صفات بلال
كان بلال رجلًا على سواء الفطرة.
وآية ذلك أنه كان كما ينبغي أن يكون كل رجل قوي الطبع من بني جلدته وفي مثل نشأته، يمر بالحوادث التي مرَّ بها ويمارس التجارب التي مارسها.
وقد تقدم في صفات الموالي الأفريقيين أنهم ينقمون الإساءة على المسيء ويحفظون الحسنة لمن يحسن إليهم ويملكهم بمهابته وطيب سجاياه.
وهكذا كان بلال رضي الله عنه في مجمل صفاته: كان متصفًا بأجمل صفات بني جلدته: وهي الأمانة والطاعة والولاء والصدق مع الولاء، وكانت فيه مع ذلك قسوة وعناد في موضع القسوة والعناد، ولكنه لم يكن بالمبتدئ في قسوته ولا بالمكابر في عناده. إنما كان لقسوته عذر أو سبب، وكان لعناده فضل الإصرار على الإيمان بالصواب.
قال ابن الرومي:
فالذين أساءوا إلى بلال كانوا لا يحمدون أثر الإساءة فيه، وكانوا يطلبون منه الرضا حيث أسلفوا له المساءة، فلا يجدون الرضا حيث طلبوه؛ فإذا بهم ينحلونه صفاتهم ويعيبونه بمساءتهم، وينكرون صحبته كما ينكر صحبتهم. ومن ذاك أنَّ مشتريًا أراد أن يساوم فيه سيدته «قبل أن يفوتها خيره وتحرم ثمرته» فقالت له متعجبة: وما تصنع به؟ إنه خبيث … وإنه. وإنه إلى آخر ما وصفت به سخطه على سوء المعاملة وسوء العشرة.
ومع هذا قد أجمع الذين وصفوا بلالًا على أنه كان طيب القلب صادق الإيمان، وأنه أبعد ما يكون عن خبث أو كنود، وإنما هو بشرة سوداء على طبع صاف يرى الناس وجوه أعمالهم فيه.
وقد كان أكرم صفاته الفطرية مما يوافق الطاعة وصدق الولاء، فكان إيمانه القوي بالله، وإخلاصه المكين لرسول الله، هما الذروة التي ترتقي إليها محاسن بني جلدته، ومحاسن كل مولى مطيع، سواء أكان ولاؤه ولاء تابع لمتبوع أم ولاء معجب بمن يستحق الإعجاب.
كان حبه لرسول الله هو لب الحياة عنده، وهو معنى الدنيا والآخرة في طوية قلبه، وعاش ومات وهو لا يرجو في دنياه ولا بعد موته إلا أن يأوي إلى جواره وينعم برضاه.
وحضرته الوفاة فكانت امرأته تئن وتغلبها النكبة في قرين حياتها فتصيح: واحزناه.
وكان هو يجيبها في سكرات الموت: بل وافرحتاه! غدًا نلقى الأحبة. غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه.
على هذا عاش وعلى هذا مات، وما كان له علاقة تربطه بهذا الكون العظيم إلا وهي في جانب منها علاقةٌ بمحمد رسول الله ومحمد سيده ومولاه.
وتلك الزوجة الوفية البارة كانت ترضيه في معظم حالاتها، وكانت لا تخليه من مناكفة في بعض حالاتها؛ كما يتفق أحيانًا في كل عشرة بين الزوجين وفي كل صلة بين إنسانين، فكان يقبل منها كل ما يسر ويسوء إلا أن تمسه في لب اللباب وأصل الأصول ومناط الحياة والكرامة عنده: وهو إخلاصه لرسول الله وصدق الرواية عنه. فاستعظمت يومًا ما يحدثها به عن رسول الله فإذا به يثور ويغضب ويهم بالبطش بها ثم يدع المنزل محنقًا مقطبًا حتى يلقاه الرسول، فيلمح ما به من تغير حال ويعلم سره فيشفق أن يدعه على ما هو فيه وأن يدع لزوجه مظنتها في صدقه.
ويذهب معه إلى بيته فيقول للمباركة: «ما حدثك عني بلال فقد صدق. بلال لا يكذب، فلا تغضبي بلالًا.»
فإذا المولى الأمين هانئ قرير.
وقد أثر عنه هذا الصدق بين الصحابة فكانوا يشكون في أبصارهم ولا يشكون في روايته ونقله. ويروون عنه رواية اليقين في شئون الصلاة والصيام.
ففي صحراء العرب حيث يضيء النهار إلى ما بعد غروب الشمس وتشيع لمحات النور قبل مطلعها كان بعض المسلمين يترددون في مواعيد السحور والإفطار فيقولون: إنا لنرى الفجر قد طلع، أو يقولون: ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد، فإذا سمعوا من بلال أن رسول الله أكل أو أنه ترك رسول الله يتسحر فالقول ما قال بلال، وليس للشك في ضوء النهار مكان.
وقد لزمت بلالًا عادة الصدق في كل كلام يبلِّغه المسلمين عن النبي أو يبلغه إليهم في شأن من عامة الشئون وخاصتها، فلما رجاه أخوه في الإسلام — أبو رويحة — أن يسفر له في زواجه عند قوم من أهل اليمن لم يزد على أن قال: «أنا بلال بن رباح وهذا أخي أبو رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين، فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا …»
فزوجوه فكان حسبهم عنده أن يقبل الوساطة ولا يرده أو يموِّه عليهم أوصافه!
وقد كان من ولائه لأبي رويحة هذا أن ضُمَّ ديوان عطائه إليه حين خرج إلى الشام. فلما دون الفاروق دواوين الصحابة سأله: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: «إلى أبي رويحة لا أفارقه أبدًا؛ للأخوة التي كان رسول الله عقد بينه وبيني.»
وذاك أن رسول الله قد آخى بينهما قبل الهجرة إلى المدينة كما آخى بين غيرهما من صحابته الأوفياء. فكانت أخوة العمر عنده من فضل الولاء لرسول الله. وكان أحب الناس إليه وأولاهم برعيه من أمره رسول الله أن يحبه ويرعاه.
•••
وقد عرف له النبي عليه السلام هذه الخصال التي تتجمع كلها في صفة الأمانة — وهو هو قائد الرجال الخبير بمناقب النفوس — فأقامه في موضع الثقة وائتمنه على مال المسلمين وعلى طعامه ومؤنته وشخصه، واستصحبه في غزوه وحجه وحله وترحاله، وأسلمه العَنَزَة يحملها بين يديه أيام العيد والاستسقاء، ولم يعرف أحدٌ من الصحابة لازمه عليه السلام كما لازمه هذا المؤذن الذي يقيم معه الصلاة وهذا الأمين الذي يحفظ له المال والطعام، وهذا الرفيق الذي كان يظله بالقبة الستار من لفحات الهجير في رحلات الصيف، وربما تقدمه فركب ناقته «القصواء» التي قلما كان يركبها سواه عليه السلام، ولم يدخل الكعبة معه بعد فتح مكة غير عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها، وأسامة بن زيد مولاه، وبلال.
ودامت هذه الصحبة حتى قبض عليه السلام وحتى دفن في ثراه. فكان بلال هو الذي ذكر واجب الحنان المكلوم في ذلك الموقف الأليم، فحمل القربة ودار حول ذلك الثرى الشريف يبلله بالماء.
•••
وعلى هذا الحنان في طويته لمولاه العظيم كان للرجل ضميرٌ يعرف الإصرار على الرأي كأشد ما عرف مؤمن بعقيدة ونافر من رذيلة.
وربما كان في الإصرار شيء من عناد بني جلدته أبناء الحبشة المولدين وأبناء السلالة السوداء. إلا أن العناد خصلة ذات لونين أحدهما يحمد ويفيد وثانيهما يذم ويضير.
فالعناد أحد لونيه ثبات على الصواب والعقيدة. وفي لونه الآخر ثبات على الخطأ والهوى، ولم نعرف من العناد في تاريخ بلال إلا أجمل اللونين وأشبههما بقوة الآسر وخلائق الأمناء.
إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله عز وجل فذرني أذهب إلى الله عز وجل.
ولا شك أن الرحمة بالأعداء أمر لا ينتظر من رجل طال عهده وعهد قومه وآبائه بقسوة الطغاة وعذاب اللؤماء، فإن رحمة رجل كهذا لمن أحسنوا إليه وسالموه خلق مفهوم لا غرابة فيه، أما الخلق الذي يستغرب منه حقًّا فهو رحمته في ميدان قتال أو رحمته خاصة لمن أفرط في الإساءة إليه.
ولهذا لا نستغرب ما روي عن بلال بعد وقعة خيبر وما روي عنه بعد وقعة بدر مع المشركين. ومنهم أظلم الناس له وأقساهم عليه.
فلما افتتح النبي حصن القموص بخيبر جيء له بصفية بنت صاحب الحصن وقريبة لها دون سنها. فأرسلهما عليه السلام مع بلال إلى رحله. فمر بهما بلال على القتلى من قومهما فصاحت البنت الصغيرة صياحًا شديدًا ولطمت على وجهها. وعلم النبي بما صنع فقال له عاتبًا: أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بجارية حديثة السن على القتلى؟ فكان عذر بلال الذي اعتذر به جوابه: يا رسول الله ما ظننت أنك تكره ذلك وأحببت أن ترى مصارع قومها!
أما في وقعة بدر فقد كان عذره أوضح وأسلم من عذره في وقعة خيبر.
فقد رأى أمية بن خلف وابنه بعد الوقعة في صحبة عبد الرحمن بن عوف يقودهما كما يقاد الأسرى، وقد كانا أشد الناس إيذاءً للمستضعفين من المسلمين كما تقدم، وكان بلال أوفر المسلمين نصيبًا من ذلك الإيذاء اللئيم. فما وقعت عينه على أمية حتى صاح بالمسلمين من حوله: رأس الكفر أمية بن خلف. لا نجوت إن نجا. ولم يغن عنه دفاع عبد الرحمن بن عوف، بل جعل بلال يهم بقتله ويصيح: لا نجوت إن نجا. لا نجوت إن نجا. حتى اجتمع حولهم خلق كثير، وضرب أحدهم ابن أمية فوقع صريعًا فإذا بأمية يصيح من الفزع صيحة لم يسمع بمثلها. قال عبد الرحمن بن عوف: انج بنفسك ولا نجاء بك! فوالله ما أغني عنك شيئًا، ولكن المقاتلين هبروهما بأسيافهم قبل أن يخلص له سبيل إلى الفرار.
وقد يزيد في وضوح العذر لبلال من هذه القصة أن أمية هذا كان من أحق الناس بالبغض وقلة الرحمة؛ لأنه كان يعذب المستضعفين تعذيب الجبان اللئيم لا تعذيب الساخط الغيور على عقيدة، وكان يرهب القتال ولا يعرض حياته لمغامرات الحرب التي أقدم عليها شجعان المشركين. فما هو إلا أن سمع بنذير النبي إياه بالقتل حتى ارتعدت فرائصه وراح يسأل عن المكان الذي توعده بالقتل فيه، فصارح قومه بالقعود عن القتال وأنه لا يخرج لحرب المسلمين في غزوتهم تلك وهو مقصود بذلك الوعيد، ولم يتحرك للخروج حتى جاءه أبو جهل بين الملأ بمجمرة يبخره بها، وقال له: تجمر يا هذا فإنما أنت من النساء.
ولما نشبت المعركة ببدر كان هو وابنه في طليعة الناكصين عن القتال، ثم قتل ابنه فكانت صيحته عليه صيحة فزع لا تسمع في ميدان. فإنما كان تعذيبه المسلمين من لؤم الجرأة على الضعيف وهو آمن في عقر داره، ولم يكن من لدد العقيدة التي يغار عليها الرجل الشجاع ويلقى الموت هو وأبناؤه من أجلها غير وكلٍ ولا هيَّاب. وليس أحق من مثل هذا ببغضاء المنتقم في ساعة القصاص، وكفى لبلال عذرًا في هيجة غضبه عليه أنه يعلم إنذار النبي إياه بالقتل وأن أبا بكر هنأه بعد قتله فقال:
وفي غير هذه الهيجة التي تدرك أحلم الناس في مواطن النقمة وحومة الحرب لم تكن شدة بلال غير حمية الرجل الفطري الذي تبدو منه القسوة وهو لا يعنيها، وكان في جملة أحواله مثلًا للخلق الوديع والطيبة الرضية وحلاوة النفس والاتضاع، فكان يخجله أن يسمع الناس يحمدون بلاءه في صدر الإسلام ويقدمونه على أجلاء الصحابة لثباته وصبره، فيطرق ويقول: «إنما أنا رجل كنت بالأمس عبدًا.» وكانت قلة دعواه نفحة من نفحات تلك الطيبة الرضية. فلم يعرف عنه أنه تصدى لتعليم الناس ما يجهلون من أحاديث النبي عليه السلام بعد ملازمته الطويلة وكثرة سائليه والواثقين بصدق ما يرويه، ولم يزد في إخباره عن النبي على ما يعنيه من إقامة الصلاة والأذان أو مواعد الإفطار والصيام.
•••
وكان بلال ابن قومه في خلقين آخرين يعرفان في بعضهم، قدماء أو محدثين، وهما فراسة النظر وحب الراحة أو الضيق بالجهد الشديد.
أرسله النبي عليه السلام مع رعية السحيمي ليرد له ابنه الذي أسره المسلمون، فلم يفته وهو يقص نبأه على النبي أن يقول: والله ما رأيت واحدًا منهما مستعبرًا إلى صاحبه! فقال النبي: ذاك جفاء الأعراب.
ووكل إليه النبي وهو مقبل إلى وادي القرى بعد وقعة خيبر أن يوقظه لصلاة الصبح — وكان الحر شديدًا، فنام حتى طلعت الشمس. ثم صلى عليه السلام بمن معه وإن أحدهم ليسلت العرق عن جبينه من حر ذلك اليوم، فلما سلم قال: كانت أنفسنا بيد الله فلو شاء قبضها وكان أولى بها. ثم التفت إلى بلال فهتف به: مه يا بلال. فبادر بلال معتذرًا وهو يقول: بأبي وأمي. قبض نفسي الذي قبض نفسك! فتبسم عليه السلام.
وإنما تدل هذه السهوة — وإن لم تتكرر — على إيثار الراحة؛ لأنها غلبت كل حذر من تفويت صلاة الفجر حاضرة على النبي وصحبه، وهو حذرٌ كان ولا شك في نفس بلال شديدًا، بل أشد من الشديد.
•••
وآخر ما يروى من أعمال بلال وقفته مع خالد بن الوليد حين أمر الفاروق بسؤاله عن الهبات التي كان يهبها لبعض الشعراء. فقد سكت خالد وأبو عبيدة يسأله عن تلك الهبات أهي من ماله أم من مال المسلمين؟ وهو معرض لا يجيب. فوثب إليه بلال ثم تناول عمامته ونقضها وعقله بها وخالد لا يمنعه. وسأله: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ فعند ذلك أجاب خالد: بل من مالي فأطلقه وعممه بيده، وهو يقول: «نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.»
ذلك آخر ما روي من أعمال بلال في خدمة الخلافة، ولكنه يجمع أعماله كلها وخلائقه كلها في عمل واحد وخلق واحد، وهو الطاعة الجريئة التي لا تنسى التفخيم والتعظيم إلا في سبيل طاعة أكبر منها وأوجب. فلم يكن أسرع منه بين شهود الموقف إلى محاسبة خالد بأمر الخليفة وأمر الله، ولم يكن أسرع منه إلى السرور بتفخيمه وتعظيمه حين فرغ الحساب.
كانت طاعته للمرء الذي يطاع والأمر الذي تجب له الطاعة وهي طاعة القوي الشريف، وليست بطاعة المسخر الضعيف، وقد عصى سادته والموت جاثم على صدره، وفرض الطاعة على من يهابه العصاة. فكان سيد المطيعين، ولا يشرِّف الإنسان إن لم يكن سيد الآمرين إلا أن يكون سيد المطيعين.