الفصل العشرون
يبيِّن كيف بدأ ددسن وفج من رجال الأعمال، وكيف كانت الكتبة أهل مجانة، وكيف جرى حديث مؤثِّر بين المستر ولر ووالده الغائب عنه من عهد طويل، ويصف أيضًا صفوة «الزبائن» الذين يختلفون إلى حانة «ماجباي إصطمب»، وكيف يكون الفصل التالي ممتعًا غاية الإمتاع …
***
في الطابق الأرضي من واجهة بيت أغبر الطلاء، في الطرف الأقصى من محكمة «فريمان» في كورنهل، كان يجلس الكَتَبَة الأربعة الذين يعملون في مكتب السيدين ددسن وفج، المحاميين أمام المحكمة العليا ومحكمة الأحوال الشخصية في وستمنستر والقضاء العالي، وهم لا يرون نورًا ولا شمسًا، إلا كما يرجو إنسان أن يرى لمحات منهما، وهو في قاع بئر عميقة، ولا يتاح لهم رؤية الكواكب في السماء إلا كما يتاح له في ذلك الموضع المنعزل.
وكان مكتبهم غرفة مظلمة عفنة رطبة، ذات حاجز يحجبهم عن الأنظار، ومن خلفه كرسيان قديمان من الخشب، وقد قامت فوق أحد جدرانها ساعة «دقاقة» شديدة الدق، و«تقويم» للأيام والشهور، ومشجب للمظلات، وآخران للقبعات، وبضعة أرفف وُضِعت فوقها عدة إضبارات، تتدلى منها قصاصات تحوي أرقامها وعناوينها، وملفات من أوراق قذرة، وصناديق قديمة من الخشب وُسِمت بعناوينها كذلك وبياناتها، وعدة زجاجات فخارية للمداد من مختلف الأشكال والأحجام، وفي الحجرة باب زجاجي يؤدي إلى دهليز يفضي إلى الفناء.
وإلى الجانب الخارجي من ذلك الباب الزجاجي تقدَّم المستر بكوك، يتبعه سام ولر، في صبيحة يوم الجمعة الذي تلا الحادث الذي رويناه بأمانة في الفصل السابق.
وصاح صوت من خلف الحاجز؛ ردًّا على طرقة خفيفة بالباب من كف المستر بكوك: «ادخلْ، أَلَا تستطيع أن تدخل؟»
ودخل على الصوت المستر بكوك وسام.
وتقدَّم المستر بكوك، والقبعة في يده، نحو الحاجز في رفق، وسأل قائلًا: «هل المستر ددسن أو المستر فج هنا يا سيدي؟»
وأجاب الصوت قائلًا: «المستر ددسن ليس هنا الآن، والمستر فج مشغول في هذه اللحظة.» وتطلع الرأس الذي انبعث هذا الصوت منه من فوق الحاجز، والقلم خلف أذنه، إلى المستر بكوك.
وكان رأسًا رثًّا، تلوى شعره المصفر المفروق على جانب واحد منه، والمدهون ببعض الأدهنة العطرة ليستقر في موضعه، فبدا ذوائب شبه مستديرة حول وجه مسطوح ذي عينين ضيقتين، وقميص قذر، وربطة عنق سوداء ناحلة.
وعاد المستر بكوك يسأل: «ومتى ينتظر أن يعود المستر ددسن يا سيدي؟»
– «لا أعرف.»
– «وهل يطول انشغال المستر فج يا سيدي؟»
– «لا أعرف.»
وشرع الرجل في إصلاح قلمه بكل تؤدة، بينما ضحك كاتب آخر ضحكة الموافقة على ما أجاب به زميله، وكان يذيب قدرًا من مسحوق «السيدلتز» الملين، خلف غطاء مكتبه.
وقال المستر بكوك: «أظن أنه يحسن بي أن أنتظر.»
ولم يتلقَّ جوابًا، فجلس غير مأمور، وأصغى إلى دقات الساعة، وغمغمة الكَتَبَة وهم يتجاذبون أطراف الحديث.
قال أحدهم — وهو في رداء رمادي، وأزرار نحاسية، وسراويل سود، وحذاء قصير — في ختام كلام له غير مسموع عن واقعة حال له: «في الليلة الماضية، لقد كانت ممتعة، أليس كذلك؟»
وقال الرجل الذي يمزج «السيدلتز»: «جد ممتعة، جد ممتعة.»
وقال ذو الرداء الرمادي: «وكان توم كومنز في كرسي الرياسة، وكان الوقت منتصف الخامسة حين وصلتُ إلى سمرز تاون، وكنتُ سكران ثملًا، فلم أهتدِ إلى الثقب الذي يدخل فيه المفتاح، فاضطررت إلى دق الباب، وإيقاظ المرأة العجوز، ولست أدري ماذا سيقول العجوز فج إذا عرف الحادث؛ سيطردني من العمل، أليس كذلك؟»
وضحك الآخرون جميعًا لهذه الفكرة اللطيفة.
وقال ذو الرداء الرمادي: «لقد حدث فصل بديع مع فج هنا في هذا الصباح، فبينما كان جاك في الدور العلوي يفرز الأوراق، وأنتما الاثنان قد خرجتما للذهاب إلى مكتب دفع الرسوم، جاء فج إلى هنا ليفتح البريد، وإذا الرجل الذي استصدرنا ضده أمر أداء في «كمبرول» كما تعرفون يفاجئنا، ما اسمه؟ فقد نسيت.»
وقال الكاتب الذي كان قد خاطب المستر بكوك: «اسمه رمزي.»
وقال: «آه! رمزي، وهو عميل طيب موعوك، ونظر إليه الشيخ فج بحدة شديدة، وقال: خير إن شاء الله — وأنتم تعرفون طريقته — هل جئت لتسوية المسألة؟ وأجاب رمزي وهو يدس يده في جيبه، ويُخرِج النقود: نعم يا سيدي، إن مقدار الدَّيْن جنيهان وعشرة شلنات، والنفقات ثلاثة جنيهات وخمسة شلنات، وها هي ذي يا سيدي. وزفر زفرة حارة، وهو يقدِّم النقود ملفوفة في ورقة «نشاف»؛ فنظر الشيخ فج أولًا إلى المال، ثم إلى الرجل، ثم سعل سعلته المعهودة، وعندئذٍ عرفت أنه يضمر أمرًا، قال: أَلَا تدري أن هناك إعلانًا سيزيد جملة النفقات إلى حد كبير؟ فأجفل رمزي من هذا القول، وأجاب: لا تقل يا سيدي، إن الأمر وصل إلى علمي ليلة أمس فقط، يا سيدي. وأجاب فج: أقول هذا وأكرره، لقد ذهب كاتبي الساعة لتسجيله، أَلَمْ يذهب المستر جاكسون لتسجيل الإعلان في قلم الكتاب بشأن قضية «بولمان ورمزي» يا مستر وكس؟ فقلت: طبعًا نعم. فسعل فج سعلة أخرى، ونظر إلى رمزي، وقال هذا: يا إلهي! وأنا الذي كدت أجن في سبيل جمع هذا المبلغ من هاهنا وهاهنا، ولم أحصل عليه إلا بشق الأنفس، ثم لا ينتهي الأمر إلى نتيجة. وقال فج بفتور: لا نتيجة مطلقًا، فالأفضل أن تعود فتجمع مبلغًا آخَر، وتأتي به في الموعد المضروب. وأجاب رمزي وهو يضرب المكتب بقبضة يده: ولكني والله لا أستطيع. وقال فج وقد بدأ يغض تعمدًا: لا تضايقني يا سيدي. وقال رمزي: لست أضايقك في شيء يا سيدي. وقال فج: بل أنت تضايقني فعلًا، اخرج من المكتب يا سيدي، وارجع لي حين تعرف كيف تكون مؤدبًا. وعندئذٍ حاول رمزي أن يتكلم، ولكن فج منعه، فرد المال إلى جيبه، وتسلل منصرفًا.
وما كاد الباب يغلق حتى دار الشيخ فج نحوي، وعلى وجهه ابتسامة بديعة، وأخرج الإعلان من جيبه، وقال لي: اسمع يا وكس، خذ مركبة، واذهب إلى المحكمة بكل سرعة ممكنة، وسجِّلْ هذا الإعلان، إن المصاريف والأتعاب في أمان؛ لأنه رجل مستقيم، وله أسرة كبيرة، ومرتبه خمسة وعشرون شلنًا في الأسبوع، وإذا أمكننا أن نحصل على حكم بالأداء، وهو ما أنا واثق به، فسوف ينقدنا الثمن أصحاب العمل الذين يستخدمونه، وهكذا يتسنى لنا أن نأخذ منه كل ما في إمكاننا أخذه، اسمع يا مستر وكس، إنه عمل لا يتنافى مع أحكام المسيحية وتعاليمها؛ لأنه سينصلح حاله بهذا الدرس النافع الذي سيُعطَى له، وهو رجل ذو أسرة كبيرة، ودخل صغير، حتى لا يعود إلى الاستدانة، أَلَا ترى ذلك يا مستر وكس؟ ألست معي في هذا؟ وابتسم ابتسامة مطمئنة رفيقة وانصرف، وكان منظره في تلك اللحظة ممتعًا.»
وسكت المستر وكس لحظة، ثم عاد يقول بلهجة إعجاب شديد: «إنه رجل عمل بديع، بديع حقًّا، أليس كذلك؟»
وأمَّن الثلاثة الآخرون على قوله، وأحسوا بارتياح لا حد له لهذه القصة التي رُوِيت لهم.
وهمس المستر ولر لسيده قائلًا: «إنهم خلق ظرفاء أهل لطف يا سيدي!»
وأومأ المستر بكوك موافقًا، وسعل ليجتذب أنظار السادة الجالسين خلف «الدريئة»، وكان هذا الحديث القصير الذي دار بينهم قد أراح خواطرهم، فتنازلوا إلى إظهار شيء من الاهتمام بذلك الغريب.
فقال جاكسن: «لست أدري هل انتهى فج من عمله الآن؟»
وقال وكس، وهو ينزل بكل رفق وتؤدة من فوق كرسيه الطويل: «سأرى أي اسم أحمله إلى المستر فج.»
وقال الرجل الذائع الصيت صاحب هذه المذكرات: «بكوك.»
وصعد المستر جكسن السلم ليؤدي هذه المهمة، وعاد على الأثر يقول: «إن المستر فج سيقابل المستر بكوك بعد خمس دقائق.» وعاد إلى مكتبه بعد أن نقل الرسالة التي جاء بها.
وهمس وكس: «ما هو الاسم الذي ذكر؟»
وأجاب جكسن: «بكوك، إنه الشخص المدعى عليه في قضية باردل وبكوك.»
وتعالت فجأة مواقع أقدام مختلطة بضحك مكبوت من خلف الحاجز.
وهمس المستر ولر قائلًا: «إنهم يهزءون بك يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «يهزءون بي يا سام! ماذا تعني بقولك يهزءون؟»
وهنا أشار المستر ولر بإبهامه من فوق كتفه، فتطلع المستر بكوك ببصره، فتبيَّن له أن وجوه الكَتَبَة الأربعة جميعًا تنمُّ عن سرور بالغ، وأنهم يطلون برءوسهم من فوق الحاجز الخشبي، ويدققون البحث في شكل هذا العابث «المزعوم» بأفئدة النساء، والمكدر لصفاء عيشهن، وما إن تطلع ببصره حتى توارت تلك الرءوس فجأةً، وتلا اختفاءها صرير الأقلام، وهي تمر على الورق بسرعة متناهية.
ودق الجرس في المكتب فجأة، طالبًا حضور المستر جكسن إلى مكتب فج، فانصرف مسرعًا، وعاد يقول: «إنه — أيْ فج — مستعد لمقابلة المستر بكوك، لو تكرم بالصعود إلى غرفته.»
وصعد المستر بكوك السلم، تاركًا سام ولر في الطابق الأرضي، وكان مكتوبًا على باب الغرفة «المستر فج» بحروف واضحة، وبعد أن طرق جكسن الباب، وقيل له: «ادخل.» تقدَّم ليعلن أن المستر بكوك قد حضر.
وسأل المستر فج الكاتب: «هل المستر ددسن هنا؟»
وأجاب جكسن: «لقد حضر اللحظة يا سيدي.»
– «ادعه إلى الحضور.»
– «نعم يا سيدي.»
وانصرف جكسن … وانثنى المستر فج يقول للمستر بكوك: «تفضل بالجلوس يا سيدي، ها هو ذا الورق يا سيدي، وسيأتي شريكي في الحال، وعندئذٍ نستطيع أن نتحادث في هذه المسألة يا سيدي.»
وجلس المستر بكوك وتناول الورق، ولكنه لم يقرأه، بل مضى يطل من فوقه على الرجل الجالس أمامه، فإذا هو يبدو لعينه كهلًا ذي وجه كثير البثور، يلوح كأنه من معاشر النباتيين وأكلة الخضر، في رداء أسود، وسراويل رمادية، وأغطية سيقان سود، وكأنه جزء لا يتجزأ من المكتب الذي جلس إليه، ويماثله تفكيرًا وإحساسًا.
وانقضت بضع لحظات في صمت، وعندئذٍ دخل المستر ددسن، فإذا هو رجل بدين، مهيب، عبوس، جهير الصوت.
وابتدأ الحديث.
قال فج: «ها هو المستر بكوك.»
وقال ددسن: «آه … أأنت المدعى عليه في قضية باردل وبكوك، يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «أنا يا سيدي.»
وقال ددسن: «حسنًا يا سيدي، وماذا تقترح؟»
وتبعه فج فقال: «آه، ماذا تقترح يا مستر بكوك؟» ودس يديه في جيبي سراويله، وأسند ظهره إلى المقعد.
وقال ددسن: «صه يا فج، ودَعْني أسمع ماذا يريد المستر بكوك أن يقول.»
ونظر المستر بكوك بهدوء إلى الزميلين، وأنشأ يقول: «لقد جئت أيها السيدان إلى هنا لأبدي دهشتي حين تلقيت كتابكما منذ أيام، ولأسأل ما هي الأسباب التي ستستندون إليها في رفع الدعوى عليَّ؟»
ولم يكد فج يقول: «الأسباب التي …» حتى منعه ددسن من الكلام قائلًا: «يا مستر فج، أنا سأتكلم.»
وقال فج: «معذرة يا مستر ددسن.»
ومضى ددسن في تعالٍ وسمو يقول: «أما عن أسباب الدعوى، فهذه تسأل عنها محاميك، وتستطلع شعورك، أما نحن يا سيدي فليس أمامنا غير أقوال موكلتنا، وقد تكون أقوالها يا سيدي صحيحة، وقد لا تكون كذلك، وقد تكون مصدقة، وقد تكون بعيدة عن التصديق، ولكن إذا كانت صحيحة، ومصدقة، فلست أتردد في القول يا سيدي بأن حججنا في الدعوى قوية، لا يدحضها شيء، وقد تكون سيئ الحظ يا سيدي، وقد تكون عامدًا، ولكن إذا أنا طلبت بوصفي محلفًا مؤديًا اليمين لإبداء رأيي في تصرفك، فلست أتردد في القول بأني لا أملك غير رأي واحد فيه.»
وهنا نصب المستر ددسن قامته، بلهجة المستاء من إنكار فضله، ونظر إلى فج، فما كان من هذا إلا أن غيب يديه في جيبه، وهز رأسه هزة الحكمة، وقال بلهجة الموافقة التامة: «بلا أدنى شك.»
وقال المستر بكوك، والألم الشديد مرتسم على وجهه: «اسمح لي يا سيدي أن أؤكد لك أنني في هذا الأمر سيئ الحظ إلى أبعد حد.»
وأجاب ددسن قائلًا: «أرجو أن تكون كذلك يا سيدي، بل يقيني أنك كذلك يا سيدي، فإن كنت حقيقة بريئًا مما اتُّهِمْتَ به، فأنت أسوأ حظًّا من أي إنسان يمكن أن يصاب بسوء الحظ، ما رأيك يا مستر فج؟»
وقال فج وهو يبتسم ابتسامة مَن لا يصدق ما سمع: «إنني أقول ما قلته تمامًا.»
ومضى ددسن: «إن الإذن الصادر برفع الدعوى صادر يا سيدي من الجهة التي تملك إصداره، يا مستر فج أين سجل صحف الدعوى؟»
وقال فج وهو يناول زميله سجلًّا مربع الشكل، ذا غلاف من الورق المقوى: «ها هو ذا.»
ومضى ددسن يقول: «ها هو ذا المدوَّن في السجل «مدلسكس في قضية مارتا باردل ضد صمويل بكوك … التعويض المطلوب عن الأضرار ألف وخمسمائة جنيه — الوكيل عن المدعية ددسن وفج — في ٢٨ أغسطس عام ١٨٣٠»، كل شيء قد تم وفقًا للقانون يا سيدي.»
وسعل ددسن ونظر إلى فج، فقال هذا: «تمامًا.» وعادا ينظران معًا إلى المستر بكوك.
وقال المستر بكوك: «أفهم من هذا إذن أن في نيتكما فعلًا المضي في الدعوى؟»
وأجاب ددسن بشيء أقرب إلى الابتسام بقدر ما يسمح له مركزه: «تفهم يا سيدي؟ لك أن تفهم هذا بلا ريب.»
وقال المستر بكوك: «وإن التعويض هو فعلًا مقدَّر بألف وخمسمائة جنيه؟»
وأجاب ددسن: «وإلى هذا الفهم لك أن تضيف تأكيدي أننا لو أردنا أن نؤثر في موكلتنا، لجعلنا التعويض ثلاثة أضعاف هذا القدر يا سيدي.»
وقال فج، وهو ينظر إلى ددسن: «وأعتقد أن السيدة باردل قالت إنها لن ترضى بأقل من ذلك درهمًا واحدًا.»
وأجاب ددسن بتجهم: «بلا نزاع؛ لأن الدعوى إنما بدأت الآن، ولا يجدي فيها قبول أي تراضٍ من جانب المستر بكوك، حتى وإن أراد تراضيًا.»
وانثنى إلى المستر بكوك فقال وهو يلوح بقصاصة من الورق في يمناه، ويقدِّم صورة منها بكل لطف إليه: «وما دمت لم تعرض شروطًا يا سيدي، فمن الخير أن أقدِّم إليك نسخة من الإذن الصادر، وأحتفظ بالأصل، وهو في يميني كما ترى.»
ونهض المستر بكوك من مجلسه، ونهض معه غضبه في وقت واحد، وهو يقول: «حسن جدًّا، حسن جدًّا أيها السيدان، سيتصل بكما وكيلي.»
وقال فج وهو يفرك يديه: «سنكون سعيدين جدًّا إذا فعل.»
وقال ددسن وهو يفتح الباب: «جدًّا.»
وعلى رأس السلم وقف المستر بكوك الثائر، ثم استدار قائلًا: «اسمحا لي أيها السيدان قبل انصرافي أن أقول: إنه ليس في جميع الإجراءات المعيبة الخبيثة ما هو …»
وهنا قاطعه ددسن بأدب بالغ قائلًا: «قِفْ يا سيدي لا تذهب، يا مستر جسكز، يا مستر وكس!»
وأجاب الكاتبان، وقد ظهرا في أسفل السلم: «نعم يا سيدي.»
قال: «أريد منكما فقط أن تسمعا ما سيقوله السيد، من فضلك استمر يا سيدي، أظنك قلت: إنه ليس في جميع الإجراءات المعيبة الخبيثة ما هو …»
وأجاب المستر بكوك وقد تملكه الغضب: «نعم، لقد قلت: إنه ليس في الإجراءات المعيبة الخبيثة التي ألتجئ إليها في يوم من الأيام ما هو أعيب من هذا الإجراء، ولا أخبث منه، وأنا الآن أكرر ما قلت يا سيدي.»
وقال ددسن: «هل سمعت يا مستر وكس؟»
وقال فج في إثره: «لا تنسَ هذه العبارات بالنص يا مستر جكسن.»
وقال ددسن: «ولعلك تحب يا سيدي أن تسمينا «نصَّابين»، فقلها من فضلك إذا شئت، هلم يا سيدي قلها من فضلك.»
وقال المستر بكوك: «فعلًا أنتم نصابون!»
وقال ددسن: «جميل جدًّا، هل أنت سامع أيها الواقف في أسفل السلم، يا مستر وكس، أنت شاهد؟»
وأجاب وكس: «أي نعم يا سيدي.»
وأضاف فج قائلًا: «يحسن أن تصعدا قليلًا إذا لم تستطيعا سماع ما يقول، تفضل يا سيدي، استمر بالله عليك، الأفضل أن تسمينا لصوصًا يا سيدي، أو لعلك تحب أن تتعدى على أحد منا، فافعل يا سيدي إذا شئت، فلن نبدي أقل مقاومة، تفضل أرجوك.»
وتقدَّم فج على سبيل الإغراء والتحريض، فوقف على منال قبضة المستر بكوك، وليس ثمة شك في أنه كان سيلبي ذلك الرجاء المُلِحَّ، لولا تدخُّل سام في تلك اللحظة، وكان قد سمع ذلك الحوار، فخرج مسرعًا من المكتب، وصعد السلم، وأمسك بذراع سيده، وهو يقول: «تعال، إن مشاهدة لعبة المضرب والكرة جميلة جدًّا، ولكنها بينك وبين اثنين من المحامين، وأنت لا بالكرة ولا هما بالمضرب، منظر لا يسر … هيا بنا يا سيدي، وإذا أردت أن تريح خاطرك بضرب أحد، فتعال إلى الفناء واضربني أنا، ولكن الضرب هنا عملية غالية التكاليف.»
وراح المستر ولر دون أن يكلف نفسه شيئًا يُنزِل سيده السلم، ويسير به إلى الفناء، حتى إذا استقر به في «كورنهل» واطمأن، عاد يمشي خلفه، تاركه يذهب به إلى أي مكان يشاء.
ومضى المستر بكوك مشدوهًا، شارد الخاطر، فاجتاز دار البلدية، وعطف على حي شيبصايد، وبدأ سام يعجب له أين تُرَاه يريد الذهاب، وعندئذٍ دار سيده إليه فقال: «يا سام، سأذهب في الحال إلى مكتب المستر بركر.»
وأجاب المستر ولر: «هذا هو المكان بالذات الذي كان أولى بك أن تذهب إليه في الليلة الماضية يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «هذا صحيح يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «أنا أعرف أنه صحيح.»
ومضى سيده يقول: «حسن، حسن يا سام! فَلْنذهب إليه في الحال، ولكني أولًا أراني معكر المزاج مما حدث، وأحب أن أتناول كأسًا من البراندي بالماء الساخن يا سام، فأين تظنني أتناوله؟»
وكان علم المستر ولر بلندن واسع المدى عجيبًا، فأجاب على الفور، وبلا أقل تفكير: «اتجه إلى اليمين، واقصد المحل الذي قبل الأخير، وعلى يمينك أيضًا، وخذ المقصورة التي أمام أول موقدة؛ لأن المائدة التي فيها ليست لها رجل في الوسط، ولكن الموائد الأخرى لها أرجل وسطى، وهي متعبة جدًّا.»
واتبع المستر بكوك توجيهات خادمه بالحرف الواحد، وطلب إليه أن يتبعه، ودخل الحانة التي أشار سام إليها، ولم يلبث البراندي المزيج بالماء الساخن أن وُضِع أمامه، بينما جلس المستر ولر احترامًا له على مسافة منه، إلى المائدة ذاتها، وسعى إليه الخادم بقدر طيب من النبيذ.
وكانت القاعة بسيطة كل البساطة، والظاهر أن حوذية المركبات الحافلة هم الذين يتولون أمر الإشراف عليها خاصة؛ لأن عددًا كبيرًا ممن تلوح عليهم مظاهر السائقين كانوا جلوسًا في المقاصير يشربون ويدخنون.
وكان من بينهم رجل بدين، محمر الوجه، تجاوز حدود الكهولة، يجلس في المقصورة المقابلة، وقد جذب شكله اهتمامًا خاصًّا من المستر بكوك، فقد كان مفرطًا في التدخين، وكان بين كل بضعة أنفاس من الدخان ينزع القصبة من فمه، وينظر أولًا إلى المستر ولر، ثم إلى المستر بكوك، ثم يكب بعد ذلك على وعاء من الشراب، فيُدخِل فيه من وجهه ما يسمح حجم الوعاء بدخوله، ويعود فينظر إليهما، ثم يتناول بضعة أنفاس من الدخان، وهو مستغرق في التفكير، ويعاود إلقاء نظرة عليهما، وأخيرًا راح يضع ساقيه على المقعد، ويسند ظهره إلى الجدار، ويعاود أخذ أنفاس مستطيلة من القصبة، وهو يحملق فيهما البصر من خلال ذوائب الدخان المتصاعدة منها، كأنما قد صحت منه النية على أن يشهد منهما أكبر قدر ممكن من المشاهدة.
وكانت حركات الرجل البدين قد غابت في أول الأمر عن نظر المستر ولر، ولكنه حين رأى عيني المستر بكوك تتجهان إليه بين لحظة وأخرى، بدأ شيئًا فشيئًا ينظر في اتجاه نظرات سيده، مظللًا عينيه بكفه، كأنما قد عرف الرجل بعض المعرفة، ولكنه يريد أن يستوثق من شخصيته، غير أن شكوكه لم تلبث أن تبددت، فإن ذلك الرجل البدين راح ينفخ الدخان المتصاعد من قصبته، ويطلق من صوته الأجش، كأنه خارج من بطنه، ومنبعث من تحت اللفاعات الكثيفة التي تغطي حنجرته وصدره، هذا النداء البطيء النبرات: «وي، هذا سامي!»
وقال المستر بكوك: «مَن يكون هذا يا سام؟»
وأجاب المستر ولر، والدهشة بادية في عينيه: «ما كنت لأصدق عيني يا سيدي، إنه الرجل الكبير.»
وقال المستر بكوك: «الرجل الكبير! أي رجل كبير؟»
وأجاب المستر ولر: «والدي يا سيدي، كيف أنت يا أبي؟»
ومضى بهذا التعبير الجميل عن محبته البنوية يفسح مكانًا فوق المقعد بجانبه، لجلوس الرجل البدين الذي تقدَّم والقصبة في فمه، ووعاء الشراب في كفه، للسلام عليه.
وقال الوالد: «وي يا سامي، لم تقع عيني عليك من عامين أو أكثر.»
وأجاب الابن: «وأكثر أيها الشيخ البخيل، وكيف حال امرأة أبي؟»
وقال المستر ولر الكبير في جد كثير: «وي يا سامي، اسمع مني، ليس في الدنيا أرملة ألطف ولا أظرف من هذه الزوجة الثانية التي تزوجتها، إنها مخلوقة لطيفة يا سامي، وكل ما أستطيع أن أقوله عنها الآن أنها امرأة لطيفة فوق العادة، ومن الأسف الشديد أنها غيَّرت أحوالها، إنها لا تؤدي وظيفة الزوجة يا سامي.»
وقال المستر ولر الصغير: «أَلَا تؤدي الوظيفة حقًّا؟»
وهز المستر ولر الكبير رأسه، وأجاب وهو يرسل زفرة: «لقد جربت كثيرًا يا سامي، جربت أكثر من مرة، فاجعلْ والدك مَثَلًا أمامك، وخذ العبرة منه، وكن في منتهى الحذر من الأرامل طيلة حياتك، وبالأخص إذا كُنَّ صاحبات حانات يا سامي.»
وبعد أن ألقى هذه النصيحة الأبوية بكل حماسة وعطف، عاد يملأ القصبة من علبة من القصدير كان يحملها في جيبه، ويشعل القصبة الجديدة من رماد القديمة، ويعاود التدخين بسرعة بالغة.
وواصل الحديث بعد لحظة طويلة، مخاطبًا المستر بكوك: «أستميحك المعذرة يا سيدي، لا تؤاخذني، أرجو ألا تكون لديك أرملة يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك ضاحكًا: «كلا.» وبينما كان يضحك، أقبل سام ولر يهمس لأبيه عن مدى العلاقة بينه وبين ذلك السيد.
وقال المستر ولر الكبير وهو يرفع قبعته: «لا تؤاخذني يا سيدي … أرجو ألا يكون في نفسك شيء من جهة سامي إذا كان قد أخطأ، أو وجدت فيه عيبًا.»
وأجاب المستر بكوك: «لا شيء على الإطلاق.»
وأجاب الشيخ: «الحمد لله، يسرني أن أسمع ذلك يا سيدي، فقد تعبت كثيرًا في تربيته يا سيدي، وتركته يجري في الشوارع وهو صغير ويتولى بنفسه أموره، فإن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الولد ذكيًّا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «يُخَيَّل إليَّ أنها طريقة لا تخلو من خطر.»
وأردف المستر ولر الصغير قائلًا: «وليست مضمونة أيضًا، فقد خُدِعت منذ أيام.»
وقال والده: «لا تقل هذا!»
وأجاب ابنه: «بل حدث.»
ومضى يقص عليه بكل اختصار كيف غرر به جوب تروتر بدهائه ومكره.
وأصغى المستر ولر الكبير إلى القصة بأشد الاهتمام، ومضى يقول في نهايتها: «أليس هو رجلًا طويلًا نحيفًا، مرسل الشعر، خفيف الحركة، سريع الجري؟»
ولم يفهم المستر بكوك تمامًا هذا الوصف الأخير، ولكنه فهم الأوصاف الأُوَل؛ فقال على الفور: «نعم.»
ومضى المستر ولر الكبير فقال: «أما الآخر فشخص أسود الشعر في ثوب توتي اللون، ذو رأس كبير الحجم جدًّا.»
وقال المستر بكوك وسام بجد شديد: «نعم هو، هو.»
وقال المستر ولر: «إني أعرف أين هما الآن، هذا هو كل ما هنالك … إنهما الآن في «أبسويتش» آمنين مطمئنين هما الاثنان.»
وقال المستر بكوك غير مصدق: «كلا!»
وأجاب المستر ولر: «بل هما كذلك، وسأقول لك كيف عرفت ذلك، إنني أشتغل من وقت إلى آخر على المركبة التي تسافر إلى «أبسويتش» بالنيابة عن صاحب لي، وكنت أعمل عليها في اليوم الذي تلا الليلة التي أصبت فيها بالنقرس، وقد أقللتهما إلى فندق «بلاك بوي» في تشلمر فورد، وهو الموضع الذي كانا شاخصين إليه، ومنه رأسًا إلى «أبسويتش»؛ حيث كانا معتزمين المقام طويلًا، كما علمت من الخادم التوتي اللون.»
وقال المستر بكوك: «سأتبعه، ويصح لنا أن نشهد أبسويتش كما نشهد أي موضع آخَر، سأتبعه.»
وسأل المستر ولر الصغير أباه: «هل أنت متأكد أنهما هما بالذات يا معلم؟»
وقال المستر بكوك: «العجوز مَن …؟»
وأجاب الوالد: «العجوز فيروركس يا سيدي، ولا شك في أنهما كانا يعنيانك يا سيدي.»
وليس في التسمية «بفيروركس» طبعًا ما يؤذي الشعور، أو يستنكره الخاطر، وإن كان مع ذلك لا يزال خلوًّا من الاحترام، أو التنويه بالفضل، وكانت ذكرى الفصول التي مثَّلها جنجل قد ازدحمت في خاطر المستر بكوك، ولم تبقَ إلا ريشة فترجح كفة الميزان، فكانت تسميته «بالعجوز فيروركس» هي الريشة! فراح يضرب المائدة بجمع كفه وهو يقول: «سأتبعه.»
وهنا قال المستر ولر الكبير: «سأشتغل على المركبة المسافرة إلى أبسويتش بعد غد يا سيدي، من فندق «بول» في «هوايتشابل»، فإذا كنتَ تنوي الذهاب فعلًا فالأفضل أن تذهب معي.»
وأجاب المستر بكوك: «هذا صحيح، وسأكتب إلى بيري حتى ينتظروني في أبسويتش، سنذهب معك، ولكن لا تنصرف هكذا مسرعًا، أَلَا تأخذ شيئًا؟»
وقال المستر ولر وقد وقف عن الحركة: «إنك لكريم جدًّا يا سيدي، كأس صغيرة من البراندي إذا كان ولا بد لأشرب في صحتك، ونجاح سامي وتوفيقه يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «بلا شك، كأسًا من البراندي هنا يا غلام!»
وجيء بالشراب، وبعد أن جذب المستر ولر شعره تحية للمستر بكوك، وأومأ برأسه لسام، راح يلقي بكل ما في الكأس في حلقه الرحيب، كأنه قمع خياطة صغير.
وقال سام: «مرحى! يا أبتِ، احذر يا صاح، وإلا عدتَ إلى سابق مرضك، وهو مرض المفاصل.»
وقال المستر ولر وهو يضع الكأس بعد اجتراعها: «لقد وجدت دواء ناجعًا لعلاجه يا سامي.»
وقال المستر بكوك وهو يخرج بسرعة مذكراته: «أتقول إنك وجدت دواءً ناجعًا للنقرس؟ فما هو؟»
وأجاب المستر ولر: «إن هذا المرض يا سيدي ينشأ من الإفراط في الراحة والرفاهية، فإذا أُصِبت يومًا به يا سيدي فتزوج أرملة ذات صوت صاخب، وتعرف تمامًا كيف تستخدمه، وأنت لن يصيبك هذا المرض بعد ذلك، هذه وصفة بديعة يا سيدي، وأنا مداوم عليها، وأنا ضامن أنها تطرد أي علة يكون سببها الإكثار من اللهو والمرح.»
وبعد أن باح بهذا السر العظيم، أفرغ ما في الكأس مرة أخرى، وغمز غمزة متقنة، وزفر زفرة حارة، وانصرف في رفق.
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «ما رأيك فيما قاله أبوك يا سام؟»
وأجاب المستر ولر: «رأيي؟ رأيي أنه ضحية للزوجية، كما قال القسيس عن بلوبيرد وهو يرسل دمعة عليه حين تولى دفنه.»
ولكن المستر بكوك لم يُجِبْ عن هذا الاستنتاج الحكيم كل الحكمة، بل مضى بعد أن دفع الحساب، يواصل المسير إلى فندق «جراي»، ولكنه ما كاد يصل إلى غياضه المنعزلة، حتى دقت الثامنة، فبدا له من ذلك السيل المستفيض من الناس الذين يتجهون صوب الشوارع المختلفة في الحي، وهم في أحذيتهم الموحلة، وقبعاتهم البيضاء الملطخة، وثيابهم المغبرة — أن أكثر المكاتب أغلقت أبوابها، وانتهت مواعيد العمل فيها.
وبعد أن صعد المدارج تبيَّن له أن ما توقعه كان صحيحًا، فقد رأى الباب الخارجي في مكتب المستر بركر مغلقًا، وظهر من السكون التام الذي تلا ركلات المستر ولر الباب بقدميه، أن الموظفين انصرفوا عن العمل لدخول الليل.
فقال المستر بكوك: «هذا فصل غير سار يا سام؛ إذ لا ينبغي أن تضيع ساعة واحدة مني دون لقائه، ولن يغمض لي جفن الليلة إذا لم يهدأ بالي، وأَكِل الأمر إلى أحد أرباب المهنة.»
وأجاب المستر ولر: «ها هي ذي سيدة عجوز صاعدة السلم يا سيدي، لعلها تعرف أين يتيسر لنا الاهتداء إلى أحد … يا سيدتي الكبيرة … أين رجال المستر بركر؟»
وقالت عجوز نحيفة بائسة، وقد وقفت لتتمالك أنفاسها بعد صعود السلم: «لقد انصرفوا وأنا آتية لتنظيف المكتب.»
وسألها المستر بكوك: «هل أنت خادم المستر بركر؟»
وأجابت العجوز قائلة: «بل أنا غسالة المستر بركر.»
وقال المستر بكوك في ناحية لسام: «آه … إنه لشيء غريب يا سام، إنهم في هذه الفنادق يسمون العجائز جميعًا غسالات، أعجب لهم لماذا يسمونهن كذلك!»
وأجاب المستر ولر: «أظن يا سيدي أن هذا يرجع إلى كراهيتهن الشديدة لغسل أي شيء يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو ينظر إلى العجوز، ويتأمل شكلها، وحالة المكتب الذي كانت في تلك اللحظة قد فتحته، وما يدلان عليه من الكراهية المتأصلة لاستخدام الصابون والماء: «لست أعجب.» ومضى يسأل العجوز: «هل تعرفين أين أستطيع أن أجد المستر بركر أيتها المرأة الكريمة؟»
وقالت العجوز بخشونة: «كلا! لا أعرف! إنه الآن خارج المدينة.»
وقال المستر بكوك: «هذا حظ سيئ. وأين كاتبه؟ هل تعرفين؟»
وأجابت الغسالة: «نعم أعرف أين هو، ولكنه لن يشكرني على تعريفك به.»
وقال المستر بكوك: «إن لدي عملًا خاصًّا معه.»
قالت: «ألا يمكن إرجاؤه إلى الصباح؟»
وأجاب المستر بكوك: «لا أظن.»
قالت: «إذا كان الأمر كذلك، وكان المفروض أن أقول أين هو، فلا بأس إذن من قولي لك عنه، إذا ذهبت إلى حانة ماجباي واصطمب، وسألت في مكان الشراب عن المستر لوتن، فسوف يدلونك عليه، فهو كاتب المستر بركر.»
ولم يكد المستر بكوك وسام يتلقيان هذا التوجيه، ويعرفان أيضًا أن تلك الحانة تقع في أحد الأفنية، وأنها لحسن الحظ أيضًا بقرب «كلير ماركت»، وبجوار الجدار الخلفي لفندق «نيو إن» — حتى راحا يهبطان السلم المتداعي بسلام، وينطلقان صوب حانة ماجباي واصطمب.
وتقدَّم المستر بكوك إلى محل الشراب، فخرجت إليه امرأة كبيرة السن من خلف حاجز فيه.
قال: «هل المستر لوتن هنا يا سيدتي؟»
وأجابت ربة الحان: «هنا يا سيدي، يا شارلي، خذ السيد إلى المستر لوتن.»
وقال غلام أحمر الشعر يحجل في مشيته، ويسعى بأباريق الشراب على الزبائن: «لا يستطيع السيد أن يدخل اللحظة عليه، فإن المستر لوتن يغني الآن أغنية هزلية، فإذا دخل عليه غضب، ولكنه سينتهي فورًا يا سيدي.»
وما كاد الغلام الأحمر الرأس يتم قوله هذا، حتى تعالى دق إجماعي على الموائد، وقرع كئوس؛ مما يوحي بأن الأغنية قد انتهت في تلك اللحظة ذاتها.
وبعد أن طلب المستر بكوك إلى سام الترويح عن نفسه في القاعة العامة، ترك الغلام يذهب به إلى المستر لوتن.
وما إن قال الغلام: «إن سيدًا يطلب التحدث إليك يا سيدي.» حتى انبرى رجل منتفخ في نضارة العمر، يشغل المقعد القائم في رأس المائدة، فتطلع ببصره في دهشة صوب الجهة التي انبعث منها الصوت، ولم تقل دهشته حين استقرت عيناه على شخص لم يره من قبلُ.
وأنشأ المستر بكوك يقول: «أستميحك عفوًا يا سيدي، بل أنا آسف كل الأسف على تعكير صفو السادة الآخرين، ولكني قادم لأمر خاص، فلو سمحت لي باحتجازك في الطرف الأقصى من هذه الحجرة خمس دقائق، لكنت لك من الشاكرين.»
ونهض الرجل المنتفخ الأوداج من مجلسه، وقرَّب كرسيًّا من مقعد المستر بكوك في ركن مظلم من الحجرة، وأصغى بانتباه إلى محنة المستر بكوك، والخطب الذي أَلَمَّ به.
وقال عقب فراغ المستر بكوك من قصته: «آه، ددسن وفج؟ أولئك قوم ماهرون في عملهم، رجال أعمال مُجِدُّون، ددسن وفج يا سيدي.»
وأمَّن المستر بكوك على وصف الرجل لعملهما، بينما مضى هذا يقول: «إن المستر بركر ليس الآن في المدينة، ولا ينتظر أن يعود إليها قبل نهاية الأسبوع القادم، ولكن إذا أردت اتخاذ إجراءات الدفاع ومطالبه، وتركت لي صورة الإعلان، استطعت أن أنجز كل ما هو مطلوب ريثما يعود.»
وقال المستر بكوك وهو يسلم النسخة إليه: «هذا هو عين ما جئت من أجله، وإذا حدث شيء مهم، ففي وسعك أن تكتب إليَّ خطابًا في «شباك البريد» في أبسويتش.»
وأجاب كاتب المستر بركر: «هذا حسن!»، وعندئذٍ رأى عين المستر بكوك حائمة بفضول حول المائدة، فأضاف قائلًا: «هلا انضممت إلينا فقضيت معنا نصف ساعة أو نحوه؟ نحن هنا في مجلس أنس بديع، وقعدة بديعة معنا، فهذا وكيل مكتب سامكن وجرين، وهذا وكيل سميذر وبرايس، أما كاتب بمكن وتومس فهو خارج المنزل، وهو مغنٍّ بديع، ومعنا أيضًا جاك بمبر، وكثيرون غيرهم، أحسبك قادمًا من الريف، فهل تحب أن تجلس معنا؟»
فلم يستطع المستر بكوك أن يغالب فرصة مغرية كهذه لدراسة الطبيعة البشرية، فترك الرجل يمشي به إلى المائدة، وبعد أن قدَّمه إلى الجمع بكل المراسيم المألوفة، اتخذ مجلسه بقرب الرئيس، ونادى الغلام فطلب كأسًا من الشراب الأثير لديه.
وأعقب ذلك سكون عميق لم يكن المستر بكوك يتوقعه مطلقًا.
وقال جاره الجالس عن يمينه، وهو رجل في قميص مرتوق، وأزرار من الفسيفساء، ولفافة طويلة في فمه: «أرجو يا سيدي ألا يكون هذا الشيء مزعجًا لك.»
وأجاب المستر بكوك: «لا، مطلقًا، إني أحبه كثيرًا، وإن كنت أنا نفسي لا أدخن.»
وتدخل سيد آخر في الجهة المقابلة من المائدة فقال: «إنني آسف كل الأسف أن أقول: إنني أدخن، إن التدخين عندي هو الأكل والمسكن.»
ونظر المستر بكوك إلى ذلك المتحدث، فقال في نفسه: «لو كان الاستحمام أيضًا لكان أفضل وأجدى.»
وساد السكون مرة أخرى.
فقد كان المستر بكوك غريبًا، والظاهر أن قدومه عليهم أثقل على نفوسهم شيئًا ما.
وقال الرئيس: «إن المستر جرندي معتزم أن يشنِّف الأسماع بأغنية.»
وقال المستر جرندي «كلا، ليس معتزمًا.»
وعاد الرئيس يقول: «ولِمَ لا؟»
وقال المستر جرندي: «لأنه لا يستطيع.»
وأجاب الرئيس قائلًا: «بل الأفضل أن نقول: إنه لا يريد.»
وأجاب المستر جرندي: «حسن، إنه لا يريد.»
وانتهى رفض المستر جرندي القاطع لتشنيف أسماع القوم إلى سكون آخَر.
وقال الرئيس بحزن: «أَلَا يريد أحد أن يطربنا؟»
وانبرى شاب ذو شاربين، وحول في عينيه، وقميص مفتوح بطوق قذر، من أقصى المائدة، فقال: «لماذا لا تطربنا أنت أيها الرئيس؟»
وقال السيد المدخن الذي يلبس المجوهرات الفسيفسائية: «استمعوا! استمعوا!»
وأجاب الرئيس: «لأني لا أعرف إلا أغنية واحدة، وقد غنيتها قبل الآن، وتكرار أغنية بعينها في ليلة واحدة يقتضي غرامة طلب دور من البراندي لجميع الجالسين.»
ولم يُجِبْ أحد، وساد السكون مرة أخرى.
وأراد المستر بكوك أن يخلق موضوعًا يتيسر للقوم الاشتراك في مناقشته فقال: «لقد كنت الليلة أيها السادة في مكان لا أشك في أنكم جميعًا تعرفونه حق المعرفة، وإن لم أذهب إليه منذ بضع سنين، ولا أعرف عنه إلا القليل، إنني أقصد أيها السادة فندق جراي، إن هذه الفنادق القديمة هي في مدينة كبيرة كلندن زوايا غريبة، وأركان عجيبة.»
وهمس الرئيس من فوق المائدة للمستر بكوك قائلًا: «والله لقد وقعت على موضوع يستطيع واحد منا على الأقل أن يتحدث عنه طوال العمر، ولا ينتهي، لقد أخرجت الشيخ جاك بمبر من مخبئه، فما شوهد يومًا يتكلم عن شيء غير الفنادق، فقد عاش وحده فيها حتى كاد يذهب لبه.»
وكان الرجل الذي أشار لوتن إليه بهذا القول قصير القامة، أصفر اللون، مرتفع الكتفين، ذا وجه لم يفطن إليه المستر بكوك من قبلُ؛ لاعتياده الانحناء إلى الأمام، كلما لزم الصمت، ولهذا عجب حين راى الرجل يرفع وجهه المغضن، وتستقر عيناه الرماديتان على وجهه في نظرة حادة متسائلة: كيف غاب من قبلُ عن نظره ذلك الوجه العجيب؟
وتبين له أن على سحنة الرجل ابتسامة مستقرة ثابتة لا تفارقه، وأنه قد أسند ذقنه إلى يد طويلة معروقة، استطالت أظافرها إلى حد غير مألوف، وأمال رأسه إلى ناحية، وراح يرسل نظرات حادة من تحت حاجبين أشيبين متعرجين، حتى ليبدو على ابتسامته شيء من مكر موحش تنبو الأنظار عنه.
ذلكم هو الرجل الذي أقبل يُطلِق فيضًا زاخرًا من الكلام، ولكني أرى هذا الفصل قد طال، وذلك الرجل الكبير السن شخصية غريبة، فأولى به وأحق، كما هو أنسب لنا وأوفق، أن ندعه يتحدث عن نفسه في فصل قائم بذاته.