أركاديوس يبحث عن أرمانوسة
فلندعهم يفتشون عن مارية، ولنرجع إلى أركاديوس، فقد فارقناه في الحصن بعد مسير بربارة وهو على موعد معها لتطلعه على ما يحدث لأرمانوسة، فقضى بضعة أيام على مثل الجمر إلى أن استبطأ عودتها فقلق، وخاف أن يكون في الأمر خديعة، وندم على إعطائه خاتمه لامرأة لم يرها إلا مرة، ففكر في ذلك طويلًا فلم يهتدِ إلى حل، وأراد أن يرسل رسولًا إلى بلبيس يستطلع الحقيقة فخاف انكشاف السر، فجلس ذات ليلة إلى النافذة التي خاطب بربارة إلى جانبها فتذكر ما مر به، وتقاذفته الهواجس، ثم دخل عليه جندي وقال: «إن سيدي الأعيرج يدعوك إليه حالًا.» فأسرع إليه فإذا هو يتمشى في أرض الغرفة ذهابًا وإيابًا وقد أخذ منه الغضب مأخذًا عظيمًا، فلما دخل أركاديوس سلم عليه وسأله عن أمره فقال: «خذ يا أركاديوس هذا الكتاب واقرأه.» فتناوله فإذا هو مكتوب باللغة القبطية وعليه توقيع البطريرك بنيامين.
فقال: «وما هذا يا سيدي؟» قال: «أنا لا أحسن قراءة القبطية، لكني فهمت من هذا الكتاب أنه مرسل من البطريرك عدو الرومان، وقد فسره لي حالًا.»
فقرأه أركاديوس فإذا هو حقًّا كما قال أبوه، وكان هو الكتاب الذي أرسله جرجس من بلبيس ليعطيه للمقوقس، فعلم أركاديوس أن أباه إذا عرف ما فيه قبض على المقوقس للتوِّ والساعة، وتعاظم الشر بينهما، فيكون ذلك سببًا ليأسه من نيل أرمانوسة، فحرَّف الترجمة وقال: «إن فيه تحريضًا للمقوقس على الروم، وربما كان ذلك على غير رضى المقوقس أو علمه؛ لأن الكتاب مرسل من بنيامين كما ترى.» فأدرك الأعيرج أن أركاديوس يريد إخفاء شيء من الحقيقة فقال: «أراك تمالئ الأقباط على أمرهم يا أركاديوس وتتجاهل الحقيقة، وما أدراك أن ذلك بغير رضى المقوقس، وقد ثبت لنا أن هؤلاء القبط لا يحبوننا؟»
فقال أركاديوس: «وما الداعي لانحيازي إليهم وأنا أول نصير للروم كما تعلم، ولا أحب أحدًا غير الرومان؟»
قال: «لا أنكر صدق انتصارك للروم، ولكنني شممت من كلامك رائحة الدفاع عن القبط، ونفسي تحدثني بأن أبعث إلى المقوقس، وهو الآن في الحصن، فأقبض عليه وأجعله في القيود.»
فحار أركاديوس في أمره، وخاف تفاقم الخطب وذهاب آماله أدراج الرياح فقال: «تمهل يا أبي، إني أعهد فيك التروِّي والحزم. ألا تعلم أن ظهورنا بعداوة القبط يضر بنا؛ لأنهم يرون في ذلك بابًا للخروج عن طاعتنا، والعدو على الأبواب، فيكونون عونًا لهم علينا، فأرى من الحزم أن نتغافل عن أعمالهم، ونظهر لهم الإخلاص إلى أن نرى ما يكون من حربنا مع العرب.»
فتبصر الأعيرج برهة ثم قال: «صدقت يا بني، وقد عزمت على العمل بما رأيت فأبقِ هذا الأمر سرًّا، أما المقوقس فأقسم بشرف الروم وكرسي القسطنطينية لأنتقمن منه، فقد نسي هذا الخائن أصله وخان دولته، وتحدثني نفسي أن أكتب إلى الإمبراطور ليعلم خيانته فلا يصاهره، ولكن صبرًا، فإن لحمه ولحم ابنته وسائر أهل بيته سيكون طعامًا للسمك، فإن غدره سينكشف قريبًا، وعلى الباغي تدور الدوائر.»
قال ذلك وأخذ ينزع ثيابه للرقاد، فودعه أركاديوس وخرج، وقد ازداد بلباله وعظم عليه غضب أبيه مما زاد العراقيل في سبيل حصوله على أرمانوسة، ولما سمع والده يهدد المقوقس ويذكر ابنته تقطع قلبه حزنًا عليها، ولكنه كظم الغيظ ليتدبر الأمر بالحيلة، فقام إلى غرفته، وهو لا يكاد يرى طريقه لشدة التأثر، وبات ليله لا يستطيع رقادًا فأخذ يفكر في أمر أرمانوسة وقسطنطين وأبيه، وقد علم أنها إذا نجت من مخالب قسطنطين فلا يأذن له والده بالاقتران بها.
وفي صباح اليوم التالي جاءتهم الجواسيس ينبئونهم بنزول العرب بالفرما فبعث الأعيرج ابنه أركاديوس يتولى النظر في قطع الجسرين الموصلين بين الحصن والجزيرة أي بينهم وبين البر الغربي كما قدمنا، فلما عاد من مهمته أخذ كتاب أرمانوسة وأخذ في تلاوته، ففهم أنها في ضيق وتستنجد به، ولكنه لم يفهم سبب ذلك الضيق.
فخطر له أن يستطلع ذلك بالحيلة من صديقه أرسطوليس، فذهب إليه في المكان الذي اعتاد أن يكون فيه فلم يجده، فسأل عنه فقيل له إنه ذهب إلى أبيه بالأمس ولا يزال عنده في بعض جهات الحصن، والحصن بقرية كبيرة، فأخذ يسأل الخدم عنه حتى رآه قادمًا فاستقبله مسلمًا، وقال له: «لقد أطلت الغيبة عليَّ يا أرسطوليس، وقد عودتني أن نلتقي كل يوم.»
قال: «كنت في شاغل مع سيدي الوالد بشأن أرمانوسة في هذين اليومين.»
فلما سمع اسم أرمانوسة كاد يتجلى الاحمرار في وجهه فاعتراه الارتباك والتعجب لسبب الاشتغال بها، فقال: «وما هو ذلك الاشتغال؟ لعله خير؟!»
قال: «هو خير إن شاء الله، فإن مولانا قسطنطين بن هرقل قد بعث وفدًا ليحمل أرمانوسة إليه، وسيكون في انتظارها عند بحر الروم ليسير بها إلى القسطنطينية.»
فخفق قلب أركاديوس خوفًا على أرمانوسة أن يفقدها، ولكنه تجلد وقال: «ثم ماذا حدث؟»
قال: «جاء لوالدي كتاب من قسطنطين في ذلك، فبعث إلى حاكم بلبيس أن يسلمها إلى الوفد، وكان بودِّنا أن يذهب أحدنا ليشيعها، ولكن اشتغالنا بالتأهب للحرب حال بيننا وبين ذلك.»
إذا كنت تحب أرمانوسة فأسرع إلى بلبيس لإنقاذها؛ لأنها أصبحت بين مخالب الموت.
فلما قرأ الكتاب اتقدت نيران الغيرة والنخوة في عروقه، فنسي أباه وكل دولة الروم، وأسرع إلى جواده، فركبه وخرج من باب الحصن لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وأطلق لجواده العنان، وكان من خير خيل العرب العتاق حمله إليه صديق له من ضباط الروم في الشام.
وكان الليل حالكًا والطريق وعرًا، ولكنه لم يبالِ شيئًا، فمضى هزيع من الليل وهو على جواده، والجو هادئ وقد ساد الظلام والسكون ولم يكن يسمع إلا صوت وقع أقدام الجواد خفيفًا لنعومة تربة مصر وقلة الحصباء فيها، وبعد منتصف الليل بقليل تعب الجواد فجعل سيره خفيفًا، وأخذ يلتفت إلى ما حوله فلم يشاهد إلا أشباح الأشجار القريبة تمر كأنها أصنام سابحة في الماء.
وفيما هو سائر تتقاذفه الهواجس سمع صوتًا خفيفًا عرف من رنته أنه صوت امرأة تستجير، ثم انقطع الصوت بغتة، وكان لشدة هواجسه في أرمانوسة وما عرفه من الضيق المحيق بها كأنه في حلم يسمع صوتها تستجير، فلما سمع ذلك الصوت خُيِّل إليه أنها في يد العدو وتستجير به، فوقف وأصاخ بسمعه جهة الصوت فلم يسمع شيئًا، فظن ما سمعه وهمًا، فهمَّ بالسير فسمع الصوت ثانية وقد اقترب، وإذا بالمستجير يتكلم بالقبطية ويقول: «أشفقوا على صباي. خافوا من الله إذا كنتم لا تخافون المقوقس.» فخُيِّل إليه أن أرمانوسة بين أيدي أناس يريدون بها شرًّا، فهبَّت الحماسة فيه ونسي نفسه، ولكز جواده، فسار به إلى جهة الصوت، وكان قد سمعه بعيدًا، وبينه بين الصوت غابة من شجر الجميز، فسار بجواده بين الأشجار يحملق ويتطاول بعنقه لشدة الظلام لعله يلمح أشباحًا أو يرى أحدًا، وكانت قرقعة درعه وسيفه أعلى صوتًا من وقع أقدام جواده، حتى إذا اقترب من جهة الصوت سمع قائلًا يقول: «أستنجدك يا قادم وأستحلفك بالله وبالشرف أن تنقذني من هؤلاء اللصوص.»
فأرسل نظره إلى مخرج ذلك الصوت، فرأى ثلاثة أشباح وقوفًا تحت شجرة، ولكنه لم يميز أحدًا منهم لشدة الظلام، فأغار بجوده وناداهم بصوت كأنه الرعد القاصف: «أين هم اللصوص؟ اتركوا الفتاة وإلا أذقتكم المنون بحد هذا السيف.» وجرَّد حسامه، وكان بينه وبينهم نحو عشرين ذراعًا. فركنوا إلى الفرار فتبعهم، فسار كل منهم في ناحية واختفوا بين الأشجار، فخاف أن يبعد عن مخرج الصوت فيخطئ مكان الفتاة، فعاد إلى الشجرة التي شاهد الأشباح تحتها، فرأى شبحًا يتلوى عند أقدام جواده وهو يقول: «حماك الله يا فارس وأنقذك من غوائل الزمان، فقد أنقذتني من مخالب الموت والعار.» فترجل أركاديوس وأمسك المتكلمة وهو في شك من أن تكون أرمانوسة، فإذا بالصوت غير صوتها، لكنه كان مختنقًا من شدة البكاء، فأمسك بيد الفتاة وخاطبها باللغة القبطية قائلًا: «لا تخافي يا فتاة. إنك في مأمن من شر أولاد الحرام.»
وأحس أركاديوس عندما قبض على يدها أنها باردة كالثلج، وهي ترتجف وترتعد، فقال لها: «لا تخافي يا فتاة، قولي لي من أنت؟»
قالت: «إني فتاة مسكينة، قد اختطفني بعض أولاد الحرام يريدون بي سوءًا، فجزاك الله خيرًا على إنقاذي، ولكن احذر أن يغدروا بك وأنت واقف هنا، فإنهم لا يخافون الله، وكأني أرى واحدًا منهم وراء تلك الشجرة.»
وما أتمت كلامها حتى شعر أركاديوس بنبلة مرت بفخذه، ولكنها لم تُصِبه فتحول عن الفتاة وأسرع إلى الجهة التي جاءت منها النبلة وصاح: «ويلك يا خائن، إني والله قاتلك لا محالة، ولا أبالي إذا كنتم مئات أو ألوفًا.» وكان الحسام لا يزال مجردًا، فوثب كأنه الليث الكاسر، وخاف الرجل، فأراد الفرار فأدركه بضربة جندلته وقد صاح قائلًا: «آه قتلتني.» فإذا هو يتكلم الرومانية، فأجابه باللغة الرومانية قائلًا: «أمن جماعة الروم هذه الخيانة؟ تبًّا لكم.» والتفت إلى ما حوله فلم يرَ أحدًا، فتحقق أن القوم فروا، فعاد إلى الفتاة فإذا بها قد خارت قواها ووقعت على الأرض من شدة الخوف وهي تقول: «قُتل الخائن فالحمد لله.» فأمسكها أركاديوس وأجلسها، وهو يود أن يعرف من هي، ثم تذكر حبيبته وتصور أنها في مثل هذا الضيق، فاقشعر جسمه وقال للفتاة: «أين بلدك؟» قالت: «بالقرب من بلبيس يا سيدي.»
قال: «هل تعرفين هذا الخائن الذي يتخبط في دمه؟» قالت: «نعم يا سيدي، هو ابن حاكم القرية.»
قال: «وما الذي يريده منك؟» قالت: «يريد اختطافي من حجر والدي، وقد قضى زمنًا طويلًا يترقب الفرصة للإيقاع بي، حتى تمكن والده الحاكم أن يجعلني ضحية النيل، فأنقذني الله على يد سيدتي أرمانوسة بنت المقوقس، وهي ببلبيس، فلما سمع بذهابها إلى خطيبها قسطنطين صباح أمس، انتهز الفرصة، وجاء في زمرة من رجاله، واختطفني قهرًا بعد أن أوسع بي ضربًا، وفر بي إلى هذه البساتين، وقد كاد يفتك بي، لو لم تأتِ أنت لإنقاذي.»
فلما سمع اسم أرمانوسة خفق قلبه، وازداد الخفقان لما سمع أنها سارت إلى قسطنطين، وأراد تحقق الخبر فقال: «وهل سارت أرمانوسة إلى خطيبها؟ وكيف سارت؟»
قالت: «علمنا ونحن في قريتنا، أن سرية من الجند الروماني جاءت من أنحاء الشام بأمر من الإمبراطور ليحملوها إليه، وسمعنا أنها خرجت من المدينة وسارت برفقتهم.»
قال: «هل رأيتها أنت سائرة معهم؟»
قالت: «لم أرها يا سيدي، لأنني لم أكد أسمع بخروجها للمسير حتى جاءني هؤلاء الخائنون، ولم أعد أعي شيئًا، ولكنني بينما كنت معهم، وهم يعذبونني، وقد حملني بعضهم على جواده، رأيت خيل الروم تسير شرقًا، وأظن سيدتي أرمانوسة معهم.»
فلما سمع ذلك نفذ صبره فقال للفتاة: «وأين الخيل التي جئتم عليها؟» قالت: «لا أدري أين تركوها؟ لأني لم أكن أعي ماذا يفعلون لعظم اضطرابي.»
قال: «وهل نحن بعيدون عن بلبيس؟» قالت: «لا أظننا بعيدين.»
ففكر في خير الطرق للإسراع إلى بلبيس، وماذا يعمل بالفتاة ليأخذها معه، وليس عنده إلا جواده، وخاف إن هو تردد في الأمر أن تذهب أرمانوسة منه فقال: «إني أخشى عليك أن لا تحسني الركوب، فهل تركبين خلفي؟» قالت: «افعل ما بدا لك، فإني حية بفضلك.»
فركب وأردفها، فتمسكت بأطراف ثوبه، وساق جواده قاصدًا بلبيس، وهو يكاد لا يرى الطريق لعظم غيظه.
وفيما هو سائر شاهد أشباحًا عن بعد، وقد أسرعوا إليه على خيول، وصاحوا به: «من القادم؟» فلم يجبهم لعظم ما به، فلما اقتربوا منه ورأوا الفتاة رموه بالنبال وصاحوا به: «تخلَّ عن الفتاة وإلا قتلناك.» فعرفت مارية صوت مرقس فصاحت: «لا ترمِ النبال يا مرقس، إنه من الأصدقاء.» وكان أركاديوس قد همَّ بأن يضربهم، فلما سمعها تناديهم بالاسم وقف وقال: «من تنادين؟» قالت: «أنادي ابن عمي، وهو قادم للبحث عني فيما أظن.» ولم يتمَّا الكلام حتى وصل مرقس، وترجَّل ودنا من الفرس فأمسك بالزمام، وهو في ريب من أمر الراكب، وركوب مارية وراءه، وأحاط رجال مرقس بالفرس وهم يصيحون: «من أنت؟» وأركاديوس لا يريد أن يعرف أحد منهم أنه ابن الأعيرج فقال: «لست السارق يا قوم.» وقالت مارية: «إنه شهم كريم، أنقذني من مخالب الموت.»
فترجَّل أركاديوس والدرع تغشاه، والخوذة تغطي معظم رأسه، حتى لا يستطيع أحد معرفته، فقال للجميع: «هذه فتاتكم فاحملوها.» فأمسكوا بجواده قائلين: «من أنت؟ قل لنا حتى نكافئك خيرًا.»
قال: «لا حاجة بكم إلى معرفتي، واستحثَّ جواده وسار يخترق الصحراء قاصدًا بلبيس.»
وكان أولئك القوم: مرقس ورجاله ومعهم والد الفتاة، وقد أنهكهم التعب؛ لأنهم قضوا طول ليلهم يهزعون من مكان إلى آخر يفتشون عن مارية.
فحالما سار الركب قبَّل المعلم اسطفانوس ابنته وقال لها: «الحمد لله على سلامتك يا بنيتي.» وسلم مرقس عليها، ثم حملوها على فرس من أفراسهم، وساروا بها إلى القرية فرحين، وقد عجبوا لأمر ذلك الفارس وتنكُّره مع ما صنعه معهم من الجميل، فسألوها عن حكايتها فحكتها لهم كما وقعت، فازداد إعجابهم بشهامته.
أما أركاديوس فسار على جواده، والليل لا يزال حالكًا، حتى دنا من بلبيس، والسور محيط بها، والأبواب مقفلة، والحامية على الأسوار حذرًا من قدوم العرب، فخاف إن هو دنا من السور أن يصيبه شر؛ لأنهم لا يعرفونه، وتحير هل ينتظر النهار فيدخل المدينة بحيلة، أو يسير في أثر الجند الذين قيل له إنهم حملوا أرمانوسة، وفيما هو يسير قرب المعسكر عثر جواده حتى كاد يكبو، فنظر إلى ما عثر به فإذا هي حبال وأوتاد، فترجَّل وتأمل ذلك المكان، فعلم أنه أثر مضارب خيام، وقد بقيت آثارها هناك، فتأمل وضع الخيام على قدر ما سمحت له شدة الظلام، فعلم أنها خيام رومانية، وشاهد مع ذلك آثار آنية وثيابًا رومانية فتحقق أنها الخيام التي أقلع أهلها في صباح الأمس، وما زال يفتش في تلك الآثار متحيرًا حتى دنا الفجر، وأخذت تلك الآثار تنجلي له، فشاهد خيمة لا تزال مضروبة في آخر ذلك المعسكر، فسار وقاد جواده وراءه لعله يجد فيها خيرًا، فسمع صوتًا يناديه من داخل الخيمة: «من القادم؟» فعرف أن الذي يخاطبه من جند الروم فقال: «بل من أنت؟ أعدو أم صديق؟» فقال: «أنا من جند الروم.»
قال أركاديوس: «لا بأس عليك، لأنك من جندنا.» وتظاهر بأنه من قواد الروم جاء بمهمة، فخرج إليه الرجل من الخيمة فإذا هو جندي كما ظن، ونظر الجندي إلى أركاديوس ولباسه فظنه من كبار القواد، ولم يكن أركاديوس لابسًا خوذته، وقد فعل ذلك إخفاء لحقيقة حاله؛ لأنه لو لبسها لعرفه كل من رآه.
فقال أركاديوس: «ما بالكم تقيمون في هذه الصحراء؟ ولماذا لم تقيموا داخل الأسوار؟»
قال: «قد أقمت أنا وجماعتي الليلة هنا بأمر مولانا الحاكم بعد فرار يوقنا أمس من هنا.»
فقال: «وكيف فر وقد جاء لحمل أرمانوسة؟»
قال: «اكتشفوا أنه جاء بدسيسة، ولم يكن مرسلًا من مولانا قسطنطين كما ادعى، وبعد أن خرجت السيدة أرمانوسة إلى هذا المكان، ومكثت في هذه الخيمة مدة، وقد أعدوا الأحمال، وهمُّوا بالمسير، جاءهم رسول بكتاب من كبير العرب القادمين إلى هذه الديار، فخاف يوقنا وتركها وفر برجاله.»
فأحس أركاديوس عند ذلك كأن ثقلًا كبيرًا تحول عن صدره وقال للرجل: «إذن لم يأخذ أرمانوسة معه؟» قال: «لا.» قال: «وإلى أين ذهبت هي؟» قال: «عادت إلى قصر الحاكم في بلبيس.»
فتحقق أركاديوس عند ذلك أن أرمانوسة لا تزال في خير، ولم يأخذها أحد، فاطمأن قلبه، ولكنه أراد أن يقابلها ويكلمها ويشفي أوار شوقه إليها، ولم يكن قد جلس إليها بعد، ونظر إلى هندامه، وتحير كيف يدخل المدينة صباحًا، مخافة انكشاف أمره، فتذكر أن جواده معروف عند معظم جند الروم، ولا بد لمن يراه نهارًا من أن يعرفه، فإذا أخفى نفسه لا يستطيع أن يخفي جواده. ثم نظر إلى ثيابه وقد انفلق الصبح فرأى السيف ملطخًا بالدماء، وعلى درعه نقط منها لطختها ساعة قتل اللص، وبقي برهة يفكر، فتذكر الفتاة التي أنقذها من القتل، وقال في نفسه: «لعلي أستطيع أن أبعث معها كتابي إلى أرمانوسة؛ لأنها فتاة مثلها، ولا شك أنها تخلص لي الخدمة، لأني أنقذتها من الموت، ولكن من أين لي الوصول إليها الآن.»
وبينما هو يفكر في ذلك، وقد تحول عن الخيمة لئلَّا يرتاب فيه أحد؛ إذ حانت منه التفاتة فرأى رجلًا ينظر إليه من بعد ويتأمله، ولا يجسر أن يدنو منه، فبقي أركاديوس ماشيًا، وقد أخذ بزمام جواده، وقاده وراءه، فرأى الرجل يدنو منه، فخاف أن يكون قد جاء مخادعًا فناداه: «من أنت؟»
فارتمى الرجل على قدميه وقال: «أطلب إليك يا سيدي أن تقول لي من أنت؟ فإني أشعر بوطأة فضلك عليَّ وأحب أن أعرفك؟»
فقال: «ومن أنت؟» قال: «أنا مرقس القبطي، وأنت الذي أنقذت ابنة عمي من القتل، فإنها بعد أن وصلنا إلى البيت وحكت لنا حكاية نجاتها لم أستطع صبرًا على جهلي من أنت، فتعقبتك لكي أراك على نور النهار، فإذا أنت ملثم فلم أعرفك، ولكني أتهيب لباسك، وأخاف هذا الجواد.» قال: «وهل تعرف جواد من هذا؟» قال: «نعم أعرف، إنه جواد البطل أركاديوس بن الأعيرج.»
فقال: «فاعلم إذن أني من أصحاب أركاديوس، وكفى.»
قال: «نعم يا سيدي، ولكني أشعر بعظيم فضلك عليَّ، ولا أدري كيف أكافئك؟»
قال: «لم أعمل ما عملت التماسًا للمكافأة؛ لأن لي من فضل سيدي أركاديوس ما يغنيني عن ذلك.»
قال: «نعم يا سيدي إن فضله علينا وعليَّ أنا بالتخصيص.» قال: «وكيف اختصصت نفسك بفضله.» قال: «إنه أنقذ خطيبتي من القتل مرة قبل هذه يوم ساقوها إلى النيل.»
قال: «وكيف تقول خطيبتك أن أرمانوسة هي التي أنقذتها؟» قال: «نعم هي التي أنقذتها ولكن بوساطته.» قال: «لم أفهم مرادك، فأفهمني كيف أنقذتها هي بعون أركاديوس ولا وصول لها إليه؟»
فارتبك مرقس في أمره، وندم على ما فرط منه، وخاف أن يكون فيما قاله ما تؤاخذ عليه أرمانوسة، وكان قد تعجَّب يوم تناول الأمر من أرمانوسة مختومًا بخاتم أركاديوس، ولم يعلم كيف توصلت هي إليه بتلك السرعة، مع علمه أن أركاديوس كان في الحصن إذ ذاك، وكان يظن أن أرمانوسة اصطنعت خاتم أركاديوس تزويرًا، فلاح له أن في التصريح بأمر ذلك الكتاب خطرًا، فلم يجب.
فقال له أركاديوس: «ما بالك لا تجيب، وقد قلت إنك تشعر بفضلي عليك؟» فظهر عليه الارتباك ولم يجب.
فقال له أركاديوس: «أتدعي الإخلاص وأنت تتردد في إطلاعي على الحقيقة؟ أهذا جزاء الخير؟»
فوقع مرقس على قدمي أركاديوس وقال: «إن في المسألة سرًّا لم أفهمه، وأخاف إذا قلت أن يجيء منه ضرر، إن تسترك تحت هذا اللثام مما يزيد خوفي، فهل لك أن تعلمني من أنت حتى أبوح بالحقيقة، أرجو أن لا يترتب على قولي شر لأحد الناس، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.»
فمال أركاديوس كل الميل إلى معرفة سِرِّ الأمر، وتوسم بمرقس خيرًا، وعزم على أن يستخدمه في توصيل كتابه إلى أرمانوسة، أو أن يتوصل إليها بوساطته إذا أخلص له الخدمة لأنه قبطي، وتذكر بعد الأخذ والرد معه أنه رآه غير مرة مع رجال أرسطوليس في الحصن.
فقال له: «تعالَ معي على انفراد.» فانفردا بعيدين عن بلبيس في منزل خرب. يظهر من أنقاضه أنه كان معصرة يصطنعون فيها الخمر، وليس حولها إلا الصحراء وبعض الأشجار، فجلسا تحت شجرة، فرفع أركاديوس اللثام عن وجهه، فحالما رآه مرقس وقف مبهوتًا، وهمَّ بتقبيل يديه، وقد ذعر وقال: «العفو يا سيدي، أأنت مولانا أركاديوس وأنا لا أعلم؟»
قال له: «إني بإزاحة هذا اللثام قد أطلعتك على سِرٍّ لم يطلع عليه أحد، فاحذر أن تفوه بكلمة أمام أحد، أو أن تذكرني، فإني جئت متنكرًا حتى لا يعرفني أحد. هل فهمت؟»
قال: «نعم يا سيدي، وإني أقسم لك بالصليب والمعمودية أني أخلص القول والعمل في كل ما تريد، إلا ما يُخشى منه الضرر بالسيدة أرمانوسة؛ لأن لها عليَّ فضلًا مثل فضلك، فإذا عاهدتني أن لا تؤذيها في شيء أطلعتك على الحقيقة، وإلا فإنني مصرٌّ على الكتمان ولو قتلتني.»
فازداد أركاديوس شوقًا إلى معرفة الحكاية، وعاهده على عدم التعرض بأذى لأرمانوسة مهما يكن من أمرها.
فقص مرقس عليه حكايته من يوم أن خرج من الحصن مع بربارة إلى أن حكم على خطيبته بالغرق، وكيف أنقذها بكتاب سلمته إليه أرمانوسة، وعليه خاتم أركاديوس، ثم شرح له ذهابه إلى الفرما للتحقق من موت خطيبها، وما وقع من أمر يوقنا، إلى آخر الحكاية، فانجلت المسألة لأركاديوس جيدًا، وسُرَّ كثيرًا لنجاة أرمانوسة، وأُعجب بشهامة ذلك الشاب؛ لأنه كان وسيلة في إنقاذها، ورأى من نفسه ميلًا إلى مكاشفته بأمره توسمًا للخير فيه، فقال له: «أما وقد رأيت هذه المروءة، وعلمت ما تكنُّه من الإخلاص لأرمانوسة فسأطلعك على أمر لم يطلع عليه أحد سواك، وإني آمل فيك أن تكتمه وتبقى على مروءتك.»
فابتدره مرقس قائلًا: «إني مطيع في كل ما تأمرني به إلا إذا كان فيه ما يلحق الضرر بسيدتي أرمانوسة.»
فقال أركاديوس: «حاشَ لي أن أريد بأرمانوسة سوءًا، بل أطلب إليك أن لا تطيع أحدًا في أمر يمسها بشر، فإنها — ولا أخفي عليك — أعز الناس عندي.»
فتعجب مرقس لذلك وقال: «يكفيني أنك لا تريد بها سوءًا.»
قال: «انظر يا مرقس وافهم ما أقوله لك، أنت تعلم منزلتي ونسبي، ولا تعجب لمكاشفتي إياك واستسلامي لك، فقد آنست منك شهامة ومروءة سهلَّا عليَّ ذلك، وأنت خطيب مارية وتعرف قلوب المحبين، فاعلم أني أحب أرمانوسة حبًّا شديدًا، ولم يعرف بهذا الحب أحد سواها وخادمتها بربارة، وأما أمر خاتمي فهو بيدها، وقد دفعته إليها عربونًا للمحبة، وأما قسطنطين فهي لا تحبه، وقد أرسلتك للتثبت من موته لعلها تنجو منه.» وأوضح له حكايته على قدر ما تسمح له منزلته ثم قال: «وقد جئت الآن خفية عن كل من في الحصن لإنقاذها؛ إذ بلغني أن قسطنطين بعث يستقدمها إليه مع يوقنا، وسأنيط بك أمرًا أرجو أن تقوم به بالحزم والدراية بحيث لا يلحظ أحد شيئًا منك فأنا أريد مقابلة أرمانوسة قبل عودتي إلى الحصن، ولكني لا أستطيع الدخول إلى بلبيس لئلَّا يعرفني أحد، فما الرأي؟»
قال: «الأمر لسيدي، فهل تريد أن توافيك إلى مكان خارج المدينة؟»
قال: «نعم أريد، ولكن كيف السبيل إلى ذلك بغير أن ينكشف أمرنا؟»
ففكر مرقس قليلًا ثم قال: «أرى أن أكاشف سيدتي أرمانوسة بما دار بيننا، وأدعوها إلى منزل خطيبتي بدعوى أنها تريد أن تقوم بواجب الخضوع والشكر لها.»
فقال أركاديوس: «ولكنني لا أظنها تذهب؛ لأن المسافة طويلة.»
قال: «إذا لم تستطع الخروج إلينا فإننا ندبر حيلة أخرى.»
فقال أركاديوس: «أرى أن أتنكَّر بلباس مثل لباسك، وأسير كأني رسول إليها، فتأخذ أنت هذا الجواد وتذهب به إلى القرية وتبقيه هناك حتى أعود، فتكون أنت في انتظاري على الطريق فأركب وأسير في طريقي.»
فقال مرقس: «حسنًا، فهل أعطيك ثيابي الآن؟» قال: «هاتِ خوذتك وردائك وسيفك، وخذ هذه الدرع وهذا الحسام وهذا الجواد، واذهب إلى القرية واحذر أن تخبر أحدًا بأنك رأيتني أو عرفت شيئًا عني.»
فتبادلا الثياب، وأخذ مرقس الجواد والدرع والحسام، وسار قاصدًا القرية، وسار أركاديوس كأنه أحد جند الروم قاصدًا بلبيس، فلما اقترب من الأسوار كانت الأبواب قد فُتحت وأخذ أهل تلك الخيمة في تقويضها وحملها، فدخل هو في جملة الداخلين، ولم ينتبه له أحد.