نشأة بلال
اتفقت الأقوال على أن بلالًا كان من أبناء الحبشة المولدين، وجاء في وصفه أنه رضي الله عنه كان «آدم شديد الأدمة نحيفًا طوالًا أجنأ — أي فيه انحناء — كثير الشعر خفيف العارضين».
وهي أوصاف تعهد في سلالة المولدين من السود والساميين، وقد كانوا كثيرين بين الحبشة واليمن من قديم الزمن، فليست أوصافه المتفق عليها أوصاف الزنج ولا أوصاف أبناء سام، وسواده وكثرة شعر رأسه مع خلوصه من فطس الأنف وتقبض الشعر تدل على أنه مولد من السلالتين. وقد زعم بعضهم أنه كان ينطق السين شينًا على عادة السود، فنفى الثقات هذا الزعم وأكد نفيهم أنه كان يقيم الأذان وفيه السين والصاد.
ويُختلف في مولده فيقال: إنه ولد في مكة ويقال: إنه ولد في السراة، وربما رجح القول الأخير؛ لأن السراة أقرب إلى اليمن والحبشة، ولأن بلالًا رضي الله عنه رجع إليها حين فكر في الزواج.
وأرجح الأقوال في سنة مولده أنه ولد قبل الهجرة بنحو ثلاث وأربعين سنة، ثم تختلف الأقوال حتى يبلغ التفاوت بينها زهاء عشر سنين.
وأبوه وأمه معروفان: أبوه يدعى رباحًا وأمه تدعى حمامة، وكان ينبز بابن السوداء إذا غضب منه غاضب، ولعل أمه كانت من إماء السراة أو إماء مكة، إذا صح أنه لم يولد بالسراة.
ويحسب بعض الإفرنج الذين كتبوا عنه أنه تلقى من أمه كلمات التوحيد، كما كان يفهمه المتدينون والمتدينات بالمسيحية من أبناء الحبشة، وأنه من ثم أسرع إلى تلبية الدعوة المحمدية حين جهر النبي عليه السلام برسالة التوحيد، وهو حسبان جائز ولكنه بعيد؛ لأن الأحباش في ذلك الزمن إنما كانوا يفهمون المسيحية على نحو أقرب إلى الوثنية، ولا يرحبون برسالة التوحيد المحمدية ذلك الترحيب.
ويذكر لبلال أخ يسمى خالدًا ويكنى بأبي رويحة، والأغلب في الروايات المختلفة أنه كان أخاه في الإسلام على سنة المؤاخاة بين الصحابة التي سنها عليه السلام، وقيل: إن له أختًا تسمى غفرة هي مولاة عمر بن عبد الله مولى غفرة المحدث المصري، ولا خبر عنها غير ذلك فيما روي من أخباره.
وكانت نشأة بلال بمكة في بني جمح من بطون قريش المشهورة.
وفي بني جمح هؤلاء نشأ أبو محذورة أحد الثلاثة المختارين من مؤذني النبي عليه السلام، وهم بلال وأبو محذورة وعمرو ابن أم كلثوم … ولا يُدرى أمن محض المصادفة أن كانت نشأة اثنين من الثلاثة في بني جمح، أم كان لهؤلاء القوم بعض عناية بالصوت والغناء. وإنما المعروف عن القوم أنهم كانوا أصحاب الأزلام والأيسار في الجاهلية وأنهم كانوا من حزب عبد الدار حين شجر الخلف بينه وبين عبد مناف، فكان بينهم وبين بني عبد مناف خلاف قديم.
وإذا كان لنشأة بلال بين هؤلاء القوم أثر مقدور في بغضه لعبادة الجاهلية وإقباله على الإسلام فذلك هو اطلاعه بين القوم على أسرار الأزلام والأيسار وما يلزمها أحيانًا من الغش والتلبيس، وأن القوم فيهم مجافاة عن الرحمة والنزعة الروحية باعدت بينهم وبين خلائق عبد مناف — جد النبي عليه السلام — منذ القطيعة الأولى بين الأحزاب القرشية، وخليقٌ بأمثال هؤلاء ألا يألفهم الضعفاء.
ولم يعلم على التحقيق من كانوا سادة بلال وأبيه من بني جمح هؤلاء. فقيل إنه كان عند عقيلة من عقائلهم، وقيل إنه كان عند أيتام لأبي جهل، وقيل إنه كان عند أمية بن خلف وبعض ولده، واتفقت الأقوال على أن الصديق رضي الله عنه هو الذي استنقذه من أيديهم بعد ما عاينه من تعذيبهم إياه لدخوله في الإسلام. فاشتراه بخمس أواق من الذهب وقيل بسبع أواق وقيل بتسع أواق. وزعموا أن سيده أراد أن ينغص الصفقة على الصديق بعد شرائه فقال له: لو أبيت إلا أوقية لبعناك! فقال له الصديق: لو أبيتم إلا مائة لاشتريته …! ويزعم بعض الرواة أن الصديق استبدله بغلام له جلد من عبيده، وهي رواية يشك فيها كثيرًا؛ لأن الصديق لم يكن ليسلم المشركين رجلًا من أتباعه ليستنقذ به رجلًا غيره، وأدنى من ذلك وأشبه بخلائق الصديق رضي الله عنه أنه اشتراه بأمر النبي عليه السلام، وأنه عليه السلام عرض عليه الشركة فيه ليخفف عنه عبء نفقته ونفقة المستضعفين من أمثاله، فقال له: لقد أعتقته يا رسول الله. وعمل بعد ذلك خازنًا له ثم خازنًا للنبي ومؤذنًا للمسلمين بعد إقامة الأذان.
واستراح بلال بعد عتقه من إيذاء السادة للعبيد ولكنه لم يسترح ولا استراح غيره من إيذاء الأحرار للأحرار ولا سيما المستضعفين الذين لا تحميهم العصبية ولا الخوف من الثأر. فقد كان المشركون يتعقبون المسلمين بكل ما استطاعوا من عنت ومساءة، واشتدوا في ذلك حتى هموا بقتل النبي عليه السلام، وجمعوا كلمة القبائل على هذه النية ليفرقوا دمه الزكي بينها فلا تقوى هاشم وحدها على محاربتها أو تصمد لعداوتها. فأشفق النبي الكريم على صحبه وأذن لهم في الهجرة قبله، وكان بلال ممن هاجر إلى المدينة على إيثار منه للبقاء في مكة. فلما وصل النبي عليه السلام وصاحبه الصديق إلى المدينة كانت «أوبأ أرض الله من الحمى» ولكنها أرحم بهم من جيرة المشركين في مكة. ونزل الصديق وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصيبوا جميعًا بالحمى — ولعلها الملاريا كما رجحنا في غير هذا الكتاب — فكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته يترنم بصوته الجهوري قائلًا:
وهي مواضع ومنابت بمكة وجوارها تشوقها بلال في العلة لما ابتعد عنها، وليس أعجب في الوفاء لموطن الصبا من هذا الوفاء؛ لأن بلالًا قد لقي عند تلك المواطن والمنابت قسوة في جاهليته وتعذيبًا في إسلامه وخطرًا على حياته، ولكنه عاش فيها مع الصبا الأول وعاش فيها مع الإيمان الأول، فهي حبيبة إليه أثيرة لديه، وإن لقي الحفاوة والسلامة في الهجرة منها إلى غيرها.
وقد لزم بلال النبي والصديق بالمدينة ومكة وسائر المغازي والأسفار بعد ذلك. وكان لمسجد المدينة الذي اشترك النبي عليه السلام في بنائه حظُّ الأذان الأول، فكان لبلال حظ السبق بهذا الأذان. ولم يزل له حظ التقدم على سائر المؤذنين في حضرة النبي حتى قُبض عليه السلام، ومُيِّز بالتقدم عليهم لتقدمه في الإسلام ولجهارة صوته وحسن أدائه، وإن كان تقدمه في الإسلام هو أرجح المزيتين التي استحق بها التفضيل والتكريم.
كان إذا فرغ من الأذان وأراد أن يعلم النبي عليه السلام أنه قد أذن وقف على الباب وقال: حي على الصلاة! حي على الفلاح! الصلاة يا رسول الله. فإذا خرج رسول الله فرآه بلال ابتدأ في الإقامة.
وقيل في خصائص أذانه: إنه كان يؤذن حين تدحض الشمس ويؤخر الإقامة قليلًا. أو ربما أخرها قليلًا، ولكن لا يخرج في الأذان عن الوقت. وربما ترنم ببعض الشعر وهو صاعد للأذان رثاءً لحاله وطلبًا للتوبة والرحمة من الله. ومن ذاك أنه سُمع وهو يقول:
وكان من عمل بلال في صحبة النبي عليه السلام قبل بناء المصلى أنه كان يحمل العَنزَة بين يديه ويركزها حيث تقام الصلاة، وكانت هذه العنزة إحدى عنزات ثلاث أهداها نجاشي الحبشة إلى النبي عليه السلام، فأمسك واحدة لنفسه وأعطى كلًّا من علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب واحدة، واختص بلالًا بحمل العنزة بين يديه أيام حياته، فكان يحملها في العيدين وفي أيام الاستسقاء ويركزها حيث تقام الصلاة، وقيل: إنه كان يمشي بها بين يدي الصديق في خلافته، ثم جعل سعد القرظ يمشي بها بين يدي عمر وعثمان بوصاة من بلال، وهي العنزة التي احتفظ بها الولاة يُمشى بها بين أيديهم بعد عهد الخلفاء.
وقد آخى النبي في المدينة بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين بلال وخالد أبي رويحة الخثعمي، وقيل بل بينه وبين أبي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، أو بين أبي عبيدة بن الجراح، وهو على ما يظهر لبس في الأسماء، والأول هو الأرجح لبقاء الصلة بين بلال وأبي رويحة إلى أن فرقت بينهما الوفاة.
ويبدو من أحاديث النبي عليه السلام لبلال أنه كان يصطفيه؛ لأنه أهل لاصطفاء التربية والتعهد بالنصيحة والتعليم، فكان يقول له: يا بلال! أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله، وكان يقول له: عش فقيرًا يا بلال ومت مع الفقراء، وربما عهد إليه في تفريق ما يفضل من المال عنده وقال له: انظر حتى تريحني منه. فيرى بلال القدوة في سيده ونبيه فإذا هو من خيرة المقتدين، ويظل على هذه القدوة حتى فارق الحياة.
وقد أُرِيَ النبي عليه السلام أنه سمع دف نعلي بلال بين يديه في الجنة، فسأله بعد الصلاة: يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فإني سمعت الليلة دف نعليك بين يدي في الجنة … فلم يذكر بلال زهده ولا جهاده ولا صبره على العذاب ولا أمانته وتسليمه. بل قال: «ما عملت عملًا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورًا تامًّا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي.»
فكان اصطفاء النبي هذا الصديق المؤمن الأمين اصطفاء المربي الكبير للرجل تثمر فيه التربية والقدوة الحسنة كما يثمر فيه الصنيع الجميل، ويُحب للطف محضره كما يحب لخلوص طويته وفضائل نفسه، وقد كان كالحارس الملازم لشخص النبي عليه السلام في طويل صحبته بين الحرب والسلم والإقامة والسفر، ولكنه عليه السلام لم يكن يتخذه حارسًا يحميه كما يحمي الحراس الأمراء والسلاطين، وإنما كان يستصحبه في إقامته وسفره استصحاب الحراس لأنه كان يستريح إلى رؤيته والشعور بصدق مودته ووفائه، وكانت مودة بلال لمولاه وهاديه تبدو منه حيث يريد وحيث لا يريد، فإذا اشتد الهجير في رحلة من الرحلات أسرع إلى تظليله بثياب الوشي والنبي لا يسأله ذلك، وإذا تهيئوا للقتال ضرب له قبة من أدم يرقب الموقعة منها، وجعل يتردد بينها وبين الميدان ليطمئن عليه ويتلقى الأمر منه، فلم يفرقهما موقف ضنك ولا موقف خطر، ولم ينقض يوم إلا جمعتهما فيه الصلوات الخمس ومجالس العظة والحديث، ما لم يكن في غيبة قصيرة لشأن من شئون الدين الذي لم يكن له شأن سواه.
ولما فتحت مكة أمره النبي عليه السلام أن يقيم الأذان على ظهر الكعبة فأقامه والمشركون وجوم يغبطون آباءهم لأنهم لم يشهدوا ذلك اليوم ولم يسمعوا ما سمعوه فيه، ودخل النبي الكعبة، فكان في صحبته ثلاثة هم عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها وأسامة بن زيد ابن النبي بالتبني، وبلال.
وما زال يصحب النبي مجاهدًا حتى قُبض عليه السلام، فأقام الأذان بعد وفاته أيامًا على أرجح الأقوال ثم أبى أن يؤذن وأصر على الإباء، لأنه كان إذا قال في الأذان «أشهد أن محمدًا رسول الله» بكى وبكى معه سامعوه، فلم يطب له المقام حيث كان يصحب النبي ويراه ثم هو بعد لا يصحبه ولا يراه، وآثر الاغتراب على فرط حبه لمكة والمدينة، وآثر الجهاد على فرط حاجته إلى الراحة في غُرَّة الستين، واتفقت أرجح الأقوال على أنه استعفى الصديق من الأذان معه واستأذنه في الخروج إلى الشام مع المجاهدين. فأذن له بعد إلحاح منه، واشترك في معارك لا نعلمها على التفصيل، ثم سكن إلى ضيعة صغيرة بجوار دمشق يزرعها ويعيش من غلتها، ولم يسمع عنه خبر بعد ذلك إلا يوم أذن للخليفة الفاروق بدعوة من كبار الصحابة والتابعين، ويوم تصدى لمحاسبة خالد في مجلس الحكم بين يدي أبي عبيدة.
وأدركته الوفاة في نحو السبعين — لأنه كان ترب الصديق على أرجح الأقوال — وقيل: إنه مات في طاعون عمواس، وقيل سنة عشرين للهجرة أو إحدى وعشرين. واستعذب الموت؛ لأنه سيجمع بينه وبين النبي وصحبه كما كان يقول في ساعات الاحتضار، فكانت زوجته تعول إلى جانبه وتصيح صيحة الوله: واحزناه! فيجيبها في كل مرة: بل وافرحاه! غدًا نلقى الأحبة؛ محمدًا وصحبه.
وكانت وفاته بدمشق فدفن عند الباب الصغير، وقبره رضي الله عنه معروف يزار.
وليس أدل على قدر بلال عند الصحابة والتابعين من ذلك الوجد الذي اختلجت به حناياهم وهو يؤذن لهم في دمشق بعد انقطاعه عن الأذان تلك السنين الطوال. بكى عمر وبكى معه الشيوخ الأجلاء حتى اخضلت اللحى البيض واضطربت الأنفاس التي لا تضطرب في مقام الروع. ولو بدا لهم أنهم يستمعون إلى صوت آدمي ينطلق من حنجرة من اللحم والدم لما اختلجوا تلك الخلجة ولا تولاهم ما تولاهم يومئذ من الوجد والرهبة، ولكنهم أنصتوا لوحي الغيب حين أصغوا إليه، وقام في أفئدتهم أنه صوت جدير بمحضر النبي عليه السلام يسمعه معهم كما سمعوه معه آونة من الزمان. فهم إذن في عليين أو أقرب من عليين، وهم إذن على مسمع ومشهد من ذات الله جل وعلا وذات النبي عليه السلام في جواره، وهم إذن أرواح علوية يضيق اللحم والدم بفيضها الإلهي فترجف من الوجد وتنكسر الأجساد بالبكاء مغلوبة في عالم الأرواح وآفاق السماء.
رحم الله بلالًا … إنه كان داعي السماء ليرفع أبناء الأرض بدعوتها. وقد رفعتهم في ذلك اليوم إلى الأفق الأعلى؛ إلى الحضرة التي ترتجف فيها الأجساد لأنها غريبة في ذلك الجوار.
•••
إن بني أبي البكير جاءوا إلى رسول الله عليه السلام فقالوا: زوج أختنا فلانًا، فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟» ثم جاءوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله، أنكح أختنا فلانًا، فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟» ثم جاءوا الثالثة فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟ أين أنتم عنه؟ رجل من أهل الجنة فأنكحوه.»
والظاهر أنه تزوج غير مرة وأنه مات بغير عقب، فقد جاء في رواية قتادة أنه تزوج أعرابية من بني زهرة، وجاء في رواية أخرى أن له زوجة تدعى هندًا الخولانية، وهي من خولان اليمن لا من خولان الشام؛ لأنها كانت معه قبل هجرته إلى الشام.
ذكره ابن إسحاق فيمن حضر بدرًا فقال: وبلال مولى أبي بكر. مولَّد من مولدي بني جمح اشتراه أبو بكر من أمية بن خلف وهو بلال بن رباح لا عقب له.
نعم ولكنه أعقب الميراث الذي يتصل بالأذان في كل مكان … فلا ينساه من يسمع الأذان ويرجع به إلى أول من نادى به قبل أجيال وأجيال.