إسلام بلال
كل إيمان فهو شيء يتجاوز الفرد الواحد ولا ينحصر في مصلحته العاجلة أو الآجلة.
فليس بإيمانٍ ذلك الذي يخص فردًا واحدًا ولا يتجاوزه إلى غيره في زمنه أو بعد زمنه، وليس بإيمان ذلك الذي يدور على المصلحة الفردية وإن تعدد فيه الأفراد؛ لأن الإنسان قد يضحي بالمصلحة في سبيل الإيمان، ولا يفعل ذلك وهو يحسب حساب المصالح ولا يتجاوزها.
وقد يضحي الإنسان أحيانًا بالإيمان في سبيل المصلحة العاجلة أو الآجلة، ولكن ذلك لا ينفي أن الإيمان شيء أكبر من المصلحة عاجلها وآجلها، وإنما يدل في هذه الحالة على أن ذلك الإنسان يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأنه ضعيف اليقين ضعيف الاستعداد للإيمان.
فالإيمان لا يقوم على أساس المصلحة العاجلة أو الآجلة.
ويكفي أن يضحي الناس بمصالحهم في سبيل إيمانهم — ولو في بعض الأحيان — لتقرير هذه الحقيقة من وراء الجدل والخلاف.
لأننا نفهم أن ينسى الرجل إيمانه في سبيل مصلحته فنقول: إن المصلحة عزيزة عليه وإن الإيمان ضعيف في نفسه.
ولكننا لا نفهم أن ينسى الرجل مصلحته في سبيل إيمانه إلا على وجه واحد، وهو أن الإيمان والمصلحة معدنان مختلفان، وأن المصلحة عزت أو هانت هي شيء غير الإيمان.
ولا يقال إن مصلحة الآخرة تدخل في حساب الرجل فينسى من أجلها مصالحه الدنيوية. فإن تصديقه بمصلحة الآخرة هو نفسه إيمان بالغيب، وهو سابق لحصول المصلحة على كل حال.
ومع هذا وجد في زماننا هذا أناس — كأتباع كارل ماركس — يؤمنون بالمادة وينكرون كل شيء غير هذه الدنيا المحسوسة، ويقولون إن الأديان والمذاهب والآداب وكل ما يحيك بضمير الإنسان إن هي إلا صورة من حياته المادية التي لا بعث بعدها ولا محل للروح فيها، ومنهم مع ذلك من يدخل السجن ويتعرض للنفي ويجازف بالحياة ويفقدها في سبيل إيمانه بمعتقده وإنكاره لمعتقد الآخرين … وليس بالمعقول أن يفقد الإنسان الحياة لأنه يطمح إلى الطعام الهنيء والعيش الرغيد، وليس بالمعقول من باب أولى أن يفقد الحياة ليأتي بعده من ينعم بالطعام الهنيء والعيش الرغيد وهو تحت التراب. فإذا هو أقدم على فقد الحياة فالمسألة عنده ليست مسألة حساب وموازنة أو مسألة مصلحة كبيرة بإزاء مصلحة صغيرة، ولكنه إنما يفعل ذلك لأنه بإزاء قوة تمضي به حيث شاءت ولا يمضي بها حيث شاء، أو لأنه في حالة نفسية غير حالة الحساب والموازنة ووضع الأرقام بإزاء الأرقام.
وقد شوهدت في الدنيا عبادات كثيرة وعقائد لا تحصى، ولكن لم تشاهد قط عقيدة تقبل التضحية بالحياة وهي خلو من إيمان بحق وثورة على باطل، ولم تشاهد قط عقيدة تقبل التضحية بالحياة وهي قائمة على منفعة تخص صاحبها ولا تتجاوزه إلى الآخرين. ومتى تجاوزت المنفعة فردًا واحدًا وأصبحت قابلة للتعميم بين الأفراد الآخرين؛ فهي إذن مسألة حق سابق لوجود المنافع وسابق لوجود الأفراد.
فالإيمان أبدًا هو شعور بالحق وليس شعورًا بالمصلحة على وجه من الوجوه.
وقد تقف المصلحة في سبيل العقيدة قبل الإيمان بها؛ لأن المصلحة موجودة والإيمان غير موجود. ولكنهما متى وجدتا معًا فهما شيئان وليسا بشيء واحد. ويظلان أبدًا شيئين من معدنين مختلفين وإن تلاقيا في الطريق إلى مدى بعيد.
وإن إسلام بلال رضي الله عنه لمن الشواهد الكثيرة التي تقرر هذه الحقيقة في الأذهان.
وقد عنينا بأن نبين مزايا الإسلام في معاملة الأرقاء. ولكننا عنينا مع ذلك بأن نبين حقيقة أخرى لا بد من تبيينها في هذا المقام، وهي أن المعاملة نفسها ليست هي سبب دخول الأرقاء في الإسلام، وإنما هو «الحق» والشعور بجمال هذا الحق أو وجوب تغليبه على الباطل، ولو لقي الأرقاء في سبيله ما هو أقسى عليهم من معاملة المشركين للعبيد والإماء.
كان أول من أسلم ثمانية هم أولئك النخبة الأبرار: خديجة وأبو بكر وعلي وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد.
قال رواة صدر الإسلام: أما أبو بكر فمنعه الله بقوته وكذلك من كان لهم قوم يحمونهم. وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وأصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا من الكفر وسب النبي عليه السلام، إلا بلالًا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهانت على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد. أحد. ولا يزيد.
وجاء في طبقات ابن سعد بإسناده ما فحواه: إنه كان من المستضعفين من المؤمنين، وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون، وكان الذي يعذبه أمية بن خلف …
وكانوا إذا اشتدوا عليه في العذاب قال: أحد. أحد. فيقولون له قل كما نقول. فيقول: إن لساني لا يحسنه. وكانوا يأخذونه فيمطُّونه ويلقون عليه من البطحاء وأنطاع الأدم ويريدونه على أن يذكر اللات والعزى فلا يذكرهما ويقول: أحد. أحد. فأتى عليه أبو بكر فسألهم علام تعذبون هذا الإنسان! واشتراه بسبع أواق وأعتقه.
ومما جاء في الطبقات أن أبا جهل جاءهم بالعشي فجعل يشتم سمية ويرفث، ثم طعنها فقتلها فهي أول شهيد في الإسلام. وهانت على بلال نفسه في الله حتى ملُّوه، فجعلوا في عنقه حبلًا ثم أمروا صبيانهم أن يشدُّوه بين أخشبي مكة فلم يزدهم على كلمته التي كان يرددها ولا يمل من تردادها: أحد. أحد.
وكانوا يضربونه ويلقونه على الرمال الكاوية في وقدة الهجير ثم يضعون الحجارة على صدره وهو لا يجيبهم إلى كلمة مما يسألونه، ولا يسكت ولا يكف عن الجهر بالتوحيد.
•••
هذه صورة بلال رضي الله عنه في مبدأ إسلامه وهو يتلقى العذاب ويتعرض للموت ولا يصل به الإسلام إلى الوعود — فضلًا عن تحقيق الوعود — في معاملة المستضعفين من العبيد والإماء؛ لأن أحكام الإسلام في معاملة الأسرى والأرقاء على التعميم لم تكن معروفة مفصلة في ذلك الحين.
وإن آخر ظن يخطر على بال المرء إذ يرى بلالًا على تلك الصورة المؤلمة، أنه يرى أمامه رجلًا وازن بين سوء المعاملة في الجاهلية وحسن المعاملة في الإسلام، فاختار المعاملة الحسنة ودخل في الدين الجديد من أجلها.
لأن إسلام بلال لم يكن مخرجه من رق سادته المشركين، ولم يكن سوء معاملتهم إياه قبل الإسلام شيئًا يذكر إلى جانب ذلك العذاب الأليم الذي كان يُسامُه بعد إسلامه، ولو كان حسن المعاملة همه من الدين الجديد لانتظر حتى يسلم سادته فيطمع عندهم في تلك المعاملة الحسنة، أو لانتظر حتى يمتنع جانب المسلمين بالعدد الكثير فيجهر بالإسلام بين مئات وألوف، ولا يعجل إلى دخول الدين الجديد بين نفر من المغلوبين المطاردين، سواء من الأحرار أو العبيد.
وأعجب شيء أن يخطر للعقل أن الإسلام قد سوى بين العبيد والأحرار فآمن به العبيد، ولا يخطر له أن هذه التسوية تغضب الأحرار فتحميهم الأنفة أن يدخلوه، وقد دخله الأحرار كما دخله العبيد في مبدأ التبشير بالدين الجديد.
فإن كانت لبلال وصهيب وأمثالهما مصلحة في الإيمان بذلك الدين؛ لأنه يسوي بينهم وبين أبي بكر وحمزة وعثمان وعلي والفاروق، فما مصلحة هؤلاء في النزول بأقدارهم إلى حيث يتساوون بعبيدهم المستضعفين؟ وهم أولئك ذوو الحمية التي تشمخ برءوسهم على رءوس الأحرار من أبناء كل قبيل لا يضارعهم في العزة والجاه!
فعن الحق وسكينته في النفوس فلنبحث في تعليل الإيمان بكل عقيدة جديدة وكل مصلحة إنسانية فوق مصالح الأفراد، وإنما يوجد الإيمان حين يوجد للنفس حقٌّ محبوب وباطل مكروه، ولو ضاعت في سبيل حب الحق وكراهة الباطل كل مصلحة عاجلة أو آجلة أو ضاعت الحياة بغير أمل في الجزاء.
فلا العبيد آمنوا لأن الإسلام يسوي بينهم وبين الأحرار، ولا الأحرار آمنوا لأن الإسلام يسوي بينهم وبين العبيد؛ لأن قصارى هذه التسوية أنها مصلحة لفريق من الناس، وما زال الإيمان والمصلحة شيئين مختلفين ومعدنين متباينين. فالمصلحة شيء تحتويه حياة الفرد وقد تحتويه حصةٌ قليلة من حياته، أما الإيمان فهو أبدًا شيء يتجاوز الفرد الواحد، وقد يبذل في سبيله المصلحة والحياة.
أولم يوجد في الوثنية وفي بعض الأديان الكتابية أناسٌ يؤمنون بالأرباب، وهم يؤمنون أن الأرباب تفرق بين أقدارهم وأقدار سادتهم في الحياة وبعد الممات؟
أولم يكن بلال يؤمن باللات والعزى وغيرها من أرباب الجاهلية وكان لا يرجو نصفةً منها ولا تسوية بينه وبين ساداته المتجبرين عليه وعلى سائر الضعفاء؟
فلما ساء ظنه بهذه الأشتات من الأرباب كان حسن ظنه بالإله «الأحد» هو الذي سوَّأ ظنه بدين الجاهلية، وكانت وحدانية الله العلي الأعلى هي التي تجري على لسانه وتعمر قلبه وتعينه على شدته وهو يتلظى من ألم العذاب بين يدي سادته القساة.
فكانت الوحدانية هي الكلمة الواحدة التي لخص بها فضل الدين الجديد على الدين المهجور، وقد ألهم هذا التلخيص الصادق الوجيز إلهام الإيمان الذي يهدي العقل إلى موقع الهدى من أوجز طريق، فلو أنه كان يقول «الرحيم» في موضع «الأحد» لجاز أن يقال: إن في الآلهة الوثنية من يتصف بالرحمة، أو لجاز أن يقال إن الرحمة بدرت إليه في تلك اللحظة لأنه يشتكي القسوة والعذاب. ولكنه لما ردد كلمة الوحدانية ولم يردد غيرها كان قد هدي إلى الصفة الوحيدة التي لا يدعيها المدعون لأرباب الجاهلية، كما هدي إلى الصفة الوحيدة التي تجعل الإيمان إيمانًا بالحق ولا تجعله انتظارًا لرحمة أو غفران أو جزاء.
ولا نريد أن نقول: إن الإيمان والمصلحة لا يجتمعان، ولا أن نقول: إن المؤمن لا تخطر له المصلحة بحال أو إنها لا شأن لها البتة في تحويل العقائد والعبادات. فإن المصلحة قد تعوق كثيرًا من الناس عن قبول دين جديد، وقد تنبه الأذهان إلى الإصغاء الذي يتبعه الارتياح والتصديق، وقد تكون مصلحة فرد ومصلحة ألوف من الناس، فيستطاع الجمع بينها وبين الإيمان بالخير العميم.
ولكن الذي نقوله: إن المصلحة غير الإيمان وإنهما قد يفترقان كما يتَّفقان، ولو كانت المصلحة هي الإيمان لوجدتْ المصلحة ولم تكن هناك حاجة إلى وجود إيمان على الإطلاق … كفى أن يسعى الإنسان إلى مصلحته دون أن يجعل الإيمان سبيلًا إليها، وكفى أن يلتزم المصلحة ولا يتعداها إلى الشعور الذي يحبب إليه الموت. فأما وقد وجد الإيمان في كل زمن من الأزمان، ووجد مع انتظار الجزاء ومع اليأس من كل جزاء، فلا معنى لأن يقال: إن فردًا من الأفراد قد آمن لأن له مصلحة في إيمانه، فإنه يضم إلى المصلحة شيئًا آخر إذن حين يدعمها بالإيمان.
كلا. ليست صورة بلال على رمال البطحاء الموقدة في قيظ الصحراء صورة الرجل الذي طلب الخلاص من قسوة السادة. لأن الخلاص هو كل ما يعنيه.
وليست صورته وهو يكرر «أحد. أحد» بصورة الرجل الذي دخل الدين الجديد وهو يجهل الفارق الصحيح بين الدينين. ولا يعرف للدين الجديد فضلًا إلا الرحمة بالعبيد في الأرض أو في السماء.
لقد كادوا يقتلونه وهو لا يجيبهم إلى تعظيم آلهتهم ولا يؤثر السكوت. ولعلهم لم يبقوا عليه إلا لشحهم بثمنه أن يضيع عليهم إن قتلوه. ولعل أبا جهل قد قتل سمية؛ لأنها جارية عجوز لا تصلح للبيع ولا للمبادلة. ولم يقتل بلالًا ولا عمارًا ولا صهيبًا لأنهم رجال عاملون يباعون ويشترون … ولكنهم لا شك كانوا قاتليه آخر الأمر إن يئسوا منه ولم يجدوا من المشركين من يشتريه وهو صابئ عن دين الجاهلية، فلم يكن إسلامه سبيل رفق ولا تخفيفًا من عناء. بل كان سبيل عذاب ومخاطرة بالراحة والحياة.
وأي عذاب ذلك العذاب؟
حسبنا أن نعلم أن رفقاء بلال جميعًا قبلوا ما سامهم المشركون أن ينسبوا به — ومنهم عمار بن ياسر — لنعلم أنه كان عذابًا يفوق طاقة الإنسان.
إن عمارًا لم يكن يهاب الموت في هرمه، ولكنه ضاق — في صباه — بذلك العذاب الأليم.
كان يجاهد مع علي رضي الله عنه وقد أناف على التسعين، وقد شهد المغازي في عهد النبي وعهود الخلفاء، وكان عليه السلام يقول: «إن عمارًا ملئ إيمانًا إلى مشاشه.» ويجعله قدوة للمسلمين في الهداية، فيوصيهم أن يقتدوا بأبي بكر وعمر وأن يهتدوا بهدي عمار. وهو أيضًا لم يجذبه إلى الإيمان طلب راحة وطمع في حسن معاملة؛ لأنه كان يرى طريق الراحة والغنيمة مع معاوية وينضوي إلى جانب علي ليموت تحت لوائه في صفين، وما كان علي لو انتصر بمغدق عليه مالًا، ولا بمطمعه في عيش أرغد من عيشه، وهو عيش الكفاف.
وقد كان عمار رضي الله عنه ممن يصدق عليهم القول بأنه قد وهب عبقرية الإيمان. لأن إيمانه كان ذلك الإيمان الخالص الذي يوصف بأنه الإيمان حبًّا للإيمان. لا حبًّا بما وراءه من رضى أو جزاء. وآية المؤمن الموهوب أنه لا يرضى العيش بغير العقيدة ولا يطيب له البقاء وهو مخالف لما يعتقد. فيقبل على الموت كراهة للبقاء في دنيا لا تواتيه على اعتقاده. وليس يقبل على الموت طلبًا للجنة كما يقول، فإن من المؤمنين بالعقائد المادية كما أسلفنا من يموت في سبيلها ولا أمل له في حياة بعد الحياة، وإن الجنة لحبيبة إلى كل إنسان يصدق بها. فليس الفرق بين رجل يجاهد ورجل لا يجاهد أن هذا يكره الجنة التي يحبها ذاك، وإنما الفرق بينهما هو قوة الإيمان أو هبة العقيدة، وهي قد كانت في عمار على أقوى ما تكون في إنسان.
ومع هذا خف الموت على نفس عمار فسعى إلى لقائه عشرات المرات منذ غزا مع النبي إلى أن نيَّف على التسعين ومات تحت لواء علي بمعركة صفين، ولكنه ثقل عليه ذلك العذاب الأليم الذي صبر عليه «بلال» وظل صابرًا عليه بغير أمل في الخلاص القريب.
وكل طمع في حسن المعاملة يزول ويبطل في مثل ذلك العذاب الذي ضاقت به طاقة عمار.
نعم يزول ويبطل لولا إيمان يهون معه الموت ويهون معه العذاب، ويهون معه سوء المعاملة وحسنها على السواء.
نعم إن العبيد كانوا أسرع من الأحرار إلى دخول الدين الجديد، ولكن الذي يفهم من ذلك — أو ينبغي أن يفهم منه — أن المصلحة لم تكن عقبة بين العبيد وبين الإصغاء إلى الدعوة الجديدة، وأن الأحرار كانت لهم مصالح تحجبهم عن جمال تلك الدعوة وعن التأمل في صدقها وبطلان ما هم عليه، وفرق عظيم بين القول بأن المصلحة لم تكن عائقًا عن فهم الدين والدخول فيه، وبين القول بأن الدين هو المصلحة التي أرادها المؤمنون، إذ لو كانت المصلحة هي المراد بالعقيدة لما وجدت العقيدة على الإطلاق، ولو وجدت المصالح كما هي موجودة في الدنيا بغير اعتقاد على الإطلاق في شيء من الأشياء.
لقد كانت في نفس بلال حاجة إلى الولاء والإخلاص، فصدق النبي الكريم؛ لأنه كان أهلًا لولائه وإخلاصه، وكان خليقًا أن يطمئن إليه ويشعر بالسكينة في الإصغاء إلى قوله والاقتداء بعمله.
وسمع رجلًا ينادي بأن الناس أمة واحدة وأن المؤمنين إخوة، وهو في الذؤابة العليا من بني هاشم أو في الذؤابة العليا من قبائل العرب جمعاء، فكان هذا سبب التصديق والإيمان، وكانت دعوة الرجل الحسيب النسيب التي لا مصلحة له فيها هي البرهان الأول على صدق العقيدة. ولولا انعدام المصلحة في دعوة ذلك الرجل الحسيب النسيب لما أسرع بلال إلى تصديقه والجنوح إليه.
فأما وقد جنح إليه وآمن بدعوته فالمسألة بعد ذلك لن تكون مسألة موازنة بين المعاملات أو مساومة على الزيادة والنقصان، ولكنها أصبحت مسألة راحة بالإيمان أو راحة بغير الإيمان، ولم تكن لبلال راحة بغير ذلك الإيمان بعد أن جنح إليه ومزجه بقلبه وضميره. فصبر في أيام معدودات على عذاب لم يكن ليلقاه من المشركين مدى العمر لو بقي على دينهم كما كان … وقد صبر على بلاء الجسد؛ لأنه مستريح القلب والضمير.
على أن المعاملة الحسنة قد جاءت إلى بلال من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب كأحسن ما تصبو إليه الأحلام ويتعلق به الرجاء.
فبلغ من تعظيمه أنه كان ندًّا لأعظم المسلمين في حياة النبي عليه السلام وحياة الصديق والفاروق، بل كان الفاروق رضي الله عنه يقول: «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا.» ويقصده بهذا اللقب الرفيع، واتفق يومًا أن أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو بن الحارث ورهطًا من سادة العرب طلبوا لقاء الفاروق وطلبه معهم بلال وصهيب. فأذن لهما حتى يستمع لما يريدان ويفرغ بعدهما لعلية القوم. وغضب أبو سفيان وقال لأصحابه: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه؟ وكان سهيل أحكم منه وأدنى إلى الإنصاف فقال لهم: «أيها القوم! إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم. دُعي القوم — إلى الإسلام — ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم!»
•••
جمال هذا الأدب هو الذي يهون في سبيله الموت وسوء المعاملة والعذاب الأليم، وهو الذي يوحي العقيدة إلى النفس فترتفع بها فوق المصالح والمساومات. ولقد كان هذا أدب النبي فأحبه الأحرار وأصغوا إليه وصدقوه … ولقد تمت أداة العقيدة حين تم الحب والإصغاء والتصديق. فما يزال بنو الإنسان على هذا الشأن إلى آخر الزمان: ليس بينهم وبين الفداء إلا قضية يحبونها وداع يصدقونه. وما يكونون يومًا أحوج إلى الإيمان منهم يوم تعز عليهم القضية التي تحب والداعي الذي يصدَّق. فإذا بلغت بهم هذه الحاجة مداها فليس أمامهم محيص من إحدى غايات ثلاث: فناء، أو حياة كحياة الحيوان، أو إيمان يوجد حيث كان.