الفصل السابع والعشرون
وكان قد بقي يومان على الموعد الذي تم الاتفاق عليه بين المستر بكوك وصحبه للرحيل إلى «دنجلي ديل»، فجلس المستر ولر في غرفة خلفية بفندق «جورج والرخم» يفكر بعد تناول عشاء مبكِّر، في أحسن الوسائل لقضاء الوقت، وكان اليوم صافيًا بديعًا، فلم تنقضِ عشر دقائق في تقليب وجوه الرأي في هذا الأمر حتى أحسَّ فجأة حنينًا إلى والده، شوقًا زائدًا إلى لقائه، ورؤية امرأة أبيه، وكان هذا الشعور قويًّا مباغتًا، تركه في دهشة من هذا النسيان الطويل للتفكير في تأدية هذا الواجب المقدس للوالدين، وشعر برغبة شديدة إلى التكفير عن هذا العقوق بغير إبطاء، فنهض لتوِّه من مجلسه فصعد السلم إلى غرفة المستر بكوك، والتمس الإذن له في الغياب لتحقيق هذه الغاية المحمودة.
وقال المستر بكوك حين عرف مراده، وبرقت عيناه سرورًا لهذا الشعور البنوي الكريم الذي تملك خادمه: «بلا شك يا سام، بلا شك.»
وانحنى المستر ولر شاكرًا.
وقال المستر بكوك: «إنه ليسرني كل السرور أن يكون لديك هذا الشعور بالواجب نحو أبيك يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «إن هذا الشعور عندي من زمان بعيد يا سيدي.»
وقال المستر بكوك معجبًا: «هذا إحساس كريم جدًّا يا سام.»
وأجاب سام قائلًا: «جدًّا يا سيدي، فكلما أردت شيئًا من والدي، طلبته إليه بكل احترام وأدب، فإذا لم يجبني إليه، أخذته منه؛ خوفًا من أن أندفع إلى إتيان عمل سيئ؛ لأنني لم آخذه، وبهذه الطريقة يا سيدي وفرت عليه متاعب كثيرة.»
وقال المستر بكوك وهو يهز رأسه ويبتسم ابتسامة خفيفة: «ليس هذا ما أعنيه تمامًا يا سام.»
وأجاب المستر ولر: «هذا شعور كرم كله يا سيدي وحسن قصد، وسلامة نية كما قال أحدهم حين هرب من زوجته: لأنها لم تكن سعيدة في حياتها معه.»
وقال المستر بكوك: «لك أن تذهب.»
وأجاب المستر ولر: «شكرًا لك يا سيدي.»
وانحنى أحسن ما استطاع الانحناء، وذهب فارتدى أحسن ما لديه من الثياب، واتخذ مجلسه فوق سطح المركبة الحافلة الشاخصة إلى «دوركنج».
وكانت حانة «مركيز جرانبي» على عهد السيدة ولر — امرأة أبيه — نموذج حانة على جانب الطريق العام من الطراز الممتاز، أوتيت من السعة ما يكفي لراحة الرواد، ومن الضيق بحيث يكفي لأن تبدو دفئة، وقد علقت على العدوة الأخرى من الطريق «لافتة» كبيرة فوق عمود طويل تمثل رأس سيد وكتفيه، وفيها يبدو وجهه مصابًا «بالفالج»، ويرتدي سترة حمراء ذات ظهارة زرقاء قاتمة، وقبعة مثلثة الأركان من فوقها فراغ صافي الزرقة يمثل صورة السماء، ومن فوق هذه السماء أيضًا علمان، وتحت آخر زرار في السترة مدفعان … كل ذلك تصوير معبِّر بلا شك عن شكل مركيز جرانبي الذي خلدت الدنيا ذكره على السنين.
وتبدو في واجهة مكان الشراب مجموعة مختارة من نبات إبرة الراعي وصف نظيف خالٍ من الغبار يتألف من قنينات الكحول، وعلى مصاريع النوافذ نقوش ذهبية مختلفة، تنوه بما يحوي المحل من سرر طيبة، وأشربة وأنبذة نظيفة، وقد جلس نخبة مختارة من القرويين وأصحاب المركبات والخيول حول باب مربط الخيل ومسقى الجياد، فكان مشهدهم على تلك الصورة برهانًا ظاهرًا على جودة الجعة والأشربة التي تباع في الحانة.
ووقف سام ولر عند نزوله من المركبة؛ ليتأمل كل هذه الأدلة والشواهد على رواج المحل ونجاحه، بعين الجوالة المجرِّب الذي حنكته كثرة الأسفار.
وما كاد ينتهي من هذه الملاحظات حتى دخل الحانة في الحال، راضيًا كل الرضا عمَّا لاحظه، مغتبطًا كل الاغتباط بما رآه.
وقالت امرأة ذات صوت صافر في اللحظة التي ظهر رأسه فيها لدى الباب: «ماذا تريد أيها الشاب؟»
نظر سام حوله في ذلك الاتِّجاه الذي انبعث هذا الصوت منه، فتبين له أنه صادر من سيدة تميل إلى البدانة وتلوح عليها سمات الرفاهة، وهي جالسة بجانب الموقدة في مكان الشراب تنفخ في النار لتغلي الشاي، ولم تكن وحدها؛ فقد جلس على الجانب الآخر من الموقدة رجل مستوي القامة في مقعد مرتفع المسند، يرتدي ثيابًا سودًا رثة، وظهره يكاد يشبه المقعد في طول ظهره وتخشبه، فلم يكد سام يراه حتى اجتذب أنظاره، وأثار اهتمامه.
وكان الرجل جامد السحنة، أحمر الأنف، طويل الوجه ناحله، وله عينان كأعين الأفاعي، حادتان وإن كانتا قطعًا شريرتين، وقد ارتدى سروالًا قصيرًا وجوربًا أسود من القطن، باليين رثين كسائر ثيابه، وكانت نظراته «منشاة»، ولكن قميصه كان يعوزه «النشاء»، فبدت حواشيه الطول تصطرع فوق صداره المزرر في صورة أبعد ما تكون من النظافة، وأخلى ما تكون من الرونق، وقد وضح بجانبه قفازًا عتيقًا باليًا من جلد القندس، وقبعة عريضة الحاشية، ومظلة خضراء ناحلة اللون، لصقت بقاعها كمية غزيرة من عظام الحوت، لتتوازن مع جزئها الأعلى الخالي من المقبض، وهى موضوعة في شكل مستقر يوحى بأن الرجل ذا الأنف الأحمر أيًّا كان هو لا ينوي الانصراف مسرعًا.
ولكي ننصف ذلك الرجل الأحمر الأنف نقول: إنه لو أن نية كهذه قامت في خاطره، لكان أبعد الناس وأخلاهم من الفطانة والحكمة؛ لأن كل الظواهر تدل على أنه إذا توقع بحق أن يجد في مكان آخر راحة أوفر أسبابًا ممَّا هو واجد في تلك الحانة فلا بد أن يكون لديه حلقة بديعة من المعارف، وكانت النار تتأجج وتتوهج، من أثر المنفاخ الذي ينفخ به فيها؛ لتزداد اشتعالًا، بينما راح الإبريق يغني فرحًا من أثرهما معًا — النار والمنفاخ — وقد صُفَّتْ أواني الشاي فوق صينية صغيرة على المائدة وصحفة من الخبز الساخن المدهون بالزبد تنضج بقرب النار، بينما كان الرجل ذو الأنف الأحمر نفسه منهمكًا في تحويل قطعة كبيرة من الخبز الطري إلى خبز محمر من النوع ذاته، مستعينًا بشوكة تحمير طويلة من النحاس، وبجانبه كأس من الروم الساخن المستخلص من «الأناناس» والممزوج بالماء، وفي جوفه قطعة من الليمون، وكلما تمهَّل الرجل ذو الأنف الأحمر ليقرب الرغيف المستدير من عينه ليستوثق من نضجه على النار، رشف رشفة أو رشفتين من الروم وابتسم للسيدة البدينة وهى تنفخ في النار.
وكان سام مستغرق الذهن في تأمل هذا المشهد الممتع، فلم يرع للسؤال الأول الذي وجهته إليه السيدة البدينة وتركه يمر بلا جواب، فكررته مرة أخرى وفي كل مرة بصوت أكثر صفيرًا، حتى أحس أخيرًا أن تصرفه هذا غير لائق، فأجاب قائلًا: «هل المعلم هنا؟»
فأجابت السيدة ولر — لأن تلك السيدة البدينة لم تكن سوى أرملة المرحوم المستر كلارك ووريثته الوحيدة التي آلت إليها تركته: «كلا، ليس هنا، ولست انتظر عودته أيضًا.»
وقال سام: «أحسبه يسوق المركبة، اليوم.»
وأجابت السيدة ولر: «يجوز، ولا يجوز، من يدري؟!»
وانثنت عنه لتضع الزبد على الرغيف المحمر الذي انتهى الرجل الأحمر الأنف من تحميره، ثم واصلت قولها: «لا أعرف، بل أكثر من ذلك، لا يهمني، قل بسم الله يا مستر ستيجنز!»
واستجاب الرجل الأحمر الأنف لما طلبت وأقبل على الخبز المحمر يلتهمه التهام المفترس.
وكان ظهور هذا الرجل قد حمل سام لأول وهلة على شيء أكثر من مجرد الاشتباه في أنه لا بد من أن يكون نائب «الراعي» الذي حدَّثه والده المحترم عنه؛ لأنه لم يكد يراه وهو يأكل حتى زال كل شك أو شبهة من نفسه، وبدا له في الحال أنه إذا أراد أن يتخذ له مقامًا إلى حين في تلك الحانة، فليثبت قدمه في الموضع بلا إبطاء، وبدأ الإجراءات اللازمة لتحقيق هذه الغاية بإلقاء ذراعه على باب الحانة ففتحه بكل هدوء ودخل بكل رفق غير مكترث ولا حافل.
قال: «يا امرأة أبي، كيف الأحوال؟»
وقالت السيدة ولر وهي ترفع عينيها إلى وجهه، غير مبدية سرورًا ظاهرًا بمحضره: «أعتقد أنه من آل ولر.»
وقال سام وهو لا يزال متشبثًا بهدوئه: «أظن ذلك، وأرجو أن يعذرني هذا السيد المحترم، إنني أتمنى لو أكون ولر الذي يمتلكك يا امرأة أبي!»
وكانت هذه العبارة تحية ذات خزنتين كبعض أنواع البنادق، أو تحمل معنيين، أولهما: أن السيدة ولر امرأة جميلة محببة. والآخر: أن المستر ستيجنز كان عليه مظهر رجال الدين. وقد أحدثت كلمته في الحال أثرًا ظاهرًا، واستغل سام الفرصة فراح يقبل امرأة أبيه.
ودفعته السيدة ولر عنها وهى تقول: «ابعد عني.»
وقال الرجل ذو الأنف الأحمر: «عيب يا فتى!»
وأجاب سام قائلًا: «لا مؤاخذة يا سيدي، لا مؤاخذة، لك حق، ولكن لا ضير ولا بأس، حين تكون زوجات الآباء شابات جميلات الوجوه يا سيدي، أليس كذلك؟»
وقال المستر ستيجنز: «ذلك كله غرور.»
وقالت السيدة ولر وهي تصلح قبعتها: «هو كذلك.»
وكان رأي سام كذلك أيضًا ولكنه أمسك عن الكلام.
وبدا على «نائب الراعي» أنه لم يرتح لقدوم سام وعندما هدأت الفورة الأولى التي أحدثتها تلك التحية بدا على السيدة ولر أيضًا أنها كانت تتمنى التخلص منه دون أن يؤثر ذلك في نفسها إطلاقًا، ولكنه لبث في مكان الشراب لا يبدي رغبة في الانصراف، ولما كان طرده أو صرفه بالإكراه أمرًا لا يليق، فلا حيلة إذن في الصبر عليه، وهكذا جلس الثلاثة لتناول الشاي.
وقال سام: «وكيف حال والدي؟»
ورفعت السيدة ولر يديها عند سماع هذا السؤال، وصعدت بصرها تصعيدًا كأنها ترى السؤال مؤلمًا أو لا يسرها فتح الكلام فيه.
وتَبَرَّمَ المستر ستيجنز وزام.
وقال سام: «ما قصة هذا السيد وما سبب تذمره؟»
وأجابت السيدة ولر: «إنه مشمئز من تصرف أبيك وسلوكه.»
وقال سام: «أهو حقًّا؟»
وقالت السيدة ولر بجد: «وله حق.»
وتناول المستر ستيجنز قطعة أخرى من الخبز المحمر بالزبد وراح يزمجر.
وقالت السيدة ولر: «إنه لمذنب أثيم.»
وصاح المستر ستيجنز: «رجل شر وغضب»، وتناول قضمة كبيرة شبه مستديرة من الخبز وعاد يزفر مرة أخرى.
وأحس سام رغبة قوية تتنازعه في إعطاء المستر ستيجنز شيئًا يستحق أن يئن منه ويزفر، ولكنه كبت رغبته، واكتفى بقوله: «وما الذي يفعله والدنا الآن؟ ماذا وراءه؟»
وقالت السيدة ولر: «أتسألني ما الذي يفعله؟ إن له قلبًا غليظًا قاسيًا، إن هذا الرجل البديع — لا تعبس، يا مستر ستيجنز، إني أكرر قولي: إنك رجل بديع — يأتي ليلة بعد ليلة فيجلس هنا ساعات طويلة فلا يحدث ذلك أدنى تأثير فيه.»
وقال سام: «هذا غريب فعلًا، لو كنت أنا في مركزه لأحدث ذلك تأثيرًا كبيرًا في نفسي، أنا عارف هذا.»
وقال المستر ستيجنز بلهجة جد بالغ: «الواقع يا صديقي الشاب أنه قد أوتي قلبًا متحجرًا، أوه، يا صديقي الشاب، من كان يستطيع أن يقاوم توسلات ست عشرة من إخواننا، ويرفض نداءاتهن إلى وجوب الاكتتاب لجمعيتنا السامية الأهداف حتى يتيسر لها أن تمد أطفال الزنوج في جزر الهند الغربية بالصديريات الصوف ومناديل اليد المرشدة؟
وقال سام: «وما هي المناديل المرشدة؟ لم أر في حياتي شيئًا كهذه المناديل التي تتحدث عنها.»
وأجاب المستر ستيجنز: «إنها مناديل تجمع بين المتعة والمنفعة يا صديقي الشاب، كما تقرن القصص المختارة بالصور والرسوم التي تساعد على فهمها.»
وقال سام: «آه، فهمت، كالتي يعلقها بائعو الخردوات على دكاكينهم مع عرائض المتسولين ودعواتهم وما أشبه ذلك.»
وبدأ المستر ستيجنز الرغيف الثالث وهو يهز رأسه هزة الموافقة.
وقال سام: «لا يقتنع بكلام السيدات، أحقًّا لا يقتنع؟»
وقالت السيدة ولر: «كلا، بل يجلس ويدخن في قصبته ويقول: إن الأطفال الزنوج هم … ماذا يقول عنهم، هل تذكر؟»
وقال المستر ستيجنز: «نصابون صغار.»
ومضت السيدة ولر تقول: «وهكذا يسميهم.»
وراحت هي والمستر ستيجنز يزفران ويئنَّان من تصرفاته المتكررة.
وكان من المحتمل أن يسترسلا في سرد مزيد من هذه التصرفات وأشباهها، لولا أن الخبز المحمر كان قد أتى عليه كله، والشاي أمسى ضعيفًا لا يُشرب، وسام لا يبدي بوادر توحي بقرب انصرافه، وعندئذٍ تذكر المستر ستيجنز فجأة أن لديه موعدًا عاجلًا جدًّا مع الراعي فغادر المكان على الأثر.
وما كادت أواني الشاي تُرفع، والمجلس حول الموقدة ينظف، حتى وقفت المركبة القادمة من لندن ونزل منها المستر ولر أمام الباب، وساقته قدماه إلى مكان الشراب وأرته عيناه ولده.
وصاح الوالد: «من أرى؟ سامي!»
وصاح الولد: «من أشهد؟ والدنا المحترم!»
وتصافحا بحرارة وحماسة.
وقال المستر ولر الكبير: «إن سروري لشديد برؤيتك يا سامي، وإن كانت معرفتك كيف تسلك مع امرأة أبيك سرًّا لا أعرفه، وكل ما أريده منك أن تكتب لي وصف الطريقة لكي أسير عليها، هذا كل ما أطلبه.»
وقال سام: «صه إنها هنا يا شيخ!»
وأجاب المستر ولر: «إنها ليست قريبة منا حتى تسمع؛ لأن من عادتها أن تذهب إلى الطابق الأسفل فتمكث ساعتين بعد الشاي في لعن وسخط؛ فهي إذن فرصة أمامنا يا سامي لأستمتع فيها بشرب كأسين.»
وراح يمزج قدحين من الشراب بالماء، ويخرج قصبتي تدخين، وجلس الأب والابن على مقعدين متقابلين، واتخذ سام المقعد العالي المسند على جانب الموقدة واقتعد المستر ولر الكرسي الآخر، مستلقيًا فيه كابنه، وشرعا يستمتعان بالشراب والتدخين بكل الوقار الواجب لمجلسهما.
وقال الأب لابنه بفتور بعد صمت مستطيل: «هل كان أحد هنا يا سامي؟»
فهز سام رأسه هزة إيجاب.
وعاد المستر ولر يسأل: «الشخص الأحمر الأنف؟»
وهز سام رأسه مرة أخرى.
وشد المستر ولر أنفاسًا قوية من القبة وهو يقول: «رجل ظريف، أليس كذلك يا سامي؟»
وقال سام: «يلوح أنه كذلك.»
وقال المستر ولر: «وبارع في الحساب.»
وقال سام: «أهو حقًّا؟»
وأجاب الوالد قائلًا: «يقترض منك ثمانية عشر بنسًا يوم الاثنين، ويأتي يوم الثلاثاء يطلب شلنًا؛ ليكون مجموع السلفة نصف «كراون»، ثم يزورك يوم الأربعاء طالبًا «نصف كراون»، حتى تكون الجملة خمسة شلنات، وهكذا يضاعف الرقم حتى يصل به إلى خمسة جنيهات في وقت قصير، كالأرقام التي في كتاب الحساب عن المسامير التي في حذاء الحصان تمامًا يا سامي.»
وهز سام رأسه؛ إشارة إلى أنه قد تذكر المسألة الحسابية التي عناها والده.
وعاد سام بعد فترة انشغال بالتدخين مرة أخرى فقال: «أحقًّا أنك لا تريد أن تكتتب لشراء الصديريات الصوف؟»
وأجاب المستر ولر: «طبعًا، ما فائدة الصديريات الصوف لأولئك الصغار في الخارج؟»
وراح يغض من صوته قائلًا وهو ينحني إلى الأمام ليسمعه: «هل تريد أن تعرف حقيقة رأيي في هذا الموضوع؟ أنا لا أتردد في التبرع بسخاء لشراء «صديريات» لبعض قومنا هنا في بلادنا.»
وما كاد ينتهي من هذا القول حتى عاد إلى جلسته الأولى، وغمز بعينه إلى ولده البكر غمزة بليغة المدلول.
وقال سام: «الحقيقة أن هذا العمل غريب، إرسال مناديل يد إلى أناس لا يعرفون كيف يستخدمونها، شيء عجيب حقًّا!»
وأجابه الوالد قائلًا: «إنهم لا يكفون أبدًا عن هذا الدجل وأشباهه، ففي يوم الأحد الماضي كنت سائرًا في الطريق، فمن تتصور أنني شاهدت؟ لا أحد غير امرأة أبيك واقفة بباب كنيسة صغيرة ممسكة بوعاء حساء، أزرق اللون، وأعتقد جازمًا أن فيه نقودًا يبلغ مجموعها جنيهين، وكلها من أنصاف البنسات وكلما خرج الناس من الكنيسة ألقوا بنساتهم فيها موسوسة مجلجلة، حتى ليخيل إليك أن البشر لم يستطيعوا يومًا صنع طبق كهذا يقوى على حمل هذه النقود ووسوستها المستمرة، فماذا تظن سر هذه التبرعات، ولمن تحسبها تجمع؟»
وقال سام: «يمكن لإقامة حفلة شاي أخرى كالتي سمعت عنها منك؟!»
وأجاب الوالد: «أبدًا، ولكن لدفع حساب المياه المطلوب من الراعي يا سامي.»
وقال سام مبهوتًا: «حساب المياه!»
وأجاب المستر ولر: «إي والله، لقد طولب الراعي بحساب ثلاثة شهور لم يوفِّها، بل لم يوفِّ منها درهمًا واحدًا. وهل مثله يوفي بما عليه؟ أو ربما لأن الماء لا نفع له منه؛ لأنه لا يشرب من الصنبور إلا قليلًا يا سامي، إنه يعرف لعبة تساوي ستة أمثال أجرة المياه، ولهذا لم يؤدِّ الثمن وقطع الماء عنه، وذهب الراعي إلى الكنيسة وقال لمريديه: إنه مظلوم مضطهد كما ظُلِمَ القديسون من قبله واضطُهدوا، وإنه يرجو أن يلين قلب الذي قطع عنه الماء، فيدير المحبس في الاتجاه الآخر فيفتحه، ولكنه يعتقد أن القوم يأتمرون به، ويريدون مضايقته واضطهاده، فلا تلبث النساء أن تنادي بوجوب عقد اجتماع، فيجتمعن ويرتلن التراتيل وينتخبن امرأة أبيك رئيسة، فتتطوع لجمع التبرعات في يوم الأحد التالي، وتسلم النقود كلها للراعي، وإذا لم يحصل منها يا سامي على ما يجعله خالصًا من حساب شركة المياه طول العمر، فأنا فاسد وأنت فاسد آخر … وعلى الدنيا السلام.»
ولبث المستر ولر يدخن بضع دقائق في صمت ثم مضى قائلًا: «إن المصيبة أن هؤلاء الرعاة يا ولدي يؤثِّرون في أدمغة النساء ويتلفون عقولهن، وهن من طيبة قلوبهن يتصورن أنهم على حق ولا يعرفن الحقيقة، إنهن يا صمويل ضحايا الدجل، إي والله ضحايا الدجل.»
وقال سام: «أظنهن كذلك.»
ومضى المستر ولر يقول وهو يهز رأسه بجد: «نعم، ولا شيء سواه، وكل ما يحزنني يا صمويل أن أراهُنَّ يضيعن أوقاتهن ومجهودهن في صنع ملابس لأناس من ذوي الألوان النحاسية لا يحتاجون إليها، ولا يأبهن بأبناء المسيحية ومساكينها البيض مثلهن، ولو استطعت يا صمويل أن أفعل ما بدا لي لربطت بعض هؤلاء الرعاة الكسالى خلف مركبة ثقيلة من مركبات النقل وجعلتهم يجرون بها رواحًا وغدوًّا طول اليوم، حتى يخرج هذا الكلام الفارغ من أدمغتهم، لو أن ذلك كان ميسورًا.»
وما إن فرغ المستر ولر من شرح هذه الطريقة البديعة بكل قوة وتوكيد، مع ما يناسبها من الإيماءات بالرأس، والغمزات بالعين، حتى ارتشف الكأس مرة واحدة ونفض الرماد من القصبة، بكل رزانة ووقار.
وإذا صوت صافر ينبعث من جانب الردهة.
فقال المستر ولر: «هذا صوت قريبتك العزيزة يا سامي.»
ودخلت السيدة ولر الحجرة مسرعة.
قالت: «لقد عدت إذن.»
قال: «نعم يا عزيزتي.»
وملأ قصبة أخرى.
قالت: «وهل رجع المستر ستيجنز؟»
قال: «كلا يا عزيزتي، لم يرجع.»
ومضى يشعل التبغ بطريقة بارعة، وهي أن يمسك بملقط النار جذوة ويدنيها من القصبة، ويقول: «وأكثر من ذلك يا عزيزتي أنني سأحاول إحياء النار إذا لم يرجع أبدًا.»
وقالت السيدة ولر: «وي أيها الخبيث!»
قال: «شكرًا يا حبيبتي.»
وقال سام: «كفى، لا ضرورة لهذا الغزل أمام الغرباء، ها هو ذا السيد المحترم قد جاء.»
وهنا أسرعت السيدة ولر فكفكفت الدموع التي كانت قد همت بإذرافها إكراهًا، وبادر المستر ولر إلى تقريب مقعده من الركن عابسًا مقطِّبًا.
ونوشد المستر ستيجنز إلَّا ما تناول كأسًا أخرى من الروم، وما كان بحاجة إلى مناشدة، ثم ثانية، فثالثة، وإنعاش نفسه بعشاء خفيف، قبل المعاودة من جديد.
وكان يجلس على الجانب الذي جلس عنده المستر ولر، فجعل هذا كلما استطاع — في خفية عن امرأته — يبث ولده أشجانه، ويكشف عمَّا يُكِنُّه في أعماق صدره، بهز قبضة يده فوق رأس «نائب الراعي»، فكانت هذه الحركة مدعاة فرح بالغ وارتياح متناهٍ لنفس ولده، وبخاصة كلما رأى المستر ستيجنز مستمرًّا في اجتراع كئوس الروم تباعًا، وهو لا يدري مما يدور قريبًا منه شيئًا.
وكان أكثر الحديث مقصورًا على مسز ولر والأب ستيجنز، والموضوعات لا تتعدى في الغالب الإشادة بفضائل الراعي، وصلاح قطيعه، وذنوب الآخرين وآثامهم المنكرة، وهو حديث جعل المستر ولر الكبير بين لحظة وأخرى يقاطعه بكلمات وإشارات خفيفة إلى سيد يدعى «ووكر» وتعليقات أخرى سائرة وتعقيبات عابرة من هذا القبيل.
وأخيرًا تناول المستر ستيجنز قبعته، واستأذن، بعد أن ظهرت عليه من الأعراض الواضحة ما يدل على أنه قد تناول كل ما في إمكان بطنه أن يتناول من الروم الممزوج بالماء ولم يلبث المستر ولر أن مشى بولده إلى فراشه؛ ليريه موضعه، وراح الأب الفاضل يهز يده بحماسة بالغة وقد بدا عليه الانبعاث إلى توجيه بعض الملاحظات إليه، ولكنه رأى مسز ولر تتقدم نحوه فعدل عن نيته واكتفى بأن حياه في اقتضاب تحية المساء.
وبكر سام في النهوض من فراشه صباح اليوم التالي فتناول فطورًا عاجلًا واستعد للعودة إلى لندن، وما كادت قدمه تحمله خارج البيت، حتى وجد أباه واقفًا حياله.
وقال المستر ولر: «أذاهب أنت يا سامي؟»
وأجاب قائلًا: «في الحال.»
قال: «لوددت لو أنك كممت هذا «الاستيجنز» وأخذته معك.»
وقال سام معاتبًا: «إنني مستنكر تصرفك، لماذا تسمح له أن يدخل بأنفه الأحمر في حانة مركيز جرانبي؟»
وأطال المستر ولر النظر إلى ولده ثم أجاب قائلًا: «لأنني رجل متزوج يا صمويل؛ لأنني رجل متزوج، ويوم تصبح كذلك يا صمويل ستفهم أشياء كثيرة لا تفهمها الآن. ولكن البحث في مدى الفائدة من معاناة الكثير لمجرد فهم القليل — كما قال الصبي الذي تصدقوا عليه بالتعليم، عندما وصل إلى نهاية ألف باء — مسألة تختلف فيها الأذواق، وإن كان رأيي أنا أنها لا تستأهل كل ذلك العناء.»
وقال سام: «حسن، وداعًا.»
وأجاب المستر ولر: «أهكذا يا سامي؟»
ووقف سام عن المسير قائلًا: «ليس عندي ما أقوله إلا هذا: لو كنت أنا صاحب حانة مركيز جرانبي وجاء ستيجنز هذا فحمَّر خبزًا في محل البار الذي أملكه ﻟ …»
وقاطعه المستر ولر بلهفة بالغة: «ﻟ … ماذا؟»
قال: «لوضعت له السم في الروم والماء.»
وهز المستر ولر يد ابنه بحرارة وهو يقول: «كلا، أحقًّا تفعل يا صمويل؟ أحقًّا؟»
وقال سام: «نعم، وإن كنت في أول الأمر لا أشتد في القسوة عليه، بل أكتفي عندئذ بإسقاطه في حوض الماء ووضع الغطاء عليه، فإذا رأيت أنه لا يقدِّر معنى الكرم والعطف والبر به، جربت الطريقة الأخرى التي قلت لك عنها.»
وعندئذٍ ألقى المستر ولر الكبير نظرة إعجاب بالغ لا تعبر الألفاظ عنه، على ولده، وعاد يتناول يده، وينصرف في بطء، مقلبًا في خاطره عديد الأفكار التي أثارتها نصيحة ابنه في نفسه.
وأرسل سام نظرة في أثر أبيه، حتى رآه ينعطف نحو ركن في الطريق، فانطلق في سبيله، وجعل يفكر أولًا فيما قد تؤدي إليه نصيحته لأبيه من العواقب، ومبلغ رجحان الأخذ بها، أو بعد احتماله، ولكنه ما لبث أن طرد هذا الموضوع من خاطره متعزيًا بفكرة واحدة، وهي أن الزمن وحده هو الذي سيرينا ما سوف يحدث، وتلك هي الفكرة التي نلح على القارئ في قبولها.