الفصل الثامن والعشرون
فصل فكه عن عيد الميلاد، يصف حفلة عرس، وبعض ضروب أخرى من اللهو، لا تقل من حيث العادات الحسنة والتقاليد الطيبة عن الزواج روعة وشأنًا، ولكنها لم تعُد مرعية من الناحية الدينية في هذا الزمن الذي تدهورت فيه الأخلاق.
***
في مثل نشاط النحل، إن لم نقل في مثل خفة الجنيَّات، اجتمع البكوكيون الأربعة، في صبيحة الثاني والعشرين من شهر ديسمبر من العام الذي حدثت فيه هذه الرحلات، التي دوَّنَّاها بأمانة في هذا الكتاب، وكان عيد الميلاد على الأبواب، بكل ما يحويه من خدع كواذب، وطهارة قلوب، موسم الكرم والجود، وأمام المرح، وتفتح الأفئدة، والعام القديم يستعد فيه كدأب الفلاسفة والحكماء الأقدمين، لدعوة أصحابه إلى الجلوس من حوله، لكي ينطلق في رفق منصرفًا، وليرحل في هدوء، وسط القصف، وضوضاء العيد.
كان الموسم موسم فرح ومرح، وكانت أربعة قلوب من عديد القلوب التي فرحت بمقدمه على الأقل فرحة مرحة كذلك، وفي الحق كم من أفئدة يسوق عيد الميلاد إليها فترة قصيرة من السعادة، ويجلب إليها شيئًا عابرًا من المتاع، وكم من عشائرَ تفرق أهلها أيدي سبا، وتشتت أفرادها في كل مكان، في سبيل الصراع على الحياة، ومعركة العيش التي لا تخمد، عادت فالتأم شملها، وضَفَت عليها متعة الرفقة، وتبادُل الأماني، وهي مصدر فرح صادق نقي لا تشوبه شائبة، حتى ليعدها الإيمان بالأديان في أكثر العالم حضارة، وأشد أصقاعها همجية، سواء بسواء، من بين بواكير النعماء التي سيجنيها البشر في الحياة الأخرى التي أعدت للسعداء والفائزين، وكم من ذكريات هاجعات، وأحاسيس هادئة ساكنة، يأتي عيد الميلاد فيثيرها من مراقدها، ويوقظها من السبات.
وإنا نكتب هذه السطور الآن، ونحن على عدة الأميال من البقعة التي تَلاقينا فيها، عامًا بعد عام، في هذا اليوم بالذات، وانتظمتنا فيه حلقة من المفاريح والسعداء، وكم من قلوب كانت تخفق يومئذٍ فرحًا وابتهاجًا، كفَّت عن الخفقان، وكم من النظرات التي كانت تلتمع قد ذهب ضياؤها، وكم من الأيدي التي تناولناها في أكُفِّنا ارتدَّت اليوم باردة هامدة، وكم من الأعين التي كنا نتلمس التطلُّع إليها، توارى ضياؤها البراق في ظلمة القبور، ولكن لا يزال البيت العتيق، والحجرة القديمة، والأصوات المرحة، والوجوه البسامة، والأمازيج والضحكات، وأتفه النوادر، وأدق الظروف المتصلة بتلك اللقاءات الهنية، تزدحم على أخلادنا، كلما دار العام دورته، كأن آخر اجتماع لنا لم يكن إلا أمس الدابر! أيها العيد السعيد، الذي يستطيع وحده أن يردنا إلى أوهام طفولتنا الأولى، ويعيد إلى خاطر الشيخ لذات شبابه، ويحمل الملاح والمسافر معًا، وهما على آلاف الأميال، إلى موقدة داره، وجو بيته الساكن الساجي.
ولكنا قد استفضنا في حديث عيد الميلاد المقدس، وانشغلنا بتعداد مزاياه الحسان، حتى تركنا المستر بكوك وصحابه منتظرين في العراء البارد خارج المركبة الشاخصة إلى «ماجلتون»، التي وصلوا إليها منذ هنيهة مشتملين بمعاطفهم ولفاعاتهم، بينما حملت الحقائب والجعب القطنية في خزانة المركبة، وراح المستر ولر والحارس يحاولان أن يُدخلا في الخزانة الأمامية سمكة ضخمة من نوع «الحوت» لا تتسع الخزانة لمثلها، وهى راقدة في «سفط» أسمر مستطيل، من فوقها طبقة من القش، وقد ظلت متروكة إلى النهاية، حتى يتيسر إرقادها في أمان فوق ستة دنان من الأصداف الحية، جاء بها المستر بكوك نفسه، وصفت بنظام في قاع الخزانة، وكان الاهتمام البادي على وجهه شديدًا وهو يرقب المستر ولر والحارس حين مضيا يحاولان حشر تلك السمكة الضخمة فيها، مدخلين رأسها أولًا، ثم ذيلها أولًا، ثم جزأها الأعلى إلى أعلى، ثم ظهرها إلى أعلى، ثم على جنبها وبعد ذلك بطولها، وهي مع كل هذه المحاولات تتأبَّى على الدخول، حتى لقد ضربها الحارس عرضًا في وسط السلة فإذا هي تتوارى فجأة في جوف الخزانة، وإذا رأس الحارس نفسه وكتفاه تختفي معها؛ لأنه لم يحسب حسابًا لكفها الفجائي عن المقاومة السلبية، فتولته دهشة بالغة لم تكن في حسبانه؛ مما جعل جميع الحمالين والنظارة يضحكون ولا يستطيعون كتمان ضحكاتهم لهذا المشهد الفكه، كما ابتسم المستر بكوك مسرورًا وأطلع شلنًا من جيب صداره، راجيًا إلى الحارس — وهو يخرج نفسه من جوف الخزانة — أن يشرب به في صحته كأسًا من البراندي والماء، فابتسم الحارس أيضًا وتبعه السادة سنودجراس وونكل وطبمن فضحكوا معًا مبتهجين، واختفى الحارس والمستر ولر خمس دقائق، وأغلب الظن أنهما ذهبا ليتناولا البراندي والماء؛ لأن رائحتهما كانت تعبق بالخمير حين عادا إلى الظهور. وعندئذٍ يصعد السائق إلى مكانه في المركبة ويثِب المستر ولر من خلفه، ويلف البكوكيون بمعاطفهم سوقهم، ولفاعاتهم حول أنوفهم، ويتقدم أعوان السائس فينزعون الأغطية من فوق ظهور الخيل، ويصيح السائق صيحة الفرح: «كل شيء على ما يرام» وينطلق السَّفْرُ ذاهبين.
وتجري بهم المركبة رجراجة خلال الشوارع، وتتخطى في طريقها الأحجار، حتى تخرج أخيرًا إلى الأرض الفضاء، والريف المترامي في كل ناحية، والعجلات مارقات فوق أديم الأرض الصلبة المغطاة بالجليد، والخيل مندفعة إلى السير خببًا على تلويح السوط في يد السائق وقعقعته في الهواء، كأن الحِمل الذي تحمله المركبة والركب والحوت ودِنَان الأصداف الحية وكل شيء آخر لم يكن سوى ريشة في أعقابها، ومضت تهبط منحدرًا رفيقًا إلى مستوى من الأرض صلب الأديم كأنه كتلة واحدة من الرخام امتدت ميلين طولًا، ثم قعقعة أخرى من السوط، فإذا هي مسرعة، مغذية المسير، متوثبة، مطوحة برءوسها، محدثة وسوسة وأصواتًا مختلفة بسروجها وأعِنَّتها ولجمها، كأنها جميعًا من فرح مسرعة المسير، بينما أمسك السائق السوط والأعِنَّة بإحدى يديه، وخلع بالأخرى قبعته فألقاها فوق ركبتيه، ونزع منديله من جيبه، ومسح به جبهته؛ وذلك لأنه اعتاد أن يفعل ذلك، ولأنه رأى من المناسب أن يُري الركاب أيضًا مبلغ هدوئه، ويبين لهم أنه من السهل أن يسوق المرء وهذه الأربعة كلها في يديه، إذا توافر له من الخبرة مثل ما توافر له، وبعد أن فرغ من ذلك جميعًا في يسر ظاهر، وإلا أضاع التأثير الذي كان يتوخَّاه منه، راح يرد المنديل إلى جيبه، ويعيد القبعة إلى رأسه، ويصلح من قفازه، ويسوي بين مرفقيه، ويلوح بالسوط في الهواء مرة أخرى، فتنطلق الخيل عاديات وهي أشد فرحًا ممَّا كانت وأكثر ابتهاجًا.
ولاحت للأعين بضع دور صغيرة متناثرة على جانبي الطريق، موحية بأن المركبة موشكة على دخول بلدة أو قرية، وإذا نغمات بوق «الحارس» تموج وتسري في أطباق الفضاء الصافي الشديد البرد، فتوقظ الشيخ القائم في داخل المركبة فينزل مصراع النافذة الخشبي بعناية إلى نصفه، ويطل منه ليتبين معالم الطريق، ثم ينثني فيرفعه بالعناية ذاتها، ويبلغ الآخر الذي في جوف المركبة أنهم لن يلبثوا أن يغيروا الخيل في المحطة القادمة، فيستيقظ زميله هذا، ويعتزم تأجيل إغفاءته إلى ما بعد الوقوف، وعندئذٍ ترتفع نغمات البوق في الفضاء فتصحو عليها زوجة صاحب الكوخ وأطفالها، فيُطِلُّونَ من باب الدار، ويظلون يرقبون المركبة حتى تنعطف على ركن من الطريق، فيعودون إلى الجلوس القرفصاء حول النار المشبوبة في البيت، ويلقون إليها حطبًا آخر ليجد رَبُّ الأسرة الدفء موفورًا حين يعود، بينما كان هو على مبعدة ميل كامل منهم قد تبادل هزة من رأسه مع السائق، في تحية ودية، ووقف يتأمَّل المركبة وهي مبتعدة مسرعة.
ولا يزال البوق يرسل أنغامه في الفضاء والمركبة منطلقة في جلجلتها فوق الطريق غير المعبد خلال دروب البلدة الصغيرة التي دخلتها، والسائق قد فَكَّ الحزام الذي يمسك وشاحه؛ استعدادًا لإلقائه عنه في اللحظة التي تقف فيها المركبة.
وعندئذٍ يُخرج المستر بكوك رأسه من رقبة معطفه ويدير عينه فيما حوله بدهشة بالغة، وفضول شديد، ويلمح السائق ذلك منه فينبئه باسم البلدة، ويقول: إن يوم سوقها كان بالأمس. فينقل المستر بكوك هذه المعلومات إلى أصحابه، فيخرجون من رقاب معاطفهم كذلك ويتلفتون حولهم، ويكاد المستر ونكل الجالس على الحافَة تاركًا إحدى ساقيه متدلية في الفضاء يسقط إلى الطريق، حين أخذت المركبة تنعرج بهم في زاوية حادة بقرب حانوت بائع الجبن، ثم تعطف على السوق، وتقف في فناء الفندق فجأة قبل أن يُفيق المستر سنودجراس الجالس لصقه من فزعه، وكانت الخيل الأخرى وعليها الأغطية واقفة ترتقب المركبة، فلا يني السائق في إلقاء الأَعِنَّةِ من يده والنزول منها، ويتبعه الركاب الجلوس في خارجها فينزلون هم كذلك، فلا يبقى غير الذين لا يطمئنُّون كثيرًا إلى مقدرتهم على الصعود مرة أخرى، ويؤثِرُون البقاء حيث هم، ويدقون المركبة بأرجلهم لتدفئتها رانين بأعين متلهفة وأنوف محمرة إلى النار المشبوبة في مكان الشراب بالفندق، وأغصان شجرة عيد الميلاد، والتوت الأحمر الذي ازدانت الشرفة به.
وكان الحارس قد سلَّم إلى حانوت تاجر الغلال الحُزمة الملفَّفة في الورق الأسمر التي أخرجها من المحفظة الصغيرة المعلقة فوق كتفه بسير من الجلد، وأشرف على شد الخيل إلى المركبة، وألقى على الإفريز السرج الذي أُحضر من لندن فوق سطح المركبة. واشترك في المؤتمر الذي عقده السائق والسائس للحديث عن الفرس السوداء التي جرحت ساقها الأمامية اليمنى في يوم الثلاثاء الماضي. واستقر الحارس والمستر ولر خلف المركبة واستوى السائق في مجلسه أمامها، وعاد الحارس الموكل بداخلها يرفع النافذة بعد أن كان قد أنزلها قليلًا خلال فترة الراحة، ونزع السائس الأغطية عن ظهور الخيل، واستعد الجميع للمسير، إلا «السيدين البدينين» اللذين مضى السائق يسأل عنهما وهو قلق نافذ الصبر، وإذا هو والحارس وسام ولر، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس، والسواس جميعًا، وكل فرد من المتسكعين في الموضع والمتبطلين، وهم أكثر من الآخرين مجتمعين عددًا، إذا بهم جميعًا يتصايحون بأعلى الأصوات؛ بحثًا عن السيدين الغائبين، وإذا صوت من بعيد ينبعث من جانب أنامل المستر بكوك قد جمدت من البرد حتى إنه ظل خمس دقائق يحاول إخراج ستة بنسات؛ ليدفع ثمن شرابهما.
وعندئذ صاح السائق منبهًا: «والآن أيها السادة»، ورددها الحارس، وكان من رأي الشيخ الذي يتولى الحراسة في الداخل أنه من الشذوذ الصارخ أن ينزل الناس من المركبة وهم يعرفون أن الوقت ضيق لا يتسع للنزول والصعود، ويحاول المستر بكوك التسلق من جانب، والمستر طبمن من الآخر، ويصيح المستر ونكل: «كل شيء على ما يرام.» فتنطلق المركبة، وترفع اللفاعات، وتعاد أطواق المعاطف إلى مواضعها من الأعناق، وتنقطع أصوات العجلات على الأفاريز الحجرية وتتوارى الأكواخ والدور، وتعود المركبة مارقة في طريق مكشوف، وهبات الهواء الصافي النقي تهب على الوجوه، وتدخل الفرح على النفوس، وتشيع الغبطة في الجوانح والأفئدة.
كذلك كان سفر المستر بكوك وأصحابه في المركبة إلى «دنجلي ديل»، وما إن بلغت الساعة الثالثة بعد ظهر ذلك اليوم، حتى كانوا جميعًا وقوفًا على سلم فندق «الأسد الأزرق»، فرحين سالمين، آمنين معافين؛ فقد تناولوا على الطريق قدرًا من الجعة والبراندي يكفي ليتحدوا به الصقيع الذي قيَّد الأرض بأصفاد من حديد، وراح يُضفي نسيجه البديع على الشجر، ويُلقي شباكه البيضاء على الأسوار المقامة من العوسج، وكان المستر بكوك منهمكًا عندئذٍ في عَدِّ دنان أصداف البحر الحية، والإشراف على إخراج الحوت، وإذا هو يشعر بيدٍ تجتذب في رفق حاشية معطفه، فاستدار ليرى من هذا الذي لجأ إلى هذه الطريقة في استرعاء أنظاره، فإذا هو يتبين أنه لم يكن سوى الوصيف الأثير عند المستر واردل الذي عرفه قُرَّاءُ هذه القصة الخلية من التزويق باسم اشتهر به وامتاز، وهو «الغلام البدين».
فصاح المستر بكوك: «آها.»
وقال الغلام البدين: «أها!»
وانثنى يرمق بنظره الحوت، وأصداف البحر الحية، ضاحكًا من فرح واغتباط، وقد بدا أسمن وأكثر بدانة من قبل.
وقال المستر بكوك: «حسن! إنك لتبدو متوردًا يا صديقي الصغير.»
وأجاب الغلام البدين قائلًا: «لقد كنت نائمًا أمام النار المشبوبة في غرفة الخدم هنا.»
وكان قد استدفأ بحرها حتى استحال لونُه إلى لون قمة مدخنة جديدة.
ومضى يقول: «لقد أوفدني سيدي مع عربة النقل لحمل أمتعتكم إلى البيت، وكان يريد أن يرسل بعض الخيل المسرجة، ولكنه اعتقد أنكم ستؤثِرون المشي على الأقدام؛ لأن اليوم شديد القر.»
وقال المستر بكوك في عجلة: «أي نعم، أي نعم.» فقد تذكر كيف قطعوا المسافة ذاتها سيرًا على الأقدام في مناسبة سابقة، «نعم، إننا لنفضل المشي يا سام.»
وقال المستر ولر: «نعم!»
قال: «أعن خادم المستر واردل على نقل الأمتعة إلى العربة واركب معه؛ لأننا سنذهب مشاة في الحال.»
وبعد أن فرغ المستر بكوك من هذه التوجيهات ودفع حساب السائق، انطلق مع صحابه الثلاثة في الدرب المُعَدِّ لسير المشاة وسط الحقول، وهم خفاف سراع، تاركين المستر ولر يواجه الغلام البدين لأول مرة، فلا عجب إذا انثنى سام ينظر إلى الغلام في دهشة بالغة دون أن يقول كلمة واحدة، وأخذ يربط الأمتعة في سرعة فوق العجلة، بينما وقف الغلام البدين في ناحية هادئًا وكأنما يحسب منظر المستر ولر وهو يشتغل بمفرده مشهدًا يسر الخاطر كل السرور.
وألقى سام الحقيبة القطنية الأخيرة فوق العربة قائلًا: «ها نحن أولاء قد انتهينا، كل الأمتعة قد شُحِنت على العربة.»
وقال الغلام البدين بارتياح بالغ: «نعم، كلها.»
وأجاب الغلام البدين: «شكرًا.»
وسأله سام قائلًا: «أليس في ذهنك شيء يشغل بالك، ويضني خاطرك يا أخي؟»
قال: «لا أدري.»
ومضى سام يقول: «لقد كنت عند النظر إليك أتصور أنك تعاني تباريح حب موفق لبعض النساء أو الفتيات.»
وهز الغلام البدين رأسه.
وقال سام: «حسن، إني لمسرور أن أسمع ذلك، ألا تشرب شيئًا؟»
وأجاب الغلام: «بل أحب الأكل أكثر.»
وأجاب الغلام: «أحيانًا، وعندئذٍ أحب أن أشرب قليلًا، إذا كان الصنف جيدًا.»
وقال سام: «آه، تشرب! قل لي هكذا، تعالَ معي إذن، من هنا.»
ولم يلبثنا أن وصلا إلى غرفة الشراب المخصصة بالخدم في فندق «الأسد الأزرق» وابتلع الغلام البدين كأسًا من الخمر مرة واحدة، ولم تطرف عيناه، وهى حركة رفعت مركزه كثيرًا في تقدير المستر ولر وحُسن ظنه، ولم يكد هذا يفرغ من شرب كأس مماثلة، حتى نهضا وركبا العربة، وقال الغلام البدين: «هل تعرف كيف تسوق؟»
وأجاب سام: «أظن ذلك.»
ووضع الغلام البدين العِنان في يده وقال: «هاك إذن.» وأشار إلى درب هناك قائلًا: إنه طريق مستقيم تسير فيه ولا تخطئ.
ومضى الغلام البدين يجلس بجانب السمكة الضخمة متوددًا متلطفًا، ووضع دنًّا من دنان الأصداف الحية تحت رأسه كما يضع الوسادة، ولم يلبث إلا لحظة حتى استولى النعاس عليه، وقال سام: «واللهِ إنِّي لم أرَ في الغلمان الهادئين الفاترين الذين وقعت عيني عليهم في حياتي مثل هذا الغلام فتورًا وبرودًا. هذا، اصحَ، أفقْ يا ذا البطن الرحيب!»
ولكن لم تبدُ على ذي البطن الرحيب أية أعراض توحي بأنه سيفيق من النوم، وجلس سام ولر في مقدمة العربة، وأهاب بالحصان العجوز بهزة من السرج فانطلق بهما صوب «ضيعة مانور».
وكان المستر بكوك وأصحابه في الوقت ذاته قد استطاعوا بالمشي تجديد دورتهم الدموية وتنشيطها وهم ماضون في طريقهم خفافًا فرحين، وكانت الدروب وعرة، والحشائش هشة يعلوها الصقيع، وللهواء برودة جميلة جافة منعشة، وجعلتهم سرعة اقتراب الشفق الأشهب، أو الأردوازي اللون — فذلك وصف أفضل وأدق للشفق في الجو الصقيع — يتطلعون مشرقين متلهفين على المناعم التي تنتظرهم في دار مضيفهم الجواد الكريم، وكان ذلك الأصيل أدعى ما يكون إلى إثارة الرغبة في نَفْسَي رجُلين مكتهلين، في ساحة منعزلة، أو ميدان مهجور، إلى خلع معطفيهما؛ ليلهوَا بلعبة «قفزة الضفادع» في انشراح الصدر، ومرح صادق، حتى لنعتقد جازمين أنه لو كان المستر طبمن عرض في تلك اللحظة على صديقه أن يكون «ظهرًا» ليقفز المستر بكوك من فوقه، لقبل هذا الاقتراح بمنتهى الارتياح والسرور.
ولكن المستر طبمن لم يتطوع، ولم يعرِض، فانطلق الصحاب في طريقهم يتحدثون حديثًا فكهًا مرحًا، وما إن عطفوا على زقاق كان لا بد لهم من اجتيازه، حتى ترامت إلى آذانهم أصوات كثيرة، وقبل أن يتسع الوقت للحدس ومن عسى أن يكون أصحابها، وجدوا أنفسهم في وسط الجمع الذين كانوا يرتقبون وصولهم، وكان أول ما بدا لهم من تلك الأصوات صيحة مدويَّة من شَفَتَي المستر واردل، حين بدوا للأبصار، من مكان قريب، وكانت تلك الصيحة «مرحبًا».
وكان أول من رأوه واردل نفسه، وقد بدا أكثر مرحًا من قبل، إن أمكن يكون في طبيعته المرحة مزيد. ثم رأوا بعدئذٍ بللا وصاحبها الوفي الأمين «تراندل»، وأخيرًا لمحوا «إميلي» وثماني شابات أو عشرًا، جئن جميعًا لحضور الزفاف في اليوم التالي، وقد بدون سعيدات متدللات كما تبدو الفتيات عادة في هذه المناسبات المشهودة، وهن جميعًا يملأن آفاق الحقول والدروب القريبة والبعيدة، بضوضاء ألعابهن ومراتعهن وضحكاتهن.
ولم تلبث مراسيمُ التعارف في أمثال هذه الظروف ونحوها أن تمَّت، أو بعبارة أصح، لم يلبث التعارف أن تم بغير مراسيم ولا كلفة إطلاقًا، فلم تنقضِ دقيقتان حتى كان المستر بكوك يمزح مع الفتيات اللاتي أبين أن يتخطين الحاجز الخشبي، وهو إليهن ناظر، وآثرن لجمال أقدامهن وكعوبهن الوقوف عدة دقائق لا يبغين تحركًا من مواقفهن، بل ذهب يداعبهن بكل بساطة وبلا أدنى تحفُّظ أو احتياط، كأنه يعرفهن طول العمر. ومما يجدر بنا ذكره أيضًا أن المستر سنودجراس راح يعرض على إميلي من المساعدة على تخطي ذلك الحاجز أكثر ممَّا يحتاج الأمر إليه، أو يقتضيه الخوف المطلق منه، وإن كان ثلاث أقدام ارتفاعًا، ولم يكن هناك غير حجرين اثنين للوقوف فوقهما، والوثوب منهما لتخطيه، بينما جعلت فتاة سوداء العينين في حذاء صغير جميل ذي فروة فوق مقدمه، ترسل صرخات مدوية، حتى تقدَّم المستر ونكل ليساعدها على الوثوب.
كان ذلك كله بهيجًا، يدخل السرور على النفوس، وحين تم التغلُّب على الصعاب في سبيل تخطي ذلك الحاجز، ووجد القوم أنفسهم في الأرض الفضاء، والحقول المترامية، أنشأ الشيخ واردل ينبئ المستر بكوك أنهم كانوا قد جاءوا بجمعهم لمعاينة الرياش والجهاز الذي أُعِدَّ للبيت الذي سيقيم فيه العروسان، بعد عطلة الميلاد، وعندئذٍ علَت حمرة الخجل وجهَيْ «بللا» و«تراندل»، واحمرَّت خدودهما احمرار وجه الغلام البدين عقب جلسته قبالة الموقدة في غرقة الخدم، وهمست الفتاة ذات العينين السوداوين والحذاء المكسو بالفراء بكلام في أذن «إميلي» ثم نظرت بمكرٍ إلى المستر سنودجراس، فأجابتها إميلي أنها فتاة حمقاء، وإن كانت قد تورَّدت حياءً، واصطبغ خدها بلون الأرجوان، كما شعر المستر سنودجراس — وهو شديد الحياء ككل العباقرة عادة — بحمرة الخجل تتصاعد إلى وجهه، وتبلغ قمة رأسه، وودَّ من صميم قلبه لو أن هذه الفتاة ذات العينين السوداوين والحذاء الصغير المكسوِّ بالفرو، لزمت دارها في الريف القريب، ولم تكن حاضرة معهم.
ولكن إذا كان القوم قد بدوا على تلك الصورة من الألفة والهناءة والمرح، فماذا عسى أن يكون مدى المودة والترحاب والإيناس الذي سيُستقبلون به عند وصولهم إلى الضيعة؟
لقد راح الخدم أنفسهم يبتسمون سرورًا لمشهد المستر بكوك عند وصوله، بل إن «إما» نفسها انثنت تخلع على المستر طبمن نظرة جمعت بين الحشمة والجرأة، وتوافرت فيها كل الملاحة، حتى لتكفي لأن تجعل تمثال بونابرت القائم في الردهة، ينشر ذراعيه، ويطويهما عليها محتضنًا معانقًا.
وكانت السيدة العجوز جالسة في أبهتها المألوفة في القاعة الأمامية وإن بدت غضبى؛ ومن ثَمَّ أشد ما تكون صممًا، ولم تكن من عادتها يومًا أن تخرج، وكانت ككثير من مثيلاتها من السيدات العجائز اللاتي من طرازها، ترى أن من الإجرام واقتراف «الخيانة العظمى» في البيت، أن يتقدم أحد من أفراده فيفعل شيئًا لا تستطيع هي أن تفعله، فلا عجب إذا هي جلست في مقعدها الرحيب تنظر عابسة متجهمة ما استطاعت، وإن كان ذلك كله منها على كل حال تكرمًا وبرًّا وتعطفًا.
وقال واردل لأمه: «أماه، المستر بكوك، ألا تتذكرينه؟»
وأجابت العجوز في وقار بالغ: «لا بأس، فلا تزعج المستر بكوك بشأن مخلوقة عجوز مثلي، فلم يعد أحد يعنى بي الآن، وهو شيء طبيعي.»
وطوَّحت السيدة العجوز برأسها ومرت بيديها الراعشتين على ثوبها الحريري الأزرق الفاتح؛ لتصلح من ثناياه.
وقال المستر بكوك: «لا تقولي هذا يا سيدتي، فلن أدعك تواصلين جفوة صديق قديم بهذا الشكل؛ فقد جئت خصيصًا لأستمتع بحديث طويل معك، ولعب دور ورق، لكي نُري هؤلاء الأولاد والبنات كيف يكون الرقص على أنغام الموسيقى قبل أن تنقضي ثمانٍ وأربعون ساعة أخرى من أعمارهم.»
وبدا على السيدة العجوز أنها بدأت وشيكًا ترضى، ولكنها لم تشأ أن تُظهر ذلك مرة واحدة، فانثنت تقول: «آه، لا أستطيع سماع ما يقول.»
وقال واردل: «هراء يا أم، دعي الغضب جانبًا، وأشرقي بوجهك علينا، تذكري زفاف بللا، أدخلي السرور على نفسها، أفرحي البنت المسكينة.»
وسمعت السيدة العجوز هذا كله؛ لأن شفتيها ارتجفتا حين قال ابنها ما قاله، ولكن للكبر ضيق أخلاقه، وللشيخوخة مساوئها، ولم تكن قد ثابَتْ بعدُ إلى نفسها، فعادت تصلح من ثنايا ثوبها الأزرق وتلتفت إلى المستر بكوك قائلة: «آه، يا مستر بكوك، لقد كان الناس في زمانك مختلفين كل الاختلاف عن أهل هذا الزمان عندما كنت فتاة صغيرة.»
وقال المستر بكوك: «لا شك في هذا يا سيدتي بل هذا هو السبب الذي ترينني من أجله أوثر كثيرًا البقية الباقية من السلف الصالح.»
وراح يجذب بللا إليه برفق ويقبل جبينها ويأمرها بالجلوس فوق المسند الصغير الموضوع عند قدمي السيدة العجوز، وسواء كان التعبير الذي بدا على وجه الفتاة «وهي ترفع بصرها إلى وجه جدتها، قد أثار في نفسها ذكريات تلك الأيام الخالية، أو كانت طيبة قلب المستر بكوك ولطفه قد أحدثا أثرهما في نفسها، أو مهما يكُن من الأمر؛ فإن السيدة العجوز لم تلبث أن هدأت وذاب غضبها، فأهوت على عنق حفيدتها معانقة، ولم يلبث ذلك العُبوس أن تبخر، وترك فيضًا يتدفق من دموع صامتة.
وكان القوم في تلك الليلة حلقة من المفاريح، وندوة مرح، وكانت عشرات الأدوار التي لعبها المستر بكوك والسيدة العجوز بالورق، يسودها الهدوء، وتغمرها السكينة، وكان المرح حول المنضدة المستديرة صاخبًا يملأ الأفق ضحكًا وجلبة، وطاف السقاة — بعد انصراف السيدات بوقت طويل — بأكواب النبيذ الساخن المعتق، المشعشع بالبراندي والبهار، مرة، فأخرى، فثلاثًا، وكان النوم بعد السهرة القاصفة عميقًا، وما كان أحلى الأحلام التي طافت بالعقول بعدئذٍ. إن أحلام المستر سنودجراس ظلت حائمة حول إميلي واردل، وإن المائل في أحلام المستر ونكل كان يبدو في صورة فتاة ذات عينين سوداوين، وابتسامة ماكرة فاتنة، وحذاء بديع يكسو الفراء جزأه الأعلى.
واستيقظ المستر بكوك في بكرة الصبح على طنين من الأصوات، ووقع أقدام تكفي لإيقاظ الغلام البدين نفسه من سباته العميق، فاستوى جالسًا في فراشه وأصغى إلى هذه الضوضاء، فبدا له أن الخادمات والسيدات اللاتي ينزلن في ضيافة البيت جعلن يعدون رائحات غاديات، في عجلة ظاهرة، وتعالت الأصوات طالبة ماء ساخنًا، وتكررت الصيحات في طلب إبر وخيط، وتوسلات كثيرة يحاول صاحبها كبتها وهو ينادي: «أواه! هلموا إلي لتشدوا أربطتي، ناشدتكم الله»، حتى لقد بدأ المستر بكوك في سلامة نيته، وطيب سريرته، يتصور أنه لا بد من أن حادثًا مروعًا قد وقع، فأخذ يفيق من النوم ويتذكر حفلة الزفاف، ولم يسعه عند تذكُّر هذه المناسبة الكبيرة الشأن إلا أن يتجمل بأحسن ثيابه، ويعنى ببزَّتِه، ينزل إلى قاع الإفطار.
ووجد الخادمات جميعًا في ثياب قشيبة، وجلابيبَ من الحرير القرنفلي اللون، وأقواس وعقد بيضاء اللون، تزدان بها قبعاتهن، وهن يجلن في أنحاء البيت في حال من الاضطراب والهياج تعز على الوصف، وكانت السيدة العجوز في ثوب مزركش لم يشهد النور منذ عشرين سنة، إلا ما كان ينفذ إليه من شوارد الأشعة، وخيوط الضياء المتراخية التي كانت تتسلل من ثقوب الصندوق الذي لبث راقدًا فيه طيلة تلك السنين.
وكان المستر تراندل بادي الإشراق، حسن الهندام، وإن لاح «عصبيًّا» إلى حدٍّ ما، وكان عميد العشيرة الطيب القلب يحاول أن يبدو بالغ الفرح، خالي البال، ولكن المحاولة لم تكن ناجحة، وكانت الفتيات جميعًا في دموع، وثياب من حرير أبيض، إلا اثنتين منهن حظين بمتعة مشاهدة العروسين في الطبقة العليا من البيت.
وكان البكوكيون جميعًا في أجمل مظهر، وأحسن سمت، وقد ارتفعت الأصوات الصاخبة من جانب البقعة الناضرة الممتدة أمام البيت؛ حيث اجتمع الرجال والفتيان والأيفاع والمراهقون الملحقون بخدمة المزرعة، وقد وضع كل منهم «عقدة» بيضاء في عروة ثوبه، وهم يهتفون بكل قواهم مقتدين بالمستر ونكل الذي عرف فعلًا كيف يكسب محبتهم، وترتفع مكانته في قلوبهم، بتصرفاته وحسن أسوته فيهم، كأنه واحد منهم، وابن جلدتهم، وكأنه قد وُلِدَ في أرضهم.
ولا يخفى أن الزفاف مسألة يترخَّص فيها المزاح وتباح فيها الدعابة، وإن كان في الواقع أمرًا لا مزاح فيها مطلقًا، وإنما نحن نعني ما يكون من المزاح والتنكيت على حفلاته، ونرجو أن يفهم عنا بجلاء أننا لا نُضمر سخرية خفية من الحياة الزوجية، أو نتخذها هزؤًا؛ فإن أفراحها ومسراتها لا تزال مختلطة بأسف وحسرات على مغادرة البيت الذي كانت النشأة فيه، والعش الذي درجت الأقدام الصغيرة في أرجائه، وتلك العَبرات التي يذرِفها الآباء والبنون والبنات عند الوداع، والشعور بأن العروس موشِكة أن تفارِق أعزَّ الصحاب وأحنى الخلطاء في أسعد أدوار العمر، وأصفى أيام الحياة؛ لمواجهة هموم لم تجرَّب من قبلُ، وملاقاة متاعب لم تختبر كثيرًا ولم تعرف، وغير ذلك من المشاعر والأحاسيس الطبيعية التي لا نحب أن نصِفضها حتى لا نجعل هذا الفصل من الكتاب محزنًا، والتي لا نزال نرجو ألا يظن بنا أننا منها ساخرون.
فلنقل في إيجاز إذن إن الاحتفال بالزفاف تم على يد القسيس الشيخ في كنيسة «دنجلي ديل» وإن المستر بكوك دون في سجلاتها، ولا يزال محفوظًا في خزانتها إلى اليوم، وإن الفتاة ذات العينين السوداوين وقعت اسمها بأحرف راعشة مهزوزة، وخط مرتجف، وإن توقيع إميلي، بوصفها الوصيفة الأخرى للعروس، كاد يبدو مطموسًا لا يُقرأ، وإن الاحتفال تم بجملته على وجه يستحق الإعجاب، وإن الفتيات عامة رأين أنه ليس مروعًا بالصورة التي كُنَّ يتوقعنها، وإذا كانت ذات العينين السوداوين والابتسامة الفاتنة قد راحت تقول للمستر ونكل: إنها متأكدة من أنها لن ترتضي الاستسلام لشيء مروع مخيف كهذا، فلا يزال لدينا من الأسباب القوية ما يحملنا على الاعتقاد أنها كانت على خطأ، كما يصح لنا أن نضيف إلى ذلك كله أن المستر بكوك كان أول من حيَّا العروس وهنَّأها، وأحاط جيدها وهو يحييها بسلسلة وساعة من الذهب لم تشهدهما عين بشر من قبلُ غير عين الصائغ الذي صاغهما، وعندئذٍ دقت أجراس الكنيسة أبدع دقات وأمرحها أصدية، فعاد الجميع إلى تناول طعام الفطور.
وأشار الغلام البدين إلى الموضع الذي يجب أن توضع «الكفتة» فيه.
وقال سام: «جميل جدًّا، ضع شيئًا من عيد الميلاد فيها، والطبق الثاني يُوضَع مقابلًا للأول، والآن كل شيء يبدو منسقًا ومريحًا، كما قال الأب لابنه حين قطع رأسه؛ ليعالج الحول الذي في عينه!»
ولم يكد المستر ولر ينتهي من هذه المقارنة التي ذكرها حتى تراجع خطوة أو خطوتين ليعطيها كل التأثير المطلوب، ويتفقد المعدات والتنسيقات وهو في أتم الارتياح.
وقال المستر بكوك، حين جلس الجميع إلى المائدة: «يا واردل، عليَّ بكأس من النبيذ تحية لهذا الحدث السعيد.»
وقال المستر واردل: «بكل سرور يا بني. يا جو، لعنة الله على هذا الغلام، لقد عاد إلى النوم.»
وأجاب الغلام البدين، وهو ينهض مسرعًا من ركن قصي: «كلا يا سيدي؛ لست نائمًا.»
وقال المستر واردل: «املأ كأسًا للمستر بكوك.»
قال: «سمعًا يا سيدي.»
وملأ الكأس ثم تراجع فوقف خلف مقعد سيده، ومضى يرقب من مرصده هذا حركة السكاكين والشوك وسير اللقم المختارة من الصحاف إلى الأفواه، بشيء من الفرح المكتئب الواجم الذي يحدث في النفس أبلغ الأثر …
وقال المستر بكوك: «بارك الله لك يا صديقي العزيز.»
وأجاب واردل: «ولك يا بني.»
وتقارعا الكأسين محبةً ووفاءً.
وانثنى المستر بكوك يقول للسيدة العجوز: «يا مسز واردل نحن معاشر الكبار لا مفر لنا من أن نشرب كأسًا من النبيذ معًا؛ تكريمًا لهذا الحفل البهيج.»
وكانت السيدة العجوز في تلك اللحظة جالسة جلسة العظمة والجلال، ومتخذة مكان الصدار من المائدة، في ثوبها المزركش، وعن أحد جنبيها حفيدتها العروس، وعن الآخر المستر بكوك؛ ليتولى تقطيع «الأطعمة»، ولم يكن قد رفع صوته وهو يقترح عليها شرب كأس؛ ليبلغ سمعها، ولكنها أدركت في الحال مراده، فارتشفت كأسًا ممتلئة من النبيذ، في صحته، وسعادته، وأقبلت تقص في دقة وتفصيل قصة زفافها، وتتحدث عن طراز زمانها، وهو لبس الأحذية العالية الكعب، وتروي رواياتٍ معينةً عن حياة سيدة راحلة، من غادات عصرها، تُدعى الليدي تولنجلوار، وهي بين ذلك كله تضحك من أعماق قلبها، ويشاركها في الضحك الغيد الأخريات متسائلات، فيما بينهن أي شيء في الأرض ترى الجدة العجوز تتحدث عنه، وكلما ضحكن، ضحكت هي من قلبها عشرة أمثال ضحكهن وقالت: إن هذه القصص التي روتها كانت أبدًا تُعَدُّ من أبدع القصص؛ مما جعلهن يعاودن الضحك، ويزدن السيدة العجوز انتعاشًا ومجانة.
وهنا قطعت «الكعكة»، وطِيف بها على الحلقة وادَّخرت الفتيات قطعًا منها ليضعنها تحت وساداتهن فيحلمن بالعرسان، فكان ذلك مثار خجل كثير، ومرح طويل.
وقال المستر بكوك لصديقه القديم، ذلك السيد العنيد ذي «الرأس» الجامد: «ألك في كأس من النبيذ يا مستر ولر؟»
وأجابه هذا بجِد ووقار: «بكل ارتياح يا مستر بكوك.»
وقال القسيس البر الكريم: «ألا تشركاني معكما؟»
وتبعته زوجته قائلة: «وأنا؟»
وقال آخران من أقارب الأسرة الفقراء كانا جالسين في أقصى طرف من المائدة، وكانا قد أكلا وشربا كثيرًا، وضحكا من كل شيء: «وأنا. وأنا.»
وأبدى المستر بكوك اغتباطًا صادقًا بكل الطلبات الإضافية، وعيناه تبرقان فرحًا وحبورًا.
وإذا هو ينهض فجأة قائلًا: «أيتها السيدات، أيها السادة.»
وصاح المستر ولر: «اسمعوا، أنصتوا، اسمعوا.» وقد بلغت حماسته الذروة.
وارتفع صوت المستر واردل قائلًا: «ليدخل الخدم جميعًا.»
وقد خشي أن يوجه المستر بكوك بعض اللوم أمام الناس إلى خادمه، فبادر بدعوة الخدم؛ لكي يمنعه من تأنيب كان بلا شك سيوجهه إليه.
وعاد المستر واردل يصيح قائلًا: «وأعطوا كل واحد منهم كأسًا ليشربوا النخب، والآن يا بكوك.»
وفي وسط صمت ساد القوم، وتهامس الخادمات، وارتباك الخدم فيما بينهم، بدأ المستر بكوك يلقي خطابًا.
قال: «أيتها السيدات، أيها السادة! كلا، لا أريد أن أقول سيدات وسادة، سأناديكم يا أصدقائي، يا أصدقائي الأعزاء، إذا سمحت السيدات لي بأن أستبيح هذا لنفسي.»
وهنا قوطع المستر بكوك بتصفيق عاصف من السيدات وردده السادات في أثرهن، سمع خلاله صوت ذات العينين السوداوين تقول: إنها لو استطاعت لقبلت هذا المستر بكوك العزيز، وهنا سألها المستر ونكل بجرأة: «ألا يمكن أن يتم ذلك من طريق الإنابة؟» فكان جواب ذات العينين أن قالت: «امشِ من هنا.» وإن شفعت الأمر بنظرة بليغة ما أمكن، تقول له: «إن استطعت.»
وواصل المستر بكوك الخطبة فقال: «أصدقائي الأعزاء! إنني أقترح شرب نخب العروسين بارك الله حولهما (هتاف ودموع)، وأنت يا صديقي الشاب «تراندل» أعتقد أنك فتى لا مثيل لك في أخلاقك وشهامتك ورجولتك، وأعرف عن العروس أنها فتاة محبَّبة ظريفة لطيفة كل الظرف واللطف وأنها أهل لأن تنقل إلى أفق جديد تلك السعادة التي ظلت عشرين عامًا تضفيها على كل من حولها في بيت أبيها.»
وهنا اندفع الغلام البدين في إجهاش شديد فبادر إليه المستر ولر فجذبه من طوقه فأخرجه.
«وإني لأتمنى لو أني رددت إلى عهد النضارة والشباب؛ لكي أكون لأختها بعلًا (هتاف) أما وليس هذا في الإمكان فإني لسعيد أن أكون في سن أبيها، حتى لا تذهب الظنون إلى أني أضمر نياتٍ أخرى، إذا أنا قلت: إنني معجب بالأختين معًا، محبٌّ لهما، مقدر مكانتهما خير تقدير. (هتافات وانتحابات) إن أبا العروس، صديقنا الكريم هذا، إنسان نبيل، وإني بمعرفته لفخور (هتاف شديد) فهو رجل حدب، بديع مستقل الرأي، كريم القلب، مضياف، سمح، فياض الندى (صيحات من الأقارب الرقيقي الحال لكل نعت على حدته من كل تلك النعوت، ولا سيما النعتين الأخيرين) ويقيني أن أمنيتنا جميعًا أن تستمتع ابنته بكل السعادة التي يرجوها لها، وأن يجد في تمني الهناءة لها رضى النفس، وسكينة الخاطر، وطمأنينة الروح، التي هو بها جدير كل الجدارة، فلنشرب في صحتهم، ولنرجو لهم طول العمر وفيض النعم والبركات.»
وانتهى المستر بكوك من خطبته وسط عاصفة من التصفيق، وعادت رئات الخدم وحناجرهم — تحت إمرة المستر ولر — ترسل أشد الهتافات وأبلغ الصيحات، وأقبل المستر واردل يشرب في صحة المستر بكوك، واقترح هذا أن يشرب نخب السيدة العجوز، وجاء المستر سنودجراس فطلب أن يشرب في صحة المستر واردل، وطلب هذا أن يشرب نخبه، واقترح أحد الأقارب الفقراء أن يُشارب المستر طبمن، وأقبل الآخرون منهم يقترحون الشرب في صحة المستر ونكل.
وغمرت السعادة القوم جميعًا، وضفا الفرح والمرح على الحلقة كلها، حتى فطنوا إلى اختفاء قريبين من الرقيقي الحال فجأة تحت المائدة، فأدركوا أنه قد حان الانصراف.
وعلى العشاء عادوا إلى الاجتماع، بعد الأوبة من رياضة على الأقدام اقترحها المستر واردل، مسافة خمسة وعشرين ميلًا، قام بها الرجال، لإزالة أثر الشراب الذي عاقروه على الفطور، وكان القريبان الفقيران اللذان سقطا تحت المائدة قد لزما فراشهما اليوم طوله؛ استعدادًا لمتعة المساء، ولكنهما لم يوفَّقا، فظلَّا معتكفَيْن فيه، وكانت مجانة المستر ولر قد أبقت الخدم جميعًا في مرح مستطيل، ومجانة غير منقطعة، بينما راح الفتى البدين يقسم وقته حصصًا قصيرة يتناوب فيها الأكل والنوم.
وكان العشاء في مثل المرح الذي غمر الفطور، والضوضاء التي تخللته، دون العبرات، وخلا البكاء والدموع، وجاء دور النُّقل والفاكهة، ثم المزيد من الأنخاب، وجاءت القهوة والشاي، وابتدأ الرقص.
وكانت أحسن قاعة للجلوس في الدار حجرة فسيحة مستطيلة قاتمة الزجاج، ذات مدفأة عالية، ومدخنة رحيبة، تتسع لدخول مركبة من الطراز الجديد بكل أجزائها وعجلاتها، وفي أقصى الحجرة جلس في مقصورة ظليلة تحيط بها شجرات عيد الميلاد والأعواد الناضرة، عازفان على «الكمان» من صفوة العازفين البارعين، والموسيقي الضارب على القيثار الأوحد في بلدة «ماجلتون» كلها، وفي كل ركن وجنب وزاوية قامت «ماثلات» ضخمة من الفضة، لكل واحدة منها أربعة فروع، وطوي البساط، وأنيرت الشموع، وتأججت النار في الموقدة وأزت أزيزها، ودوَّت أرجاء القاعة بالأصوات المرحة والضحكات المدوية، ولو أنَّ قومًا من السراة القدامى في هذه البلاد ارتدُّوا عند الممات حورًا وجانًّا، لكان هذا الموضع هو المكان الذي يختارونه لمجانتهم وقصفهم.
ولو أن شيئًا جاء نافلة بديعة لتزيد في جمال هذا المشهد وفتنته وبهائه، لكان ظهور المستر بكوك خالعًا غطاء ساقية لأول مرة في ذاكرات أقدم أصدقائه، هو هذه النافلة.
وسأله واردل قائلًا: «هل تنوي أن ترقص؟»
وأجاب المستر بكوك: «طبعًا، بلا شك، ألا تراني قد تهيأت لهذا الغرض؟»
وأشار إلى جوربه الحريري المخطط، وحذاء الرقص المحبوك الأربطة في قدميه.
وصاح المستر طبمن مازحًا: «أأنت تلبس جوربًا من حرير؟»
ودار المستر بكوك بحماسة إليه فقال: «ولم لا؟ يا سيدي ما المانع؟»
وأجاب المستر طبمن: «لا سبب طبعًا يمنعك من لبسه.»
وقال المستر بكوك بلهجة قاطعة: «لا أتصور يا سيدي، لا أتصور.»
وكان المستر طبمن يهم بأن يضحك، ولكنه وجد أن المسألة جد، فأمسك، وبدا عليه الهدوء، فقال: «إنه لجورب من طراز جميل.»
وأجاب المستر بكوك وقد استقرَّت عيناه على وجه صاحبه: «أرجو أن يكون كذلك، وأعتقد يا سيدي أنك لا ترى شيئًا غير مألوف من هذا الجورب، بوصفه جوربًا!»
وقال المستر طبمن: «لا شيء، دون شك، لا شيء»، ومشى مبتعدًا، ولم يلبث وجه المستر بكوك أن استعاد سماته الحنون المألوفة.
وصاح قائلًا، وهو واقف مع السيدة العجوز على حافة الحلبة، ومن فرط حماسته وشدة رغبته في الإقبال على الرقص، أخطأ أربع مرات في التقدم إلى الحلبة قبل أن يعزف العازفون: «إننا جميعًا على أتم الأهبة.»
وقال المستر واردل: «فلتبدأوا إذن في الحال، والآن.»
وبدأ العازفان يعزفان، وبدأ صاحب القيثار توقيعه، وانطلق المستر بكوك يدخل الحلبة، وإذا الأيدي تصفق والأصوات تصيح: «قف! قف!»
وقال المستر بكوك: «ما الذي جرى؟» وقد أمسك عن الرقص، حين سكنت أنغام الكمان والقيثار، ولولا ذلك لما استطاعت قوة في الأرض أن تمسكه عن المُضِيِّ في الرقص، حتى ولو شب في الدار حريق.
وصاحت الأصوات منادية: «أين أرابللا ألن؟»
وقال المستر طبمن: «وأين ونكل؟»
وإذا صوت المستر ونكل يصيح: «ها نحن أولاء.» وهو يخرج مع رفيقته الحسناء من الركن، ولم يكن من السهل، وهما خارجان من مخبئهما، معرفة أيهما كان وجهه أشد حمرة من صاحبه، أهو أم ذات العينين السوداوين؟
وقال المستر بكوك في شيء من الغضب: «شيء غريب يا ونكل، ألا تأخذ مكانك قبل الآن.»
وأجاب المستر ونكل: «لا غرابة مطلقًا.»
وقال المستر بكوك بابتسامة ذات دلالة بالغة، حين استقرت عيناه على «أرابللا»: «لم أكن أعرف أبدًا أنه شيء غريب.»
ولم تكن ثمة فسحة من الوقت للبحث في الأمر أكثر من ذلك؛ لأن الموسيقى بدأت بقوة، وانطلق المستر بكوك شابكًا يديه إلى وسط الحلبة ثم إلى نهاية الحجرة، فنصف المسافة إلى المدفأة، فعائدًا أدراجه إلى الباب، فالتفافة بالأيدي مشتبكة، فضربة الأرض بالقدم، ثم استعداد للرقصة التالية، قم رقصة أخرى، وضربة بالقدم لوزن الخطوة، وهكذا دواليك، رقصة بعد رقصة، في خفة لا مثيل لها. وأخيرًا، بعد أربع عشرة رقصة، استعفت العجوز من عدد منها، وخرجت من الحلبة في إعياء، فحلت محلها زوجة القسيس، ثم أمسكت، ومضى المستر بكوك مواصلًا الرقص وحده، حين كف الآخرون عنه، لمجرد متابعة أنغام الموسيقى وعزفها، وهو بين ذلك كله يبتسم لمراقصته ابتسامة أُنس لا يوصف.
وكان العروسان قبل أن يكلَّ المستر بكوك من الرقص بوقت طويل قد انصرفا من هذا المشهد، وكان ثمة عشاء فاخر قد تهيَّأ في الطبقة الأولى من البيت وأعقبه مجلس أُنس طيب وسمر، وعندما استيقظ المستر بكوك متأخرًا في صباح اليوم التالي، تذكَّر في صورة مرتبكة، أنه دعا نحو خمسة وأربعين شخصًا للعشاء معه في فندق «الحصان الأبيض الكبير» في أول مرة يأتون فيها إلى لندن، ولكن هذه الفكرة التي تخيلها عند يقظته من النوم كانت دليلًا واضحًا على أنه تناول شيئًا آخر غير الرياضة والرقص، في الليلة الماضية.
وقال سام لإما: «وهكذا تقيمون ألعابًا في المطبخ الليلة يا عزيزتي؟»
قالت: «نعم يا مستر ولر، كذلك جرت عادتنا في ليلة عيد الميلاد وسيدي لا ينثني عن إقامتها لأي سبب من الأسباب.»
وقال المستر ولر: «إن سيدك لا ينسى في المكارم شيئًا يا عزيزتي، لم أَرَ في حياتي رجلًا مثله في رقة شعوره ولا شاهدت سيدًا منظَّمًا بهذا الشكل.»
وقال الغلام البدين مشتركًا في الحديث: «إنَّه فعلًا كذلك، ألا تراه يربي خنازيرَ جميلةً؟» ونظر الغلام البدين إلى المستر ولر نظرة أدنى إلى نظرات أكلة اللحوم البشرية، وقد تخيل الأفخاذ المشوية والمرق، وقال سام: «أوه، هل صحوت أخيرًا؟»
وأومأ الغلام برأسه.
ومضى سام يقول له: «استمع لكلامي أيها التنين الصغير، إذا لم تقلل من نومك، وتزد من رياضتك فسوف تصبح حين تبلغ شأو الرجال عرضة لمتاعب بدنية كالتي عاناها الرجل ذو الضفيرة الطويلة!»
وقال الغلام البدين بصوت مضطرب: «وماذا صنعوا به؟!»
وأجاب المستر ولر: «سأقول لك، لقد كان من أضخم خلق الله، كان رجلًا لحيمًا شحيمًا لبث خمسًا وأربعين سنة لا تستطيع عينه أن ترى حذاءه.»
وصاحت إما قائلة: «يا ساتر يا رب!»
وواصل المستر ولر حديثه قائلًا: «نعم، يا عزيزتي، لم يكن نظره يصل يومًا إلى حذائه، ولو أنك وضعت نموذجًا تامًّا لساقيه على مائدة الطعام التي أمامه لما عرفهما، وكان من عادته أن يذهب إلى مكتبه تاركًا سلسلة ساعة ذهبية جميلة متدلية نحو قدم وربع قدم، أما الساعة ذاتها فمن الذهب أيضًا وهي موضوعة في جيبه الصغير، وهي تساوي … إنني أخشى أن أقول كم تساوي، ولكنها كانت تساوي ما يمكن أن تساويه ساعة ضخمة ثقيلة الوزن، مستديرة الشكل، ساعة «سمينة» تناسب الرجل السمين نفسه، ولها ميناء ضخم كوجهه سواء بسواء، وقال له أصدقاؤه يومًا: يحسن بك ألا تلبس هذه الساعة؛ لأنها ستغري اللصوص بسرقتك. قال: أحقًّا؟ وأجابوا قائلين: نعم. قال: فليكن، إني أود أن أرى ذلك اللص الذي يستطيع أن ينتزع هذه الساعة من مكانها؛ لأني في الواقع لن أراه، لأنها مربوطة مثبتة، وكلما أردت أن أعرف الوقت، تطلعت بعيني إلى حوانيت الخبازين. وكان يضحك من قلبه حتى ليخيل إلى الناظر أنه سيتفكك أجزاءً ثم يعاود المسير برأسه الأشيب وضفيرته المستطيلة، متدحرجًا في شارع «ستراند» وسلسلته الذهبية متدلية أكثر من قبل، والساعة الضخمة تكاد تبرز من خلال صداره الرمادي الصوف، ولم يبقَ في طول لندن وعرضها نشال لم يجرب جذب تلك السلسلة من مكانها، ولكنها تأبَّت عليهم أجمعين، والساعة أيضًا لم تنزع يومًا من موضعها، حتى سئموا أخيرًا اقتفاء خطى ذلك الشيخ الضخم الجسم في الشوارع، وعلى الأفاريز، فكان يعود إلى بيته فيضحك منهم حتى لتهتز ضفيرته اهتزاز رقاص ساعة جدار هولندية. وفي ذات يوم، بينما كان الشيخ سائرًا يتدحرج في طريقه، رأى «نشالًا» قادمًا نحوه وكان يعرف النشالين جميعًا بمجرد النظر إليهم، وهو مشتبك الذراع بذراع صبي صغير ذي رأس ضخم، فقال في نفسه: هذه لعبة أخرى، أنهما سيحاولان من جديد ولكن الحيلة لن تجوز. وانطلق يضحك ملء فيه، وإذا الصبي يترك ذراع النشال، ويندفع برأسه نحو بطن الشيخ، فانحنى هذا لحظة من فرط الألم، وهو يصيح قائلًا: «هذه جريمة قتل!» وهمس النشال في أذنه: «لا بأس يا سيدي.» وحين استقام الشيخ ورفع قامته كانت الساعة والسلسلة قد ذهبتا، وأدهى من ذلك وأنكى أن عملية الهضم اختلت لديه إلى آخر يوم في حياته. فانتبه أيها الفتى إذن لنفسك، واحرص على ألا تزداد بعد اليوم بدانة ويتراكم الشحم عليك.»
وبعد أن ختم المستر ولر هذه القصة البليغة المغزى، التي أحدثت أثرًا كبيرًا في نفس الغلام البدين انطلقوا إلى المطبخ الكبير حيث كان الخدم قد اجتمعوا جريًا على عادتهم السنوية، ليلة عيد الميلاد، وتبعًا للتقاليد التي كان آباء واردل وأسلافه يرعونها كابرًا عن كابر من قديم الزمان.
وكان المستر واردل قد عمد إلى تعليق فرع كبير من شجرة عيد الميلاد بيديه، من وسط سقف المطبخ، فلم يلبث هذا الفرع الكبير أن أثار مشهدًا من الاضطراب العام الباعث على الاغتباط والانشراح، وفي وسط هذا الهرج والمرج عمد المستر بكوك بتلك الشهامة الرائعة التي تشرف سليلة من سليلات الليدي تولنجلور ذاتها، إلى تناول يد السيدة العجوز ومشى بها حتى أوقفها تحت ذلك الفرع القدسي وأدَّى لها التحية بكل ما استوجبت من أدب واحتفال ومراسيمَ.
واستسلمت السيدة العجوز لهذا النوع العملي من الأدب بكل الوقار الذي يناسب هذا التصرف الجليل الرهيب، ولكن الفتيات اللاتي لم يستكملن التشرُّب بهذا التوقير القديم للعادات، أو اللاتي تصورن أن قيمة القبلة تغلو كثيرًا وتزداد، إذا اقتضى الظفر بها بعض التعب، رحن يتصايحن ويتدافعن ويختفين في الزوايا والأركان، مهددات ومحتجات، وأتين كل ما في وسعهن أن يأتين، إلا الانصراف من الحجرة، حتى رأين بعض الذين كانوا أقل من المستر بكوك، جرأة وإقدامًا يوشكون أن يعدلوا عن فعل ما فعله، فوجدن جميعًا — وفي الحال — أن لا فائدة من التأبِّي، ولا نفع من المقاومة، فرضين أن تُطبع القبلات على وجوههن بغير اعتراض، فقبل المستر ونكل خد ذات العينين السوداوين وقبل المستر سنودجراس وجنة إميلي، وأما المستر ولر فلم يدقق كثيرًا في وجوب الوقوف تحت الشجرة فراح يقبل «إما» والخادمات الأخريات حيث وجدهن أو حيث أمسك بهن، وأما القريبان الفقيران فذهبا يقبلان كل النساء، غير مستثنيين الدميمات من الأضياف ولا القبيحات اللاتي من فرط ارتباكهن أسرعن فوقفن تحت الشجرة بمجرد تعليقها، وهن غير شاعرات بما هن فاعلات! بينما وقف «واردل» مُوليًا ظهره للموقدة، يشهد هذا المنظر بارتياح تام، وانتهز الغلام البدين الفرصة للاستمتاع بما يشتهي، فراح يلتهم بلا استئذان ولا تردد فطيرة كانت موضوعة بعناية في مكان قريب منه ليتناولها إنسان سواه.
وسكن الصياح وبدت الوجوه متوهجة من حمرة القبل، والجدائل مضطربات، وكان المستر بكوك بعد أن قبَّل السيدة العجوز على النحو الذي وصفنا، واقفًا تحت الشجرة ينظر بسرور ظاهر على وجهه إلى كل ما كان يجري من حوله، وإذا ذات العينين السوداوين بعد همس قليل للفتيات الأخريات، تندفع فجأة فتطوق عنق المستر بكوك بذراعها، وتقبله بحنان بالغ على خده الأيسر، وقبل أن يعرف ما الخبر، أحاطت به الغيد جميعًا، فقبَّلنه واحدة بعد أخرى.
وما كان أبدعه من مشهد، وأنت ترى المستر بكوك في وسط هذا السرب من الغيد، وهو يُجذب من هاهنا، ويُشَدُّ من هاهنا، ويُقبَّل مرة من ذقنه وثانية قبلة على أنفه، وأخرى على منظاره، وتسمع قصف الضحكات التي دوَّت من كل مكان، ولكن أبدع من ذلك أيضًا أن نشهد المستر بكوك وقد عصبوا عينيه بعد قليل بمنديل حريري، وهو يجري في أرجاء الحجرة، فيصطدم مرة بالجدار، ويتعثر أخرى بالأركان، ويمر من خلال جميع مفارقات لعبة «الاستغماء» وحركاتها المضحكة، وهو في حماسة الاستمتاع بها، ثم ينتهي أخيرًا بإمساك أحد القريبين الفقيرين، فيضطر إلى رفع العصابة عن عينيه بخفة متناهية أثارت إعجاب النظارة، وتصفيق المشاهدين. وأما القريبان الرقيقا الحال فقد ذهبا يمسكان بالذين يظنان أنهم يحبون أن يُمسكوا، ولما فترت حماسة اللعبة وهدأت، وقعا في قبضة الآخرين.
وحين أحس القوم جميعًا التعب من هذه اللعبة، أقبلوا على لعبة أخرى تقتضي التقاط الزبيب من وعاء يحوي شرابًا ساخنًا، وحين تم التهاب الأنامل من الالتقاط، وفرغ الوعاء من الزبيب كله، جلسوا بقرب الموقدة الكبيرة التي تتأجج فيها النار إلى عشاء شهي، وإناء ضخم أصغر قليلًا من «طشت» الغسيل، كان التفاح السخن يئز في جوفه ويتوثب بشكل جميل، وصوت بهيج، لا تستطيع النفس مقاومة إغرائه.
وأنشأ المستر بكوك يقول وهو يدير عينه فيما حوله: «هذه حقًّا هي الرفاهية.»
وأجاب المستر واردل: إن عادتنا التي لا تتغير أن يجلس كل إنسان معنا في ليلة العيد، سادات وخدمًا على السواء، كما ترى، وننتظر حتى تدق الساعة اثنتي عشرة، معلنة حلول العيد، ونتسلى بعقد الرهان، وقص القصص. تراندل، حرك النار يا بني.
وتطاير الشرر الوهاج الوثاب عشرات ومئات، حين حركت عيدان الحطب في الموقدة، وأرسل اللهيب الأحمر وهجًا مشرقًا نفذ إلى أقصى أركان القاعة، وألقى ظله البهيج على الوجوه والطلعات.
وانثنى واردل يقول: «هيا، أغنية، أغنية العيد، سأغنيكم واحدة، ما دمت لا أجد أفضل منها.»
وصاح المستر بكوك: «مرحى!»
وعاد واردل يصيح: «املأ الكئوس، فلن يتوانى لك أن ترى قاع الإناء من خلال لون هذا الشراب البديع، قبل انقضاء ساعتين من الزمن، هيا، اترعوا الكئوس وطوفوا علينا بها، والآن فلتسمعوا الأغنية.»
وشرع الشيخ المرح بلا مقدمات، ولا كلام، وفي صوت حسن، قوي النبرات، يغني الأغنية التالية:
أغنية عيد الميلاد
وكان التصفيق لهذه الأغنية صاخبًا مدويًا؛ لأن اجتماع الأصحاب والخدم والحشم في صعيد واحد من أروع المجامع للسامعين، وكان القريبان الفقيران خاصة في حال متناهية من اللذة والطرب، وأعيد ملء الإناء الضخم، وطيف مرة أخرى بالكئوس المترعة.
وقال أحدهم مخافتًا بصوته: «يا لله! إن الجليد يسقط غزيرًا.»
وقال واردل: «الجليد يسقط! حقًّا؟»
وأجاب الرجل قائلًا: «ليلة مقرورة قاسية يا سيدي، وقد هبت ريح عاتية فدفعت بالجليد في الحقول في سحابة كثيفة بيضاء.»
وقالت السيدة العجوز متسائلة: «ماذا يقول جم؟ هل من حادث جرى؟»
وأجابها واردل قائلًا: «كلا، كلا، يا أماه! إنه يقول إن الجليد شديد، والريح نفاذة، وهو ما أشعر به فعلًا، من زفيفها الظاهر في جوف المدخنة.»
وقالت السيدة العجوز: «آه! لقد كانت الريح كذلك، والجليد كذلك، طوال السنين الخاليات، وإني لأذكر ذلك قبل وفاة أبيك المسكين بخمس سنين، وكانت ليلة عيد الميلاد أيضًا، فراح يقص علينا قصة العفاريت الذين اختطفوا العجوز جبريل جرب.»
وقال المستر بكوك: «قصة ماذا؟»
وأجاب واردل: «لا شيء، لا شيء، هي قصة عن سادن كنيسة، يظن السذج هنا أن العفاريت اختطفوه.»
وصاحت السيدة العجوز: «أتقول يظن! هل ثمة إنسان يجرؤ على تكذيبها؟ يظن! ألم تسمع منذ طفولتك أن العفاريت اختطفوه؟ أولا تعلم أنهم فعلوا ذلك حقًّا؟»
قال ضاحكًا: «ليكن يا أماه إذا شئت، لقد اختطفه العفاريت فعلًا يا بكوك، وبهذا ينتهي الأمر.»
وقال المستر بكوك: «كلا، كلا، لا تقل ينتهي؛ لأني أريد أن أعرف كيف ولماذا اختطفوه، واسمع القصة بحذافيرها حتمًا؟»
وابتسم واردل، حين رأى القوم جميعًا مقبلين برءوسهم، مرهفي الأسماع، فملأ كأسًا من الإناء وأومأ برأسه في صحة المستر بكوك، وبدأ يقص القصة التالية.
ولكن ويحنا! لقد استهوانا الحديث فمضينا في فصل طويل ناسين كل ما في قيود الرواية من فصول، وكل ما نرى لزامًا علينا أن نراعيَه من تنسيق وتبويب، فلنختم هنا هذا الفصل، لنبدأ قصة العفريت في فصل جديد.
أيتها السيدات، أيها السادة، منظر جديد، ولكن من فضلكم لا تنظروا بعين الحظوة إلى العفاريت.