخير.»
فقال: «وكيف قضيت هذه السنين بالإسكندرية؟»
فقص عليه حكايته من أولها إلى آخرها حتى وصل إلى الكتاب الذي يحمله فأخرجه من جيبه ودفعه إليه فإذا هو مكتوب بالقبطية، فقال عمرو: «هل أدعو المترجم ليقرأه لنا؟»
قال: «لا، بل أنا أترجمه.»
قال: «وهل تعلمت لسانهم وحفظت لهجتهم؟» قال: «نعم يا مولاي.»
من المقوقس حاكم مصر إلى الأمير عمرو بن العاص قائد جند
العرب
سلام
أما بعد، فإننا معشر الأقباط قد علمنا مجيئكم إلى بلادنا ووقع إلينا ما أوتيتم من النصر في بلاد الشام وغيرها، وعلمنا ما قدَّر الله لكم من الغلبة على جماعة الروم حيث حللتم؛ وما ذلك إلا لما أحبوا من دنياهم وما أحببتم من آخرتكم، وقد كان نبيكم قد بعث إلينا منذ بضع عشرة سنة يدعونا إلى الإسلام وأن نسلم إليه البلاد، وهذا كتابه مرسل مع حامل هذا الكتاب لتقرءوه، فأجبناه بأن ذلك ليس في طاقتنا؛ لأننا محكومون وأن الأمر راجع إلى ملكنا هرقل. أما وقد رأينا ما عززكم الله به من النصر، وقد جئتم إلى هذه البلاد تريدون فتحها، فقد بعثت إليكم بهذا الكتاب لأعلمكم أننا نحن الأقباط لسنا أعداءكم ولا نريد محاربتكم، وإنما أعداؤكم هم الروم وجندهم، فإذا قدر لكم النصر — والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء — فاذكروا أننا في ذمتكم وأوصوا رجالكم ألا يؤذونا، وألا يسيئوا إلى رهباننا، أو يهدموا أديرتنا؛ فإنها بيوت الله، وأهلها لا يقومون بأي حرب، ولو كان الأمر عائدًا إلينا ما رميناكم بنبل، ولا جرَّدنا عليكم سيفًا، وجماعة القبط باقون على قولي هذا إلى أن يقضي الله بما يشاء.
وكان زياد يقرأ وعمرو مصغٍ إليه ينظر إلى الأرض، ويمشط لحيته بأصابعه، فلما أتم قراءة الكتاب رفع عمرو رأسه وقال: «وأين كتاب نبينا ﷺ؟» فمد زياد يده فأخرجه. وكان محفوظًا في صندوق صغير من العاج، ففتحه وأخرج الكتاب منه، وإذا هو من جلد، فتناوله عمرو ونشره وتأمل موضع الخاتم فإذا هو مكتوب فيه «محمد رسول الله» على ثلاثة أسطر.
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتِك الله أجرك مرتين. فإن توليت فعليك إثم كل القبط. يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. ويلي ذلك خاتم كما يلي:
فقال عمرو: «صدق رسول الله ﷺ. أما ما يلتمسه المقوقس من رعاية طائفته وحماية الأديرة والرهبان فذلك مما لا نحتاج فيه إلى وصاية؛ لأننا أُوصينا به من قبل، فقد حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا؛ فإن لكم فيهم صهرًا وذمة.» وقد أوصانا الله خيرًا بالرهبان والقسيسين إذ قال في كتابه العزيز: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، ومن وصايا أبي بكر رضي الله عنه قوله يوصي المسلمين وقد ساروا للجهاد: «وستمرون على قوم في الصوامع رهبان فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم.» فليطمئن القبط أنهم في ذمتنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإنما جئنا لمحاربة الروم، فإذا منعونا حصونهم وأبَوا الإسلام أو الجزية وضعنا فيهم السيف حتى يقضي الله ما يشاء وهو خير الحاكمين، فإن الرجل منا ينتظر شهادته، فإذا نالها أقام في النعيم وهو خير له وأبقى، وسأكتب إلى المقوقس كتابًا في ذلك.»
•••
فقال زياد: «إني لأعجب لحال الإنسان وتقلبات الزمان يا عمرو، ألا تذكر يوم كنا في الجاهلية لا نعرف الدين؟ إني أذكر أيامًا كنا نعظم فيها أصنام الكعبة ونستخير هُبل الأكبر ونذبح الذبائح وعيوننا مغمضة من جهلنا.» فتنهد عمرو وقال: «إن الجاهلية عمًى، وإني لأحزن على أيام مرت قبل الإسلام، وأشعر بعظيم ما ربحت بالهداية التي اهتديتها، وأود لكل امرئ مثل ما كسبت.» فقال زياد: «وكيف كان إسلامك؟» قال: «أما إسلامي فجاء متأخرًا، وقد كنت من أعداء النبي ﷺ، فإنه لما قام يدعو الناس إلى التوحيد اضطهدته قريش، وشددوا النكير عليه حتى اضطر أصحابه أن يهاجروا إلى النجاشي ملك الحبشة فأمَّنهم، ثم أرسلتني قريش ورفيقًا لي بهدية إلى النجاشي ليسلم لنا المهاجرين، فأبى وكان عونًا لهم علينا، فعظُم عندي أمر صاحب الدعوة، ووقعت في نفسي رهبة منه، لكني بقيت على دين الجاهلية إلى السنة الثامنة للهجرة، وكنت في أثناء ذلك أفكر في أمره ﷺ، فوجدت أعماله ناطقة بصدق دعوته، فاجتمعت يومًا بخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة العبودي، وهما لم يسلما بعد، فقلت لخالد: «أين يا أبا سلمان؟» قال: «والله لقد استقام الميسم، إن الرجل لنبي. اذهب والله فحتى متى؟» فقلت: «ما جئت إلا للإسلام»، فقدمنا على النبي ﷺ فتقدم خالد فأسلم، ثم تقدمت أنا، وكانت أول مرة لقيته فيها وجهًا لوجه، فملكتني الهيبة لمنظره ولما جمع الله فيه من المحاسن.»
فاشتاق زياد لمعرفة أوصاف النبي فقال: «وما الذي أرهبك منه؟ وما هي أوصافه؟»
فقال عمرو: «والله يا زياد، إني لا أنسى ساعة لقيته فيها، فإن صورته لا تزال مرسومة على لوح صدري منذ رأيته يوم جئت ألتمس الإسلام، وأما صفاته فهو ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، مشرب بالحمرة، وكان لما لقيته واقفًا، فمشى فإذا هو يتكفَّأ كأنما ينحطُّ من صبب، لم أرَ قبله ولا بعده مثله، وكان أدعج العينين، سبط الشعر، سهل الخدين، إذا التفت التفت جميعًا، ولعله كان إذ ذاك قائمًا من الصلاة، وقد تحدَّر العرق على وجهه كاللؤلؤ الرطب، وفوق كل ذلك فإن الهيبة كانت تجلِّله فلم أستطع النظر إليه طويلًا، فوقفت بين يديه فقال لي: «ما جاء بك يا عمرو؟» قلت: «جئت أطلب الهداية يا رسول الله»، قال: «أتريد الإسلام؟ إذن قل: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله»، ثم دخل عثمان بن طلحة فقال مثل قولي، وصلينا جميعًا، وقد شعرت والله يا زياد بغشاوة انقشعت عن عيني ساعة الشهادة.»
وكان عمرو يكلم زيادًا وعواطفه تتكلم معه وقلبه يتهلل فرحًا، ثم قال: «وأخذت من ذلك الحين أجاهد في سبيل الله، وآخر مرة فعلته فتح بيت المقدس، وأتيت منها إلى مصر كما علمت، وترانا لا نقدم بلدًا إلا فتحناه عَنْوَة أو صلحًا، وكل ذلك ببركة رسول الله ﷺ ولأن يقاتل أحدنا العدو رغبة في الآخرة ويستشهد في سبيل ذلك، خير له من الذل، بل هو خير من الحياة الدنيا؛ لأن الدنيا دار فناء والآخرة دار قرار.» وكان عمرو يتحدث والعرق يتصبب منه لتهيُّج عواطفه وشدة رغبته في الجهاد.
فقال زياد: «لا عجب يا عمرو إذا نُصرتم في حروبكم وقد عقدتم الخناصر وأخلصتم النية في الجهاد، وأما جماعة الروم فإنما همهم التفاضل فيما بينهم، وفي قيام بعضهم على بعض ما يحول بينهم وبين النصر، وكأني بدولتهم قد دالت والشمس قد مالت.»
وكان مرقس في أثناء ذلك صامتًا لا يفهم ما دار بينهما، ولكنه كان معجبًا بملامح عمرو، وما يلوح في وجهه من البسالة، وما ينبعث من عينيه من أشعة الذكاء، وكان يود الدخول فيما جاء من أجله؛ لأنه خاف أن يصل رسول يوقنا إلى أرمانوسة فتنطلي الحيلة عليها فيصيبها شر، على أنه لم يكن يجسر على الدخول في الحديث من تلقاء نفسه.
ثم التفت عمرو إلى زياد قائلًا: «ومن هو صاحبك يا زياد؟» قال: «هو من قبط مصر أيها الأمير، من جند المقوقس، وقد جاء ليقص عليك حكايته، ويسألك أمرًا لا شأن للحرب فيه، ولكننا قد أطلنا الحديث الآن وأنت قادم من سفر تحتاج إلى الراحة، فلا نُثقل عليك أكثر من ذلك.»
قال: «إن التعب لا يُقعدنا عن حاجات الناس، فإن نبينا ﷺ إنما أُرسل رحمة للعالمين.»
فقال زياد وقد شعر أنه أطال الحديث: «بارك الله فيك أيها الأمير، لا زلت ملاذًا للطالبين. أما أمر صاحبنا فليس مما يُسرَع إليه، وإذا رأى مولاي أن نعود في الغد فعلنا، وأما الآن فإننا نستأذنه في الانصراف.»
قال ذلك وهمَّ بالوقوف، فوقف مرقس وهو لم يفهم ما قيل، فوقف عمرو وقد أجاب زيادًا إلى طلبه، ونادى وردان فحضر فقال: «هذان ضيفان علينا، وقد شعرت باستيحاش هذا القبطي لحديثنا لأنه لا يفهمه، فعليك بمحادثته بلسانه الليلة حتى لا يقول إنه رأى في ضيافتنا وحشة.»
فقال وردان: «لبيك»، واصطحب الرجلين وخرج بهما ولما أفهم مرقس ما دار بشأنه وهم خارجون أسف لتأجيل لأمر، ولكنه لم يرَ مندوحة عن الإذعان.
وسار بهما وردان إلى خيمته، وأنزلهما على الرحب والسعة، وقضوا بعض ذلك الليل في الحديث عن الإسلام وأخبار الصحابة والفتوحات، وما عُرف به الخليفة عمر بن الخطاب من المناقب الحسان، وما يروى عن النبي من الأحاديث، فسُحر زياد ومرقس بما سمعاه وقالا معًا: «والله إن من كانت هذه مناقبهم وخلالهم لا غرو إذا دوخوا البلاد وفتحوا الأمصار.» وقد أعجبا بنوع خاص بما سمعاه عن عمر بن الخطاب حين جاء عرفجة بن مازن رسولًا بكتاب من أبي عبيدة بما فتح الله على المسلمين، فوصل عرفجة إلى المدينة وعليه قباء فاخر من الديباج، وعلى رأسه مطرف خز مذهب، وهما من أسلاب الروم، فترجَّل عن ناقته، وسلم الكتاب إلى عمر وهو في المسجد يصلي، فنظر إلى عرفجة شزرًا وقال: «من الرجل؟» قال: «عرفجة بن مازن» فقال: «يا ابن مازن أما كان لك في رسول الله أسوة حسنة؟ إن هذه ثياب الجبارين ومن جعل الله لهم الدنيا جنة، وهذا الديباج حرام على الرجال منا؛ لأنه لا يصلح إلا للنساء، وهذا الذي عليك تصدَّق به على فقراء المدينة. أما والله لقد دخلت يومًا على رسول الله ﷺ وهو نائم على سرير مزمل بشريط، وليس بين جلده وبين الشريط شيء، وقد أثَّر الشريط في جلده، فلما رأيت ذلك بكيت فقال: «يا عمر ما الذي أبكاك؟» فقلت: «يا رسول الله إن كسرى وقيصر يعبثان في ملك الدنيا وأنت رسول الله بهذه المثابة.» فقال: «يا عمر ما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» فناوله عرفجة الكتاب وسار من ساعته وخلع الديباج وأهداه إلى خالته.»
وحكى لهما وردان حكايات أخرى كثيرة مثل هذه فازداد إعجابهما، وكان يخاطبهما بالقبطية، وود مرقس لو كان المقوقس معهم ليرى أمر العرب وحالهم، ويزداد كرهًا للروم ورغبة في التخلص منهم، ثم رأى أن يستطلع من وردان أمر يوقنا وعلاقته بقسطنطين أو المسلمين، فقال: «وكيف ترون يوقنا؟» فالتفت وردان إلى مرقس وهز رأسه قائلًا: «إنه يدعي الإسلام والقيام بنصرته، وقد وثق به أميرنا، ولكنني والله لا أظن به خيرًا، ولا أعتقد صدق ما يدعي، وقد جاء أمام جيشنا ليحاربكم، ونحن لا نبالي إذا كان معنا أو علينا فإن سيوفنا تنصرنا حيثما حللنا.»
قال مرقس: «وهل قسطنطين بن هرقل يحبه؟»
قال وردان: «وكيف يحبه؟ إنه لو استطاع قتله ما تأخر لحظة عن إذاقته الموت الزؤام لأنه يحارب قومه.» ففهم مرقس أنه جاء بدسيسة للإيقاع بسيدته، فصبر ليرى ماذا يكون من أمره.
وباتوا ليلتهم، وأفاقوا في الصباح على أصوات المؤذن والمسلمون قيام للصلاة، وإذا بيوقنا قد جاء إلى خيمة عمرو، وخلا به برهة ووردان معهما، ثم خرج وردان فنادى الأمراء ليحضروا، فدخلوا خيمة عمرو، ولبثوا يتفاوضون، وجاء في أثناء ذلك وردان وأخبر زيادًا ومرقس أن الأمير قد عزم على المسير إلى الفرما في ذلك اليوم.
فعظم الأمر على مرقس لأنه كان يود مخاطبة عمرو في أمر يوقنا حتى إذا كان قد جاء بدسيسة فعليه أن يحبط حيلته ويدبر وسيلة لإنقاذ سيدته أرمانوسة بواسطة عمرو، فبهت برهة ثم قال: «وما الذي حمله على سرعة المسير إلى الفرما، وقد كان في ظننا أنه يستريح بضعة أيام قبل مهاجمتنا؟»
قال: «ألم ترَ يوقنا قد اختلى به في هذا الصباح؟ فالظاهر أنه علم أن المقوقس مرسل نجدة إليها فأرادوا معالجتها قبل وصول المدد.»
فتحير مرقس وظهر الارتباك على وجهه وأدرك زياد فيه ذلك فقال له: «لا ترتبك، لعلنا نخاطبه بشأن ما تريد غدًا بعد وصولنا إلى ظاهر المدينة، فإن الجند يصل إلى الفرما عند الظهيرة، ولا بد قبل المهاجمة من الاستعداد.»
فصبر مرقس على مضض، ثم تركهما وردان وذهب إلى خيمة عمرو للتأهب، فخلا زياد بمرقس وقال له: «مالي أراك مضطربًا؟»
قال: «إني والله خائف على سيدتي بعد ما علمت أن يوقنا هذا أراد بها الغدر، وأنه ليس رسول قسطنطين إليها، فلعله يريد اختطافها لنفسه، وقد أرسل رسله لهذه الغاية.»
وفيما هما في ذلك شاهدا هجانًا قادمًا من بلبيس، فحقق مرقس النظر فيه فإذا هو بروفس رسول يوقنا فقال: «هذا يا زياد رسول يوقنا قد عاد من بلبيس، هلمَّ بنا نسأله عن نتيجة مخابرته.» فأسرعا إليه خارج المعسكر حتى لقياه فناداه مرقس، وقد أظهر ارتياحه لرؤيته، وسأله عن جواب أرمانوسة فتبسم قائلًا: «إنها في خير، وقد سرَّت سرورًا عظيمًا بما أخبرتها به، وأخذت في التأهب وإعداد عدتها للمسير، وأمرتني أن أستعجلك الرجوع إليها، وقد أهدتني هدية نفيسة مقابل بشارتي.»
قال ذلك وساق هجينه إلى خيمة يوقنا. أما مرقس فقال لزياد: «ها إن الحيلة قد انطلت على سيدتي، ولا أدري كيف أفعل؟ وقد طلبت الإسراع في ذهابي إليها، ولكنني لا أرى أن أذهب قبل أن آخذ موثقًا من عمرو ليدفعن عنها كل سوء.»
قال: «أما أنا فأرى أن تنتظر إلى ظهر اليوم بعد وصول المعسكر إلى ظاهر الفرما، وأنا أبذل الجهد في مقابلة عمرو وعمل المستطاع، فلنقف الآن على هذه الأكمة لنشهد نظام الجند العربي وتأهبه للحرب، وسترى أنهم سيتركون خيامهم وأثقالهم هنا، ويذهبون بأنفسهم وعدتهم فقط.»
فصعدا إلى ربوة ووقفا ينظران إلى الجند وانتظامه، فإذا بالأعلام قد تفرقت كل علم إلى جهة، فحمل وردان علم عمرو بن العاص ومشى في المقدمة، وحمل أميران آخران علميهما، ووقف أحدهما على الميمنة والآخر على الميسرة، فاجتمعت الجنود إلى هذه الأعلام كل إلى أميره، ثم سمعا أصوات المنادين يقولون: «النفير النفير، يا خيل الله اركبي.» فقال مرقس: «وما هذه المناداة؟» قال: «إنهم يدعون الجند، وهذا شعار لهم يقولونه إذا أرادوا الركوب للحرب.» فقال مرقس: «وكيف تعرف هؤلاء الأقوام، وهل هم من قبيلة واحدة، فإني أرى تشابهًا في ملابسهم.»
قال: «إن الفرق في لباسهم لا يظهر لك لأنه طفيف، ولكنهم ليسوا قبيلة واحدة، فانظر إلى الذين يحملون النشاب، وهم خفاف سراع، إنهم من رجال اليمن، وهم مشهورون برمي النشاب.»
فقال مرقس: «أرى تنظيم جندهم يشبه نظام جندنا، فهذه المقدمة والجناحان والقلب والساقة، ولكني أعجب لاختلاف ألوان راياتهم خلافًا لنا، فإن راياتنا متشابهة.» قال: «علمت أمس من بعض العرب أن الراية الصفراء هي في الغالب راية المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة مع النبي، وهم أول القائمين بنصرة الإسلام، وترى أنهم قد وقفوا في قلب الجند.» فقال مرقس: «ولكنني أرى راية عمرو سوداء.» قال: «إنه ليس من المهاجرين، فقد أخبرني أمس أنه أسلم بعد الهجرة.»
ثم رأيا الخيالة قد تفرقوا على الميمنة والميسرة وفي المقدمة، وهم على خيل من الخيول العربية المشهورة، فقال مرقس: «أرى خيولهم ضئيلة ضامرة، وقد كنت أسمع بجودة خيل العرب.» فضحك زياد وقال: «إن خيل العرب أجود، وهي موصوفة بالرقة والسرعة، ولا عبرة بكثرة اللحم.»
ثم نظر مرقس إلى مؤخر الحملة فإذا بالهوادج محمولة على الجمال فقال: «تقول يا أخي إنهم يسيرون برجالهم للحرب وتبقى الخيام هنا، ولكن ها أنا ذا أرى الهوادج محمولة وفيها النساء والأولاد!»
قال: «إن العرب إذا ساروا إلى الحرب حملوا نساءهم معهم، فإنهن يحرضن الرجال على الحرب ويحثثنهم فيستحيون منهن إذا أحسوا بضعف أو مالوا إلى الفرار.»
وفيما هما ينظران إلى تنظيم الجند إذا بعمرو قد جاء على فرسه ووردان راكب إلى جانبه يحمل العلم، وعمرو يخترق الجند، فينتقل من فرقة إلى أخرى، فقال زياد: «تعالَ نقترب من الجند لنسمع ماذا يقول عمرو في طوافه.»
فنزلا حتى دنوَا من المعسكر فإذا بعمرو يطوف في الرجال يرتب صفوفهم ويحرضهم على الثبات، فيذكرهم بما نالوه من النصر في الشام وبيت المقدس ويقول: «يا أهل الإسلام والإيمان، يا حملة القرآن، يا أصحاب محمد ﷺ، إننا ذاهبون لمقابلة الروم، فاصبروا صبر الرجال، وثبتوا أقدامكم، ولا تزايلوا صفوفكم، ولا تنقُضوا نيَّتكم، ولا تخطوا خطوة إلا وأنتم تذكرون الله، ولا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، وألزموا الصمت إلا من ذكر الله، ولا تحدثوا حدثًا حتى آمركم.» ثم تحول إلى مكان آخر من الجند وقال: «معاشر العرب، إنكم في بلاد العدو بعيدون عن الأوطان، ولا ينجيكم إلا الطعن والثبات في الحرب، فإذا صبرتم وجاهدتم ملكتم الرقاب، وإن وليتم فليس وراءكم إلا المفاوز والبراري، وعين الله ترقبكم.»
ثم سار إلى مكان الهوادج وخاطب النساء قائلًا: «إن رسول الله ﷺ قال: «إن النساء ناقصات عقل ودين»، فكنَّ ممن حافظن على دينهن، وقدِّمن في ذلك النية، وحرضن أزواجكن على القتال، ومن رجع منهم منهزمًا فأحصبن وجهه بالحجارة، واضربن جواده بالعمد، وأظهرن أولادكن لأزواجكن، وقلن لهم: «قبح الله وجه رجل يفر عن حليلته، فلستم بعولتنا إذا لم تمنعونا»، حتى يرجعوا.» فلما سمعت النساء ذلك وقفن متنمرات مرتجزات يقلن الشعر.
كل ذلك والناس يوحدون ويهللون ويكبرون، ثم انتظمت الحملة ومشى الجند، فجعل مرقس ينظر إلى خيام يوقنا فإذا هي في مكانها، ولم يخرج يوقنا مع الجند، ولم يخرج أحد من رجاله.
فخاف أن يكون قد اعتزم الذهاب إلى بلبيس وتنفيذ مكيدته على حين غفلة، فجعل يفكر في أمره، ويتردد بين أن يسير إلى بلبيس فيطلع سيدته على ما علمه من أمر يوقنا، أو أن ينتظر حتى يرى عمرًا، وفيما هو في تفكيره التفت زياد إليه وقال: «مالي أراك حائرًا في أمرك؟» قال: «إني خائف من يوقنا ومكيدته، وأخشى أن يسير إلى بلبيس وينفذ مكيدته على غرَّة.» فقال: «إذا كنت ترى ذهابك الآن فافعل، وعليَّ أنا أن أرى عمرًا وآخذ العهد منه، وأبعث به إليك إما كتابة أو شفاها.»
فارتاحت نفس مرقس إلى هذا الرأي وقال: «بورك فيك يا زياد، إني والله لا أنسى لك هذا الصنيع، وأرى أن أبادر بالذهاب حالًا، ولكنني أتيت ماشيًا، فإذا عدت كذلك أخاف الإبطاء، وربما سبقني يوقنا إليها على خيله، فلا فائدة من ذهابي.» فقال زياد: «أما الخيل فلا يجود العرب بها، فإن العربي يضحي بنفسه لأجل فرسه، ولكننا ربما استطعنا الحصول على جمل، والجمل أسرع من الفرس أحيانًا، فهل تعودت ركوب الجمال؟» قال: «لا والله، لم أركبها عمري، ولكني أركبها الآن ركوب المضطر، والاتكال على الله.» ففكر زياد كيف يحصل على جمل، والجند قد ساروا بخيلهم وجمالهم، فنظر إلى الركب الباقي فإذا فيهم بعض الجمال عليها الزاد والخيام، فقال لمرقس: «البث هنا ريثما أعود إليك بالجمل.» ثم تركه وذهب إلى الخيام يجول بينها لعله يرى أحدًا يعرفه فلم يعثر على أحد، فأوغل في المضارب، فلاح له عن بعد جمل سائب في البرية، فعلم أنه يطلب المرعى، فحدثته نفسه أن يقبض عليه ويأتي به إلى مرقس خلسة، ولكنه خاف سوء العاقبة، فوقف برهة يفكر في ذلك فلم يجرؤ على السرقة، ثم نظر إلى الجمل فإذا به يوغل في الصحراء ولا يطلبه أحد، فعلم أنه منسي، فعول على اللحاق به، فإذا اعترضه أحد تظاهر بإمساكه وإرجاعه إلى المعسكر، فسار في أثره حتى توارى عن الناس، فأمسكه وعقله، وعاد إلى مرقس وأخبره أن الجمل معقول هناك، وسارا وهما لا يراهما أحد حتى وصلا إلى مكان الجمل، فحلَّاه وقال زياد لمرقس: «اصعد إلى ظهره وتثبت، فإنك إذا لم تتثبت جيدًا سقطت.» وساعده على الركوب، وأوصاه أن يمسك بالرجل جيدًا، ولم يكد زياد يرفع رجله عن ساعد الجمل حتى وقف الجمل بغتة، ومرقس لا ينتظر مثل هذا النهوض السريع فهوى على ظهره ووقع على الأرض فشُجَّ رأسه وسال دمه.
فصاح: «آه. قد قتلت.» أما الجمل ففر راجعًا يطلب المعسكر، فأمسك زياد مرقس وأسنده إلى صدره، وقد خارت قواه وغاب صوابه، فحار زياد وأُسقط في يده، وخاف على صديقه الموت، وجعل يمسح له دمه.
وبينما هو على تلك الحال شاهد فارسًا عن بعد، علم من لباسه أنه عربي فناداه، فتحول الفارس نحوه مسرعًا، وأخرج قطعة من قماش شد بها رأس مرقس، ورفعه عن الأرض، وقال لزياد: أسنده، ثم ركب فرسه وحمل مرقس أمامه وقد تدلى رأسه على صدره، وساق الجواد قاصدًا المعسكر، وزياد يتبعه وقلبه يخفق حزنًا على ما أصاب صديقه.