الفصل الثامن عشر
يبين بإيجاز مسألتين: الأولى قوة «التشنجات»، والأخرى قوة «الظروف».
***
وظل البكوكيون يومين عقب مأدبة الإفطار في دار مسز هنتر، مقيمين في إيتنزول، يرتقبون في قلق وصول أنباء من زعيمهم الموقر، وهكذا وجد المستر طبمن والمستر سنودجراس نفسيهما متبطلين يلهوان كما شاءا؛ لأن المستر ونكل لبث مقيمًا في دار المستر بت؛ تلبيةً لدعوة ملحة، مكرسًا وقته لمرافقة السيدة المحببة، ولم يكن مجلسهما بين الفينة والفينة ينقصه حضور المستر بت نفسه، ليستكملا هناءتهما، ولئن كان في شغل شاغل أكثر وقته بالتفكير في الصالح العام، والقضاء على الصحيفة المعارضة «الإنديبندنت»، فلم تكن من عادة ذلك الرجل العظيم أن يهبط من أوجه الذهني إلى وهدة الأذهان العادية، ولكنه في هذه المناسبة بالذات، وعلى سبيل المجاملة المقصودة لأي مريد من من مريدي المستر بكوك، اضطر إلى التنزل من عليائه، والتسامح في كبريائه، والهبوط من قاعدة تمثاله للمشي على الأرض، والتعطف بالنزول بأفكاره وآرائه إلى مستوى إفهام القطيع العام، والتظاهر — شكلًا لا حقيقة — بأنه واحد منه.
وإذا كان هذا هو مسلك ذلك الرجل الذائع الذكر إزاء المستر ونكل، فلا يصعب علينا أن نتصور مدى الدهشة البالغة التي ارتسمت على وجه ذلك السيد حين وجد يومًا، وهو جالس وحده في قاعة الإفطار، الباب قد فُتِح بعجلة، ثم أُغلِق بمثلها، على دخول المستر بت، وهو يمشي متسللًا إليه في جلال، ويلقى جانبًا يد ونكل المبسوطة لتحيته، ويصرف بأسنانه، كأنما يحاول أن يخفف من حدة القول الذي يوشك أن يقوله، ويصيح به قائلًا في صوت كالمنشار: «أيها الثعبان!»
وصاح المستر ونكل، وهو ينهض من مقعده: «سيدي!»
وعاد المستر بت وهو يرفع من صوته، ثم يغض منه: «ثعبان يا سيدي! قلت: ثعبانًا يا سيدي، فَلْتفسر قولي كما شئتَ.»
وإذا أنت افترقت عن رجل في الثانية بعد نصف الليل على محض المودة، ثم جاءك في التاسعة والنصف من الصباح، وحياك بقوله لك: «إنك لثعبان»، فمن المعقول أن تستنتج من ذلك أن شيئًا غير سار قد حدث في تلك الفترة، وهذا هو ما اعتقده المستر ونكل، وفكَّر فعلًا فيه، فرد على نظرة المستر بت الجلمود القاسية بمثلها، وأخذ امتثالًا لطلبه يفسر كلمة «الثعبان» كما يشاء، ولكنه لم يصل من التفسير إلى شيء إطلاقًا؛ ولهذا مضى بعد صمت عميق استغرق بضع دقائق يقول: «ثعبان يا سيدي! … ثعبان! … يا مستر بت، ماذا يمكن أن تعني بهذا يا سيدي؟ هذا عبث!»
وصاح المستر بت بحركة من يده تنم عن رغبة شديدة في قذف رأس ضيفه بإناء الشاي المعدني الموضوع أمامه: «عبث يا سيدي! … عبث! … ولكن كلا … سأظل هادئًا … سأظل هادئًا يا سيدي.» وللتدليل على هدوئه راح يتهالك على مقعد، والزبد يخرج من فمه.
وتدخل المستر ونكل قائلًا: «سيدي العزيز!»
وأجاب بت: «أتدعوني سيدي العزيز؟ كيف تجرؤ على مخاطبتي بقولك سيدي العزيز؟ وكيف تجرؤ على النظر إليَّ شذرًا، والتفوه بهذا القول يا سيدي؟»
وقال المستر ونكل: «إذا جئت إلى هنا يا سيدي، فدَعْني أقل لك: كيف تجرؤ أنت على النظر إليَّ شذرًا، وتدعوني ثعبانًا يا سيدي؟»
وأجاب المستر بت: «لأنك ثعبان.»
وقال المستر ونكل بحرارة: «أثبتْ ذلك يا سيدي … أثبته.»
وهنا خطفت عبسة خبيثة على وجه رئيس التحرير، وهو يُخرِج من جيبه عدد الصباح من «الإنديبندنت»، ويضع إصبعه على فقرة معينة فيه، ويقذف بالجريدة من فوق المائدة إليه.
إن زميلنا الخامل الذكر القذر، حاول في بعض ملاحظاته التي تتقزز منها النفوس على الانتخابات التي جرت أخيرًا في الدائرة، أن ينتهك قدسية الحياة الخاصة، فأشار بشكل لا يمكن أن يساء فهمه إلى شئون مرشحنا الخاصة، بل دَعْنا نقول، رغم هزيمة مرشحنا بوسائل دنيئة، نائبنا العتيد، المستر فيزكن، فماذا يعني زميلنا النذل بهذا الذي كتبه، بل ماذا هو قائل إذا نحن فعلنا ما فعله، فلم نبالِ مثله بالأدب الاجتماعي، وحرمة الحياة الخاصة، وأزحنا الستار الذي يُخفِي لحسن الحظ حياته هو الخاصة عن السخرية العامة، إذا لم نقل عن اشمئزاز الناس واستنكارهم؟ بل ماذا تكون الحال إذا نحن أوضحنا وعقبنا على الوقائع والظروف التي افتضح أمرها، وشاهدها الناس جميعًا إلا زميلنا المكفوف البصر؟ ماذا تكون الحال حقًّا، إذا نحن نشرنا الأبيات التالية التي تلقيناها ونحن نكتب هذه السطور من مواطن موهوب، ومراسل لنا؟ وهذه هي الأبيات:
نداء إلى «إبريق»١ نحاسي
وانثنى المستر بت يقول بصوت رهيب: «ماذا تكون القافية التي تستوجبها كلمة «تجلجل»، «وتفعل» يا شقي؟»
وقالت مسز بت، وكان دخولها في تلك اللحظة بمثابة الرد سلفًا: «ما هي الكلمة أو القافية التي تتفق وكلمة «تجلجل» و«تفعل»؟ أظنها ونكل.» وراحت تبتسم ابتسامة عذبة للبكوكي المرتبك، وتمد إليه يدها، ولو أن بت لم يتدخل فيقول غاضبًا: «كفى يا سيدتي، كفى، أتتناولين يده أمام وجهي؟» لَقبَّلَها الشاب المضطرب مدفوعًا إلى ذلك باضطرابه.
وقالت السيدة مبهوتة: «يا مستر ب!»
وصاح بها زوجها قائلًا: «اسمعي أيتها المرأة المنكودة، اسمعي يا سيدتي: نداء إلى «إبريق» نحاسي «بت» نحاسي، يعني أنا يا سيدتي، ولو عرفت أنها على الدهر، ستروح خائنتك، يعني أنتِ يا سيدتي، أنتِ!»
وبهذه الفورة الشديدة التي بدا بها غضبه، والتي اقترنت بشيء يشبه الارتجاف، مضى يقذف وجه امرأته بالجريدة، فسقط العدد عند قدميها.
وقالت مسز بت في دهشة، وانحنت فالتقطت الصحيفة: «بشرفي يا سيدي، بشرفي يا سيدي!»
وهنا استخذى المستر بت، وتراجع أمام النظرة المحتقرة التي حدجته بها زوجته، وغالب مغالبة مستيئسة لجمع شتات شجاعته، ولكن تلك الشجاعة لم تلبث أن تناثرت بددًا.
وليس في تلك العبارة القصيرة «بشرفي يا سيدي!» شيء مرهوب أو خطير مطلقًا، وأنت اللحظة تقرأها، ولكن اللهجة التي قيلت بها، والنظرة التي صحبتها، كانتا تنطويان على تلميح إلى عقاب سيقع على رأس بت فيما بعدُ، فلم تلبثا أن أحدثتا أثرهما فيه، حتى لم يكن ليغيب عن أقل الناس فطنة، إذا هو نظر إلى وجهه المضطرب، أنه لم يكن ليتردد في خلع حذائه الولنجتون إلى أي امرئ قدير، يرضى أن ينتعله في تلك اللحظة بدلًا منه.
وقرأت مسز بت تلك الأبيات، وأطلقت صرخة عالية، وألقت بنفسها على البساط، ومددت قدميها صارخة، وضربت بكعب حذائها، وركلت بقدميها في صورة لم تدع ذرة من الشك في صدق ما كانت تحس به إزاء هذا الموقف.
وقال بت، وقد وقف جامدًا في مكانه: «لم أقل يا عزيزتي أنني صدَّقت ذلك.» ولكن صوت المسكين قد غرق في صرخات شريكته.
وقال المستر ونكل: «دَعِيني يا مسز بت، أتوسل إليك يا سيدتي العزيزة أن تهدئي من روعك.» ولكن صرخاتها ودقات كعبها فوق البساط غطت على صوته، وكانت أكثر من قبلُ تتابعًا.
وراح المستر بت يقول: «إنني جد آسف يا عزيزتي! وإذا لم تكُفِّي مراعاة لصحتك، فراعي مركزي أنا يا عزيزتي؛ حتى لا يتجمهر الناس حول البيت.»
ولكن صرخاتها زادت اشتدادًا وتتابعًا كلما زاد المستر بت توسلًا.
وكانت في البيت — لحسن الحظ — وصيفة خاصة لمسز بت، وهي شابة كان عملها في الظاهر الإشراف على زينة السيدة، وإن أدَّتْ إليها في الواقع خدمات كثيرة منوعة، وأهمها ما يتعلق بمساعدة سيدتها في تحقيق كل رغبة تتعارض مع رغبات بت التعس، فلم تلبث تلك الصرخات أن بلغت سمع تلك الوصيفة الشابة؛ فجاءت إلى الحجرة مهرولة، تكاد من سرعتها تُفسِد إلى حد كبير نظام شعرها، وعقصة جدائلها، ووضع قبعتها.
وراحت تصيح وهي تجثو مروعة بجانب مسز بت المنبطحة على البساط: «رباه! … يا سيدتي العزيزة، ما الذي جرى يا سيدتي العزيزة؟»
وغمغمت المريضة: «سيدك المتوحش!»
وبدا على المستر بت الاستسلام والاستكانة، فلم يَفُهْ بقول.
وراحت الوصيفة تقول بلهجة التأنيب: «يا للعار! أنا عارفة أنه سيودي يومًا بحياتك يا سيدتي، واهًا لك يا سيدتي المسكينة!»
فازداد بت استكانة واستسلامًا، وتابعت زوجته الهجوم فقالت: «أواه … لا تتركيني يا جودوين، لا تتركيني.» ومضت تتعلق بمعصم الوصيفة في هزة عصبية شديدة وهي تقول: «أنتِ الإنسان الوحيد الذي يحنو عليَّ يا جودوين.»
ولم تكد جودوين تسمع هذا الاستنجاد المؤثر بها، حتى عمدت هي الأخرى إلى تمثيل مأساة خاصة، فراحت ترسل فيضًا مدرارًا من العَبَرَات، وتقول: «لن أتركك أبدًا يا سيدتي، أبدًا. أواه يا سيدي، ينبغي أن تكون حريصًا، ينبغي لك أن تحتاط يا سيدي؛ إنك لا تعرف أي أذى أنت مُحدِثه للسيدة، وسوف تأسف في يوم من الأيام على ما فرطت فيه من قبلُ، وأنا بالأمر عارفة، ولطالما قلت ذلك قبل الآن.»
ولبث بت التعس ينظر خائفًا متهيبًا، ولا يقول شيئًا.
وقالت مسز بت بصوت خافت: «جودوين!»
وأجابت هذه قائلة: «نعم يا سيدتي.»
– «آه لو عرفت كيف أحببتُ هذا الرجل؟»
وقالت حارستها: «لا تحزني نفسك باستعادة الذكريات يا سيدتي.»
وبدا الخوف البالغ على بت، وحانت اللحظة الحاسمة للإجهاز عليه، فانطلقت مسز بت تقول وهي تنتحب: «والآن بعد كل ذلك يصبح جزائي عنده هذه المعاملة التي يعاملني بها، وتأنيبي وإهانتي في حضرة شخص ثالث، وهذا الشخص الثالث يكاد يكون غريبًا!»
وسكنت لحظة، ثم واصلت الحديث وهي ترفع نفسها في أحضان وصيفتها: «ولكن لن أرتضي ذلك يا جودوين ولن أقبله، وسيتدخل شقيقي اللفتنانت، وسأنفصل يا جودوين!»
وقالت جودوين: «يستأهل يا سيدتي.»
ولم يجاهر بت بما دار في خاطره من الأفكار حين تلقى هذا التهديد بالانفصال، وإنما قنع بقوله في ذلة بالغة: «أَلَا تنصتين لي يا عزيزتي؟»
فكان جوابها الوحيد فيضًا آخَر من البكاء والنحيب، وازدادت بت عصبية وتشنجًا، وراحت تتسائل: لماذا جاءت إلى هذه الدنيا، ولماذا تُرَاها وُلِدت؟ وغير ذلك من الأسئلة المماثلة.
ومضى المستر بت يقول مترجيًا مستعطفًا: «لا تستسلمي يا عزيزتي لهذه المشاعر المؤثرة، فما اعتقدت يومًا أن هذه الفقرة تقوم على أساس، هذا مستحيل يا عزيزتي، وكل غضبي يا عزيزتي، بل أقول كل هياجي وحنقي، إنما هو موجَّه إلى الإنديبندنت وكتَّابها لجرأتهم على نشرها، هذا هو كل ما هنالك.»
وألقى المستر بت نظرةً متوسلة إلى مَن كان سببًا فيما جرى، وهو البريء، كأنما يناشده ألَّا يذكر شيئًا عن «الثعبان».
وانثنى المستر ونكل يقول، وقد استرد الشجاعة حين وجد بت قد فقدها: «وأي إجراء تنوي يا سيدي أن تتخذه للاقتصاص من هذا السوء الذي أحدثوه؟»
وقالت مسز بت: «أواه يا جودوين، هل ينوي أن يضرب رئيس التحرير بالسوط تأديبًا له؟ هل ينوي ذلك يا جودوين؟»
وأجابتها حارستها: «اسكتي يا سيدتي، وهدئي من روعك، إني لأجرؤ على القول: إنه سيفعل ذلك إذا شئت يا سيدتي.»
وقال بت حين رأى زوجته تبدي أعراضًا لمعاودة النوبة: «بلا ريب، سأفعل ذلك بالطبع.»
وعادت مسز بت تقول وهي لا تزال مترددة في معاودة التشنج: «ومتى يا جودوين متى؟»
وأجاب المستر بت قائلًا: «في الحال طبعًا، قبل أن ينقضي النهار.»
وقالت زوجته: «أواه، يا جودوين، هذه هي السبيل الوحيدة لتأديبه على هذه الوشاية، ورد كرامتي أمام الناس.»
وأجابت جودوين: «بلا شك يا سيدتي، وما من رجل يا سيدتي تطاوعه رجولته أن يرفض عملًا كهذا.»
ورأى المستر بت أن نوبة التشنج لا تزال مرفرفة توشك أن تعود، فعاد يكرر أنه سيفعل ذلك، ولكن مسز بت من فرط تأثرها بفكرة الارتياب بها، ظلت مرارًا على وشك الانهيار، وكانت بلا نزاع ستعود إليه، لولا الجهود الملحة التي بذلتها جودوين، ولولا التوسلات المتكررة من جانب بت المغلوب على أمره للعفو عنه، والصفح عما كان منه. وأخيرًا، حين رأت مسز بت أن ذلك المسكين قد تملكه الروع، وأنزل من عليائه إلى المستوى اللائق به، عادت فثابت إلى نفسها، ونهض الجميع لتناول طعام الفطور.
وقالت مسز بت وهي تبتسم من خلال بقايا عَبَرَاتها: «لن تدع هذه الوشاية الحقيرة التي اخترعَتْها تلك الجريدة تقصر من مقامك هنا يا مستر ونكل!»
وقال المستر بت: «أرجو أن لا يكون ذلك.» وهو يود في أعماق نفسه لو اختنق ضيفه بتلك القطعة من الخبز اليابس الذي كان يهم برفعها إلى فمه في تلك اللحظة، وبذلك ينهي مقامه في داره فعلًا.
وأجاب المستر ونكل قائلًا: «إنك لكريم يا سيدي، ولكن وصل كتاب من المستر بكوك، كما علمت من رقعة بعث بها المستر طبمن، وسُلِّمَتْ إليَّ في غرفتي هذا الصباح، وعلمت أن المستر بكوك يرجو إلينا أن نوافيه في «بري» اليوم، وإننا معتزمون السفر بالمركبة الحافلة ظهرًا.»
وقالت مسز بت: «ولكنك ستعود إلينا، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «أوه، بكل تأكيد.»
وعادت تقول وهي تسترق نظرة حنونًا رقيقة إلى ضيفها: «هل أنت واثق حقًّا؟»
وأجاب المستر ونكل: «كل الثقة.»
وانتهى الإفطار في صمت؛ لأن كل إنسان منهم كان يفكر في أمره وهمه، فكانت مسز بت متأسفة على فراق حبيب، والمستر بت على تهوره في التعهد بضرب رئيس تحرير الإنديبندنت بالسوط، والمستر ونكل على وضع نفسه بسذاجة وسلامة نية في موطن حرج.
واقترب الظهر، وبعد عدة توديعات ووعود بالإياب، انفلت المستر ونكل لا يلوي على شيء.
وقال المستر بت في نفسه، وهو يدخل المكتب الصغير الذي يعد فيه «صواعقه»: «سأدس السم له لو رجع!»
وجعل المستر ونكل يقول وهو منطلق في طريقه إلى فندق «بيكوك»: «لو عدت واختلطت بهؤلاء القوم مرة أخرى، لكنت أنا المستحق أن أُضْرَب بالسياط، هذا هو كل ما في الأمر.»
وكان صديقاه على الأهبة، وكانت المركبة تستعد هي أيضًا، فلم يمضِ نصف ساعة حتى انطلقوا في رحلتهم على الطريق ذاته الذي اجتازه المستر بكوك وسام في سفرتهما الأخيرة، التي قلنا من قبلُ شيئًا عنها، ونعتقد أننا مطالبون بأن نقتطف ذلك الوصف الشعري الجميل الذي وصفها به المستر سنودجراس في مذكراته.
وكان المستر ولر واقفًا بباب فندق «أنجل» على استعداد لاستقبالهما، فلما وصلوا أدخلهم على المستر بكوك، ولشد ما كانت دهشة المستر ونكل والمستر سنودجراس، بل لشد ما كان ارتباك المستر طبمن حين وجدا المستر واردل والمستر تراندل معه.
وقال الشيخ وهو يتناول يد المستر طبمن: «كيف أنت؟ لا تتراجع، ولا تَبْدُ منفعلًا مضطرب العاطفة على هذا النحو؛ فليس في ذلك الأمر حيلة يا صاح، لوددت من أجلها هي لو أنك ظفرت بها، ولكني مغتبط لأنك لم تظفر بها، وهذا خير لك، إن شابًّا مثلك واجد خيرًا من ذلك في يوم من الأيام.»
وبهذه المواساة ألقى المستر واردل يده على ظهر المستر طبمن، وأرسل من أعماق صدره ضحكة مجلجلة.
وانثنى يهز يدي المستر ونكل والمستر سنودجراس معًا مصافحًا، وهو يقول: «والآن كيف أنتما أيها السيدان الظريفان؟ لقد كنت اللحظة أقول للمستر بكوك إننا لا بد أن نأخذكم جميعًا عندنا في عيد الميلاد؛ لأننا مُقْدِمون على زفاف.»
وقال المستر سنودجراس، وقد ارتد وجهه شاحبًا: «زفاف! زفاف حقيقي في هذه المرة!»
وأجاب الشيخ الماجن: «آه! زفاف! ولكن لا ترتعب للنبأ؛ إنه زفاف تراندل وبللا.»
وقال المستر سنودجراس، وقد استراح من شك أليم كان قد ران على صدره: «أهذا كل ما في الأمر؟ مبارك يا سيدي، وكيف حال جو؟»
وأجاب السيد الكبير: «بخير، نعسان كعهدك به.»
قال: «ووالدتك، والقسيس، والأسرة جميعًا؟»
وأجاب واردل: «بخير وعافية.»
وقال المستر طبمن، وهو يجاهد نفسه مجاهدة: «وأين … أين هي يا سيدي؟»
وأشاح بوجهه، وحجب عينيه بيديه.
وقال الشيخ: «هي!» ثم هز رأسه هزة العليم، واستتلى قائلًا: «هل تعني قريبتي العزبة؟»
وأومأ المستر طبمن إيماءة توحي بأن سؤاله يراد به «راشل» الخائبة الأمل.
ومضى الشيخ يقول: «أوه، لقد ذهبت، وهي اليوم تقيم عند قريب لها يقطن موضعًا بعيدًا؛ لأنها لم تُطِقْ لقاء ابنتي، فتركتها تذهب، ولكن تعال، ها هو ذا الغداء مهيأ، ولا بد من أن تكون جائعًا، بعد ركبتك؛ فإني جائع ولم أركب مثلك، فهلموا بنا نجلس إلى الطعام.»
وأدوا للوجبة حقها، وحين جلسوا حول المائدة، بعد أن رُفِعت الصحاف عنها، راح المستر بكوك وسط حنق مريديه وشدة استبشاعهم، يقص عليهم الحادث الذي وقع له، والنجاح الذي كان حليفًا لمكر جنجل الخبيث الرجيم، وأحابيله النكراء.
وختم المستر بكوك قصته قائلًا: «وقد أحالني النقرس الذي أصابني في تلك الحديقة أعرج في هذه اللحظة لا أستطيع المسير.»
وقال المستر ونكل وهو يبتسم: «وأنا أيضًا لي واقعة حال.» وانطلق تلبية لرجاء المستر بكوك يقص قصة القذف الشنيع الذي وجَّهته جريدة إيتنزول المستقلة، والهياج الذي انتاب صديقهم رئيس التحرير من جرَّائه.
وكان جبين المستر بكوك مقطبًا خلال القصة، وأدرك أصحابه ذلك عليه، فلما انتهى المستر ونكل منها، وساد السكون، انطلق المستر بكوك يضرب المائدة بجمع كفه ويقول: «أليس من غرائب الظروف ألا ندخل بيت رجل إلا ورطناه إلى حد ما، وأوقعناه في محرجة؟ بل إني لأسأل: أليس هذا دليلًا على نزق أصحابي، بل على ما هو شر من ذلك وأنكى، على سواد قلوبهم؟ فتحت كل سقف يقيمون، نراهم يزعجون سكينة أنثى وادعة مطمئنة، ويفقدونها سعادتها ورغدها، أقول: أليس …»
وأكبر الظن أن المستر بكوك كان سينطلق في هذا القول ومثله، ويمعن طويلًا، لولا أن دخل عندئذٍ سام يحمل كتابًا، فقطع عليه بدخوله فيض بلاغته.
ومسح الرجل جبينه بمنديله، وخلع منظاره، فمسح زجاجته، ثم رده إلى عينيه، وقال وقد استرد رفق لهجته، وهدوء صوته: «ما هذا الذي جئت به يا سام؟»
وأجاب المستر ولر: «لقد عرجت على مكتب البريد منذ لحظة فوجدت هذا الكتاب، وقد لبث فيه يومين كاملين، وهو مختوم بخاتم رسمي، ومُعَنْوَن بحروف مستديرة!»
وقال المستر بكوك وهو يفضُّ الغلاف: «لا أعرف هذا الخط، يا لله! ما هذا؟ لا بد أن يكون هذا هزلًا لا جدًّا، لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًّا!»
وسأله الجميع: «ما الخطب؟»
وقال المستر ونكل وقد فزع من الرعب الذي بدا على وجه المستر بكوك: «أنعي أحد؟ هل مات إنسان؟»
فلم يُحِرْ المستر بكوك جوابًا، بل طوح بالكتاب من فوق المائدة، طالبًا إلى المستر طبمن قراءته بصوت مسموع، وتراجع في مقعده، وفي عينيه نظرة دهشة تُخِيف مَن يراها.
المستر صمويل بكوك
تحريرًا في ٢٨ أغسطس سنة ١٨٣٠
محكمة فريمان في كورنهل
الدعوى المرفوعة من باردل على بكوك
سيدي:
بناء على طلب مسز مارتا باردل بشأن رفع دعوى عليك لنكثك بوعد الزواج بها، ومطالبتك بتعويض عما أصابها، تقدره المدعية بألف وخمسمائة جنيه، نرجو أن نحيطكم علمًا بأنه قد صدر الإذن بالخصومة في هذه القضية من محكمة الأحوال الشخصية، ونرجو أن تتكرموا بإخطارنا برجوع البريد باسم محاميكم في لندن، حتى يتيسر لنا الاتصال به.
وتفضلوا يا سيدي بقبول وافر الاحترام.
وكان في تلك الدهشة الصامتة التي أخذ كلٌّ منهم ينظر بها إلى الجالس بجواره، وراح الجميع بها ينظرون إلى المستر بكوك كذلك — شيءٌ أبلغ من كل قول، حتى لكأن كلٌّ منهم خشي الكلام.
وأخيرًا عمد المستر طبمن إلى تبديد ذلك الصمت المستطيل، فانثنى يكرر وهو لا يدري: «ددسن وفج!»
وقال المستر سنودجراس ساهمًا مفكرًا: «باردل وبكوك!»
وغمغم المستر طبمن، وهو شارد الفكر: «يزعجون سكينة أنثى وادعة مطمئنة، ويفقدونها سعادتها ورغدها!»
وقال المستر بكوك وقد استرد أخيرًا القدرة على النطق: «هذه مؤامرة، مؤامرة دنيئة دبَّرها هذان المحاميان العتيدان ددسن وفج؛ لأنه من المستحيل أن تفعل مسز باردل ذلك، ولا يطاوعها قلبها على فعله، وليست لها قضية ما حتى ترفعها، هذا شيء مضحك، شيء مضحك!»
وقال المستر واردل وهو يبتسم: «أما فيما يتعلق بقلبها، فأنت بلا شك خير مَن يحكم، ولستُ أريد أن أثبطك أو أخذلك، ولكني أريد أن أقول فيما يتعلق بقضيتها أن ددسن وفج هما خير من أي أحد فينا وأعرف بأسبابها ومبرراتها.»
وقال المستر بكوك: «هذه محاولة خبيثة لابتزاز المال.»
وأجاب المستر واردل بسعلة قصيرة جافة: «أرجو أن تكون كذلك.»
واسترسل المستر بكوك يقول في حدة بالغة: «مَن الذي سمعني يومًا أتحدث إليها إلا كما يتحدث المستأجر إلى المالكة؟ ومَن الذي رآني يومًا معها؟ حتى من أحد أصدقائي هنا؟»
فقاطعه المستر طبمن قائلًا: «إلا في مرة واحدة.»
وهنا امتقع وجه المستر بكوك، وانطلق المستر واردل يقول: «آه، هذا شيء مهم، ولكني أعتقد أنه لم يكن ثمة ما يريب!»
وهنا نظر المستر طبمن إلى زعيمه نظرة متهيبة وقال: «لم يكن ثمة ما يريب، ولكني لا أعرف كيف حدث ما حدث، فقد كانت بلا شك مرتمية في أحضانه.»
وصاح المستر بكوك، وقد داهمته ذكرى ذلك المشهد: «يا للعجب! ويا لصنع المقادير! ما أرهب قوة الظروف! نعم، لقد كانت كذلك، لقد كانت كذلك.»
وقال المستر ونكل في شيء من الخبث: «وكان صديقنا يواسيها في محنتها وآلامها.»
وقال المستر بكوك: «كذلك، لست أنكر، حقًّا لقد فعلت.»
وهنا صاح المستر واردل: «ها! في قضية ليس فيها ما يريب، إن هذا ليبدو غريبًا، أليس كذلك يا بكوك؟ آه! أيها الماكر!»
وانطلق يقهقه حتى اهتزت الأقداح المصفوفة فوق المنضدة الجانبية من قصف قهقهته.
وصاح المستر بكوك وهو يضع ذقنه على كفيه: «ما أرهب اجتماع الظواهر يا ونكل! وأنت يا طبمن أستميحكما صفحًا عن الملاحظات التي أبديتها منذ هنيهة، فنحن جميعًا ضحايا الظروف، وأنا أكبركم لها فريسة.»
وبهذا الاعتذار مضى المستر بكوك يدفن رأسه في يديه، ويستسلم لتفكير طويل، بينما جعل واردل يرسم دوائر منتظمة من الإيماءات والغمزات لأفراد الجمع الآخرين.
ورفع المستر بكوك رأسه، ودق المائدة بيده قائلًا: «سأشرح ذلك كله، وسأقابل ددسن وفج، سأذهب إلى لندن غدًا.»
وقال واردل: «ليس غدًا، إنك شديد العرج، فلا تقوى على السفر.»
قال: «ليكن إذن اليوم الذي بعده.»
وأجاب واردل: «سيكون أول سبتمبر، وقد تعهدت لي بالخروج معنا إلى الصيد في أرض السير جفري ماننج على أية حال، أو مقابلتنا على الغداء، إذا لم تشترك في الصيد معنا.»
وقال المستر بكوك: «ليكن إذن اليوم الذي سيليه، أيْ يوم الخميس … يا سام!»
وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي.»
قال: «احجز لنا مقعدين في المركبة العامة المسافرة إلى لندن صباح يوم الخميس، لي ولك.»
قال: «ليكن ذلك يا سيدي.»
وانصرف المستر ولر، وذهب في بطء ليؤدي مهمته، وهو واضع يديه في جيبه، وعيناه مطرقتان إلى الأرض، وراح يقول وهو يمشي الهُوَيْنَى في الطريق العام: «الإمبراطور، رجل بديع، تصور وقوعه مع مسز باردل هذه، وهي أم ولد صغير، هذه هي حال أولئك العجائز دائمًا، لا أعتقد أنه فعل ذلك، لا أعتقد أن مثله يفعلها.»
وانطلق المستر ولر في مناجاته الأخلاقية على هذا النحو، وهو في طريقه إلى مكتب حجز التذاكر في المركبة الحافلة.