الفصل السادس عشر
حافل بالأحداث بحيث لا يغني الإيجاز في وصفها.
***
ليس في شهور العالم كله شهر تبدو فيه الطبيعة أبهى ثيابًا كشهر أغسطس، ولسنا ننكر أن للربيع عديد محاسنه، وأن شهر مايو شهر وسمي متفتح كأكمام الزهر، ولكن مفاتن هذا الشهر تزداد حسنًا لاختلافها عن أيام الشتاء وشهوره، وليس لشهر أغسطس هذه المزية، فهو يأتي حين لا نذكر شيئًا غير السموات الصافية، والحقول الناضرة، والأزاهر الفواحة، وحين تتوارى عن خواطرنا أخيلة الجليد والثلوج والرياح المقرورة، كما توارت عن الأرض … ومع ذلك كله ما أجمل هذا الشهر وأخفه على النفس! فإن الأزهار فيه وحقول القمح لتضج بطنين العمل، وثمار الدأب، فنرى الأشجار رازحة فيه تحت كثاف عناقيد الثمرات الطيبة، على أغصانها المنحنية إلى الأرض، والقمح متكدسًا في البيادر أكوامًا جميلة، أو متموجًا متمايلًا مع كل نسمة عليلة من الأنسام الهابة عليه، كأنما تناجي المنجل، وتضفي على الأرض لونًا من نضار، وكأنما يغمر الكون كله لطف بهيج لين بديع، يسر الناظرين، وكأنما امتدت فتنة الموسم ذاته إلى المركبة التي لا تشعر بحركتها البطيئة في الحقول الجنية غير العين وحدها، ولا يطرق الأذن منها صوت شديد.
وكلما مرت المركبة مارقة من خلال الحقول والبساتين المترامية على حافة الطريق، تمهلت جموع النساء والأطفال، الذين يجمعون الثمار في الغرابيل، أو يجنون سنابل القمح المتناثرة، وكفت لحظة عن عملها، وظللت وجوهها الملفوحة من حر الشمس بأكفها السمراء مثلها من وقدة أشعتها، لترمق الركب أعينها الطلقة، ويروح من بينها صبي قوي البدن، وإنْ كان أصغر سنًّا من أن يعالج عملًا، ولكنه من فرط الخبث والنزوع إلى العبث والأذى لا ينبغي أن يُترَك في البيت، يتسلق جانب «السلة» التي أودع جوفها ليبقى في مأمن، وينطلق يركل بقدميه، ويصرخ من فرط الفرح، بينما يكف الحاصد عن العمل ويقف مشبوك الذراعين، لينظر إلى المركبة وهي مارقة قبالته، وتنثني الخيل التي تجر العجلات، فتنعم على خيل المركبة المطهمة بنظرات نعسانة، كأنما لسان حالها يقول في أبلغ ما يمكن أن تتحدث به نظرات حصان: «إنه لمنظر بديع حقًّا!» ولكن السير في رفق، فوق أرض الحقول اللينة، أفضل من هذا العدو السريع فوق أرض معفرة مثيرة الغبار على هذه الصورة.
وإذا أنت ألقيت البصر كرة أخرى إلى ركن من الطريق، رأيت النساء والأطفال قد عادوا إلى ما كانوا فيه من عمل ودأب، وألقيت الحصد قد رجع يكب على ما بين يديه، وأبصرت العجلة قد عادت الميسر، وكل شيء قد عاد إلى الحركة والنضال.
ولم يَغِبْ جلال هذا المشهد عن خاطر المستر بكوك وذهنه المتسق المنظم، ولكنه عقد العزم على كشف خبيئة الخبيث الداهية «جنجل» في أي مكان قد يعاود فيه النصب والاحتيال على الناس، وجلس في بداية الأمر صموتًا مفكرًا ساهمًا، يتدبر الوسائل التي يتسنى له بها تحقيق هدفه على أحسن وجه، فقد أخذ خاطره شيئًا فشيئًا ينجذب إلى المشاهد المحيطة به، حتى بدأ عندئذٍ يجد متعة بالغة في هذه المركبة، كأنه قد اعتزم بها الاستمتاع بأبدع نزهة.
وأنشأ يقول: «مشهد بهيج يا سام!»
وأجاب سام وهو يلمس قبعته: «إنها لتضرب رءوس المداخن يا سيدي.»
فابتسم المستر بكوك، ومضى يقول: «أحسبك لم تشهد في كل حياتك شيئًا غير رءوس المداخن، والطوب، والملاط يا سام.»
وأجاب المستر ولر وهو يهز رأسه: «لم أكن طول عمري مساح أحذية يا سيدي، فقد كنت صبي حوذي صاحب مركبة نقل في يوم من الأيام.»
وقال المستر بكوك: «ومتى كان ذلك؟»
وأجاب سام: «عندما حُمِلت من رقبتي وغرتي، فأُلقِيت لأول مرة في هذا العالم لألعب لعبة «قفزة الضفدع» مع متاعبها وأكدارها، فبدأت صبيَّ حمَّال، ثم صبيَّ سائق مركبة نقل، ثم مساعدًا، ثم مساح أحذية، وأنا الآن خادم سيد، ومَن يدري فقد أصبح أنا الآخَر سيدًا في يوم من الأيام، أضع القصبة في فمي، ولي سقيفة في حديقة بيتي الخلفية، مَن يدري؟ وإن كنت أنا نفسي لن أدهش يومئذٍ، ولن أعجب.»
وقال المستر بكوك: «إنك لفيلسوف يا سام.»
وأجاب سام قائلًا: «أعتقد يا سيدي أنها وراثية في الأسرة، ووالدي في هذا الدور ذاته الآن، فإذا «كشرت» له امرأة أبي أو هبت فيه، لم يفعل شيئًا غير أن يُطلِق «صفيرًا» من بين شفتيه، وإن هي غضبت وكسرت قصبته، انصرف من البيت واشترى قصبة غيرها، وإذا ما صرخت ودخلت في دور «تشنج»، واصل تدخينه هادئًا ساكنًا، حتى تثوب إلى نفسها، هذه فلسفة يا سيدي، أليست كذلك؟»
فأجاب المستر بكوك ضاحكًا: «أو بديل حسن جدًّا منها على كل حال، ولا بد من أن تكون قد خدمتك كثيرًا في سير حياتك المتنقلة يا سام.»
وصاح سام قائلًا: «خدمتني! يا سيدي، لك أن تقول ذلك، ولكني بعد أن هربت من الحمال، وقبل أن أعمل مع السائق … قضيت أسبوعين في مسكن غير مفروش.»
وقال المستر بكوك في دهشة: «مسكن غير مفروش؟»
قال: «نعم، في عقود جسر واترلو الجافي، مكان بديع للمبيت … لا يبعد أكثر من مسيرة عشر دقائق من المكاتب العامة، وإذا كان ثمة عيب فيه، فهو أن الموقف يبدو «طلقًا» كثير الهواء، وكنت أشهد فيه بعض المناظر الغريبة.»
وقال المستر بكوك باهتمام بالغ: «أظنك لا بد فعلت.»
واستتلى المستر ولر يقول: «مناظر يا سيدي تنفذ في جنب قلبك الرحيم، وتخرج من الجنب الآخر، وأنت لا ترى المتشردين الذين يأوون إلى ذلك الموضع بانتظام … بل ثِقْ أنهم أحكم من أن يتركوك تراهم هناك، وأحيانًا ترى المتسولين الأحداث، الذكور منهم والإناث، الذين لم يرقوا بعدُ في المهنة، يتخذون من ذلك المكان مقرًّا لهم، ولكن المُشاهَد عامة فيه هم أولئك المخلوقات المكدودة الجائعة التي لا مسكن لها ولا مأوى، فتلجأ إلى تلك الزوايا المظلمة في ذلك الموضع المعزول … تلك المخلوقات المسكينة التي لا تستطيع أن تكفل لأنفسها الحبل ببنسين!»
وراح المستر بكوك يسأله: «وما هو هذا الحبل ببنسين يا سام؟»
وأجاب سام قائلًا: «الحبل ببنسين يا سيدي هو وكالة رخيصة الأجور للمبيت، السرير فيها ببنسين اثنين في الليلة …»
قال: «ولماذا يسمون الفراش حبلًا؟»
وأجاب سام بقوله: «بارك الله يا سيدي في سلامة قلبك، إنه ليس فراشًا، وعندما بدأت السيدة والسيد اللذان أسسا هذا الفندق ينظمان عملهما، جعلا المراقد على الأرض، ولكنهما وجدا أن العمل هكذا لا يجدي، فبدلًا من أن يأخذ النزلاء حقهم من النوم نظير بنسين لا أكثر، راحوا يعتادون الرقاد في الفندق نصف اليوم، فجاء صاحبا الفندق أخيرًا بحبلين، تفصل كلًّا منهما عن الآخر مسافة ست أقدام، وعن السقف ثلاث، ويمتدان بعرض الغرفة، والمراقد مصنوعة من خرق من الخيش الخشن، مصفوفة على طول الحبلين.»
وقال المستر بكوك: «وماذا بعد؟»
قال: «إن مزية هذه الخطة واضحة، ففي كل صباح في الساعة السادسة يُسقِطون الحبلين من أحد طرفيها، فيقع النزلاء جميعًا من فوق مضاجعهم، والنتيجة أنهم يستيقظون طبعًا، وينهضون بكل هدوء وينصرفون.»
وانقطع سام فجأة عن سياق الحديث الثرثار، قائلًا: «معذرة يا سيدي … أليست هذه بري سانت أدموندز؟»
وأجاب المستر بكوك: «هذه هي.»
وانطلقت المركبة تشق شوارع معبَّدة في وسط بلدة صغيرة جميلة، تلوح عليها سمات الرفاهية والنظافة، ووقفت أمام فندق رحيب يقع في شارع مفتوح واسع، يكاد يواجه الكنيسة القديمة.
وقال المستر بكوك وهو يتطلع إلى الفندق ببصره: «وهذا هو فندق (أنجل)، وسنترجل هنا يا سام، ولكن لا بد من الأخذ بشيء من الحيطة، فمر بحجز غرفة خاصة، ولا تذكر اسمي، أتفهمني؟»
وقال وهو يغمز بعينه غمزة ذكاء وفهم: «تمامًا يا سيدي.» ومضى يجر حقيبة المستر بكوك من الجزء الخلفي الذي ألقيت فيه بعجلة عندما لحقا بالمركبة في «إيتنزول»، وانطلق المستر ولر لإنجاز المهمة التي وُكِّلت إليه، فلم يلبث أن تم حجز غرفة خاصة، ومشى المستر بكوك إليها دون تأخير.
وقال المستر بكوك: «والآن يا سام، إن أول شيء ينبغي أن تفعله هو …»
فعاجله المستر ولر قائلًا: «نأمر بإعداد الغداء؛ فقد تأخر عن وقته يا سيدي.»
فنظر المستر بكوك إلى ساعته وقال: «آه، هذا صحيح، وأنت على حق يا سام.»
وأردف المستر ولر يقول: «وإذا جاز لي أن أقدم نصيحة يا سيدي، قلت: وبعد هذا الإخلادُ إلى الراحة الليل كله، فلا نبدأ البحث عن ذلك الرجل «العميق» إلا في الصباح، فليس في الدنيا يا سيدي شيء أكثر إنعاشًا للبدن من النوم، كما قالت الخادمة قبل أن تتجرع ملء قشر بيضة من المخدر.»
وقال المستر بكوك: «أحسبك مصيبًا فيما تقول يا سام، ولكن يجب أولًا أن أستوثق من أنه في هذا الفندق، وأنه ليس من المرجح أن يهرب أو ينصرف.»
وقال سام: «اترك هذه المسألة لي يا سيدي، ودَعْني آمُر لك بغذاء طيب خفيف، واسأل في الطابق الأسفل ريثما يعدون لك الطعام، وأنا كفيل بأن أنتزع أي سر من قلب مساح الأحذية في خمس دقائق يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «افعل!»
وفي الحال انصرف المستر ولر، ولم ينقضِ نصف ساعة حتى كان المستر بكوك جالسًا إلى طعام شهي، وبعد ثلاثة أرباع الساعة عاد المستر ولر يقول: «إن المستر شارلز فتز-مارشال أمر بحجز غرفة خاصة له إلى حين صدور أوامر أخرى؛ لأنه سوف يقضي المساء في بعض الدور الخاصة في جوارنا، وأمر بأن يُنظَّف حذاؤه قبل عودته، وأخذ خادمه معه.»
ولما انتهى المستر ولر من إبلاغ سيده هذا النبأ استرسل يقول: «والآن يا سيدي إذا استطعت أن أتحدث مع هذا الخادم هنا في الصباح، فسوف يقول لي كل شيء عن سيده.»
وقاطعه المستر بكوك قائلًا: «وكيف تعرف هذا؟»
وأجاب المستر ولر: «سبحان الله يا سيدي، كل الخدم يفعلون ذلك دائمًا.»
وقال المستر بكوك: «آه، لقد نسيت ذلك، وما … ذا بعد …؟»
قال: «وعندها تفكر يا سيدي في خير ما ينبغي عمله، ونحن نقوم بالتنفيذ.»
وتبيَّن أن هذا هو أحسن تدبير يصح اتخاذه، فتم أخيرًا الاتفاق عليه، وانصرف المستر ولر بعد إذن سيده ليقضي المساء كما يهوى، ولم تمضِ لحظات حتى انْتُخِب بإجماع آراء الخدم المجتمعين في الطبقة الأولى من الفندق لتولي كرسي الرياسة، وهو مكان مشرف عرف كيف يدير الجلسة منه، ويشغله بجدارة فائقة، ويكتسب أتم الرضى والارتياح من السادة الأعضاء، حتى لقد ذهبت ضحكاتهم المدوية تخترق مخدع المستر بكوك، وتقتطع ثلاث ساعات على الأقل من وقت راحته الطبيعية.
وفي بكرة الصباح أخذ المستر ولر يعالج الآثار الباقية من سهرة الليلة الماضية والإفراط في الشراب، بدفع نصف بنس لقاء أخذ حمام رشاش، بعد أن تيسر له إقناع غلام ملحق بالإسطبل بقبول هذا القدر نظير تشغيل المضخة لترش الماء على رأسه ووجهه، حتى أفاق تمامًا، وإذا هو يلمح فتى في ثوب أحمر من ثياب الخدم جالسًا فوق أريكة في فناء الفندق، يقرأ في كتاب يبدو عليه أنه كتاب «مزامير»، وهو مستغرق في القراءة، وإن جعل بين لحظة وأخرى يسترق نظرات إلى الشخص القائم تحت «المضخة»، كأن هذا المنظر قد أثار اهتمامه، رغم انشغاله بقراءة ذلك الكتاب.
وقال المستر ولر لنفسه: «إنك لمخلوق بديع، يطيب للعين أن تنظر إليه!» وكانت هذه الخواطر أول ما خطر له حين ألمت عيناه بنظرة ذلك الخادم الغريب في هذا الثوب التوتي اللون، فقد كان وجهه كبيرًا أصفر اللون دميمًا، وعيناه غائرتين، ورأسه ضخمًا تدلى منه قدر من شعر فاحم.
وعاد المستر ولر إلى نجواه فقال: «إنك لمخلوق بديع!» ومضى في استحمامه، غير مفكر بعد ذلك فيه.
ومع ذلك فقد ظل الفتى ينظر إلى سام فيرفع عينيه عن الكتاب، ثم يعود بعدئذٍ إليه، كأنما يريد أن يجاذبه الحديث.
وأخيرًا أنشأ سام يقول بإيماءة مالوفة يقصد بها إعطاءه الفرصة للكلام: «كيف الحال أيها الحاكم؟»
وأجاب هذا قائلًا بتحفظ بالغ، وهو يطوي الكتاب: «يسعدني أن أقول إنني بخير تام يا سيدي، وأرجو أن تكون كذلك أيضًا.»
فقال سام: «لو أني أشعر بأني لا أشبه زجاجة خمر متحركة، لما بدوت مترنحًا كل هذا الترنح في هذا الصباح. هل أنت نازل في هذا الفندق أيها الشيخ الكبير؟»
فأجاب الرجل التوتي الثياب بالإيجاب.
وقال سام وهو يجفف وجهه بالمنشفة: «وإذا كان ذلك، فلماذا لم تكن معنا في الليلة الماضية؟ … وأنت ظاهر يبدو أنك إنسان تحب المتعة، وتبدو أنيسًا صاحب مزاج …» وهنا خفض من صوته، وانثنى يقول: «كأنك سمكة لوت حية في سلة جير.»
وأجاب الغريب: «لقد كنت في الخارج ليلة أمس مع سيدي.»
وسأل المستر ولر، وقد احمر وجهه من الحماسة الفجائية واحتكاك المنشفة معًا: «وماذا يُدعَى؟»
وأجاب الرجل التوتي اللون: «فتز-مارشال.»
فتقدم المستر ولر نحوه وهو يقول: «هات يدك، إني أود معرفتك، ويروقني شكلك أيها الزميل القديم.»
وقال الرجل التوتي اللون بكل بساطة: «هذا شيء غريب جدًّا! وأنا أيضًا شعرت بميل شديد إليك، حتى لقد أردت أن أكلمك من أول لحظة رأيتك فيها تحت المضخة!»
وقال المستر ولر: «أحقًّا؟»
وأجاب الرجل: «نعم، بشرفي، أليس هذا غريبًا؟»
وقال سام وهو يهنئ نفسه بسذاجة هذا الغريب: «شيء مدهش! وما اسمك أيها السيد؟»
قال: «جوب.»
ومضى المستر ولر يقول: «وإنه لاسم حسن جدًّا، إلا أنه اسم لا يُشتَق منه اسم يُتهكم به، فما هو الاسم الآخَر؟»
وأجاب الغريب: «تروتر، وما اسمك أنت؟»
وتذكر سام تحذير سيده، فأجاب قائلًا: «اسمي ووكر، واسم سيدي ويلكنز، ألا تتناول قليلًا من شيء في هذا الصباح يا مستر تروتر؟»
وافق المستر تروتر على هذا الاقتراح اللطيف، فدسَّ كتابه في جيب ردائه، وانطلق مع المستر ولر إلى غرفة الشراب، ولم يلبثا أن انشغلا بالبحث في اختيار خليط منعش منه، يتألف من مزج مقادير معينة من خمرة الهولاندز البريطانية وروح القرنفل، في إناء من الزنك.
وأنشأ سام يسأل جليسه، وقد ملأ له كأسًا للمرة الثانية: «وأي مكان تشغل عند سيدك؟»
وأجاب جوب وهو يمسح شفتيه بلسانه: «سيئ، مكان سيئ جدًّا.»
وقال سام: «أتقول جدًّا؟»
قال: «هذا صحيح، بل أسوأ من هذا؛ إن سيدي مقدم على الزواج.»
– «لا تقل هذا!»
– «بل هو الواقع، وأسوأ منه أيضًا أنه ينوي الفرار بوريثة ثراء ضخم في مدرسة داخلية.»
وقال سام وهو يعيد ملء كأس محدثه: «يا له من ثعبان! وأظن أن المدرسة الداخلية هنا في هذه البلدة، أليس كذلك؟»
وكان هذا السؤال قد ألقي بلهجة متناهية في الاستخفاف، وقلة المبالاة، ولكن المستر جوب تروتر أبدى من الحركات والإشارات ما ينبئ صراحة بأنه قد فطن إلى فضول صاحبه الجديد، ومحاولته انتزاع رد منه على سؤاله، فأفرغ ما في كأسه، ونظر نظرات غريبة إلى محدثه، وغمز بكلتا عينيه، واحدة بعد الأخرى، وأخيرًا أدى حركة بذراعه، كأنما يدير يد «مضخة» وهمية، موحيًا بتلك الحركة أنه يعد نفسه تحت عملية «امتصاص»، يقوم المستر ولر بها «لفتح» ما في صدره من الأسرار.
وقال المستر تروتر في النهاية: «كلا! كلا! هذا أمر لا يصح أن يقال لكل إنسان، هذا سر، سر عظيم يا مستر ولر.»
وما كاد الرجل «التوتي» اللون ينتهي من هذه العبارة، حتى انثنى يقلب القدح رأسًا على عقب، كأنما يريد تذكير صاحبه أنه لم يعد لديه شيء من شراب يطفئ به ظمأه، ولمح سام تلك الإشارة، وشعر بالحركة الدقيقة التي أديت بها، فأمر أن يُملَأ الإناء شرابًا، وعندئذٍ برقت عينا الرجل «التوتي» الصغيرتان.
وقال سام: «إذن هو سر؟»
وأجاب «التوتي» اللون وهو يتناول رشفة من الشراب، وقد بدا البشر في وجهه: «أظنه كذلك.»
وسأل سام صاحبه: «أحسب سيدك عريض الثراء.»
وقال سام: «آه، أهذه هي اللعبة إذن؟»
فأومأ الرجل التوتي اللون إيماءة ذات مغزى.
واحتجَّ المستر ولر قائلًا: «حسن، ألا تظن أنك إذا تركت سيدك يختطف هذه الفتاة كنت مجرمًا شقيًّا؟»
وأجاب المستر تروتر، وهو ينظر إلى رفيقه نظرة ندامة بالغة، ويرسل أنَّة خافتة: «أعرف ذلك، وهو ما يشغل ذهني، ويحرق فكري، ولكن ماذا أفعل؟»
وقال سام: «ماذا تفعل! تكشف السر للسيدة، وتفضح سيدك.»
وأجاب جوب تروتر: «ولكن مَن الذي سيصدقني؟ إن الفتاة تُعَدُّ مثالًا مجسَّمًا للبراءة والفطنة، وسوف تكذبني، وكذلك سوف يفعل سيدي، منذا الذي يصدقني؟ وسأفقد مركزي، وسأتهم بمؤامرة أو شيء من هذا القبيل، هذا هو كل ما سيصيبني من حركةٍ كهذه.»
وفكر سام قليلًا ثم مضى يقول: «في هذا القول شيء معقول، فيه شيء معقول.»
ومضى المستر تروتر يقول: «ولو أني وجدت سيدًا محترمًا يتولى هذه المسألة بنفسه، لكان لدي شيء من الأمل في منع هذا الاختطاف، ولكن هنا أيضًا الصعوبة ذاتها يا مستر ووكر؛ فإني لا أعرف سيدًا في هذا المكان الغريب، ولو وجدت لما صدَّق قصتي في الغالب، ولأنكرها إنكارًا.»
ووثب سام فجأة من مجلسه، وأمسك بالرجل «التوتي» من ذراعه وهو يقول: «تعال معي، إنني أعتقد أن سيدي هو الرجل الذي تريده.» وحاول جوب تروتر الامتناع قليلًا، ولكن سام سار بهذا الصديق الذي اكتشفه حديثًا إلى غرفة المستر بكوك، فقدَّمه إليه بعد خلاصة موجَزة للحديث الذي دار منذ لحظة بينهما.
وقال جوب تروتر وهو يقرب من عينيه منديلًا قرنفلي اللون، يكاد يبلغ ست بوصات مربعة، قائلًا: «إنني ليحزنني كثيرًا يا سيدي أن أخون مخدومي.»
وأجاب المستر بكوك: «إن هذا الشعور يشرفك كثيرًا، ولكن هذا هو واجبك على أية حال.»
وقال جوب بانفعال شديد: «أعرف يا سيدي أن هذا هو واجبي، وأننا جميعًا نحاول أن نؤدي واجبنا يا سيدي، وأنا بكل خشوع أحاول تأديته، ولكن من التجربة القاسية خيانة عهد سيدٍ ترتدي ثيابه، وتأكل خبزه، ولو كان في ذاته مجرمًا يا سيدي.»
وتأثر المستر بكوك كثيرًا من قول الرجل فقال: «إنك امرؤ خير، وإنسان أمين.»
وهنا تدخل سام، وقد رأى الدمع يجول في عيني تروتر، ولكنه لم يطق صبرًا على هذا الموقف، فقال: «كفى، كفى، دَعْ هذا البكاء جانبًا؛ إنه لا فائدة منه مطلقًا، لا فائدة.»
وقال المستر بكوك لخادمه معاتبًا: «يؤسفني يا سام أن أراك قليل المبالاة بشعور هذا الشاب.»
وأجاب المستر ولر قائلًا: «إن شعوره يا سيدي جميل، وما دام الأمر كذلك، ومن الأسف أن يفقده، فمن الخير أن يبقيه في جوانحه، بدلًا من أن يتركه هكذا يتبخر ماء ساخنًا، وخاصة أنه لا فائدة منه ولا نفع، إن الدموع لم تملأ في يوم من الأيام ساعة فارغة، ولا حركت آلة بخارية، وإني لأنصح لك أيها الشاب إذا ذهبت بعد اليوم إلى الجلوس مع جماعة من المدخنين، أن تملأ قصبتك بهذه الفكرة التي شرحتها لك، وأما في اللحظة الراهنة، فأرجوك أن تضع هذا المنديل القرنفلي في جيبك، إنه ليس جميلًا حتى تحتاج إلى تركه هكذا مرفرفًا خفاقًا في الهواء، كأنك أحد الراقصين على الحبال.»
وقال المستر بكوك مخاطبًا جوب: «إن خادمي على حق، وإن كانت طريقته في التعبير عن رأيه طريقة غير مهذبة، ولهذا تبدو أحيانًا غير مفهومة.»
وأجاب المستر تروتر قائلًا: «إنه على حق تمامًا يا سيدي، ولن أستسلم للبكاء بعد الآن.»
وقال المستر بكوك: «حسن جدًّا، والآن قل لي: أين هذه المدرسة؟»
وأجاب جوب تروتر: «إنها تقع في بيت كبير قديم العهد خارج المدينة يا سيدي.»
وعاد المستر بكوك يسأل: «ومتى ستُنَفَّذ هذه الخطة المنكرة، ومتى سيتم هذا الاختطاف؟»
وأجاب جوب: «الليلة يا سيدي.»
فصاح المستر بكوك قائلًا: «الليلة!»
وعاد تروتر يقول: «نعم، الليلة بالذات يا سيدي، وهذا هو ما يزعجني كثيرًا.»
وقال المستر بكوك: «لا بد من اتخاذ تدابير في الحال، وسأذهب على الفور لمقابلة السيدة التي تُشرِف على تلك المدرسة.»
وقال جوب: «معذرة يا سيدي إذا قلت إن هذا التصرف لن يجدي.»
قال: «ولماذا؟»
وأجاب تروتر: «لأن سيدي رجل واسع الحيلة داهية.»
وقال المستر بكوك: «أعرف ذلك عنه.»
ومضى جوب يقول: «وقد استولى على قلب تلك السيدة إلى حدٍّ يجعلها لا تصدق شيئًا سيِّئًا عنه، حتى وإن جثوت عند قدميها، وأقسمت جاهدًا أنه لحق، ولا سيما أنك لا تملك دليلًا على صدق ما تقول غير كلام خادم، ستزعم (وسيزعم معها سيدي بالطبع) أنه فُصِل لبعض خطأ ارتكبه، وأنه إنما قال ذلك انتقامًا وأخذًا بالثأر.»
وهنا قال المستر بكوك: «وماذا يحسن أن تفعل إذن؟»
وأجاب جوب قائلًا: «لا شيء يقنع تلك السيدة العجوز غير ضبطه متلبسًا بجريمة الاختطاف يا سيدي.»
وعندئذٍ انبرى المستر ولر يقول استطرادًا: «آه، ستعود تلك القطط العجائز فتصدم رءوسها بالأحجار.»
وقال المستر بكوك: «أخشى أن يكون ضبطه متلبسًا أمرًا من الصعب جدًّا تنفيذه.»
وأجاب المستر تروتر بعد تفكير قائلًا: «لا أعرف يا سيدي، ولكني أعتقد أنه سهل غاية في السهولة.»
قال: «وكيف؟»
وأجاب الخادم: «سنختبئ أنا وسيدي في المطبخ في العاشرة ليلًا، بعد أن تم لنا الاتفاق مع الخادمين في المدرسة، فإذا أوى القوم إلى مضاجعهم، خرجنا من المطبخ، وجاءت الفتاة من غرفة النوم، وستكون مركبة في انتظارنا بالباب، فنمضي بها مسرعين.»
وقال المستر بكوك: «ثم ماذا؟»
وأجاب تروتر: «لقد فكرت في طريقة، وهي أن تكون أنت يا سيدي في انتظار خروجنا مختبئًا في الحديقة وحدك.»
وقال المستر بكوك: «ولماذا أكون وحدي؟»
وأجاب تروتر قائلًا: «أعتقد أنه من الطبيعي جدًّا أن السيدة العجوز لا ترضى أن تحدث فضيحة أليمة كهذه أمام أشخاص أكثر مما ينبغي، ولا بد أيضًا من مراعاة شعور الفتاة.»
وقال المستر بكوك: «أصبت، إن هذا التفكير يدل على رقة شعورك، امضِ في حديثك؛ فأنت مصيب كل الصواب.»
ومضى تروتر يقول: «لقد بدا لي كذلك يا سيدي أنك إذا انتظرت في الحديقة الخلفية وحدك، وجئت أنا فأدخلتك من الباب المفضي إليها من طرف الدهليز في تمام التاسعة والنصف، فسوف يكون دخولك على هذا النحو في الوقت المناسب لمعاونتي على إفساد خطة هذا الرجل الشرير الذي وقعتُ لسوء حظي في شَرَكه.»
وهنا زفر المستر تروتر زفرة من الأعماق.
وقال المستر بكوك مواسيًا: «لا تزعج خاطرك من هذه الناحية، فلو أنه أوتي ذرة واحدة من رقة الشعور التي امتزت بها، على ضعة شأنك، لكان في نفسي بعض الأمل في صلاح أمره.»
وهنا انحنى جوب تروتر انحناءة بالغة، ووثبت الدموع مرة أخرى إلى عينيه رغم احتجاج المستر ولر كما أسلفنا عليك.
وقال سام مرة أخرى: «لم أشهد في حياتي إنسانًا كهذا، يلعنني الله في كل كتاب إذا لم يكن في راسه صنبور دموع لا ينقطع عن السيل.»
فانتهره المستر بكوك قائلًا: «أمسك يا سام عليك لسانك.»
وأجاب المستر ولر: «سأفعل يا سيدي.»
وعاد المستر بكوك يقول بعد تفكير طويل: «لست راضيًا عن هذه الخطة، لماذا لا أتصل بأهل هذه الفتاة؟»
وأجاب تروتر قائلًا: «لأن أهلها يقيمون على بُعْد مائة ميل من هذا الموضع يا سيدي.»
وقال المستر ولر في نفسه في ناحية: «جواب مسكت!»
وعاد المستر بكوك يقول: «وكيف يتواتى لي دخول تلك الحديقة؟»
وأجاب تروتر: «إن الجدار خفيض يا سيدي، وفي إمكان خادمك أن يعاونك على الصعود.»
وقال المستر بكوك يردد هذه العبارة بغير تفكير: «سيتمكن خادمي من معاونتي على الصعود، وهل أنت واثق أنك ستكون بقرب الباب الذي تحدثت عنه؟»
وأجاب تروتر: «لن تخطئ في الاهتداء إليه يا سيدي، فهو الباب الوحيد الذي يفتح على الحديقة، وما عليك إلا أن تطرقه طرقة خفيفة حين تسمع الساعة تدق، فأفتحه لك في الحال.»
وقال المستر بكوك: «لست عن هذه الخطة راضيًا، ولكن ما دمنا لا نجد غيرها، وما دامت سعادة هذه الفتاة ومصير حياتها كله في خطر على هذا النحو، فلأتخذها، وسأكون حتمًا في ذلك المكان.»
وهكذا للمرة الثانية نرى طيبة المستر بكوك تورطه في مشروعٍ، كان أحب إلى نفسه أن يكون بمنأى عنه.
قال: «وما اسم البيت؟»
وأجاب تروتر قائلًا: «وستجيت هاوس يا سيدي، وما عليك إلا أن تنعطف يمنة عند خروجك من حدود البلدة، فتراه قائمًا بمعزل على قيد خطوات من الطريق العام، وتجد اسمه مكتوبًا على لوح نحاسي فوق الباب.»
وقال المستر بكوك: «أعرفه، لقد رأيته مرة من قبلُ عندما كنت في هذه البلدة، لتثق إذن بي.»
وهنا انحنى المستر تروتر مرة أخرى، وتولى لينصرف، وإذا بالمستر بكوك يلقي جنيهًا من كفه قائلًا: «إنك لإنسان بديع، وإني لمعجب بطيبة قلبك، لا شكر، تذكَّر الحادية عشرة.» وانصرف من الحجرة يتبعه سام.
وأجاب المستر تروتر: «لا خوف من أن أنساه يا سيدي.»
وقال هذا لصاحبه حين خرجا: «لم يكن بكاؤك فكرة سيئة، إني لمستعد أن أبكي سيلًا كالمطر إذا كان هذا هو الشرط، كيف تيسر ذلك لك؟ قُلْ لي بالله عليك.»
وأجاب جوب بلهجة الجد: «إنه ينبعث من القلب يا مستر ووكر، طاب صباحك يا سيدي.»
وقال سام في نفسه، عقب انصراف صاحبه: «أنت عميل لطيف، ولقد أخرجنا كل ما في صدرك على كل حال.»
وليس في إمكاننا أن نبيِّن طبيعة الأفكار التي خطرت ببال المستر تروتر تمامًا؛ لأننا نعرف ما هي.
وانقضى النهار، وآذن المساء، وجاء سام ولر قبيل العاشرة ينبئ سيده أن المستر جنجل وجوب خرجا معًا، وأنهما قد حزما أمتعتهما، وطلبا إعداد مركبة، وبدا أن الخطة أخذت تسير في دور التنفيذ كما قال المستر تروتر.
وبلغت الساعة العاشرة والنصف، وهو الموعد الذي اتفق على خروج المستر بكوك فيه لتنفيذ مهمته الدقيقة، وعرض عليه سام أن يرتدي معطفه الكبير، ولكنه لم يستجب لإلحاحه؛ حتى لا يعوقه عائق عن تسلق الجدار، وخرج يتبعه خادمه.
وكانت الليلة قمراء، ولكن ضياء القمر كان محتجبًا خلف السحب، والليل صافٍ بديع، ولكن الظلام كان شديدًا على غير المألوف، وقد غمرت الحلكة الدروب والسياج والحقول والدور، ولفتها جميعًا في ظُلَل من فوقها ظُلَل، وكان الجو حارًّا يرهق الأنفاس، وبرق الصيف يرعش خافتًا على حافة الأفق، وكان هو المشهد الوحيد الذي يتباين والوجوم البليد الذي يغمر كل شيء فيه، ولم يكن ثمة صوت ولا جرس، إلا صدى عواء كلب مستيقظ مسهد في حراسة بيت بعيد.
واهتديا إلى المبنى المنشود، وقرأ اللوح النحاسي، وسارا حول الجدار، ووقفا عند ذلك الجزء منه الذي يفصل بينهما وبين الحديقة من الخلف.
وقال المستر بكوك: «أما أنت، فتعود يا سام إلى الفندق بعد أن تعاونني على التسلق.»
– «أمرك يا سيدي.»
– «وتظل ساهرًا حتى أعود.»
– «بكل تأكيد يا سيدي.»
– «خُذْ برجلي، وحين تسمعني أقول «فوق» فارفعني برفق.»
– «سأفعل يا سيدي.»
ولما انتهى المستر بكوك من هذه المقدمات أمسك بقمة الجدار، وأعطى الأمر «فوق»، فنفذه سام بالحرف، وسواء كان جسم المستر بكوك قد شارك إلى حد ما عقله في مرونته، أو كانت فكرة المستر ولر عن «الدفع برفق» لم تَخْلُ نوعًا ما من الخشونة، وتختلف قليلًا مع الوصف الذي وصفه به المستر بكوك، فإن التأثير المباشر للمساعدة التي قدَّمها هو «تطويح» ذلك الرجل الخالد من فوق الجدار بجملته إلى الأرض المنبسطة وراءه، حيث حطم في نزلته السريعة ثلاث شجيرات من التوت، وشجرة ورد، وهو يسقط بطوله كله فوق الثرى آخِر الأمر.
وقال سام في همس ظاهر، بعد أن أفاق من الدهشة التي تولته على أثر اختفاء سيده عن ناظره: «أرجو يا سيدي ألا تكون قد أصبت نفسك بأذى.»
وأجاب المستر بكوك من الجانب الآخَر للجدار: «لم أُصِبْ نفسي بأذى يا سام طبعًا، ولكني أعتقد أنك أنت الذي فعلتها.»
وقال سام: «أملي أن لا أكون يا سيدي.»
ونهض المستر بكوك من «الوقعة» وقال: «لا عليك لم يحدث غير بضعة خدوش، هيا انصرف وإلا سمعوا أصواتنا.»
– «إلى اللقاء يا سيدي.»
– «إلى اللقاء.»
وانصرف سام ولر مسترق الخطى تاركًا المستر بكوك وحده في الحديقة.
وكانت الأنوار تبدو بين لحظة وأخرى من نوافذ البيت وشرفاته، إذ تنبعث من مدارج السلم، كأنما أوى القوم إلى المضاجع، ولم يشأ المستر بكوك أن يقترب كثيرًا من الباب قبل أن يحين الموعد المضروب، فانزوى متسللًا في ركن من الجدار، وانتظر اللحظة المعينة.
وكان من المحتمل أن يُحدِث موقفٌ كهذا انقباضًا في نفوس كثير من الناس، ولكن المستر بكوك لم يكن مع ذلك يشعر بأي انقباض أو «تطيُّر»؛ فقد كان يعلم أن غرضه في الجملة طيب، وقد وضع كل ثقته في جوب الطيب الشعور، وليس من شك في أن الموقف كان ثقيلًا، إن لم نقل «رهيبًا»، ولكن في إمكان الرجل المفكر أن يتدبر الأمور في كل حين، فلا عجب إذا أسلمه التفكير إلى سرحة عابرة، لم يلبث نواقيس الكنيسة وهي تدق الحادية عشرة والنصف أن أيقظته منها، فاستوى على قدميه بحذر وهو يقول في نفسه: «هذا هو الموعد»، ورفع عينيه يتطلع إلى البيت، فإذا الأنوار قد انطفأت، وخشب النوافذ قد أُغلِق، فأدرك أن القوم بلا شك قد أووا إلى مراقدهم، فمشى على أطراف قدميه إلى الباب، فدقه دقة خفيفة، ومرت دقيقتان أو ثلاث دقائق ولم يتلقَ جوابًا، فعاد يطرقه طرقة أوضح من تلك قليلًا، ثم دقة ثالثة أكثر منها وضوحًا.
وأخيرًا سمع مواقع أقدام على السلم، وإذا ضياء شمعة ينبعث من ثقب مفتاح الباب، وطرق أذنه صوت سلاسل تُفَك، ومزلاج يُرفَع، وإذا الباب يُفتَح ببطء.
وكان فتح الباب إلى الخارج، وكلما اتسعت فتحته ازداد المستر بكوك تراجعًا خلفه وانزواءً، ولشد ما كانت دهشته حين أطلَّ بعينه على سبيل الحذر والاحتياط؛ فتبين أن الشخص الذي فتحه لم يكن جوب تروتر، بل خادمة تحمل في يدها شمعة، فأرجع المستر بكوك رأسه إلى الوراء، بتلك السرعة البالغة التي عُرِفت عن ذلك الممثل البارع البديع «بنتش»، حين يقف مترصدًا لذلك الممثل الهزلي المفرطح الرأس، الذي يحمل صندوقًا من القصدير يحوي آلة موسيقية.
وقالت الفتاة تخاطب أخرى من داخل البيت: «لا بد من أن تكون القطة يا سارة.»
ولما لم تجد حيوانًا مثلها يعبث بالباب، عادت في رفق تغلقه، وتعيد مزلاجه إلى موضعه، تاركة المستر بكوك لاصقًا بالجدار.
وراح المستر بكوك يقول في نفسه: «هذا شيء غريب جدًّا، أحسبهن ساهرات إلى ما بعد الوقت المألوف، يا للخيبة المتناهية أن يخترْنَ هذه الليلة دون سواها، وهي التي جئت فيها لتحقيق ذلك الهدف، حظ سيئ كل السوء!»
وعاد بكل حذر إلى الركن الذي كان من قبلُ مختبئًا فيه، منتظرًا ريثما يتبين أن لا خوف من تكرار الإشارة.
ولم تنقضِ خمس دقائق عليه في ذلك الموضع، حتى رأى برقًا خاطفًا يلتمع فجأة في الفضاء، ثم يعقبه قصف رعد شديد تتردد أصديته بعيدًا، ويُحدِث تردادها صوتًا مروعًا، وإذا برق آخَر ينبعث أبهر ضياء من الأول، ثم يتلوه رعد أشد قصفًا من سابقه، وإذا المطر ينهمر بقوة مكتسحة كل شيء أمامها.
وكان المستر بكوك يعلم حق العلم أن من الخطر الاحتماء من الصواعق بجوار شجرة، وكانت عن يمينه واحدة، وعن شماله أخرى، وثالثة قائمة قبالته، ورابعة من خلفه، فإذا هو لبث في مكانه، فقد يقع ضحية حادث، ولو بدا في بهرة الحديقة، فقد يسلمونه إلى الشرطي، فراح يحاول مرة أو مرتين تسلق الجدار، ولكنه لم يجد في هذه المرة من سيقان ترفعه إلى أعلى غير الساقين اللتين أنعمت الطبيعة بهما عليه، ولا نتيجة لهذه المحاولة غير إصابته بسحجات أليمة في ركبتيه، وخدوش منوعة في قصبتيهما، وإجهاد قواه إلى حدٍّ جعل العرق يتصبب غزيرًا من جميع أطراف بدنه.
وقال المستر بكوك لنفسه، وقد وقف ليمسح عرقه بعد ذلك المجهود: «يا له من موقف مروع!» وتطلع ببصره إلى البيت؛ فوجد الظلام يغمره من جميع أرجائه، فاعتقد أن القوم لا بد أن يكونوا قد عادوا إلى مضاجعهم، فَلْيجرب الإشارة مرة أخرى.
ومضى على أطراف أصابع قدميه فوق الحصباء الندية وطرق الباب، وأمسك بأنفاسه، وأنصت إلى ثقب المفتاح، ولكنه لم يسمع جوابًا، هذا أمر غريب كل الغرابة، ودق أخرى، ومضت ثانية، فبلغ سمعه همس خافت من الداخل، ثم صوت يصيح: «من هذا؟»
وقال المستر بكوك في نفسه: «ليس هذا صوت جوب.» وتراجع في الحال إلى الجدار، «هذا صوت امرأة!»
ولم يكد يصل بتفكيره إلى هذه النتيجة حتى انفتحت نافذة فوق السلم، ورددت ثلاث أو أربع نسوة السؤال عينه: «من هذا؟»
ولم يجرؤ المستر بكوك على تحريك يد أو قدم، فقد تبيَّن له أن القوم جميعًا قد هبوا من نومهم، فاعتزم البقاء في موضعه حتى يهدأ ذلك الفزع، ثم يحاول بجهد يفوق الطبيعة تسلق الجدار، أو يهلك دونه.
وكانت هذه العزيمة ككل عزمات المستر بكوك خير وسيلة تُتَّخَذ في هذا الموطن، ولكنها كانت لسوء الحظ مبنية على افتراض أن القوم لن يجرءوا على فتح الباب مرة أخرى، ولشد ما كانت حيرته حين سمع أصوات السلاسل والمزالج وهي تُرفَع، وشهد الباب ينفتح شيئًا فشيئًا، فتراجع إلى الركن خطوة فخطوة، ولكن جسمه — على كل حال — حال بين فتح الباب على سعته.
وتعالت أصوات عدة من السلم تقول: «من هناك؟»
وكانت هذه الصوات تتألف من أصوات السيدة العانس ربة البيت، وثلاث معلمات، وخمس خادمات، وثلاثين طالبة، وكلهن أنصاف عاريات، وفي غابة من الجدائل الملففة المعقوصة في قلانس من الورق.
وبالطبع لم يقل المستر بكوك مَن هو الذي كان هناك، وإذا نغمة الصيحات تتحول إلى نغمة جديدة، وهي: «رباه … إنني خائفة!»
وصاحت الراهبة المديرة، وقد توخت الوقوف في أعلى السلم أو في المؤخرة: «أيها الطاهية! لماذا لا تدخلين الحديقة قليلًا لكي تبحثي؟»
وأجابت الطاهية: «من فضلك يا سيدتي، لا أحب ذلك!»
وصاحت الطالبات الثلاثون قائلات: «يا إلهي، ما أغبى هذه الطاهية!»
وعادت الراهبة تقول بجد وجلال: «يا طاهية، لا تردي عليَّ من فضلك، إني أصر على دخولك الحديقة في الحال لتبحثي عمن فيها.»
وهنا بدأت الطاهية تبكي، وقالت خادم البيت: «إن هذا لعار شديد تستحق عليه إنذار شهر في الحال.»
وقالت السيدة الراهبة وهي تضرب الأرض بقدميها نافدة الصبر: «هل سمعت يا طاهية؟»
وقالت المعلمات الثلاث: «ألا تسمعين كلام سيدتك أيتها الطاهية؟»
وصاحت الطالبات: «ما أوقح هذه الطاهية!»
وعندئذٍ لم يسع الطاهية المسكينة بعد كل هذا الإلحاح الشديد عليها إلا أن تتقدم خطوة أو خطوتين، وترفع شمعتها إلى وضع يحول بينها وبين رؤية شيء مطلقًا، وقالت إنها لم تجد أحدًا هناك، وإنه لا بد أن يكون ذلك الصوت الذي سمعته هبة الريح، وكاد الباب يُغلَق مرة أخرى، لولا أن طالبة فضولية كانت واقفة تنظر من خلال «مفصلات» الباب، أطلقت عندئذٍ صرخة مخيفة، عادت على أثرها الطاهية، والخادمة والطالبات الجريئات أكثر من أترابهن مبادِرات إلى الموضع.
وصاحت السيدة الراهبة في اللحظة التي بدأت فيها الطالبة الصارخة تنطلق في نوبة تشنجية قوة أربع بنات: «ما الذي جرى لمسز سميذرز؟»
وصاحت الطالبات التسع والعشرون في نفس واحد: «رباه مسز سميذرز! يا ويلتاه!»
وصرخت مس سميذرز قائلة: «الرجل، الرجل الواقف خلف الباب!»
ولم تكد السيدة الراهبة تسمع هذه الصرخة المروعة حتى ارتدت عائدة إلى مخدعها، وأحكمت إغلاق الباب، وأغمي في هدوء عليها، كما تراجعت الطالبات والمعلمات والخادمات متدافعات إلى السلم متساقطات، وأخذن في صياح وإغماء، وتدافع لا مثيل له، وفي وسط هذه الضجة خرج المستر بكوك من مخبئه، ووقف بينهن، وهو يقول: «أيتها السيدات … أيتها السيدات العزيزات!»
وقالت إحدى المعلمات، وهي أكبرهن سنًّا، وأكثرهن دمامة وقبحًا: «إنه يدعوننا بالعزيزات، آه من الشقي!»
وصاح المستر بكوك مستيئسًا من حرج موقفه: «أيتها السيدات، أصغين لقولي، أنا لست لصًّا، ولكني أريد أن أتحدث إلى ربة البيت.»
وصرخت معلمة أخرى قائلة: «أواه، يا له من وحش مفترس! يقول إنه يريد الكلام مع مس تومكنز!»
وهنا ارتفع صياح عام.
وصاحت عدة أصوات: «ليدق أحد جرس الخطر!»
وصرخ المستر بكوك قائلًا: «لا تفعلن! لا تفعلن! انظرْنَ إليَّ، هل أبدو كما يبدو اللص؟ يا سيداتي العزيزات، لكن في وسعكن أن تشددن وثاقي، أو تحبسنني في مكان ضيق، وإنما اسمعن لما أريد أن أقوله، اصغين لي.»
وقالت الخادمة متلعثمة: «كيف جئت إلى حديقتنا؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يُجهِد رئتيه إلى نهاية قواهما: «ادعين لي ربة البيت، وأنا سأحدثها عن كل شيء، كل شيء، نادينها، ولكن لا تصرخن، وستسمعن الحكاية كلها.»
وعندئذٍ بدأ فريق من العاقلات فيهن لا يتجاوز عددهن أربعًا يثبن نوعًا ما إلى الهدوء، وقد يكون مردُّ ذلك إلى مظهر المستر بكوك نفسه، أو إلى سلوكه الذي وصفناه، أو إلى اللهفة التي لا يستطيع عقل المرأة مغالبتها، ونعني بها الرغبة الشديدة في سماع شيء يبدو في تلك اللحظة سرًّا مرهوبًا، ومضين يقترحن عليه، للتدليل على صدقه وإخلاصه، أن يذعن لما يطلبن إليه، ورضي ذلك السيد أن يعقد مؤتمرًا مع مس تومكنز في داخل غرفة صغيرة اعتادت طالبات القسم النهاري أن يعلقن فيها قبعاتهن، وحقائب غذائهن، فتقدَّم في الحال إلى تلك الغرفة طائعًا مختارًا، وأغلق الباب عليه لتطمئن قلوبهن، وما لبث هذا التصرف أن أنزل السكينة على أفئدة الأخريات، وجيء بالسيدة الراهبة من مخدعها، وابتدأ المؤتمر.
وقالت مسز تومكنز بصوت خافت: «ماذا كنت تفعل في الحديقة أيها الرجل؟»
وأجاب المستر بكوك من جوف محبسه: «جئت لأنبهك يا سيدتي بأن إحدى البنات هنا ستُختَطَف الليلة.»
وصرخت مس تومكنز، والمعلمات الثلاثون، والخادمات الخمس معًا: «ستُختَطَف! ومَن الذي سيختطفها؟»
قال: «صديقك المستر شارلز فتز-مارشال.»
قالت: «صديقي! لا أعرف شخصًا بهذا الاسم.»
قال: «إذن فلأدعه باسمه الآخر، المستر جنجل.»
قالت: «لم أسمع بهذا الاسم في حياتي.»
قال: «إذن لقد غُرِّر بي، وخُدِعت وكنت ضحية مؤامرة دنيئة حقيرة، أرسلي أحدًا إلى فندق «أنجل» يا سيدتي إذا لم تكوني مصدقتي، أرسلي إلى ذلك الفندق مَن يدعو خادم المستر بكوك، أتوسل إليك أن تفعلي يا سيدتي.»
وقالت مس تومكنز للمربية الكاتبة الحاسبة: «لا بد أن يكون رجلًا محترمًا ما دام له خادم خاص.»
وأجابت المربية قائلة: «إن رأيي يا مس تومكنز هو أن خادمه هو الذي يحرسه، وأظن أنه مجنون يا مس تومكنز، والآخَر حارسه!»
وأجابت مس تومكنز: «أحسبك على حق يا جوين، فَلْتذهب خادمتان إلى فندق «أنجل»، ولتبقَ الأخريات هنا لحمايتنا.»
وأوفدت خادمتان على عجل إلى الفندق للبحث عن صمويل ولر، وتخلفت الخادمات الثلاث لحماية تومكنز، والمعلمات الثلاث، والطالبات الثلاثين، بينما جلس المستر بكوك في الغرفة تحت حقائب الشطائر، ينتظر عودة الرسولين بكل ما استطاع أن يستجمع من الفلسفة والصبر والجَلَد لنجدته.
وعادتا بعد ساعة ونصف ساعة، وتبين بكوك عندئذٍ أن هناك إلى جانب صوت صمويل ولر صوتين آخَرين، أحدهما مألوف لسمعه، ولكنه لا يدري لمَن هو، ولا يذكر مطلقًا صاحبه.
وجرى حديث موجز، وفُتِح الباب، وخرج بكوك من المحبس، فوجد نفسه في حضرة أهل البيت جميعًا، وصمويل ولر، والسيد الكبير واردل، وخطيب ابنته العتيد تراندل.
وجرى المستر بكوك نحو واردل، فتناول يده مصافحًا وهو يقول: «أهلًا يا صديقي العزيز، بحق السماء اشرح لهذه السيدة الموقف السيئ الحَرِج الذي أنا فيه، فلا بد أنك قد سمعت به من خادمي، قُلْ على كل حال يا عزيزي إنني لست لصًّا، ولا أنا بمجنون!»
وأجاب المستر واردل وهو يهز يد صديقه اليمنى، بينما راح المستر تراندل يهز اليسرى: «لقد قلت ذلك يا صديقي العزيز، قلته قبل الآن.»
وتدخل المستر ولر وهو يتقدم خطوة قائلًا: «ومَن يقول هذا أو قاله، فإنما يقول كذبًا، ولا ينطق حقًّا، بل أبعد ما يكون من الحق … بل العكس تمامًا … وإن كان في هذا البناء رجال قالوا ذلك، مهما يكن عددهم، فإني ليسرني أن أقدِّم إليهم دليلًا مقنعًا كل الإقناع بأنهم مخطئون، هنا في هذه الغرفة ذاتها، إذا تكرَّمت السيدات المحترمات فانصرفن منها، وأمرن أولئك الرجال أن يأتوا إليَّ واحدًا بعد الآخَر.»
وبعد أن فرغ المستر ولر من إلقاء هذا التحدي بذلاقة بالغة، راح يضرب كفه المبسوطة بقبضة يده الأخرى، مؤكدًا بهذه الحركة قوله، ويغمز بعينيه مسرورًا مداعبًا المس تومكنز التي لا يستطيع أحد وصف مدى رعبها؛ لظنه أنه من المحتمل أن يكون ثمة رجال في مدرستها المقصورة على البنات دون سواهن.
وانتهى المستر بكوك سريعًا من شرح الحادث إلى حد ما، ولكنه في عودته إلى الفندق مع أصحابه، وجلوسه إلى نار مشبوبة، وعشاء هو أحوج ما يكون إليه، لم يقل شيئًا، ولم تستطع ملاحظة واحدة من جانب أصحابه استخلاص قول منه، فقد بدا مذهولًا سابح الخاطر شاردًا، وإن التفت مرة أو مرتين إلى المستر واردل فقال: «كيف أتيت إلى هنا؟»
وأجاب واردل بقوله: «لقد أتينا أنا وتراندل إلى هنا طلبًا للقنص، ووصلنا الليلة، ودهشنا عندما علمنا من خادمك أنك هنا أيضًا.» وراح الشيخ يربت على ظهره وهو يقول: «وإني لمغتبط بلقائك، وسنستمتع برحلة بهيجة إلى الصيد في أول الموسم «سبتمبر»، ونهيئ لونكل فرصة أخرى، فما رأيك يا صاح؟»
فلم يُحِرْ المستر بكوك جوابًا، بل لم يسأل عن أصدقائه في «دنجلي ديل»، ولم يلبث أن أوى إلى غرفته، وأمر سام بأن يُحضِر الشموع إذا هو دق الجرس له.
ودق الجرس في الوقت المناسب، ومثل المستر ولر في حضرة سيده.
وتطلع المستر بكوك إليه من تحت الأغطية قائلًا: «يا سام.»
قال: «نعم يا سيدي.»
وسكت المستر بكوك لحظة، وأوقد المستر ولر الشمعة.
وعاد المستر بكوك ينادي قائلًا: «يا سام.» كأنما يبذل مجهودًا بالغًا.
وأجاب المستر ولر مرة أخرى: «نعم يا سيدي.»
– «أين هذا الرجل الذي يُدعَى تروتر؟»
– «أتعني جوب يا سيدي؟»
– «نعم.»
– «ذهب يا سيدي.»
– «أظن مع سيده؟»
– «مع صاحبه أو سيده أو كائنًا مَن يكون، لقد ذهب معه، لعنة الله عليهما معًا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو يكاد يختنق: «لقد فطن جنجل إلى خطتي، فدسَّ عليك ذلك المخلوق، واخترع لك تلك القصة، هذا هو رأيي.»
وأجاب المستر ولر: «هو ذلك تمامًا يا سيدي.»
– «وكان كل ذلك كذبًا وبهتانًا!»
– «كله يا سيدي، حيلة مسبوكة يا سيدي، لهروب فني محبوك.»
وقال المستر بكوك: «لا أظنه سيهرب منا بهذه السهولة في المرة القادمة يا سام.»
– «لا أظنه يا سيدي.»
ونهض المستر بكوك متحاملًا في فراشه، وضرب وسادته بقبضة يده قائلًا: «إذا قُدِّر لي يومًا أن ألتقي بهذا الرجل في أي مكان، فسأوقع عليه عقابًا بدنيًّا إلى جانب الفضيحة التي يستأهلها إلى حد بعيد، سأفعلَنَّ، وإلا لما كنت أُدعَى بكوك!»
وقال سام: «وإذا أنا أمسكت بذلك المخلوق المكتئب الحزين الأسود الشعر، فلن أُدعَى ولر إن لم أجلب دموعًا حقيقية إلى عينيه، ولو مرة في العمر، طاب ليلك يا سيدي.»