الفصل الثاني والعشرون
رحلة المستر بكوك إلى إبسويتش وواقعة حال له مع امرأة نصف ملففة جدائلها في ورق أصفر.
***
وسأل المستر ولر الكبير فتاه الودود سامي وهو يدخل فناء فندق «بل» في هوايتشابل يحمل حقيبة سفر وحقيبة صغيرة: «أهذا متاع المعلم يا بني؟»
وأجاب المستر ولر الصغير وهو يحط عنه العبء الذي كان يحمله على أرض الفناء ويجلس فوقه: «لقد كان أولى بك يا صاح أن تحدس حدسًا أسوأ من هذا، إن المعلم نفسه قادم إلى هنا اللحظة.»
قال الوالد: «أحسبه آتيًا في مركبة.»
وأجاب الابن: «أي نعم، سيركب مسافة لا تزيد على ميلين، نظير ثمانية بنسات، كيف حال امرأة أبي اليوم؟»
وأجاب المستر ولر الكبير بجد بالغ: «عجيب! يا سامي، عجيب والله. لقد بدأت تدخل في جماعة المثوديين منذ أيام يا سامي، والمؤكد أنها امرأة تقية فوق ما يجب وأنا لا أستأهل مثلها، وأعتقد أنني غير جدير بها.»
وقال المستر صمويل: «آه، هذا إنكار ذات منك.»
وأجاب الأب بزفرة: «جدًّا، لقد توصلت إلى اختراع شيء يجعل الكبار يولدون من جديد يا سامي، وهذا الاختراع يسمى على ما أظن: «المولد الجديد» إنني أحب أن أرى هذا الاختراع في دور التنفيذ، وأود كثيرًا أن أرى امرأة أبيك مولودة من جديد؛ لكي أسلمها لمرضعة تتعهد بها يا سامي.»
ومضى المستر ولر بعد سكوت قصير جعل خلاله يضرب أنفه بأصبعه بضع مرات يقول: «ماذا تظن أولئك النساء قد فعلن من يومين يا سامي؟»
وأجاب سامي: «لا أدري، ماذا فعلن؟»
قال: أقمن حفلة شاي لرجل يسمينه «الراعي» وكنت واقفًا أنظر إلى الصور في الحانوت الذي في حَيِّنَا فقرأت إعلانًا مكتوبًا فيه «التذكرة بنصف كراون، جميع الطلبات تقدم إلى اللجنة، الأمينة المسز ولر» ولما رجعت إلى البيت وجدت اللجنة مجتمعة في غرفة الجلوس عندنا، وكان عددهن أربع عشرة امرأة، كنت أتمنى لو سمعتَهن يا سامي بنفسك، لقد كن يتخذن قرارًا، ويأخذن الأصوات، ويقمن بأعمال من هذا القبيل، وبعد إلحاح من امرأة أبيك عليَّ في الذهاب لحضور الحفلة وشوق مني لرؤية مناظر غريبة إذا ذهبت، استخرتُ الله وكتبت اسمي طالبًا تذكرة، وكان الموعد الساعة السادسة من مساء يوم الجمعة، فلبست وتزينت أحسن زينة، وذهبت مع المرأة العجوز، ودخلنا قاعة واسعة وضعت فيها أدوات الشاي لثلاثين شخصًا، فرأيت النساء يبدأن في التهامس مع بعضهن البعض، ثم ينظرن إليَّ، كأنهن لم يرين في حياتهن رجلًا بدينًا في الثامنة والخمسين من العمر، وبعد لحظة سمعنا حركة شديدة على السلم، وإذا شخص طويل نحيل الجسم أحمر الأنف في غطاء رقبة أبيض، فصاح قائلًا: «لقد أتى الراعي ليزور قطيعه الوفي الأمين» وإذا رجل سمين في ثوب أسود وله وجه ضخم أبيض، وهو يبتسم ابتسامة عريضة كالساعة الدقاقة … هذا واللهِ ما حصل يا سامي! وقال الراعي: «قبلة السلام!» ومضى الراعي يقبِّل النساء، ولما انتهى، بدأ الرجل الأحمر الأنف، وعندئذٍ بدأت أنا الآخر أفكر هل يحسن بي أنا أيضًا أن أبتدئ، لا سيما أن سيدة جميلة لطيفة جدًّا كانت جالسة بجانبي، وإذا الشاي يأتي، وامرأة أبيك معه؛ لأنها كانت في الطابق الأسفل تقوم بغليه … فانهالوا جميعًا عليه بأسنانهم وأظافرهم، وكان الترتيل يا سامي عاليًا جميلًا، عندما كان الشاي يغلي ويدور الأكل والشرب! كنت أتمنى أن ترى الراعي وهو يهجم على اللحوم والفطائر، فواللهِ ما رأيت في حياتي إنسانًا يأكل ويشرب مثله، والرجل الأحمر الأنف، لا أظنك ترضى أن تتعهد لإنسان كهذا بتقديم الأغذية والمأكولات، ولكنه أين يروح بجانب ذلك الراعي … ما علينا. وبعد الانتهاء من الشاي بدأوا في ترتيلة أخرى، وبعدها بدأ الراعي يعظ، وقد أتقن الوعظ فعلًا، وهو عجيب، لم يكن منتظرًا منه إذا تذكرنا أن هذه الفطائر الدسمة لا بد من أنها أثقلت على صدره، وكتمت أنفاسه، وإذا هو فجأة يقف عن الوعظ، ويصيح قائلًا: «أين المذنب؟ أين المذنب الأثيم؟» وفي الحال رأيت النساء جميعًا ينظرن نحوي، وبدأن يتأوهن كأنهن سَيَمُتْنَ، وكان هذا المنظر غريبًا ولكني سكتُّ ولم أقل شيئًا، وعاد الراعي مرة أخرى يقول وهو ينظر إليَّ نظرة قاسية: أين المذنب؟ أين المذنب المنكود؟ وعاد النساء يتأوهن عشرة أضعاف تأوهاتهن الأولى، الحق أقول لك: إني غضبت وتهيجت، وخطوت خطوة أو اثنتين إلى الأمام، وقلت له: هل وجهت لي يا صاح هذا السؤال الذي سألته؟ ولكنه بدلًا من أن يعتذر لي ويرضي خاطري بكلمتين لطيفتين أخذ يسب لي «الأخضرين» ويشتمني، ويقول عني يا سامي إنني «أجوف تافه» وشتائم أخرى من كل لون. أقول لك الحق: إن دمي أخذ يغلي في عروقي، فلكمته هو أولًا لكمتين أو ثلاث لكمات، ومثلها أو أكثر ليسلمها إلى الرجل الأحمر الأنف، وانصرفت، أتمنى لو أنك سمعت صراخ النساء في تلك اللحظة يا سامي وهن يُخرجن الراعي من تحت المائدة … ها! ها هو المعلم قد جاء … «قدر الدنيا!»
وفيما كان المستر ولر ماضيًا في حديثه هذا نزل المستر بكوك من المركبة ودخل الفناء.
وبادر المستر ولر الكبير قائلًا: «صباح بديع يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «بديع. فعلًا!»
وردد هذا القول بالذات رجل أحمر الشعر ذو أنف فضولي ومنظار أزرق، كان قد نزل في اللحظة ذاتها من مركبة أخرى، والتفت إلى المستر بكوك قائلًا: «أذاهب إلى إبسويتش يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «نعم.»
– «اتفاق عجيب، أنا أيضًا ذاهب إليها.»
فأومأ المستر بكوك إليه.
وقال ذو الشعر الأحمر: «وستركب خارج الحافلة؟»
وعاد المستر بكوك يومئ مرة أخرى.
وقال ذو الشعر الأحمر: «ما أعجب وما أغرب! أنا أيضًا سأركب خارج الحافلة، نحن إذن مسافران معًا.»
وكان الرجل تبدو عليه الأبَّهة، حاد الأنف، غريب الكلام، اعتاد أن يحدث هزة برأسه كلما قال شيئًا، كما تفعل العصافير، ومضى يبتسم كأنه قد وقع على أغرب اكتشاف تواتى يومًا للحكمة البشرية.
وقال المستر بكوك: إنني لسعيد برفقتك في السفر يا سيدي.
وأجاب الرجل الغريب: «آه، إنه من حسن حظنا معًا، أليس الأمر كذلك؟ الرفقة — كما ترى — إنها شيء مختلف جدًّا عن العزلة أليس الأمر كذلك؟»
وقال المستر ولر، وهو ينضم إلى الحديث بابتسامة لطيفة: «لا نكران لهذه الحقيقة، هذا ما أسميه كلامًا واضحًا لا يحتاج إلى دليل، كما قال بائع لحم الكلاب حين قالت له ربة البيت: إنه ليس رجلًا مهذبًا.»
وقال ذو الشعر الأحمر وهو يجيل البصر في المستر ولر من فرعه إلى قدمه بنظرة استنكار وأنفة: «آه، أهذا صديق لك يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك مخافتًا بصوته: «ليس صديقًا بالضبط، ولكنه في الواقع خادمي، وأنا معطيه قدرًا كبيرًا من الحرية؛ لأنني — بيني وبينك — أعتقد أنه فريد في نوعه، فذ، وإني به لمعتز.»
وقال الرجل ذو الشعر الأحمر: «آه، هذه مسألة ذوق، وأنا لا أحب الإنسان الفذ ولا أميل إليه ولا أرى ضرورة تدعو إليه، ما اسمك يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك قائلًا، وقد سرته كثيرًا مباغتته بهذا السؤال، كما راقته غرابة أطوار الرجل: «ها هي ذي بطاقتي يا سيدي.»
وقال ذو الشعر الأحمر وهو يضع البطاقة في جيبه: «آه! بكوك، جميل جدًّا، إنني أحب أن أعرف أسماء الناس؛ لأنها تغني المرء عن تعب كثير، ها هي ذي بطاقتي يا سيدي، تتبين منها أنني أدعى ماجنس يا سيدي، اسمي ماجنس، أعتقد أنه اسم حسن يا سيدي، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يكاد يملك كبت ابتسامة: «إنه اسم حسن جدًّا فعلًا.»
ومضى المستر ماجنس يقول: «نعم أعتقد أنه كذلك، إن هناك اسمًا آخر قبله كما تلاحظ، اسمح لي يا سيدي، أرجوك أن تمسك بالبطاقة مائلة قليلًا، حتى لا يقع الضوء على الحروف من فوق، ها هو ذا بيتر ماجنس، أظن النغمة عند النطق به جميلة، أليس كذلك؟»
وقال المستر بكوك: «جدًّا.»
وأجاب المستر بكوك وهو في أعماق نفسه يعجب لهذه السهولة التي يسر أصدقاء المستر ماجنس بها، قائلًا: «إنني مدرك أيضًا أنها مدعاة سرور بالغ لهم.»
وجاء رب الفندق يقول: «والآن، أيها السيدان، المركبة على استعداد؛ إذا تفضلتما بالركوب.»
وسأله المستر ماجنس: «هل نقلتم إليها كل أمتعتي؟»
– «كلها يا سيدي.»
– «والحقيبة الحمراء؟»
– «كل شيء يا سيدي.»
– «والحقيبة ذات الأربطة؟»
– «في خزانة العربة الأمامية يا سيدي.»
– «والحزمة الملففة في الورق الأسمر؟»
– «تحت المقعد يا سيدي.»
– «وصندوق القبعة الجلد؟»
– «كله في المركبة يا سيدي.»
وهنا قال المستر بكوك: «والآن ألا تصعد؟!»
وأجاب المستر ماجنس وهو واقف على العجلة: «معذرة يا مستر بكوك، لا يمكن أن أوافق على الصعود وأنا في هذه الحالة من الشك، إنني مقتنع كل الاقتناع من طريقة هذا الرجل في ردوده بأن علبة القبعة لم توضع في المركبة.»
ولم تُجْدِ توكيداتُ ربِّ الفندقِ وأقسامه المقدسة نفعًا في إقناع هذا السيد الغريب، وأصر على أن يبحث عنها حتى عثر عليها في قاع «خزانة» المركبة، فاطمأنَّ إلى وجودها في أمان، ولكنه أحس بهاتف يوحي إليه أولًا أن الحقيبة الحمراء لم توضع كما يجب، وثانيًا أن الحقيبة ذات الأربطة سُرِقَتْ، وأخيرًا أن الحُزمة الملففة في الورق قد تفككت، وبعد أن تحقق بعينيه أن كل هذه الشكوك لم تكن في محلها وافق على الصعود فوق سقف المركبة قائلًا: إنه الآن قد أزال كل ما كان يخالج نفسه من ريبة، وإنه مستريح سعيد.
وقال المستر ولر الكبير وهو ينظر إليه بطرف عينه حين صعد إلى موضعه: «إنك عصبي، ألست كذلك يا سيدي؟!»
وأجاب الغريب: «بلى، إنني أكاد أكون كذلك في هذه المسائل الصغيرة ونحوها، ولكني الآن بخير تام، بخير تام.»
وقال المستر ولر: «الحمد لله، وأنت يا سامي، أَعِنْ سيدك على الصعود، الرجل الأخرى يا سيدي، هكذا، أعطنا يدك يا سيدي، هيا! لقد كنت بلا شك أخف وزنًا وأنت صغير يا سيدي منك الآن!»
وأجاب المستر بكوك بلطف وهو لاهث الأنفاس، حين اتخذ مجلسه فوق الأريكة إلى جانبه: «هذا صحيح يا مستر ولر.»
وقال المستر ولر: «اقفز إلى الأمام يا سامي، والآن أطلق الخيل يا وليم … احترسوا أيها السادة من الباب الكبير، طأطئوا رءوسكم! حسبك هذا يا وليم، دعهم وشأنهم.»
وانطلقت المركبة صعدًا في طريق هوايتشابل وسط إعجاب جميع سكان تلك المنطقة المزدحمة بالقاطنين.
وقال سام وهو يلمس قبعته بكفه، كما ألف أن يفعل كلما دخل في حديث مع سيده: «إن هذا الحي يا سيدي ليس لطيفًا.»
وأجاب المستر بكوك وهو يتأمل الشارع المزدحم القذر الذي يمرون منه: «فعلًا يا سام.»
وواصل سام قوله: «إنه لظرف عجيب جدًّا يا سيدي أن الفقر وحيوان الأصداف البحرية لا يفترقان.»
وقال المستر بكوك: «لست أفهم مرادك يا سام!»
وأجاب سام: «إن ما أعنيه يا سيدي هو أنه كلما اشتد الفقر بمكان ما اشتد الإقبال فيه على الأصداف البحرية، انظر يا سيدي تَرَ محلًّا لبيع هذه الأصداف لكل ستة من البيوت، وتشهد الشارع ممتلئًا على الصفين بحوانيت بيع هذا المحار، وأعتقد أنه كلما ألح الفقر على أحد من الناس هنا اندفع من مسكنه ليأكل هذه الأصداف من شدة اليأس من الحياة.»
وقال المستر ولر الكبير: «بلا شك، وهذا هو الحال أيضًا بالنسبة للسلمون المملح!»
وقال المستر بكوك: «هاتان حقيقتان بارزتان لم تخطرا ببالي قبل الآن، وسأدونهما في مذكراتي عند أول موضع نقف فيه.»
وكانوا حينئذٍ قد وصلوا إلى «نقطة العوايد» — المكوس — في «مايل إند»، وساد السكون، حتى قطعوا ميلين أو ثلاثة أميال أخرى، وعندئذٍ التفت المستر ولر فجأة إلى المستر بكوك وأنشأ يقول: «إن حياة «حارس النقطة» حياة غريبة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «حارس ماذا؟»
– «حارس النقطة.»
وسأل المستر ماجنس: «ماذا تعني بحارس النقطة؟»
وتدخل المستر صمويل ولر لشرح مراد الوالد فقال: «إن الرجل العجوز يعني حارس باب العوائد، وهذا هو قصده.»
فقال المستر بكوك: «آه، فهمت، نعم، إنها لحياة غريبة جدًّا، ومتعبة للغاية.»
وعاد المستر ولر الكبير يقول: «إن هؤلاء القوم أناس لاقوا في حياتهم تعاسة وخيبة رجاء.»
وقال المستر بكوك: «ماذا؟»
وأجاب المستر ولر الكبير: «أي نعم، ولهذا السبب تراهم يتركون العالم ويحبسون أنفسهم في هذه النقط، أولًا: لكي يعيشوا وحيدين، وثانيًا: لينتقموا من الناس بمقاضاة المكوس.»
وقال المستر بكوك: «يا عجبًا! ما كنت أعرف هذا قبل الآن.»
وأجاب المستر ولر: «هذه حقيقة يا سيدي، ولو كانوا قومًا متعلمين لسميتهم الناقمين الساخطين على البشر، أما وهم ليسوا كذلك فكل ما يقال عنهم: إنهم حراس على المكوس فقط.»
وعلى هذا النحو مضى المستر ولر ينفي عن الرحلة سآمتها بمثل هذا الحديث الذي يجمع بين فتنة الدعابة وفائدة المعرفة، حتى مضى أكثر النهار فيه، فلم تعوزهم الموضوعات مطلقًا، ولا نقصتهم أفانين القول، وكلما تخلَّلت ثرثرة المستر ولر وقفات أو فراغ، راح المستر بيتر ماجنس يسده بالرغبة في معرفة أحوال رفقائه في السفر، وسماع قصة حياتهم واحدًا واحدًا، وإظهار قلقه في كل مرحلة عي سلامة الحقيبتين وعلبة القبعة والحزمة الملففة بالورق!
وفي شارع إبسويتش الرئيسي، وعلى الجانب الأيسر من الطريق، بعد مسافة قصيرة من الأرض الفضاء الممتدة أمام دار البلدية، يقوم فندق اشتهر عند القاصي والداني باسم «الحصان الأبيض الكبير» يزيده ظهورًا للعين ووضوحًا تمثال حجري لحيوان غريب ذي معرفة غزيرة وذيل طويل يشبه من بعيد حصان مركبة نقل، يبدو الجنون عليه، وقد نصب هذا التمثال فوق الباب الكبير، واشتهر فندق «الحصان الأبيض الكبير» في تلك الجهة شهرة ثور فحل، أو لفتة نادرة رددت الصحف ذكرها أو حلوف بدين … أي إنه عرف بضخامة حجمه، فلم يعرف يومًا فندق بكثرة دهاليزه المتشبعة المكسوة بالبسط كأنها تيه يضل المرء في شعابه ومنعطفاته، ولا كثرة حجراته الرطبة العفنة الضئيلة النور ووفرة عدد المغارات أو الكهوف الصغيرة المعدَّة لتناول الطعام أو النوم، كما عرف ذلك الفندق بكثرتها العجيبة تحت سقف واحد، تضمها الجدران الأربعة التي تحيط به.
وكانت المركبة القادمة من لندن تقف بباب ذلك الفندق المفرط في الضخامة في ساعة معينة من كل مساء، وفي ذلك المساء بالذات الذي نتحدث عنه في هذا الفصل، وقفت ونزل منها المستر بكوك وسام ولر والمستر بيتر ماجنس.
وأنشأ الأخير يقول بعد أن رأى الحقيبة ذات الأربطة، والحقيبة الحمراء، والحزمة الملففة، وعلبة القبعات قد استقرت جميعًا في الردهة: «أنازل هنا يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «أي نعم!»
وقال المستر ماجنس: «عجيب! ما عرفت يومًا شيئًا يشبه هذه المصادفة غير المألوفة، إنني أيضًا نازل هنا، أرجو أن نتعشى معًا؟»
وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور، ولست متأكدًا كل التأكُّد هل وصل أصحابي أو لم يصلوا، يا غلام! هل هنا سيد يدعى المستر طبمن؟»
وإذا رجل بدين يحمل فوطة مكثت معه أسبوعين، تحت ذراعه، ويلبس جوربًا مماثلًا للفوطة في قِدَمِ العهد، وطول المكث، ينثني في بطء عن الانشغال بالنظر إلى الشارع عند توجيه هذا السؤال، ومضى يجيب بلهجة قاطعة، بعد أن لبث يدقق البصر في وجه السائل ويتفحصه من فرعه إلى قدمه: «كلا.»
– «ولا أحد باسم سنودجراس؟»
– «كلا.»
– «ولا ونكل؟!»
– «كلا.»
وانثنى المستر بكوك يقول للمستر ماجنس: «لم يصل أصحابي اليوم يا سيدي، سنتعشى وحدنا إذن، يا غلام! أرنا غرفة خاصة.»
وتواضع الخادم البدين إزاء هذا الرجاء فأمر الخدم بنقل أمتعة السيدين وتقدمهما في دهليز طويل مظلم، إلى غرفة واسعة رديئة الأثاث، ذات مدفأة قذرة تحوي نارًا قليلة تحاول يائسة أن تبدو بهيجة مشرقة، ولكنها توشك سريعًا على الانطفاء من وخامة جو المكان الذي يحتويها، وبعد ساعة جاء الخدم إلى السيدين بقطعة صغيرة من السمك ومثلها من اللحم، وما إن رفع الطعام حتى قرب المستر بكوك والمستر بيتر ماجنس مقعديهما من النار وأمرا بزجاجة من أردأ نبيذ ممكن، وأفحش ثمن محتمل، لا لغرض إلا إفادة الفندق، واكتفيا باحتساء البراندي المشعشع بالماء لمصلحتهما هما ومزاجهما.
وكان المستر بيتر ماجنس بطبيعته رجلًا كثير الكلام، وما لبث البراندي المزيج بالماء أن أحدث أثرًا عجيبًا في إخراج أعمق الأسرار المختبئة في صدره، فطفق يتحدث عن نفسه، وعلاقاته، وأصحابه، ونكاته، وأعماله، وأخواته — وعند أكثر الثرثارين كلام كثير يقولونه عن إخوتهم — ثم مضى ينظر عدة دقائق إلى المستر بكوك نظرة زرقاء من خلف منظاره الملون، وقال على استحياء: «وماذا تظن، ماذا تظن يا مستر بكوك السبب الذي حدا بي إلى المجيء إلى هنا؟»
وأجاب المستر بكوك: «يمين الله؛ لا أستطيع مطلقًا التكهن، ربما جئت لعمل!»
وقال المستر بيتر ماجنس: «هذا صحيح إلى حدٍّ ما يا سيدي، وخطأ إلى حَدٍّ ما أيضًا، حاول مرة أخرى يا مستر بكوك.»
وقال هذا: «في الواقع؛ إنني أناشدك الرحمة أن تنبئني بالحقيقة أو تكتمها عني كما يتراءى لك؛ لأنني لا أحسن التخمين، وإن حاولته الليل كله.»
وقال المستر ماجنس بضحكة مستحيية: «إذن، هيه، هيه، هيه، ما رأيك يا مستر بكوك إذا كنت قد جئت إلى هنا لأخطب يا سيدي، هيه، هيه، هيه!»
وأجاب المستر بكوك بإحدى ابتساماته اللامعة المشرقة: «رأيي! أنك على أكثر الرجحان ستنجح.»
وقال المستر ماجنس: «آه! هل تظن هذا حقًّا يا مستر بكوك … هل تظن؟»
وأجاب المستر بكوك: «بلا ريب.»
– «كلا! أنت تمزح.»
– «لا، لست مازحًا!»
وقال المستر ماجنس: «اذن لا أخفي عنك سرًّا صغيرًا، هذا هو فكري أنا أيضًا، ولا بأس من أن أنبئك يا مستر بكوك، وإن كنت بطبعي غيورًا إلى حد شنيع، إن السيدة التي عليها العين هنا في هذا الفندق!»
وخلع المستر ماجنس منظاره؛ لكي يغمز بعينه، ثم أعاده إلى موضعه.
وقال المستر بكوك مداعبًا: «أهذا هو سر خروجك من الحجرة مسرعًا قبل العشاء أكثر من مرة؟!»
قال: «صه، نعم، أنت على حق، ولكني من غباوتي لم أرها مع ذلك.»
– «أتقول جد.»
– «نعم، لا يكفي مجرد رؤيتها عقب الوصول من السفر، بل من رأيي أن أنتظر إلى الغد يا سيدي، فتكون الفرصة عندئذٍ مضاعفة، يا مستر بكوك، إن في تلك الحقيبة طاقمًا من الثياب يا سيدي، وفي هذه العلبة قبعة وأنتظر أن يكون للثوب والقبعة تأثير لا شك في عظم قيمته بالنسبة لي يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «فعلًا.»
– «نعم، ولا بد من أنك قد لاحظت مبلغ قلقي عليهما اليوم، ولست أعتقد أن في الإمكان شراء مثل هذه الثياب، ومثل هذه القبعة بالمال يا مستر بكوك.»
وهنَّأ المستر بكوك هذا المالك الموفق السعيد بهذه الثياب التي لا تنافس ولا تغالب باقتنائها، وظل المستر بيتر ماجنس بضع لحظات مستغرقًا في التأمل.
وأخيرًا قال: «إنها مخلوقة بديعة!»
وقال المستر بكوك: «أهي كذلك؟»
وأجاب المستر ماجنس: «جدًّا، جدًّا، وهي تقيم على مبعدة عشرين ميلًا من هذا الموضع يا مستر بكوك، وقد سمعت أنها ستكون هنا الليلة، وستمكث إلى ضحى الغد فجئت لأنتهز الفرصة، وأعتقد أن الفندق مكان طيب لعرض فكرة الزواج على امرأة عزباء فيه يا مستر بكوك؛ إذ أكبر ظني أنا ستشعر بوحشة حياتها ووحدتها في السفر والغربة، أكثر مما تحسهما في بيتها، فما رأيك يا مستر بكوك؟»
وأجاب هذا السيد قائلًا: «مرجح جدًّا.»
وعاد المستر بيتر ماجنس يقول: «عفوًا يا مستر بكوك إذا رأيتني بطبيعتي فضوليًّا … ما الذي جاء بك أنت إلى هنا؟»
وأجاب المستر بكوك وقد أخذ الدم يتصاعد إلى وجهه من مجرد الذكرى: «جئت في مهمة أقل لذة بكثير من مهمتك، لقد جئت إلى هنا يا سيدي لأكشف عن خيانة إنسان وغدره وكذبه، وكان من قبلُ موضع ثقتي، وكنت معتمدًا على وفائه وشرفه وأمانته.»
وقال المستر ماجنس: «ويحي! هذه مهمة سيئة جدًّا، أحسب الأمر يتصل بسيدة. آه … ما أشد مكرك يا مستر بكوك! ما أشد مكرك! ولكني يا سيدي لا أريد مطلقًا أن ألتمس معرفة حقيقة مشاعرك — حاشا لله — هذه مسائل مؤلمة يا سيدي، مؤلمة جدًّا، فلا تؤاخذني يا مستر بكوك إذا أنت أردت أن تطلق العِنان لمشاعرك؛ لأني أعرف يا سيدي مبلغ ألم النفس من التعرُّض للخيانة والخداع؛ فقد جربت هذا الشيء ثلاث مرات أو أربعًا.»
وقال المستر بكوك وهو يملأ ساعته ويضعها فوق المائدة: «إني لشاكر لك مراعاتك لما تظنه واقعة حال محزنة، ولكن …»
وعاجله المستر بيتر ماجنس قائلًا: «كلا! كلا! ولا كلمة أخرى، إنه لموضوع أليم، أنا أفهم، أنا أفهم، كم الساعة الآن يا مستر بكوك؟»
– «جاوزت الثانية عشرة.»
– «ويحي لقد حان الذهاب إلى الفراش؛ فإن الجلوس هنا لا يجدي، أخشى أن أكون شاحبًا غدًا يا مستر بكوك.»
وما إن تصور المستر بيتر ماجنس أنه سيصبح مصفرًّا شاحب الوجه، حتى دق الجرس للخادم الموكلة بترتيب الغرف، وبعد أن نقلت الحقيبة ذات الأربطة والحقيبة الحمراء، وعلبة القبعات، والحزمة الملففة، إلى غرفة نومه، أوى إليها، يحمل خادم في أثره «ماثلة» يابانية بينما سيق المستر بكوك مع «ماثلة» أخرى، من خلال منعرجات كثيرة، ومنعطفات لا آخر لها، إلى غرفة أخرى.
وقالت الفتاة الموكلة بالغرف: «هذه هي غرفتك يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك، وهو يدير عينيه حوله: «حسن جدًّا.»
وكانت الغرفة واسعة إلى حد لا يطاق، وذات سريرين ونار مشبوبة في الموقدة، وهي في الجملة أوفر راحة ممَّا كان المستر بكوك يتوقع، بعد الذي شاهده في تلك الفترة القصيرة من غرف الفندق وحجراته.
وسأل المضيفة قائلًا: «لا ينام أحد في السرير الآخر بالطبع.»
قالت: «كلا يا سيدي.»
قال: «حسن جدًّا، أبلغي خادمي أن يحضر إليَّ قليلًا من الماء الساخن في الثامنة والنصف صباحًا، وأنني لست الليلة بحاجة إليه.»
قالت: «سمعًا وطاعة يا سيدي.»
وبعد أن حَيَّتِ المسترَ بكوك انصرفت وتركته وحده، وجلس السيد الكبير في مقعد قريب من الموقدة، وسرح به الخاطر في فيض زاخر من الأفكار، فذكر أولًا أصحابه، وتساءل متى يوافونه، ثم عاد به الخاطر إلى السيدة مارتا باردل، ومن تلك السيدة بطبيعة الحال إلى مكتب ددسن وفج في تلك الدار القاتمة، ثم طار به الفكر رأسًا إلى صميم قصة «العميل الغريب» ومنها عاد أدراجه إلى فندق «الحصان الأبيض الكبير» في إبسويتش، في وضوح كافٍ لإقناعه بأن النعاس قد استولى عليه، فعمد إلى تنبيه نفسه وأخذ يخلع ثيابه، وإذا هو يتذكر فجأة أنه قد ترك ساعته فوق المنضدة في الطبقة الأولى من الفندق.
وكانت هذه الساعة أثيرة لديه؛ فقد ظلت معه، ملازمة مكانها تحت ظل صداره، أعوامًا أطول مما يطلب منا أن نعين في هذه اللحظة، ولم يكن قد خطر بباله احتمال الذهاب إلى الفراش دون أن يسمع دقها الرفيق تحت وسادته أو في كيسها الموضوع فوق رأسه، ولكن الوقت كان متأخرًا، فلم يشأ أن يدق الجرس في تلك الساعة الموهنة من الليل، فارتدى سترته في عجلة، وكان قد خلعها منذ لحظة، وحمل «الماثلة» بيده، وراح في رفق يهبط السلم.
وكلما هبط منها مدارج، تبين له أن هناك أخرى أكثر منها تقتضيه الهبوط، وكذلك ظل ينزل، ويهبط، حتى أسلمته تلك المدارج بعد لَأْيٍ إلى دهليز ضيق، فبدأ يهنئ نفسه بتوفيقه في الوصول إلى الدور الأرضي، ولكن سلمًا آخر لاح عندئذٍ لعينيه المذهولتين، وأخيرًا بلغ قاعة تذكر أنه رآها عند دخول الفندق، وما زال يتنقل من دهليز إلى آخر، ويجتاز حجرة إثر حجرة، حتى كاد ينثني عن البحث من اليأس، ففتح في النهاية بابًا وجده، وإذا هو في القاعة ذاتها التي قضى المساء فيها، ورأى الساعة التي جاء يبحث عنها موضوعة في مكانها فوق المنضدة.
وتناولها المستر بكوك فرحًا فرحة المنتصر، وانثنى يعود أدراجه إلى غرفته، ولئن كان نزوله إلى الدور الأرضي قد حُفَّ بمكاره، وصادفته فيه صعاب ومشاق، وأحاطت به خلاله شكوك وحيرة؛ فقد كانت عودته أكثر مشقة، وأشد ارتباكًا؛ فقد طالعته صفوف من الأبواب، تزينها أحذية من كل شكل وطراز وحجم، وتتفرع في كل ناحية، حتى لَكَمْ أدار في رفق مقبض أبواب عدة منها بدت له كباب غرفته، ولكم سمع من صوت خشن يصيح من جوفها: من أنت؟ أو ماذا تريد هنا؟ فكان يتسلل منصرفًا على أصابع قدميه بخفة مدهشة، حتى إذا كاد ييأس، لاح له باب اجتذب خاطره، فأطل ببصره، لقد اهتدى بعد لَأْيٍ! فها هما ذان السريران، في الموضع ذاته الذي تذكره تمامًا، ولا تزال النار في الغرفة مشبوبة، ولم تكن الشمعة طويلة حين تسلمها، فلم تلبث بعد طول خفقان ضيائها مع هبات الهواء في الدهاليز والردهات التي اجتازها أن هوت في ثقبها، وهو يغلق الباب في أثره فقال لنفسه: «لا بأس، سأخلع ثيابي على ضوء النار في الموقدة.»
وكان كل سرير منهما قائمًا على جانب من الباب وعلى الجانب الداخلي منه ممر صغير ينتهي إلى مقعد من القش، يكاد يتسع لدخول المرء إلى السرير أو نزوله منه، إذا أراد النزول أو الصعود من هذا الجانب.
فتقدم المستر بكوك إلى ذلك المقعد فجلس ليخلع في هدوء حذاءه وغطاء ساقيه، ثم نضا عنه سترته وصداره وقميصه، وتناول برفق طاقية النوم فأثبتها في رأسه بربط خيطها تحت ذقنه.
وفي تلك اللحظة فقط خطر له سخف هذه الطوفة المحيرة التي طافها في نواحي الفندق ودهاليزه، فأسند ظهره إلى مسند الكرسي القش، وانطلق يضحك من صميم قلبه، حتى لو شهده إنسان ثابت العقل ورأى الابتسامات التي امتدت إلى سائر تقاطيع وجهه، وهي منطلقة متهللة من تحت طاقية النوم، لوجد في هذا المنظر سرورًا بالغًا، ومتعة متناهية.
ومضى المستر بكوك يحدث النفس، وهو يبتسم حتى ليكاد يفك خيط الطاقية الذي تحت ذقنه، فقال: «إن ضلتي في هذا المكان، وتيهي في هذه المدارج الكثيرة؛ لأبدع فكرة سمعت بها في حياتي، إنه لشيء مضحك، مضحك حقًّا»، وابتسم ابتسامة أعرض من الأولى، وهَمَّ بأن يواصل خلع ثيابه، وهو في أتم الابتهاج وصفاء الخاطر، لولا أن قطع عليه فجأة شيء لم يكن في حسبانه، فوقف عن استكمال خلعها، وذلك أن دخل الحجرة شخص يحمل شمعة، وأغلق الباب بالقفل في أثره، وتقدم إلى منضدة الزينة، فوضع النور عليها، فلم تلبث الابتسامة التي خطفت على وجهه أن تلاشت في نظرة دهشة لا حدَّ لها، وعجب بالغ، وكان دخول ذلك الشخص كائنًا من يكون فجائيًّا، هادئًا، إلى حد لم يتسع معه الوقت للمستر بكوك فينادي أو يعارض دخوله، فمن تراه هذا الطارئ عليه في فحمة الليل؟ أهو لص؟ أرجل سوء رآه وهو يصعد السلم وفي يده ساعة جميلة؟ ماذا هو صانع في هذا الموقف؟
وكانت السبيل الوحيدة التي تذلل للمستر بكوك الظفر بلمحة من وجه هذا الزائر الغريب دون التعرض لخطر الانكشاف لعينيه، هو الزحف والتسلل إلى السرير والإطلال من خلال أستاره على الجانب المقابل، فعمد إلى هذه الحيلة، وأبقى الأستار مغلقة بعناية وحرص بيده، فلا يمكن أن يتراءى منه أكثر من وجهه وطاقيته، وراح يضع منظاره على عينيه، ويجمع شتات شجاعته وينظر من خلال الستر المسدل.
وكاد المستر بكوك يغشى عليه من الرعب والفزع؛ فقد رأى أمام المرآة سيدة نصفًا ملففة جدائلها في ورق أصفر، وهي في شغل بتسريح ما تسميه النساء شعرهن الخلفي، وعقصه فوق هامتها، وتبين للمستر بكوك من وقوف السيدة على هذا النحو وهي لا تدري شيئًا عن وجوده أنها تنوي المبيت في الحجرة إلى الصبح؛ فقد أحضرت معها سراجًا ذا مظلة فوضعته في حوض على أديم الغرفة، احتياطًا حكيمًا من الحريق، حيث ظل يضيء كمنار ضخم في مساحة محدودة من الماء.
وقال المستر بكوك محدثًا نفسه: «رباه ما أشنع هذا الموقف وما أشد حرجه!»
وهمهمت السيدة فبادر المستر بكوك إلى إدخال رأسه خلف الستر بحركة آلية سريعة.
ومضى المستر بكوك المسكين يقول لنفسه والعرق يتصبب قطرات على طاقيته: «لم يقع لي في حياتي كلها شيء مرعب كهذا، أبدًا، إنه لموقف مخيف.»
وكان من المستحيل عليه أن يغالب الرغبة المُلِحَّةَ في مشاهدة ما هو حادث، فأخرج رأسه من خلف الأستار مرة أخرى، فإذا المشهد شر من قبل وأدهى؛ فقد أتمت السيدة عقص شعرها، وغطته بطاقية حريرية في عناية بالغة، وراحت تنظر مفكرة إلى النار.
واستتلى المستر بكوك في حديث نفسه يقول: «إن الأمر أخذ يتفاقم ويتحرج، ولست أرضى أن تسير الأمور على هذا النحو، ويبدو لي من هدوء هذه السيدة أنه لا بد من أنني دخلت حجرة غير حجرتي، وإذا أنا ناديت فسوف تصرخ وتوقظ الفندق كله ولكني إذا بقيت في موضعي هذا فسوف تكون النتائج أرهب وأبشع.»
ولسنا بحاجة إلى قول بأن المستر بكوك من أشد الناس حياءً وأرقهم ذهنًا وأدقهم إحساسًا، فلم تلبث فكرة الظهور بطاقية النوم أمام سيدة أن تغلبت عليه، وتملكت خاطره، ولكنه كان قد ربط تلك الخيوط اللعينة ربطة معقدة، وحاول فك العقدة بكل قواه فلم يستطع، وكان الموقف يحتم ظهوره من مخبئه، فما العمل؟ لم يكن أمامه غير سبيل أخرى، فانزوى خلف الأستار وراح يرفع الصوت مناديًا: «ها، هيم!»
وبدا على السيدة أنها أجفلت على ذلك الصوت غير المنتظر؛ إذ اصطدمت بمظلة السراج الذي جاءت به كما كان جليًّا أنها مضت تقنع نفسها بأن ما سمعته لم يكن شيئًا آخر غير مجرد خيال أو وهم؛ لأنها عادت تنظر إلى النار مفكرة ساهمة، بينما كان المستر بكوك يحسبها قد أغمي عليها من فرط الرعب.
وعاد ينظر من خلال الستر وهو يقول في نفسه: «هذه أنثى خارقة للمألوف، ها! هيم!»
وكانت هذه الأصوات الأخيرة أشبه ما تكون بما تحدثنا عنه الأساطير والقصص الخرافية عن العملاق المتوحش بلندربور واعتياده التعبير بها عن رأيه في أنه قد حان الوقت لنشر الغطاء فوق المائدة، وكانت في هذه المرة مسموعة واضحة لا ينتظر أن يخطئ أحد في فهمها فيحسبها من فعل الخيال أو الوهم، فلا عجب إذا راحت السيدة النَّصَف تقول: «يا إلهي! ما هذا؟»
وقال المستر بكوك من خلف الستر: «إنه ليس إلا سيدًا يا سيدتي!»
وقالت السيدة بصرخة مروعة: «سيد!»
وقال المستر بكوك في نفسه: «لقد وقع المصاب!»
وصرخت السيدة قائلة: «رجل غريب في الحجرة! فلم تبقَ إلا لحظة واحدة ويهب الفندق كله فزعًا.»
وأحدث ثوبها حفيفًا وهي تسرع نحو الباب.
وصاح المستر بكوك، مخرجًا رأسه بسرعة من فرط اليأس الذي استولى عليه: «سيدتي! سيدتي!»
ولم يكن للمستر بكوك من إخراج رأسه هدف معين، ولكن هذه الحركة أحدثت في الحال أثرًا حسنًا؛ فقد كانت السيدة عندئذٍ — كما قلنا — قريبة من الباب، ولا بد لها من اجتيازه؛ لتصل إلى السلم، ولم يكن ثمة أدنى شك في أنها كانت موشكة أن تفعل في تلك اللحظة لولا أن ظهرت فجأة «طاقية» المستر بكوك فجعلتها تتراجع إلى أقصى ركن من الحجرة حيث وقفت تحملق فيه البصر مروعة شاردة اللب، بينما لبث هو يحملق فيها البصر كذلك.
وقالت السيدة وهي تخفي عينيها وراء يديها: «أيها الشقي! ماذا تريد هنا؟»
وأجاب المستر بكوك بجد بالغ: «لا شيء يا سيدتي، لا شيء مطلقًا.»
قالت وهي تتطلع ببصرها: «لا شيء!»
قال وهو يومئ برأسه بكل قوة حتى جعل زر طاقيته يتراقص مع إيماءته: «لا شيء سيدتي، أقسم لك بشرفي إنني أكاد أذوب يا سيدتي حياءً وارتباكًا من مخاطبة سيدة وأنا في طاقية النوم.»
(وهنا بادرت السيدة إلى انتزاع طاقيتها عن رأسها) «ولكني لا أستطيع رفعها يا سيدتي.»
(وهنا راح يشدها شدة قوية للتدليل على صدق قوله) «لقد وضح لي الآن يا سيدتي أنني أخطأت فظننت أن هذا السرير هو سريري، ولم تكن قد انقضت عليَّ هنا غير خمس دقائق قبل دخولك فجأة هذه الغرفة.»
وقالت وهي تجهش بالعبرات: «إذا كانت هذه القصة غير المرجحة صحيحة، فلتغادر الغرفة في الحال!»
وأجاب المستر بكوك: «سأفعل يا سيدتي، بكل سرور.»
وعادت السيدة تقول: «حالًا يا سيدي.»
وعاجلها المستر بكوك قائلًا: «بلا شك، بلا شك يا سيدتي … إني آسف أشدَّ الأسف يا سيدتي.»
ونزل من السرير وهو يقول: «إني آسف على أنني كنت سببًا في هذا الفزع والانفعال يا سيدتي. آسف جدَّ الأسفِ يا سيدتي.»
فأشارت السيدة إلى الباب، وفي تلك اللحظة تجلت إحدى سجايا المستر بكوك بأبهى مظاهرها، حين تحيط به أحرج الظروف؛ فقد راح يضع بسرعة قبعته فوق طاقية النوم، كما يفعل حارس الليل في طوفه، ويحمل حذاءه وغطاء ساقيه في يده، وسترته وصداره على ذراعه، ولم يثنه شيء عن إظهار أدبه الجم فمضى يقول وهو ينحني انحناءة بالغة: «إنني لشديد الأسف يا سيدتي.»
قالت: «إذا كانت حقًّا يا سيدي فاترك الغرفة في الحال.»
وقال المستر بكوك وهو يفتح الباب، ومن فرط اضطرابه سقط الحذاء منه على الأرض: «حالًا يا سيدتي، في التو واللحظة يا سيدتي.»
وجمع المستر بكوك فردتي حذائه، ودار بعينيه لينحني مرة أخرى ومضى يقول: «أرجو يا سيدتي أن تشفع لي أخلاقي التي لا شائبة تشوبها، والاحترام البالغ الذي أكنه لجنسك، وتقوم عني عذرًا يسيرًا عما …»، ولكن السيدة عاجلته قبل أن يتم كلماته بدفعه نحو الدهليز وإقفال الباب بالرتاج في أثره.
ومهما ذهب المستر بكوك يهنئ نفسه بفراره من هذا المأزق، ونجاته في هدوء من هذا الموطن الدقيق؛ فإن موقفه الحالي كان في الحق موقفًا لا يُحسد عليه؛ فقد وجد نفسه وحده في دهليز مكشوف، بفندق غريب، وفي موهن من الليل، وفي نصف ثيابه، ولم يكن محتملًا أن يهتدي إلى طريقه وسط ظلام دامس إلى غرفة عجز كلَّ العجزِ من قبل عن اكتشافها وهو يحمل «الماثلة»، وإذا هو أحدث أقل ضوضاء في محاولته البحث عنها بلا جدوى فلا يبعد مطلقًا أن يطلِق الرصاص عليه نزيل مسهد يقظان أو قد يقتله، فلا حيلة إذن أمامه غير البقاء حيث هو حتى تبدو مطالع النهار، ومضى يتلمس طريقه بضع خطوات في ذلك الدهليز، ولشد ما كان فزعه حين تعثر فوق عدة أحذية وهو يتحسس السبيل، حتى انزوى في ركن صغير من الجدار، يرتقب مطلع الصبح بكل صبر الفلاسفة.
ولكنه تعذَّر عليه مع ذلك مقاساة هذه التجربة الإضافية لقوى صبره؛ إذ لم يلبث في مخبئه ذاك فترة قصيرة حتى فزع فزعًا لا يوصف؛ إذ رأى رجلًا يحمل نورًا في نهاية الدهليز، ولكن فزعه استحال بغتة إلى فرح شديد حين تبين أن ذلك الرجل هو خادمه الأمين.
لقد كان القادم فعلًا المستر صمويل ولر؛ فقد أطال السهر في الحديث مع ماسح الأحذية الذي كان سهران يرتقب وصول البريد، وجاء في تلك اللحظة ليأوي إلى فراشه.
ويتراءى المستر بكوك فجأة لخادمه وهو يناديه: «يا سام، أين غرفتي؟»
ونظر سام إلى سيده في دهشة متناهية، ولم يستطع أن يواجه المستر بكوك إلا بعد أن كرر هذا السؤال عدة مرات، وتقدم إلى الحجرة التي طال البحث عنها.
وقال المستر ولر بكل برود: «يمكن أن تكون هذه، يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «ولكني معتزم يا سام عزمًا أكيدًا أن لا أسير في هذا الفندق وحدي مرة أخرى ولو أقمت فيه ستة أشهر سويًّا.»
وأجاب المستر ولر: «هذا هو أحكم قرار تتخذه يا سيدي، فإنك بحاجة إلى إنسان يلاحظك حين يفارقك العقل ويذهب للزيارة.»
وقال المستر بكوك: «ماذا تعني بهذا يا سام؟» واستوى في فراشه ومد يده كأنما يهم بأن يقول شيئًا آخر، ولكنه أمسك فجأة، واستدار وهو يقول لخادمه: «طاب ليلك.»
وأجاب المستر ولر: «طاب ليلك يا سيدي»، ووقف حين جاوز الباب، وهز رأسه، ومشى قليلًا، ثم وقف ورفع فتيلة الشمعة، وهز رأسه مرة أخرى، وانطلق في خطى بطيئة إلى غرفته، وهو يبدو مستغرقًا في أعمق الأفكار والتأملات.