الفصل الثاني
اليوم الأول من أيام الرحلة … والأحداث التي جرت في مسائه … والنتائج التي أسفرت عنها …
***
طلعت الشمس، وهي الخادم المثابر في خدمة كل عمل، وبدأت تلقي ضياء على صبح اليوم الثالث عشر من شهر مايو سنة ألف وثمانمائة وسبع وعشرين، حين انبعث المستر صمويل بكوك من نومه، وأطل على العالم المترامي من تحته، وكان شارع «جوزول» عند قدميه، ممتدًّا عن يمينه إلى آخِر مدى العين، ومتراميًا عن شماله، وكان الجانب المقابل لهذا الشارع في الجهة الأخرى من الطريق، وراح المستر بكوك يناجي خاطره بقوله: «كذلك هي آراء الفلاسفة الضيقي النظر، الذين يقنعون بفحص الأشياء المترامية أمامهم، ولا ينظرون إلى الحقائق المحجوبة عنهم فيما وراء حدود أبصارهم، كما لو أني قنعت بإدامة النظر إلى شارع جوزول، دون أن أحاول مرة أن أخترق الربوع المحجوبة، التي تحيط به من كل ناحية.»
وما كاد المستر بكوك يتفوه بهذا الخاطر الجميل، حتى شرع يضع نفسه في ثيابه، ويضع ثيابه في حقيبته، وقلما ترى العظماء مدقِّقين في تنسيق ملبسهم، ولم تلبث عملية الحلاقة واللبس ورشف القهوة أنْ تمَّتْ، وما هي إلا ساعة أخرى حتى كان المستر بكوك قد حمل حقيبته بيده، ووضع منظاره المعظم في جيب معطفه، و«مذكرته» في جيب صداره، وتهيَّأ لاستقبال أيِّ اكتشافات جديرة بالتدوين، وقد وصل إلى موقف المركبات في شارع سانت مارتن موجراند.
وصاح المستر بكوك مناديًا: «مَرْكَبة.»
وسمع صوتًا يصرخ قائلًا: «لبيك يا سيدي!»، وكان الصائح مخلوقًا عجيبًا، في سترة من الخيش، وميدعة من النوع ذاته، ولافتة من نحاس ذات رقوم حول رقبته، وقد بدا كأنه بعض المعروضات في مجموعة من التحف النادرة، وكان هذا هو «ساقي الخيل»، ومضى يردد قوله: «لبيك يا سيدي! حالًا تأتي المركبة.» ولم يكد الساقي يُحضِر المركبة الأولى — وكان الحوذي قد ذهب إلى المقهى ليدخن قصبته الأولى — حتى ألقى المستر بكوك وحقيبته في جوفها.
وقال المستر بكوك: «مفترق جولدن.»
فصاح الحوذي في غضب مخاطبًا صديقه الساقي: «تلك مسافة لا تزيد عن شلن يا تومي.»
وانطلقت العربة مبعدة.
وأنشأ المستر بكوك يسأل السائق وهو يحك أنفه بالشلن الذي أعده لدفع الأجرة: «كم عُمْر هذا الحصان يا صديقي؟»
وأجاب الحوذي وهو ينظر إليه بطرف عينه: «اثنتان وأربعون.»
فصاح المستر بكوك مبهوتًا، وهو يضع يده على «مذكرته»: «ماذا تقول؟» فكرَّر الحوذي جوابه الأول، وعندئذٍ أطال المستر بكوك النظر في وجه الرجل، ولكن معالم وجهه ظلت جامدة لا تتحرك، فأكبَّ المستر بكوك على «المذكرة» يدوِّن فيها ما سمعه.
وعاد يسأله مستزيدًا: «وما مدى الوقت الذي يبقى فيه «يعمل» كل مرة؟»
فأجاب الرجل: «أسبوعان أو ثلاثة أسابيع.»
قال في دهشة، وعاد يُخرِج المذكرة: «أسابيع!»
ومضى الحوذي يقول ببرود: «إنه يقيم في «بنتونويل» كلما ذهبنا به إلى مسكنه، ولكننا قلما نأخذه إليه بسبب ضعفه.»
وردَّد المستر بكوك مرتبكًا قوله: «بسبب ضعفه!»
واستتلى الحوذي يقول: «إنه يسقط كلما أخرجناه من المركبة، ولكنه كلما كان مشدودًا إليها، ممسوكًا بحزم، مربوطًا بإحكام، لا يستطيع السقوط، ولدينا زوج من العجلات المتينة فهي تتحرك في أثره إذا هو تحرك، فلا حيلة له غير المسير.»
وراح المستر بكوك يدوِّن كل كلمة من هذا البيان في مذكرته؛ لإبلاغها إلى النادي، على أنها مَثَل فريد لقوة التشبث بالحياة عند الخيل في ظروف مجهدة، وما كاد يفرغ من التدوين حتى وصلت المركبة إلى «مفترق جولدن»؛ فوثب الحوذي من فوق مقعده، ونزل المستر بكوك من المركبة، وتسابق السيد طمبن، والمستر سنودجراس، والمستر ونكل إلى الترحيب به، وكانوا في لهفة ينتظرون وصول زعميهم المجيد.
ومد المستر بكوك يده بالشلن إلى الحوذي قائلًا: «إليك أُجْرتك.»
ولشد ما كانت دهشة العالم؛ إذ رأى ذلك المخلوق غير المسئول يُلقِي بالشلن على الإفريز، ويطلب بالكناية والمجاز السماح له بمتعة الدخول معه — أيْ مع المستر بكوك — في عراك، نظير هذا القدر، فصاح المستر سنودجراس: «أنت مجنون.»
وقال المستر ونكل: «أو سكران.»
وقال المستر طبمن: «أو كلاهما.»
وقال الحوذي مبادرًا إلى المناوشة: «هيا … هيا ادخلوا لي أنتم الأربعة كلكم.»
وصرخ بضعة حوذية قائلين: «ذلك أمر عجيب! هيا يا سام اشتغل»، وأقبلوا في فرح بالغ يحيطون بالجمع.
وانبرى سيدٌ في أكمام سود من البعثة يسأل السائق: ما سبب هذه «المعركة» يا سام؟
قال الحوذي: «عركة! لماذا يريد أن يدون (رقمي)؟»
وقال المستر بكوك في دهشة: «أنا لم أُرِدْ أنْ أدوِّن (رقمك).»
فعاد الحوذي يسأله قائلًا: «لماذا دونتها إذن؟»
وأجاب المستر بكوك بغضب: «أنا لم أدوِّنها.»
وعاد الحوذي يقول مخاطبًا النظارة المزدحمين حولهم: «هل يصدق أحد أن «مخبرًا» ينتقل في مَرْكَبة إنسان، فلا يدوِّن رقمه فقط، بل كل كلمة يقولها كذلك؟» وهنا لاحت فكرة بخاطر المستر بكوك … فقد أدرك أن الحوذي يقصد «المفكرة».
وانثنى حوذي آخَر يسأل: «هل فعل ذلك حقًّا؟»
فأجابه الأول قائلًا: «أي والله لقد فعله، وبعد أن تحرش بي هكذا لمهاجمتي، جاء بثلاثة شهود هنا للإثبات، ولكني سأعطيها له ولو أخذت فيها ستة أشهر … هيا … أقبل عليَّ …» وألقى الرجل قبعته على الأرض بلا اكتراث لمتاعه، وأطار المنظار عن عيني المستر بكوك، وأتبع ذلك الهجوم بضربة على أنفه، وأخرى في صدره، وثالثة في عين المستر سنودجراس، ورابعة على سبيل التنويع في بطن المستر طبمن، وانثنى عنهم ليرقص في وسط الطريق، ثم يعود كرة أخرى إلى الإفريز، وأخيرًا يخرج كل ما في صدر المستر ونكل من الهواء … كل ذلك فعله في ست ثوانٍ.
وصاح المستر سنودجراس قائلًا: «يا شرطي!»
واقترح بائع فطير ساخن على الحوذي قائلًا: «ضعهم تحت المضخة.»
ولهث المستر بكوك قائلًا: «ستلقى على ما فعلت عقابًا.»
وصاح النظارة المتألبون عليهم: «مخبرون!»
وارتفع صوت الحوذي قائلًا وهو يلف ويدور بغير انقطاع: «هيا … ادنوا مني …»
وكان الغوغاء قد لبثوا إلى تلك اللحظة يشاهدون هذا المشهد، غير مشتركين فيه، ولكن ما كادت كلمة «مخبرين» تنتشر بينهم، حتى بدءوا يؤيدون بحماسة بالغة تنفيذ اقتراح بائع الفطير، ولا يعلم إلا الله مدى العدوان الذي كان من الجائز أن يرتكبوه لولا أن انتهت المعركة على غير انتظار بتدخُّل قادمٍ جديد.
فقد انبرى شاب ناحل يكاد يلوح طويلًا، وهو في سترة خضراء اللون، وقد خرج فجأة من فناء المركبات يقول: «ما هي القصة؟»
فعاد القوم يصيحون: «مخبرين!»
وعندئذٍ زأر المستر بكوك بلهجة تحمل معها الإقناع لكل سامع مجرد من الهوى: «لسنا كذلك!»
وقال الشاب مخاطبًا المستر بكوك: «ألستم كذلك … ألستم كذلك؟»، ومضى يشق طريقه وسط الزحام بتلك الحركة التي لا تخطئ الهدف، وهي دَفْعُه بالمرفق وجوهَ كل مَن لقيه في طريقه.
وأنشأ ذلك العالم في بضع كلمات عاجلة يشرح له حقيقة الموقف.
وبهذا الخيط الطويل من العبارات والجمل المتقطعة ونحوها، مضى الغريب يُطلِقها بذلاقة وسرعة غير مألوفة، مشى في المقدمة صوب «استراحة» الركاب، يتبعه المستر بكوك ومريدوه.
وصاح الغريب، وهو يدق الجرس بعنف بالغ: «يا غلام … هات دورًا من البراندي والماء، ساخنًا وقويًّا، وحلو المذاق وموفورًا … هل أصاب عينك أذى يا سيدي؟ … يا غلام! قطعة من لحم العجول نيأة لعين السيد؛ ليس ثمة علاج أفضل للرضوض من هذا اللحم النيئ يا سيدي … إن عمود النور البارد مفيد جدًّا، ولكنه غير مريح … لأنه يقتضي وقوفك في الشارع في العراء نصف ساعة، لاصقًا عينيك بالعمود … مفيد جدًّا … ها … ها … وانثنى الغريب دون أن يتمهل لحظة ليملك أنفاسه، يرتشف في جرعة واحدة نصف لتر من البراندي والماء القراح، وتهالك على مقعد بكل بساطة، كأن شيئًا غير مألوف لم يحدث إطلاقًا.
وبينما كان الأصحاب الثلاثة في شغل شاغل بتقديم شكرهم لهذا الرجل الجديد الذي عرفوه، أُتِيح للمستر بكوك أن يتأمل لباس الرجل ومظهره، فبدا له أنه يكاد يلوح أنه ربعة، وإنْ جعلته نحافةُ جسمه واستطالة ساقيه يبدو أطول كثيرًا مما هو في الواقع، وكانت السترة الخضراء لباسًا رشيقًا في تلك الأيام، التي شاعت فيها الأردية ذوات الأذيال الشبيهة بأذيال «الخطاطيف»، ولكن الواقع أنها في ذلك العهد كانت أليق برجل أقصر من هذا الغريب كثيرًا؛ لأن أردانها القذرة الناحلة اللون لا تكاد تصل إلى معصميه، وكانت مزرَّرة عليه إلى ذقنه تزريرًا شديدًا، حتى ليخشى أن تتفتق من الظهر، وقد زان رقبته بلفافة قديمة، فلا أثر عليه لبنيقة من قميص، وقد بدت في مواضع متفرقة من سراويله القصيرة السود رقعات برَّاقة تتحدث عن طول العهد بالابتذال، وهي مشدودة بإحكام إلى حذاء مرقع، كأنما أُرِيدَ بها إخفاء الجورب الأبيض المتسخ، وإنْ ظَهَرَ مع ذلك واضحًا للعيان، وقد أفلتت من شعره الأسود المستطيل موجات مهملة من تحت كل جانب من جوانب قبعته المرقَّعة، كما كانت تلوح لمحات من معصميه العاريين بين أعالي قفازيه وأردان سترته، وكان وجهه ناحلًا شاحبًا منهوكًا، وإنْ شاع على الرجل ذاته أثر لا يُوصَف من جرأة مرحه، واعتدادٍ تامٍّ بالذات.
هذا هو الرجل الذي راح المستر بكوك يطيل النظر إليه من خلال منظاره الذي كان لحسن الحظ قد استرده، وانثنى — بعد أن استنفد أصحابه قواهم في التعبير عن شكرهم — يقدم إليه في عبارات منتقاة أصدقَ الشكر على معونته.
ولكن الغريب قاطعه قائلًا: «لا بأس … كفى … ولا مزيد … ذلك الحوذي … نشيط … يحسن استخدام كفه … ولو كنت صاحبكم في هذه المعركة، فَلْيلعني الله في كل كتاب، إذا أنا لم أكن قد كسرت دماغه … ليتني فعلت … همس خنزير … وبائع الفطير أيضًا … كلام جد.»
وقطع على الرجل فيض هذا الكلام غير الموصول دخولُ حوذي العربة الحافلة التي ستسافر إلى روشيستر؛ ليعلن أن «الكومادور» على وشك القيام.
فلم يكد الغريب يسمع اسم المركبة حتى استوى في دهشة قائمة وهو يقول: «الكومادور» هذه مركبتي التي حجزت فيها مقعدًا لي، في خارجها … الآن أترككم لتدفعوا ثمن البراندي والماء … نريد فكة خمسة … نقود فضية رديئة … شيء زائف … أزرار لا تغني … ولا تعني … آه؟
ومضى يهز رأسه هزة الفطن العارف كل شيء، وصادف أن المستر بكوك وصحبه الثلاثة كانوا قد انتووا أن يجعلوا «روشيستر» أول محطة ينزلون بها هم أيضًا، فبعد أن أفهموا صاحبهم الجديد بلباقة أنهم مسافرون إلى المدينة ذاتها، اتفقوا على أن يشغلوا المقعد المقام في ظهر المركبة؛ حتى يتسنى لهم جميعًا الجلوس معًا.
وانطلق الغريب يقول للمستر بكوك: «هب … اطلع …»، ومضى يعاونه على الصعود إلى السقف في سرعة بالغة، حتى لقد كاد يفسد وقار ذلك السيد، وجلال سمعته إلى حد كبير.
وسأل الحوذي الرجل الغريب: «هل معك أمتعة يا سيدي؟»
فأجاب قائلًا: «مَن … أنا؟ إضمامة في ورق لف هنا … هذا هو كل ما لدي … أما الأمتعة الأخرى فقد شُحِنت في المركب، صناديق معبأة محكَمة بالمسامير … ضخمة كالبيوت … ثقال الوزن … فوادح … ملعونة …»، وانثنى خلال قوله هذا يحشر في جيبه ما استطاع حشره من الحزمة الملفوفة في الورق الأسمر، التي توحي — في أغلب الظن — بأنها تحوي قميصًا واحدًا ومنديلًا.
وصاح الغريب الكثير الكلام بأولئك الرفاق محذِّرًا: «احرصوا على رءوسكم … رءوسكم!» … حين رآهم يجتازون الباب المنخفض الذي كان يقوم في تلك الأيام، ويوصل إلى فناء المركبات.
واسترسل يقول: «موضع بشع … بناء خطر … منذ أيام … خمسة أطفال وأمهم، سيدة طويلة، وهي تأكل «الشطائر» … فنسيت الباب … طاخ … الأولاد يتلفتون حولهم … وإذا برأس الأم يطير عن جسدها، والشطائر في يدها … لم يَعُدْ هناك فم تدخل فيه … رأس أسرة يطير في الفضاء … منظر بشع … بشع … أَلَا تنظر يا سيدي إلى هوايتهول؟ … موضع بديع … شرفة صغيرة … لقد طار رأس إنسان آخَر هنا، أليس كذلك يا سيدي؟ … لأنه هو أيضًا لم يحاذر كثيرًا، ولم ينتبه … أليس كذلك يا سيد؟»
وقال المستر بكوك: «إنني اللحظة أفكر في عجيب الصروف والتقلُّبات التي تتعرض لها شئون الناس وأمورهم.»
وأجاب الغريب قائلًا: «آه … قُلْ لي هذا … على باب القصر يومًا، ويومًا آخَر يُلقَى من الشرفة … أفيلسوف أنت يا سيدي؟»
قال: «مجرد ملاحظة للطبيعة البشرية وغرائبها يا سيدي.»
وأجاب الغريب: «آه … وأنا كذلك، وأكثر الناس هكذا، هذا شغل مَن ليس له شغل … وأنت يا سيد … أشاعر؟»
فأجابه المستر بكوك بقوله: «إن لصديقي المستر سنودجراس نزعة قوية إلى الشعر.»
وقال الغريب: «… وأنا كذلك … ولي ملحمة في عشرة آلاف بيت، نظمتها في ثورة يوليو … ووضعت أبياتها في محل الواقعة … عطارد نهارًا، وأبوللو ليلًا … ضرب من مدافع الميدان … وشعر عناء وألحان …»
وانبرى المستر سنودجراس قائلًا: «أكنت حاضرًا ذلك المشهد المجيد يا سيد؟»
والتفت فجأة إلى المستر ونكل فسأله: «أرياضي أنت يا سيدي؟»
فأجاب ذلك السيد بقوله: «قليلًا يا سيدي.»
قال: «ولوع جميل يا سيدي … ولوع جميل … أكلاب يا سيدي؟»
قال: «ليس الآن.»
قال المستر بكوك: «ظرف غريب هذا … أتسمح لي أن أدوِّنه؟»
قال: «بلا شك … يا سيدي، بلا شك عشرات أخرى من النوادر والحكايات عن هذا الحيوان، إن أردتَ.»
واستدار الغريب نحو المستر تراسي طبمن، وكان هذا منشغلًا بإلقاء نظرات منافية للمبادئ البكويكية، على فتاة في الطريق فقال: «بنت حلوة يا سيدي؟»
فأجاب المستر طبمن: «جدًّا.»
قال: «بنات الإنجليز لَسْنَ في جمال بنات الأسبان … مخلوقات نبيلات … شعر فاحم … أعين سود … أجسام محبَّبة … مخلوقات حلوة … حسان.»
فسأله المستر طبمن قائلًا: «أزرت أسبانيا ياسيدي؟»
قال: «عِشْتُ فيها … أجيالًا.»
قال: «أَوَلك فيها غزوات كثيرة يا سيدي؟»
قال: «غزوات … آلاف … دون بولارو فزجيج … جراندي … له ابنة وحيدة … ألدونا كريستينا … إنسانة بديعة … أحبتني إلى حد الوله … الوالد غيور … بنت رفيعة النفس … إنجليزي وسيم … يتولى اليأس قلب ألدونا كريستينا … تتناول حمض «البروسيك» … في حقيبتي جهاز لغسيل المعدة … إجراء عملية لها … الشيخ بولارو في فرح بالغ … يوافق على الزواج … مصافحة وفيض عَبَرَات … قصة رائعة … جدًّا …»
وعاد المستر طبمن وقد تأثر بوصف مفاتنها بالغ التأثر يسأله: «هل السيدة في إنجلترا الآن يا سيدي؟»
قال الغريب وهو يضع على عينه اليمنى بقية صغيرة من منديل حريري قديم: «ماتت يا سيدي … ماتت … لم تشف من غسيل المعدة … تحطمت بنيتها … راحت ضحية.»
فسأله الشاعر سنودجراس: «وأبوها؟»
وأجاب الغريب: «ندامة وفجيعة … اختفاء فجائي حديث المدينة كلها … البحث في كل مكان … بلا جدوى … نافورة عامة في الساحة الكبرى تكفُّ فجأة عن النفث … أسابيع تنقضي … لا تزال منقطعة عن نفثها … يُدعَى العمال لتنظيفها … ينزحون ماءَها … يعثرون على جثة عمي، محشورة الرأس في المضخة الرئيسية … واعترافٌ مفصَّلٌ في جوف نعله الأيمن … أخرجوه … عادت النافورة تنفث الماء كما كانت.»
وقال المستر سنودجراس من فرط تأثره: «هل لي أن أدوِّن هذه القصة الغرامية الصغيرة يا سيدي؟»
قال: «بلا شك يا سيدي، بلا شك، وخمسين أخرى إذا شئتَ لها سماعًا … غريبة كقصتي … رواية غريبة … ليست خارقة للمألوف … ولكن فريدة.»
وعلى هذا النحو مضى الغريب في الحديث، بين كئوس من شراب تتخلله، كلما وقفت المركبة لتغيير الخيل، حتى وصلوا إلى جسر روشستر، وكانت مذكرتا المستر بكوك والمستر سنودجراس قد امتلأتا بمختارات من هذه الأحداث كل الامتلاء.
وانثنى المستر أجستس سنودجراس يقول بكل الحماسة الشعرية التي امتاز بها، حين ألموا على الحصن القديم الباذخ في المدينة: «يا له من طلل عظيم!» وكانت الكلمات التي خرجت من فم المستر بكوك وهو يرفع المنظار المعظم إلى عينيه: «إنها لدراسة خليقة بأن يتولاها عالم من علماء الآثار!»
وقال الغريب: «آه … موضع بديع … بناء مجيد … جدران عابسات … أبواب متداعية … أركان مظلمة … مدارج متهاوية … كنيسة قديمة أيضًا … رائحة ترابية … أقدام الحجيج أبلت السلم القديم … أبواب سكسونية صغيرة … كراسي اعتراف كشبابيك تحصيل النقود في المسارح … أولئك الرهبان زبائن غريبو الأطوار … باباوات وأمراء خزائن، وكل صنوف الشيوخ والهَرِمين، بوجوههم العراض الحمر وأنوفهم المهشمة … يتوافدون في كل يوم … أردية مزردة كذلك … بنادق ذوات أزندة … توابيت موتى … موضع بديع … وأساطير قديمة كذلك … وقصص وغرائب … شيء مفتخر!» ومضى الغريب في هذه المناجاة حتى وصلوا إلى فندق الثور — بول إن — في شارع «هاي ستريت»؛ حيث وقفت المركبة عن المسير …
وسأله المستر نثنايل ونكل: «أنازل هنا يا سيدي؟»
قال: «هنا … كلا، ولكن لخير لكم … منزل طيب … وسرر ممتعة … أما منزل «رايت» الملاصق، ففادح الأجر … فادح جدًّا … ولكنه نصف كراون في فندق الثور، إذا أخذت بالك من الخادم بزيادة في الأجر إذا أنت تغديت عند صديق، أكثر مما لو تناولت الطعام في المقهى … أناس عجيبون … جدًّا.»
والتفت المستر ونكل إلى المستر بكوك وغمغم ببضع كلمات، وتبادل المستر بكوك والمستر سنودجراس الهمس، وتهامس المستر سنودجراس والمستر طبمن، وتبادل القوم هز الرءوس هزة الموافقة.
ووجه المستر بكوك الخطاب إلى الغريب.
قال: «لقد أسديت إلينا صنيعًا كبيرًا جدًّا في هذا الصباح يا سيدي، فهل تأذن لنا في تقديم دليل يسير على عرفاننا لك وشكرنا، بالتماس حظوة الجلوس إليك على الغداء.»
قال: «بكل سرور … لا أقصد أن أفرض شيئًا عليكم … ولكن دجاجة مسلوقة وعش الغراب … شيء فاخر … كم الساعة؟»
قال المستر بكوك وهو ينظر إلى ساعته: «دَعْنِي أنظر … إنها الآن تُقارِب الثالثة … هل نقترح الخامسة مثلًا؟»
قال: «يوافقني هذا الموعد كل الموافقة … الخامسة بالضبط … وإلى أن نلتقي خذوا بالكم من أنفسكم.»
ومضى الغريب يرفع القبعة المطبقة بضع بوصات من فوق رأسه، ثم أعادها باستخفاف إلى موضعها، منحرفة كثيرًا إلى ناحية، وانطلق في خفة يجتاز الفناء، ولا يزال نصف الإضبارة الملفوفة في الورق الأسمر بارزًا من جيبه، واتجه صوب شارع «هاي ستريت».
وقال المستر بكوك: «الظاهر أنه جوَّابة تنقَّلَ في عدة أقطار، ودقيق الملاحظة لأمور الناس والأشياء.»
قال المستر سنودجراس: «وددت لو اطلعت على قصيدته.»
وقال المستر ونكل: «وددت لو أني شاهدت ذلك الكلب.»
أما المستر طمبن فلم يقل شيئًا، وإنما ذهب خاطره في أثر «ألدونا كريستينا»، ومغسل المعدة والفوار، وقد امتلأت عيناه بالعَبَرَات.
وبعد أن انتهى الجمع من استئجار حجرة جلوس خاصة، ومعاينة غرف النوم، والتوصية بتهيئة الطعام، خرجوا إلى الطريق لمشاهدة معالم المدينة، وما يحيط بها.
ولسنا نجد من مطالعتنا الدقيقة للملاحظات التي دوَّنها المستر بكوك عن المدن الأربع: استراود، وروشستر، وشاتم، وبرومتون، اختلافًا يُذكَر في مبلغ آثارها في نفسه عن أي تأثير لها في نفوس الآخرين من المسافرين الذين زاروا تلك المدائن، فلا يصعب علينا تلخيص وصفة العلم لها.
فقد كتب المستر بكوك في مذكراته يقول: «إنه ليلوح لي أن أهم ما تُنبِت هذه المدن جنود وبحارة ويهود، وطباشير وبراغيث بحر، وضباط وعمال أحواض، وأما السلع المعروضة للبيع في الطرقات فهي في الأغلب الأعم أمتعة بحرية، وخبز يابس، وتفاح، وسمك موسى، ومحار «جندوفلي»، وتبدو الشوارع ملأى بالحياة والحركة، ومردهما غالبًا إلى مرح العسكريين ومجونهم، وإنه لبهيج حقًّا لمَن أوتي خاطرًا نزاعًا إلى حب الخير أن يشهد أولئك الخلائق الأرداء، وهم مترنحون من أثر الإفراط في أكل اللحوم، وشرب الكحول الشديد، ولا سيما إذا تذكرنا أن السير في إثرهم والممازحة معهم كفيلان بلهو رخيص، ومتعة بريئة للغلمان من أهل المدينة.»
وواصل المستر بكوك قوله في مذكراته: «ولست أحسب شيئًا يمكن أن يفوق خفة روحهم، فقد حدث في اليوم السابق لوصولي أن أحدهم أُهِين أشد الإهانة في حانة؛ إذ رفضت الساقية بتاتًا أن تقدِّم له شرابًا أكثر مما تَعَاطَى، فما كان منه لمجرد التسلية إلا أن أخرج «سونكته» من غمدها، وجرح الفتاة في كتفها، وكان هذا الفتى البديع أول مَن قصد إلى الحانة في غداة اليوم التالي، وأبدى استعداده للتغاضي عن المسألة ونسيان ما جرى.
ومضى المستر بكوك يقول في مذكراته: «وأكبر ظني أن استهلاك التبغ في هذه المدائن كبير جدًّا، وأن الرائحة التي تعم الشوارع تتجاوز الحد في الزكاوة والعبق في أنوف المولعين بالتدخين المفرطين فيه، وقد ينفر المسافر الذي لا يُعنى بغير المسائل السطحية من القذر الذي هو من أخص خواص هذه المدن، ولكنه يبدو سارًّا مُرْضِيًا لمن يكسبه دليلًا على كثرة الحركة فيها، ورخائها التجاري …
وفي تمام الخامسة قدم الغريب، وأُعِدَّ الطعام بعد قليل، وكان قد تخلص من إضمامة الورق الأسمر الملففة، وإن لم يحدث تغييرًا في لباسه، وانقلب أكثر ثرثرة من قبلُ.
قال وقد رأى الغلام يرفع أحد الأغطية: «ما هذا؟»
فأجابه الغلام: «سمك موسى يا سيدي.»
– سمك موسى … آه هذا سمك فاخر … يأتي كله من لندن … إن أصحاب الحافلات يعاونون في إقامة المآدب السياسية … مركبات ملأى بسمك موسى … عشرات من السلال … إنهن مكرة … كأس من النبيذ يا سيدي …
وقال المستر بكوك: «بكل سرور.»
وبدأ الغريب بكأس نبيذ مع المستر بكوك أولًا، ثم أخرى مع المستر سنودجراس، وثالثة مع المستر طبمن، ورابعة مع المستر ونكل، وخامسة مع الجمع كلهم، في عجلة تكاد تشبه عجلته في الكلام.
وانثنى إلى الغلام فقال: «زحمة ملعونة على السلم … يا غلام … أشباح تصعد، ونجارون يهبطون … مصابيح وأقداح ومعازف … ما الخبر؟»
فأجاب الغلام: «مرقص يا سيدي.»
قال: «اجتماع؟»
أجاب: «كلا يا سيدي ليس اجتماعًا … بل مرقص خيري يا سيدي.»
وهنا انثنى المستر طبمن يسأل باهتمام بالغ: «أفي هذه المدينة نساء حِسَان كثيرات؟ … هل تعرف يا سيدي؟»
فصاح الغريب: «بديع … مفتخر … إنها «كنت» يا سيدي … كل إنسان يعرف «كنت» بشهرة تفاحها وكرزها، وحشيشة دينارها ونسائها، ألك في كأس من النبيذ يا سيدي؟»
فأجاب المستر طبمن: «بكل سرور.»
وراح يملأ الكأس ويفرغها.
وعاد المستر طبمن إلى موضوع «الرقص»، فقال: «أحب كثيرًا أن أحضره … كثيرًا جدًّا.»
وعاجله الغلام بقوله: «التذاكر عند مكان الشرب يا سيدي … التذكرة بنصف جنيه يا سيدي.»
فعاد المستر طبمن يبدي رغبة صادقة في حضور السيد المرقص، ولكنه لم يجد استجابة له في عين المستر سنودجراس العابسة، ولا في نظرة المستر بكوك الذاهلة، فأقبل باهتمام بالغ على النبيذ والنُّقْل الذي كان قد وُضِع منذ لحظة فوق المائدة.
وقفل الغلام راجعًا، وخلا الجمع للاستمتاع بساعتين هنيئتين قَضَوْهُما في عشاء موفَّق.
وانبرى الغريب عندئذٍ يقول: «عفوًا يا سيدي إن الزجاجة واقفة … أَدِرْها علينا … في اتجاه الشمس … خلسًا لا تدع لها من ثمالة … وراح يفرغ كأسه، وكان قد أترعها شرابًا منذ دقيقتين أو نحوهما، وملأ أخرى مِلأة رجل عريف بالشراب، عاف عليه.
وطاف النبيذ على الجميع، وطلبوا مزيدًا، وطفق الضيف يتكلم، والبكويكيون يستمعون، وكلما مرت لحظة ازداد المستر طبمن ميلًا إلى حضور المرقص، وطفح محييًا المستر بكوك بشرًا وحبًّا للخير العام، بينما ذهب المستر ونكل، والمستر سنودجراس في سبات عميق.
وانثنى الغريب يقول: «لقد بدءوا في الطبقة العليا مهرجانهم … ألا تسمعون أنغام الكمان … ها هو ذا المعزف … لقد بدءوا.»
وكانت الأصوات والأنغام المختلفة التي وجدت طريقها إلى الطبقة الدنيا إيذانًا بابتداء الرقصة الأولى.
فعاد المستر طبمن يقول: «ما أشوقني إلى الذهاب!»
وأجاب الغريب: «وأنا كذلك … ولكن أمتعتي عليها اللعنة لم تصل بعدُ … الشحنات ثقال … ليس عندي ما أرتديه لأدخل، أمر غريب، أليس كذلك؟»
وكان حب الخير من المعالم البارزة للنظرية البكويكية، ولم يكن أحد أكثر حماسة، وأجلى غيرة، في مراعات هذا المبدأ، من المستر تراسي طبمن حتى لا يكاد أمر يصدق كثرة الشواهد، والأمثلة المدوَّنة في محاضر جلسات النادي، على ما كان هذا الرجل المتناهي في حب الخير وإيتاء البر، يرسله من الخيرات والصدقات إلى بيوت أعضاء آخرين، أو يتركه من ثياب، أو يبادر به من معونة مالية.
فلا عجب إذا هو انثنى يقول: «إني ليسعدني أن أعيرك حلة من ثياب لهذا الغرض، ولكني أراك نحيفًا، وأراني …»
ولسنا ندري إلى الآن على وجه اليقين، هل أحس المستر طبمن شيئًا من الغضب من تلك اللهجة الجدية الآمرة التي طلب بها إليه أن يدير النبيذ الذي طواه الغريب سريعًا في جوفه، أم أحس أنه قد أزري فعلًا به، وهو العضو الكبير النفوذ في نادي بكوك؛ إذ شُبِّهَ على هذه الصورة المعيبة بباخوس المترجل عن قصعته، ولكنه أدار النبيذ وسعل سعلتين، ولبث ينظر إلى الرجل عدة ثوانٍ بتجهم شديد وعبوس ظاهر، بينما بدا هذا هادئًا كل الهدوء، ساكنًا كل السكينة، تحت نظرته الفاحصة وحدجته القاسية.
وخف ما به شيئًا فشيئًا، فعاد إلى حديث المرقص.
قال: «لقد هممت أن أقول لك يا سيدي إنه إذا كان ثوبي عليك واسعًا مفرط السعة، فلعل ثوب صديقي المستر ونكل أليق عليك، وأصلح سمتًا.»
وانثنى الرجل الغريب يأخذ مقاس المستر ونكل بنظراته، وما لبث أن تهللت منه الأسارير رضًى وارتياحًا، وهو يقول: «بالضبط!»
ونظر المستر طبمن حوله فتبيَّن له أن النبيذ الذي أحدث تأثير المنوم الشديد التخدير في كلٍّ من المستر سنودجراس والمستر ونكل، قد دبَّ دبيبه في حواس المستر بكوك، فإن ذلك السيد راح ينتقل رويدًا من مختلف المراحل التي تسبق الغيبة، من تأثير الطعام ومعقباته، وتحوَّل إلى مرحلة الانتقال العادية من ذروة الفرح والمرح إلى غور الاكتئاب، ومن غور الاكتئاب إلى ذروة الفرح والمرح، وبدا لحظة كمصباح الغاز في الطريق ساطعًا وهاجًا، إلى حد غير طبيعي، ثم هبط حتى كاد نوره يتوارى وبريقه يخبو، وما هي إلا فترة قصيرة حتى توهَّج مرة أخرى هنية؛ ليعود فيرفرف، ويخفق، مرسلًا ضوءًا مترنحًا مترقصًا، وإذا هو في النهاية ينطفئ جملة واحدة، فقد تراخى رأسه على صدره، ولم يَعُدْ من دليل مسموع على وجود ذلك الرجل العظيم غير غطيطه المستمر، إلا من حشرجة عابرة بين الحين والحين.
وكان عامل الإغراء بمشاهدة الرقص، ولتكوين فكرة عن حِسَان نساء «كنت» قويًّا في نفس المستر طبمن، كما كان كذلك شديدًا في نفس الرجل الغريب، فقد كان المستر طبمن يجهل هذا الموضع كل الجهل، ولا يعرف شيئًا مطلقًا عن أهله وسكانه، بينما بدا له أن الغريب عليم بهما كل العلم، كأنه أقام في تلك الجهة منذ طفولته.
وكان المستر ونكل نائمًا، وقد أوتي المستر طبمن قدرًا كافيًا من الخبرة بهذه المسائل، فلا يخفى عليه أن صاحبه لا يكاد يفتح عينيه وينتبه من غفوته، حتى ينطلق بالطبع متثاقلًا إلى فراشه.
ولكنه لبث مترددًا لا يقطع في الأمر برأي، وسمع الضيف الذي لا يكل ولا يمل يقول: «املأ كأسك، وأَدِرْ الزجاجة.» ففعل … وجاء تأثير الكأس الأخيرة، فأزال بقية ما في نفسه من التردد، وحفزه إلى الاعتزام؛ فأنشأ يقول: «إن غرفة نوم المستر ونكل داخل غرفتي، ولن يتيسر لي أن أشرح له ما أريد إذا أنا أيقظته الساعة، ولكني أعرف أن لديه ثوب سهرة، قد أودعَه جوف حقيبة من قماش، فأيُّ بأس من ارتدائك إياه لدخول المرقص، وخلعه عنك عند عودتك، فأرُدُّه إلى صفه، دون حاجة إلى إزعاجه بهذا الأمر ونحوه؟
قال: «إنها لفكرة بديعة بحق … خطة بارعة! … يا له من موقف لعين … أربع عشرة حلة في الصناديق … وأضطرُّ إلى ارتداء ثوب رجل آخَر … فكرة حسنة جدًّا … هذه … حسنة جدًّا.»
وقال المستر طبمن: «لنشترِ التذاكر إذن.»
قال: «الأمر لا يستحق فك جنيه من أجله … فَلْنعمد إلى القرعة، لنرى مَن الذي يدفع عن نفسه وصاحبه معًا … سأنادي … وأنت تدبر … وسأختار أنا المرأة … المرأة … هيا أيتها المرأة الساحرة!»
وهوى الجنيه ثم استقر، فإذا المرأة هي العليا … أو على الأصح «الحية المجنحة»، وإن سماها الرجل «المرأة» من قبيل الأدب والمجاملة.
ودق المستر طبمن الجرس، فابتاع التذكرتين، وأمر بإحضار شموع.
ولم ينقضِ ربع ساعة، حتى كان الرجل الغريب قد انتهى من ارتداء ثوب المستر ونكل بكامل طاقمه.
وقال الغريب: «ن.ب … صورة عجيبة … تامة الشبه بالشيخ … ن.ب … وماذا تعني ن.ب هذه؟»
– «باهرة …؟ إيه.»
فأنشأ المستر طبمن في غيظ متزايد واعتداد بالغ، يشرح له المعنى المراد.
وانثنى الرجل الغريب يقول: «أَلَا ترى أنها ضيقة من الخصر نوعًا ما … أليست كذلك؟»
قال هذا وهو يدور حول نفسه ليرى في المرآة أزرار الخاصرة، وقد بدت في منتصف الطريق إلى أعلى ظهره، وعاد يقول: «كأنها ثوب مأمور البريد … هذه سترات غريبة … معمولة بعقد، فلا قياس ولا أخذ أبعاد، ما أغرب تصريف العناية الإلهية … كل القصار يعطون ثيابًا طوالًا … وكل الطوال يعطون ثيابًا قصارًا.»
وعلى هذا النحو انطلق صاحب المستر طبمن أو رفيقه الجديد في ثرثرته، وهو يُصلِح من ثوبه، أو على الأصح من ثوب المستر ونكل، حتى إذا انتهى صحب المستر طبمن، وذهبا يصعدان السلم المؤدي إلى قاعة الرقص.
وقال الرجل الواقف بالباب: «الأسماء … من فضلك.»
وتقدَّم المستر طبمن ليعلن عن نفسه، ولكن الرجل الغريب منعه قائلًا: «لا أسماء مطلقًا …» وأقبل يهمس للمستر طبمن: «إن الأسماء لا تجدي، إذا كانت غير معروفة، قد تكون حسنة في ذاتها … ولكنها ليست أسماء كبيرة … قد تصح الأسماء المعروفة في حفلة صغيرة، ولكنها لا تُحدِث تأثيرًا في الحفلات، والاجتماعات العامة … فَلْنتنكر … هذا خير وأفضل … سيدان من لندن … أجنبيان كبيران … أي شيء …»
وفتح الباب، ودخل المستر طبمن والغريب قاعة الرقص.
وكانت حجرة طويلة، صُفَّتْ فيها أرائك مكسوة بأغطية قرمزية اللون، ونُصِبت خلالها الشموع في ثريات زجاجية، وكان الموسيقيون جلوسًا وحدهم فوق منصة عالية، وقد حوت الحلبة زوجين أو ثلاثة أزواج من الراقصين على أنغام المعازف، وقد وُضِعت منضدتان للميسر في غرفة مجاورة خُصِّصت للعب الورق، وبدأت أربع سيدات متقدمات في العمر، ومثل عددهن من الرجال البدينين، منهمكين في المقامرة.
وانتهى الرقص، وانطلق الراقصون يتنقَّلون في أرجاء القاعة، واتخذ المستر طبمن ورفيقه مكانًا لهما في ركن؛ ليتفقَّدا القوم.
وقال الغريب: «انتظرْ لحظة، لا يلبث الفصل البديع … أن يبدأ … معاشر الوجهاء والسادات لم يحضروا بعدُ … هذا بلد غريب … أصحاب الطبقة العليا من أهل أحواض السفن لا يعرفون الطبقة الدنيا … وهؤلاء لا يعرفون صغار السادات … وصغار السادات لا يعرفون أرباب الحرف والمهن … والوكيل لا يعرف أحدًا.»
قال المستر طبمن: «ومن يكون ذلك الغلام الصغير، ذو الشعر الأشقر، والعينين القرنفليتين، الذي يبدو في ثوب تنكُّري؟»
فأجاب الغريب قائلًا: «صه … أرجوك … العينان القرنفليتان، والثوب المستعار … والغلام الصغير … هراء … شارة الآلاي السابع والتسعين … هذا الشريف ويلموت سنايب … أسرة عظيمة … آل سنايب … عظيمة جدًّا …»
وفي هذه اللحظة صاح الرجل الواقف بالباب بصوت عالٍ: «السير توماس كلابر، والسيدة كلابر، والآنسة كلابر.» وإذا ضجة تسري في أرجاء القاعة على دخول سيد فارع القد في ثوب أزرق، وأزرار براقة، وسيدة ضخمة في ثوب حريري أزرق، وشابتان من الوزن عينه في ثياب مهندمة، من اللون ذاته.
وهنا همس في أذن المستر طبمن: «الوكيل … رئيس الأحواض … رجل عظيم … رجل عظيم إلى حد كبير …» وكان أعضاء اللجنة الخيرية قد أفسحوا الطريق أمام السير توماس كلابر وأسرته إلى صدر القاعة، وتزاحم الشريف ويلموت أسنايب، وغيره من السادات الأعلام ليؤدوا التحيات للآنستين كلابر، بينما وقف السير توماس كلابر منصوب القامة، وراح ينظر بجلال من فوق لفافة عنقه السوداء إلى المجتمعين من حوله.
ولم تمضِ لحظة أخرى حتى نادى المنادي: «المستر اسميثي … والسيدة اسميثي … والآنستان اسميثي …»
فسأل المستر تراسي طبمن رفيقه: «ومَن يكون المستر اسميثي؟»
قال: «إنسان ما في الأحواض.»
وانحنى المستر اسميثي باحترام للسير توماس كلابر، ورد السير توماس كلابر على التحية بتنازل ظاهر، وألقت الليدي كلابر نظرة «تلسكوبية» على آل اسميثي من خلال منظارها، وحملقت مسز اسميثي بدورها البصر في سيدة أخرى سواها لم يكن زوجها قطُّ في زمرة أهل الأحواض وأصحابها.
وأقبل على أثر هؤلاء آل بولدر … الأميرالاي بولدر، ومستر بولدر، ومسز بولدر.
وأجاب الرجل الغريب على نظرة التساؤل التي بدت في عين المستر طبمن بقوله: «قائد الحامية …»
وبينما كان سادات الحفل: آل بولدر، وكلابر، وأسنايب على هذا النحو محافظين على وقارهم في صدر القاعة، كان غيرهم من أهل الطبقات المختلفة في المجتمع يحاولون الاقتداء بهم، في أرجاء أخرى منها، ومضى ضباط «الآلاي» السابع والتسعين، ومن هم دون أولئك عراقة وجاهًا يتوددون لنساء من هم أقل شأنًا، بين موظفي الأحواض، وكبار العاملين فيها، كما انثنت زوجات «الوكلاء» والمحامين، وزوجة تاجر النبيذ، يرأسن طبقة أخرى (وكانت امرأة تاجر الجعة تزور آل بولدر في دارهم)، والظاهر أن مسز توملينسن، زوجة وكيل البريد قد وقع عليها الاختيار بالاجماع رئيسة لطبقة التجار وأرباب المهن.
وكان من أبرز الشخصيات في دائرته وأرمقها مكانة رجل قصير القامة بدين، له حلقة من الشعر الأسود ملتفة حول رأسه، وصلعة مستديرة جرداء على أم ناصيته، ويُدعَى الدكتور «سلامر» الطبيب في الآلاي السابع والتسعين، وقد مضى يتبادل النشوق مع كل إنسان، ويتحدث إلى كل إنسان، ويضحك ويرقص وينكت، ويلعب الميسر، ويفعل كل شيء، ويتراءى في كل مكان، وقد جمع هذا الطبيب القصير إلى كل هذه «الفعال» على كثرتها، فعلة أخرى أهم منها جميعًا وأكبر شأنًا … وهي الإلحاح في غير كلال على تقديم أوفر نصيب، وأغزر قسط لا ينفد من الرعاية والاحتفال إلى أرملة عجوز قصيرة، ينم ثوبها النفيس ويشف إفراطها في الزينة والحلي عنها كأشهى غنيمة لذي دخل محدود.
وظل نظر المستر تراسي طبمن وصاحبه — فترة من الوقت — يستقر على الطبيب والأرملة، ولم يلبث الرجل الغريب فجأة أن بدَّد الصمت بقوله: «مال وفير … هذه العجوز … هذا الطبيب الفخور المتباهي … فكرة لا بأس بها … لعبة طيبة …»
ونظر المستر طبمن إلى الغريب — وهو منطلق في هذه العبارات الغامضة — نظرة المستفسر المتسائل، فقال هذا: «سأرقص مع هذه الأرملة.»
قال: «ومَن تكون؟»
قال: «لا أدري … ما رأيتها من قبلُ في حياتي، هذا الطبيب لعنه الله … ها هو ذا ينصرف.»
واجتاز الغريب القاعة مسرعًا، فاستند إلى رف موفد، وراح يطيل النظر في إعجاب موقر حزين إلى وجه تلك السيدة القصيرة العجوز، ولبث المستر طبمن يشاهد هذا المنظر في دهشة صامتة.
وتقدَّم الغريب في سبيل تحقيق مأربه بخطوات سراع، فقد كان الطبيب في تلك اللحظة يراقص سيدة أخرى، وسقطت المروحة من يد الأرملة، فأسرع الغريب في التقاطها، وقدَّمها إليها، فكان الابتسام، فانحناء، فتحية، فكلام، ومضى الغريب بجرأة إلى رئيس الاحتفال وعاد به، وتلا ذلك تعارف صامت، وإذا الغريب ومسز بادجر يأخذان مكانهما في دور رقص.
وكانت دهشة الطبيب تتجاوز — إلى حد لا يُوصَف — دهشة المستر طبمن من هذا التصرف السريع، على شدة هذه الدهشة نفسها، فقد كان الغريب شابًّا في نضارة العمر، فلا عجب إذا بدأت الأرملة مزهوة فَرِحة به، فلم تَعُدْ تأبه بتلطُّف الطبيب وتحبُّبه إليها، ولم يجد غضبه مطلقًا على مزاحمة البادئ الذي لبث ساكنًا لا يعبأ بتاتًا … فقد وقف الطبيب جامدًا في مكانه كأنما أصابه الشلل … أفمثله وهو الدكتور سلامر طبيب الآلاي السابع والتسعين، ينطفئ نوره في لحظة ويخبو ضرامه من رجل لم يره من قبلُ أحدٌ، ولا يعرفه أحد حتى الآن؟! الدكتور سلامر … الدكتور سلامر من الآلاي السابع والتسعين يُلفظ ويُنبذ على هذه الصورة! … مستحيل … ولا يمكن أن يحدث … ولكنه مع ذلك حدث، بل هو حادث فعلًا … وها هما هذان واقفان معًا … ما هذا؟ … يقدِّم صديقه إليها للتعارف! … أيمكن أن يصدق عينيه؟ … وعاد ينظر مرة أخرى … وآلَمَه أن يعترف كارهًا بأن عينيه صدقتاه … وها هي ذي مسز بادجر تراقص المستر تراسي طمبن … تلك حقيقة واقعة لا ينفع فيها تخطئة ولا تكذيب … وها هي ذي السيدة أمامه يتوثب جسدها ويقفز من هاهنا وهاهنا، بقوة لم تُؤلَف منها، وها هو ذا المستر تراسي طبمن يحجل في كل ناحية، وينمُّ وجهه عن أشد الجد وأبلغ الوقار، وإنه ليرقص — كما يفعل خَلْق كثير من الناس — كأن الرقص على الأنغام ليس شيئًا يبعث الضحك، ويدعو إلى المرح، بل تجربة قاسية للمشاعر، تقتضي مواجهتها عزمًا قويًّا لا يلين.
واحتمل الطبيب هذا كله بصبر وصمت، وتجلد لكل ما تلاه من تقديم شراب، وارتقاب كئوس، ومسارعة إلى «بقسماط» وغزل، ولكن لم تكد تنقضي بضع ثوانٍ على اختفاء الغريب ليرافق السيدة بادجر إلى مركبتها، حتى اندفع الطبيب مسرعًا من القاعة كالسهم، وقد فارت كل ذرة من غضبه المكظوم، وبدت فورتها على كل ناحية من وجهه عرقًا متصببًا من شدة الحنق …
وبينما كان الغريب عائدًا، والمستر طبمن بجانبه، راح يتحدث إليه في همس ضاحكًا، فقال: «إن الطبيب القصير ظمآن، يريد أن يشرب من دمه …»
وكان الغريب في فرح بالغ … لأنه المنتصر.
وتقدَّم الطبيب نحوه، فقال بصوت مرعب وهو يقدِّم إليه بطاقته وينزوي به في ركن من «الدهليز»: سيدي! … إن اسمي سلامر، الدكتور سلامر، يا سيدي … من الآلاي السابع والتسعين … ثكنات شاتام … وها هي ذي بطاقتي يا سيدي.
وكان يريد أن يسترسل، ولكن الغيظ خنق أنفاسه.
وأجاب الغريب ببرود: «آه … سلامر … متشكر جدًّا … رعاية جميلة منك … لست في هذه الساعة مريضًا يا سلامر … ولكني سأطرق بابك إذا مرضت.»
وزفر الطبيب من فرط الغضب، وتقطعت أنفاسه، وانثنى يقول: «أنت نصاب يا سيدي … نذل … جبان … كذاب، أَلَا شيء يمكن أن يحملك على إعطائي بطاقتك يا سيدي»
فأجاب الغريب — وهو يكاد يخاطب نفسه: «آه … فهمت … الخمر هنا باطشة … وصاحب الفندق سيد سمح كريم … الأمر سخيف جدًّا … شراب الليمون أفضل كثيرًا … والحجرات حارة، والخمر في الصباح أليمة … للسادة المسنين … قاسية … شديدة …»
وتحرك خطوة أو خطوتين …
وقال الرجل القصير الغضوب: «أنت نازل في هذا الفندق يا سيدي … وأنت سكران الآن طافح يا سيدي … وستسمع عني صباح غد يا سيدي … سأعرف مَن أنت يا سيدي … أنا غدًا واجدك …»
وأجاب الغريب، وهو جامد لا يتحرك: «إني لأفضِّل أن تجدني خارج الفندق على أن تجدني في داخله …»
وبدا الدكتور سلامر في صورة افتراس مكبوت عاجز عن الإفصاح، وهو يثبت قبعته فوق رأسه بحركة انفعال.
وراح الغريب، والمستر طبمن يهبطان السلم إلى غرفة النوم ليعيدا الثياب المستعارة إلى صاحبها، وونكل النائم لا يدري مما حدث شيئًا …
وكان المستر ونكل في ثبات عميق، فلم يلبثا أن انتهيا من إعادة الثياب إلى مكانها بسلام، وكان الغريب في حالة مجون متناهية، بينما راح المستر طبمن في ذهوله من أثر النبيذ الذي تناوله على الطعام، والخمر التي شربها في المرقص، وسطع الأنوار، وكثرة الغيد، يحسب الأمر كله «نكتة» بديعة.
وما كاد صاحبه ينصرف، حتى أخذ يحاول في شيء من الجهد الاهتداء إلى الشق الذي كان قد وضع فيه «قلنسوة النوم»، حتى لقد قلب الماثلة وهو يحاول وضع القلنسوة بعد العثور عليها فوق رأسه، ولم يتيسر له الوصول إلى فراشه إلا بعد سلسلة من الترنحات والفترات، ولكنه لم يلبث أن راح في سبات عميق.
وما كادت الساعة تكف عن دق السابعة من صباح اليوم التالي حتى تنبه ذهن المستر بكوك، الجامع، المدرك، الواعي من الغيبوبة التي هبط فيها من أثر النوم، على دقات عنيفة تطرق باب مخدعه.
فاستوى في فراشه وهو يقول: «مَن الطارق؟»
قال الطارق: «بوتس، يا سيدي.»
قال: «ماذا تريد؟»
أجاب: هل تتفضل يا سيدي فتنبئ من فيكم يرتدي سترة زرقاء فاتحة، وعليها زرار مذهَّب نُقِش عليه الحرفان «ن.ب»؟
فخطر للمستر بكوك أن السترة قد أعطيت إليه لتنفيضها، وأن الرجل نسي لمَنْ هي … فصاح قائلًا: «المستر ونكل … وهو في الغرفة التي بعد هذه بغرفتين إلى اليمين …»
قال بوتس: «شكرًا لك يا سيدي.» … وانصرف.
وصاح المستر طبمن، حين سمع دقًّا شديدًا ببابه أيقظه من سباته العميق: «ما الخطب؟»
فأجابه بوتس من الخارج: «هل أستطيع أن أكلم المستر ونكل يا سيدي؟»
فنادى المستر طبمن صاحبه النائم في الغرفة الداخلية: «ونكل … ونكل.»
وسمع صوتًا خافتًا يرد عليه من تحت الغطاء: «هالو … ماذا تريد؟»
قال: «أنت مطلوب … أحد الناس واقف بالباب يطلبك …»
وما إن تمكَّن المستر طبمن من النطق بهذه الكلمات بعد جهد جهيد، حتى استدار في فراشه، وعاد يغط في نوم عميق.
وقال المستر ونكل لنفسه: «أنا مطلوب!» وأسرع في القفز من فراشه، وألقى على جسده شيئًا من ثياب وهو يقول: «مطلوب وأنا على هذه المبعدة من المدينة؟ ومَن تُرَى هذا الذي يطلبني؟»
وفتح الباب، فوجد بوتس أمامه …
قال هذا حين رآه: «إن سيدًا في قاعة القهوة يطلب لقاءك، ويقول إنه لن يستغرق غير لحظة من وقتك، ولا يقبل اعتذارًا.»
قال المستر ونكل: «أمر غريب جدًّا … سأنزل حالًا.»
وبادر إلى الاشتمال «بلفافة» سفر وجلباب نوم، وانطلق يهبط الدرج، فوجد عجوزًا وبعض الخدم ينظفون قاعة القهوة، وضابطًا في ثوب عسكري غير ثوب السهرة مطلًّا من النافذة.
والتفت الضابط عند دخول المستر ونكل، وأحنى رأسه انحناءة جامدة، وبعد أنْ أمر الخدم بالانصراف وأغلق الباب بكل عناية، انثنى يقول: «المستر ونكل … أظن ذلك؟»
قال هذا: «نعم، أنا ونكل يا سيدي.»
قال: «لن يدهشك يا سيدي أن أنبئك أنني قَدِمت إلى هنا في هذا الصباح موفدًا من قِبَل صديقي الدكتور سلامر من الآلاي السابع والتسعين …»
قال: «الدكتور سلامر!»
قال: «نعم، الدكتور سلامر، وقد طلب إليَّ أنْ أبلغك رأيه في تصرفك الليلة البارحة، وهو أنه تصرف لا يمكن أن يحتمله سيد مهذب، وقد أضاف قوله: إنه تصرف لا يتصرفه سيد في حق سيد آخَر …»
وكانت دهشة المستر ونكل أصدق وأجلى من أن تفوت صديق الدكتور سلامر، ولهذا واصل حديثه قائلًا: «لقد طلب إليَّ صديقي الدكتور سلامر أنْ أضيف أيضًا أنه يعتقد اعتقادًا جازمًا أنك كنت ثملًا في فترة من الليل، ولعلك لم تَعِ مدى الإهانة التي اقترفتَها، وقد عهد إليَّ أن أقول لك: إنه إذا كان ذلك عذرًا تلتمسه لتصرفك، فلا مانع لديه من قبول اعتذار مكتوب بخطك، وإملائي إياه عليك …»
فراح المستر ونكل يردِّد القول في أبلغ لهجة ممكنة تنمُّ عن الدهشة: «اعتذار مكتوب!»
فأجابه الزائر ببرود: «إنك بالطبع تعرف الوجه الآخَر من الموقف إذا لم تفعل.»
قال المستر ونكل، وقد ارتبك ذهنه كل الارتباك من هذا الحديث غير المألوف: «هل كُلِّفْتَ حمل هذه الرسالة إليَّ بالاسم؟»
قال: «لم أكن شخصيًّا حاضرًا، وإنما كُلِّفْتُ — بعد أن رفضتَ رفضًا قاطعًا أن تقدِّم بطاقتك إلى الطبيب — أن أتحقق من قِبَل ذلك السيد من شخصية الرجل الذي كان مرتديًا سترة غير مألوفة، ذات لون أزرق خفيف، وزرار مذهَّب عليه صورة نصفية وحرفان، وهما: «ن.ب».
واضطرب ونكل من الدهشة، وهو يسمع هذا الوصف الدقيق لثوبه.
واسترسل صديق الدكتور سلامر يقول: «وقد اقتنعت من التحقيق الذي أجريته اللحظة في مكان الشراب، أن صاحب ذلك الثوب وصل إلى هنا، مع ثلاثة من السادات، أصيل أمس، فأوفدت في الحال رسولًا إلى الرجل الذي وُصِف لي بأنه رئيس الجماعة، فأحالني في التو واللحظة إليك …»
ولو أن البرج الأكبر في حصن روشستر زَايَلَ فجأة مكانه، وهوى قبالة نافذة قاعة القهوة، لما كانت دهشة المستر ونكل شيئًا يصح أن يُقارَن بدهشته البالغة التي سمع بها ذلك الحديث، وكان أول خاطر قام في نفسه أن الثوب قد سُرِق، فلم يسعه إلا أن يقول للزائر: «هل تأذن لي في احتجازك لحظة واحدة؟»
فأجابه الزائر الثقيل غير المرحب به: «بلا شك.»
وجرى المستر ونكل مسرعًا إلى الطبقة العليا، وفتح الحقيبة بيد راجفة؛ فوجد الثوب كما هو في موضعه المألوف، ولكنه بعد تحقيق دقيق تبيَّن أن عليه آثارًا ظاهرة توحي بأنه قد لُبِس في الليلة الماضية.
قال وهو يَدَعُ الثوب يسقط من يديه: «لا بد من أن يكون الأمر كذلك … فقد أفرطت في النبيذ بعد الغداء، ويُخَيَّل إليَّ أنني ذهبت أطوف الشوارع وأدخن «سيجارًا» بعد ذلك … الواقع أنني كنت سكران … ولا بد من أنني غيَّرت ثيابي، وذهبت إلى مكان ما وأهنت أحد الناس … لا شك في ذلك عندي، وهذه الرسالة هي العاقبة الوخيمة …»
وعاد المستر ونكل أدراجه إلى قاعة القهوة معتزمًا عزمة أليمة مرعبة، وهي أنْ يقبل الدعوة التي وجَّهها إليه الدكتور سلامر لمبارزته، وَلْيكن من الشر ما يكون.
وقد دفعته إلى اتخاذ هذا السبيل عدة اعتبارات … أولها: سمعته في النادي، فقد كان منظورًا إليه أبدًا على أنه حجة عالي الكعب في كل الشئون المتصلة بالتسلية والبراعة الرياضية، سواء الهجومية منها والدفاعية والبريئة، فإذا هو انزوى وتراجع في أول مناسبة يوضع فيها موضع التجربة، أضاع سمعته وفقد مكانته في غير رجعة. وثانيًا: أنه تذكر أنه كثيرًا ما سمع من المجربين الخبراء بهذه المسائل ونحوها، أن هناك تفاهمًا بين الشهود، على أن المسدسات في هذه الأحوال قلما تكون محشوة رصاصًا، وخطر له أيضًا أنه إذا طلب إلى المستر سنودجراس أن يكون شاهده، فقد ينبئ هذا السيد الخبر إلى علم المستر بكوك، وهذا بلا شك لن يضيع وقتًا في إبلاغه إلى السلطات المحلية؛ ليحول دون مصرع مريده، أو إصابته بعاهة دائمة، أو جرح بالغ …
تلك هي الخواطر التي جالت في ذهنه حين عاد إلى المقهى، وأفضى بعزمه على قبول الدعوة التي وجَّهها إليه الدكتور سلامر إلى المبارزة.
وقال الضابط الموفد من قِبَله: «هلَّا أحلتني إلى صديق لك؛ لكي نتفق معًا على موعد اللقاء ومكانه؟»
فأجاب المستر ونكل: «لا ضرورة تدعو لذلك … عيِّنْ أنت الزمان والمكان، وأنا أتولى إحضار صديق بعد ذلك.»
قال الضابط في لهجة مستخفة: «أتقول … بعد غروب شمس هذا النهار؟»
قال: «حسن جدًّا.» وإن كان في أعماق قلبه يراه سيئًا جدًّا.
قال: «أتعرف حصن بت؟»
أجاب: «نعم … رأيته أمس.»
قال: «إذا تكرمت وعرجت على الساحة التي تتاخم الخندق، وأخذت الدرب الممتد عن الشمال، حتى تصل إلى زاوية من الحصن، وانطلقت في وجهك، فسوف تراني؛ لكي أذهب بك إلى موضع منعزل، ننهي فيه هذه المسألة، دون خشية من قدوم أحد يعوقنا، أو يقطع علينا أمرنا.»
فقال المستر ونكل في نفسه: «خشية من قدوم أحد يعوقنا!»
وقال الضابط: «أظن أن لا شيء آخَر يقتضي التدبير.»
وأجاب المستر ونكل: «لست أعرف أن هناك شيئًا آخَر، طاب صباحك.»
قال: «طاب صباحك.» وانطلق يرسل صفيرًا مرحًا …
وانقضى الإفطار ثقيلًا غير شهي، وكان المستر طبمن في حال لا تمكنه من مغادرة غرفته بعد ذلك الإفراط في الشراب على غير عادته في الليلة البارحة، وبدا المستر سنودجراس كأنما يعاني انقباضًا وهبوطًا نفسيًّا وركودًا شعريًّا، بل راح المستر بكوك نفسه يبدي نزوعًا غير مألوف إلى ملازمة الصمت، والإقبال على «ماء الصودا»، بينما لبث المستر ونكل يرقب الفرصة المواتية، ولكن انتظاره لسنوحها لم يَطُلْ، فقد ذهب المستر سنودجراس يقترح الخروج لزيارة الحصن، ولم يكن أحد من الجميع ميَّالًا إلى الخروج غير المستر ونكل، فانطلقا معًا إليه.
وما كادا يبتعدان من الطريق العام، حتى راح المستر ونكل يقول: «أي سنودجراس، يا صديقي العزيز … سنودجراس.»
قال ذلك وهو يرجو مخلصًا صادقًا أن يرد قائلًا: إن ذلك ليس في إمكانه …
– «هل في إمكاني أن أعتمد عليك في أمر يستوجب الكتمان؟»
ولكنه أجاب بقوله: «لك ذلك … هل تريد أن أقسم لك … إني …» قال مقاطعًا، وقد روعته فكرة إقدام صاحبه قبل أن يعلم جلية الخبر على التعهد بكتمان السر … وعاد يقول: «كلا … لا تقسم … لا تقسم، فليس ثمة ضرورة.»
وعندئذٍ أرخى المستر سنودجراس اليد التي كان — بدافع الروح الشعرية — قد رفعها إلى السماء وهو يهم بأن يقسم، واتخذ سيماء الترقُّب والإنصات.
وواصل المستر ونكل حديثه قائلًا: «أريد عونك يا صديقي العزيز في مسألة تتصل بالشرف.»
قال وهو يشد يد صاحبه: «حبًّا وكرامة.»
فمضى المستر ونكل يقول — وقد أراد أن يجعل المسألة رهيبة ما أمكن: «إن الأمر يتعلق بواقعة حال مع طبيب … مع الدكتور سلامر، من الآلاي السابع والتسعين … واقعة مع ضابط، دعوة إلى المبارزة، سيحضر فيها ضابط آخَر شاهدًا عند غروب الشمس، هذا النهار، في موضع منعزل خلف حصن «بت» …»
وقال المستر سنودجراس: «سأحضر معك.»
وقد تولته الدهشة مما عرفه، ولكنه لم يرع مطلقًا، والمشاهد في هذه المسائل أن الذين لا يعنيهم الأمر فيها يبدون أقل انفعالًا إلى حد غير مألوف، وأكثر هدوءًا من الشخص المُقدِم عليه، وكان المستر ونكل قد نسي ذلك وغاب عنه، وراح يقيس شعور صاحبه بشعوره …
ومضى يقول: «قد تكون العاقبة مروعة.»
قال: «أعتقد أن الدكتور سلامر يجيد الرماية إلى حد بالغ.»
وعاد المستر سنودجراس يجيب بهدوء: «أكثر هؤلاء العسكريين هم كذلك … ولكنك لا تَقِلُّ عنهم في هذا الشيء كذلك؟»
وأمن المستر ونكل على قوله، وأدرك أنه لم يستطع تخويف صديقه إلى الحد الكافي، فانتقل بالحديث إلى موضوع آخَر.
قال بصوت مفعم بالانفعال: «سنودجراس … إذا سقطت في هذا القتال، فسوف تجد رسالة مني إلى أبي، داخل رزمة سأضعها بين يديك.»
ولكن هذا الهجوم لم ينجح كذلك … نعم لقد تأثر المستر سنودجراس، ولكنه تعهد بحمل الرسالة وتسليمها باستعداد ورضى، كأنه ساعي بريد يحمل كتبًا ورسالات إلى الناس.
واستولى المستر ونكل يقول: «إذا سقطت، أو إذا سقط الطبيب، فسوف تُحاكَم يا صديقي العزيز؛ لاشتراكك في الأمر ومساعدتك على تنفيذه … فهل تراني مورطًا صديقي في هذه المسألة … وقد أعرِّضُ حياته للخطر؟»
وغمز المستر سنودجراس بعينه لسماع هذا القول، ولكن بطولته كانت غلابة قاهرة، فصاح بحماسة قائلًا: «في سبيل الصداقة لأواجهن كل المخاطر …»
ولشد ما سب المستر ونكل ولعن في أعماقه صداقة صاحبه وتفانيه، وهما منطلقان في صمت جنبًا إلى جنب بضع لحظات، وكل منهما غارق في لجج أفكاره.
وبدأ الصباح ينقضي، فازداد المستر ونكل يأسًا من صاحبه وتململًا، فوقف فجأة عن المسير، وانثنى يقول له: «أي سنودجراس، لا تَحُلْ بيني وبين هذا الأمر، ولا تبلغ السلطات المحلية عنه … ولا تستعن برجال الأمن على احتجازي، أو احتجاز الدكتور سلامر من الآلاي السابع والتسعين؛ لمنع هذه المبارزة … أقول: لا تفعل ذلك.»
فتناول المستر سنودجراس يد صديقه بحرارة، وهو يجيب بحماسة قائلًا: «أبدًا … ولو وهبت الدنيا وهبًا.»
وسرت رعدة في كيان المستر ونكل، حين اقتنع بأن لا أمل له في إثارة المخاوف في نفس صديقه، وحين استولت عليه قوة اليقين بأنه قد قُدِّرَ عليه أن يكون هدفًا ماثلًا للرصاص.
وبعد أن شرح الواقعة للمستر سنودجراس، واستؤجرت المسدسات ولوازمها من البارود والرصاص والكبسول، من تاجر في روشستر، عاد الصديقان إلى الفندق، وخلا المستر ونكل للتفكير في المعركة المنتظرة، وعمد المستر سنودجراس إلى تدبير أسلحتها وترتيبها؛ استعدادًا لاستخدامها في الحال.
وكان الأصيل بليدًا سقيمًا، حين انطلقا مرة أخرى في هذه «الرحلة» الغريبة، وكان المستر ونكل قد تزمل برداء فضفاض سابغ؛ حتى لا يراه أحد، بينما حمل المستر سنودجراس تحت معطفه أسلحة القتال وآلات الموت.
قال المستر ونكل بلهجة مضطربة: «هل أعددت كل شيء؟»
وأجاب المستر سنودجراس: «كل شيء … وقدرًا موفورًا من الذخيرة، إذا لم تُحدِث الطلقات تأثيرًا، وفي الصندوق أيضًا ربع رطل من البارود، وفي جيبي جريدتان للتعمير.»
وكانت هذه الشواهد أمثلة على صدق المودة التي لا غرابة في شعور المرء فيها بأبلغ العرفان لصديقه، ولكن القرائن توحي بأن عرفان المستر ونكل لصنيع صديقه كان أبلغ وأقوى من أن يجد كلامًا يقال، أو تعبيرًا لفظيًّا يصوره، فلا عجب إذا هو أخلد إلى الصمت، وظل سائرًا في طريقه بخطوات أدنى إلى البطء.
وراح المستر سنودجراس يقول وهما يتسلقان سياج الساحة الأولى: «لقد جئنا في الموعد، فإن الشمس منحدرة إلى المغرب.»
فتطلع المستر ونكل إلى قرصها المتواري، وتملَّكه عندئذٍ خاطر أليم، وهو لعله أيضًا موشِك على «الانحدار» والمغيب.
وبعد أن سار الصديقان بضع دقائق، صاح المستر ونكل قائلًا: «ها هو ذا الضابط.»
قال: «أين؟»
أجاب: «هناك، ذلك السيد المتزمل بقباء أزرق … فنظر المستر سنودجراس صوب الموضع الذي أشار إليه صديقه بسبابته، فلمح شخصًا مزملًا كما وصفه، وأبدى الضابط انتباهه إلى وجودهما بإشارة خفيفة من يده، فتبعه الصديقان على قيد خطوات منه، وهو يبتعد منصرفًا.
وجعل المساء يزداد في كل لحظة بلادة وإعتامًا، وهبت ريح حزينة على تلك المساحات المهجورة صافرة، كأنها صفير عملاق جبار من بعيد لكلب بيته، كما أضافت كآبة الموضع أثرًا من اكتئاب على مشاعر المستر ونكل؛ فأحس رجفة، وهما يجتازان زاوية الخندق، فقد بدت له أشبه بقبر ضخم رهيب.
وما لبث الضابط أن تحوَّل فجأة عن الدرب، وبعد أن تسلق سياجًا واجتاز سورًا من عوسج، دخل ساحة منعزلة، فإذا سيدان في انتظاره، أحدهما قصيرُ القامة بدينٌ أسودُ الشعر، والآخَر سيدٌ وجيه في معطف سابغ مزركش، وقد جلس في هدوء تام فوق مقعد من مقاعد المعسكرات.
وقال المستر سنودجراس: «أحسبهما الخصم والطبيب … هلَّا تناولت قطرة من «البراندي»؟ فتناول المستر ونكل الزجاجة من كف صاحبه، وتناول رشفة مستطيلة من الشراب المنعش الذي احتوته.
وأنشأ المستر ونكل يقول عندما اقترب الضابط منهما: «هذا صديقي المستر سنودجراس يا سيدي …» فانحنى صديق الدكتور سلامر، وأخرج حقيبة مماثلة للحقيبة التي كان المستر سنودجراس يحملها.
وانثنى الضابط يقول ببرود وهو يفتح الحقيبة: «أظن يا سيدي أنْ لا شيء آخَر يمكن أن تقوله، بعد أنْ رفض تقديم الاعتذار رفضًا قاطعًا …»
وأجاب المستر سنودجراس، وقد بدأ هو الآخَر يشعر بشيء من الانزعاج: «لا شيء يا سيدي.»
وعاد الضابط يقول: «هلَّا تقدمت خطوة؟»
قال: «بكل تأكيد …»
وقيست المسافة، وتمت التدابير الأولية.
وقال الشاهد الآخَر وهو يخرج المسدسات: «ستجد هذه أفضل من مسدساتك … لقد رأيتني وأنا أحشوها … فهل لديك مانع من استخدامها؟»
وأجاب المستر سنودجراس: «كلا، بلا شك.»
وقد أحس أن الضابط قد أراحه من ارتباك شديد؛ لأن حشو المسدس لم يكن شيئًا هو به العارف الخبير.
ومضى الضابط يقول باستخفاف شديد، كأن المبارزين قِطَع من الشطرنج، وكأن الشاهدين من اللاعبين: «يصح لنا إذن أن نوقفهما في مكانهما.»
وأجاب المستر سنودجراس بالموافقة، وكان يسعه أن يوافق على أي شيء يقترح عليه؛ لأنه كان بكل شيء من هذا الأمر جاهلًا.
وعندئذٍ تقدَّم الضابط إلى الدكتور سلامر، ومشى المستر سنودجراس إلى المستر ونكل.
قال وهو يقدم المسدس إليه: «كل شيء قد أُعِدَّ … هات قباءك.»
قال: «تمامًا … والآن ثباتًا … واجنح له!»
وقال المستر ونكل المسكين: «لقد سلمتك الرسالة يا صديقي العزيز.»
وخطر للمستر ونكل أن هذه النصيحة أشبه بما ينصح به النظارة أصغر غلام في معركة تقوم بين الصبية في الشارع، وهي قولهم: «ادخل عليه واغلبه!» كلام جميل، ونصيحة بديعة، لو كنتَ تعرف حقًّا كيف يكون الدخول والغلب، ولكنه حسر عنه قباءه في صمت، وكان خلع ذلك القباء يستغرق عادة وقتًا طويلًا، وتناول المسدس، وتراجع الشاهدان، كما تراجع السيد الجالس فوق مقعد المعسكر، وراح كل غريم يدنو من غريمه.
وكان المستر ونكل معروفًا بالتناهي في إنسانيته، وقد قيل: إن نفوره من إيذاء آدمي مثله عمدًا وقصدًا هو الذي جعله يغمض عينيه عندما وصل إلى البقعة الرهيبة المعينة له، وأن إغماضه حال بينه وبين رؤية سحنة الدكتور سلامر الغريبة، ووجهه العجيب، ونظراته الغامضة؛ فقد لبث هذا السيد يحملق مليًّا، ثم إذا هو يرتد خطوات، ويفرك عينيه، ثم يعود فيحملق، وإذا هو أخيرًا يصيح قائلًا: «قِفْ. قِفْ!»
وأنشأ يوجِّه القول إلى صديقه، وإلى المستر سنودجراس حين خفا إليه: «ما هذا كله؟ … ليس هذا هو الشخص المقصود!»
وقال صديق الدكتور سلامر: «ليس هذا بلا شك … ليس هذا بالرجل الذي أهانني الليلة البارحة!»
وصاح الضابط: «هذا شيء عجاب!»
وانثنى حامل المقعد قائلًا: «حقًّا! … إن المسألة إذن هي: هل ينبغي ألا نعد السيد الماثل أمامنا من الوجهة الشكلية الشخص الذي أهان صديقنا الدكتور سلامر ليلة أمس، وهل هو حقيقة أو ليس هو؟»
وما كاد يدلي بهذا الاقتراح، وبلهجة الحكيم الفطين، حتى تناول نشقة من حق سعوطه، ومضى يدير عينيه فيمن حوله، في صورة الحجة المثبت في هذه المسائل.
وكان المستر ونكل قد فتح عينيه وأذنيه أيضًا، حين سمع خصمه ينادي بوقف القتال، وتبيَّن — كما قال فيما بعد — أن هناك خطأ وقع في الأمر، بلا أدنى شك، فلم يلبث أن أدرك ما هو حتمًا ظافر به من الشهرة وحسن الصيت، إذا هو أخفى حقيقة الدافع الذي حفزه إلى القدوم، ولهذا تقدَّم بجرأة فقال: «لست أنا الرجل المقصود … وأنا أعرف ذلك.»
وهنا قال السيد صاحب المقعد: «إذن هذه إهانة في حق الدكتور سلامر، وسبب كافٍ للأخذ في الإجراءات حالًا.»
ولكن الضابط الشاهد انبرى له قائلًا: «أرجوك يا «بين» أن تلتزم الهدوء، ودعني أسألك يا سيدي لماذا لم تُفهِمني بهذه الحقيقة صباح اليوم؟»
وعاد السيد صاحب المقعد يقول غاضبًا: «مؤكد … مؤكد.»
وقال الآخَر: أرجوك أن تسكت يا «بين» … هل تسمح يا سيدي بأن أعيد عليك سؤالي؟»
فأجاب المستر ونكل، وقد وجد فسحة من الوقت للتفكير فيما عسى أن يكون جوابه: «لأنك … يا سيدي … لأنك وصفت رجلًا ثملًا غير مهذب، يلبس سترة أتشرَّف بارتدائها، بل لي الشرف بابتكار تفصيلها … وهي الشعار الذي اقترحته يا سيدي لأعضاء نادي بكوك في لندن، وإني على شرف هذا الثوب لحفيظ، ولهذا قبلت على الفور بغير تحقيق ولا سؤال الدعوةَ التي وجهتَها إليَّ …»
وهنا قال الطبيب القصير المرح، وهو يتقدَّم إليه باسطًا يده: «إنني يا سيدي العزيز مكبر شهامتك، بل اسمحْ لي يا سيدي أن أبدي لك شديد إعجابي بمسلكك، وبالغ أسفي لما أحدثه هذا اللقاء لك من إزعاج بغير موجب.»
فأجاب المستر ونكل: «أرجوك يا سيدي أن لا تذكر ذلك.»
قال: «إنني بمعرفتك يا سيدي فخور.»
وقال المستر ونكل: «إن معرفتك يا سيدي تتيح لي أبلغ السرور.»
وتصافحا، ثم تصافح المستر ونكل والملازم تابلتون شاهد الطبيب، ثم تبادل ونكل التحية والرجل صاحب المقعد، وأخيرًا تصافح المستر ونكل والمستر سنودجراس، وكانت مصافحة السيد الأخير مقترنة بإعجاب مفرط، بذلك التصرف النبيل الذي بدر من صديقه الشهم الكريم.
وقال الملازم تابلتون: «أظن أنه يصح أن نؤجل الاجتماع.»
وأضاف الطبيب: «بلا ريب.»
وتدخل الرجل الذي كان جالسًا على المقعد قائلًا: «إلَّا إذا كان المستر ونكل يشعر بأنه قد غضَّ من قدره بهذه الدعوة، وفي هذه الحالة أسلِّمُ بأنه له الحق في الترضية.»
ومضى الرجل يقول: «أو ربما كان السيد الشاهد شعر بشيء من الغضاضة من بعض الملاحظات التي بدت مني في بداية هذا الاجتماع، فإذا كان الأمر كذلك، فإني ليسعدني أن أقدِّم إليه الترضية في الحال …»
فأسرع المستر سنودجراس في إبداء شكره البالغ للسيد الذي تكلَّم أخيرًا على ما قدَّم من عرض كريم، وقال إنه لا يسعه ألا أن يرفضه؛ لأنه في أتم الرضى عن كل ما حدث.
وأقبل الشاهدان ينظمان حقيبتيهما، وغادر الجميع المكان وهم أصفى أمزجة مما كانوا عند التوافي إليه.
وسأل الدكتور سلامر المستر ونكل، وهما يسيران جنبًا إلى جنب في أبلغ صور المودة: «أَبَاقٍ هنا طويلًا؟»
فكان جوابه: «أظن أننا سنغادر المدينة بعد غد …»
وقال الدكتور: «أرجو أن أحظى بلقائك أنت وصديقك في النزل الذي أقيم فيه، وقضاء مساء لطيف معكما بعد هذا الخطأ العجيب … فهل أنت حر الليلة غير مرتبط بمواعيد؟
وأجاب المستر ونكل قائلًا: «إن لنا بعض الصحاب هنا، ولست أود أن أتركهم الليلة، فلمَ لا توافينا أنت وصديقك في الفندق؟»
قال: «لا بأس مطلقًا يا سيدي العزيز، وسوف يسعدني السعادة كلها أن أقدِّمكما إلى صديقَيْ المستر بكوك، والمستر طبمن.»
وأجاب الدكتور قائلًا: «سيسرني لقاؤهما أشد السرور.» ولم يَدْرِ من عسى أن يكون المستر طبمن.
وقال المستر سنودجراس: «ستأتيان بلا شك.»
قال: «طبعًا … بلا شك …»
وكان القوم قد وصلوا عندئذٍ إلى بداية الطريق، فتبادلوا السلام وتفرقوا، فعاد الدكتور سلامر وصديقاه إلى الثكنات، وقفل المستر ونكل مع صديقه المستر سنودجراس عائدين إلى الفندق.