الفصل التاسع والعشرون
كان في غابر الزمان، وسالف العصر والأوان، في هذا الجزء من البلاد والأوطان، ومن عهد بعيد في مطاوي الدهر، بعد أن يجعل القصة حقيقية؛ لأن أجدادنا الأولين كانوا مؤمنين بها كل الإيمان. كان يعيش رجل يدعى «جبريل جرب» يشتغل في كنيسة البلدة القديمة سادنًا وحفار قبور، ولا يستتبع قيام امرئ بسدانة الكنيسة، والعيش أبدًا في وسط معالم الموت وشاراته ورموزه، أن يكون إنسانًا حزينًا، مربدًّا، كئيبًا؛ فإن معاشر حفاري القبور هم أكثر أهل الدنيا مرحًا، وقد كان لي يومًا شرف العلاقة الوثيقة برجل صموت، معقود اللسان، ولكنه إذا عاد من عمله، وخلا إلى حياته الخاصة، كان الفكه والمرح والممارح، كأي عابث هازل لا يقيم للدنيا وزنًا ولا يحمل للحياة همًّا، ويغني ما شاء أن يغني، حافظًا أغنية، لا يتطرق إلى ذاكرته نسيان، ويشتف الكأس المترعة مرة واحدة دون أن يتمهل ليتمالك أنفاسه.
ولكن رغم هذه السوابق المدللة على العكس، كان «جبريل جرب» رجلًا سيئ الحال، عبوسًا مربدًّا، منطويًا على نفسه، لا أنيس له غير زجاجة قديمة ذات غطاء من ورق الصفصاف المجدول قد أثبتها في جيب صداره الرحيب، وهو ينظر إلى كل وجه متهلِّل مشرق يمر به نظرة حقد وشر، حتى ليصعب عليك أن تلقاه ولا تحس أن لقاءه مُعْقِبٌ أمرًا غير محمود.
ففي ليلة عيد الميلاد، في ذات سنة من السنين، تنكَّب جبريل جرب فأسه، قبل الشفق بقليل، وأشعل مصباحه، وانطلق صوب المقبرة القديمة؛ فقد كان عليه أن يمهد قبرًا لميت سيدفن في الصباح، وكان يشعر بضيق صدر، فظن أن الإقبال على العمل في الحال قد يذهب بضجره، ويصلح مزاجه، وفيما كان منطلقًا في وجهه، مخترقًا ذلك الدرب القديم، إذ أبصر وهج النيران المستعرة في المواقد، من خلال نوافذ الدور وشرفاتها، وسمع ضحكات الذين اجتمعوا فجلسوا من حولها، وبلغت أذنه صيحاتهم المرحة في مجالسهم منها، ولمح الاستعدادات القائمة في ضجيج وصخب لمباهج اليوم التالي، وهبَّت على أنفه روائح الأطعمة الشهية، وهى تتصاعد كالسحب من نوافذ المطابخ وتتعالى ذوائبها كالغمام.
كان ذلك كله قرحة في صدره، وغمة في نفسه، وحين شاهد جموعًا من الولدان يخرجون من البيوت متوثِّبِين طافرين، وينطلقون في الطريق قافزين؛ ليعبروه إلى العُدوة الأخرى، فإذا هم قبل أن يبلغوها ليطرقوا الأبواب، يلتقون ببضعة صبيان جعد الرءوس، أشقياء، يبادرونهم، ويزدحمون من حولهم، وهم صاعدون بهم إلى الدور لقضاء المساء في ألعاب العيد، راح جبريل يكشر عن ابتسامة مخيفة، ويمسك بمقبض فأسه إمساكة قوية، وقد تخيل عندئذٍ الحصبة، والحمى القرمزية، والقلاع، والسعال الديكي، وجملة أخرى غيرها من وسائل العزاء له والترويح.
وفي هذه الحالة النفسية السعيدة، انطلق جبريل في سبيله، يرد بزمجرة قصيرة متجهمة، على تحيات الجيران الذين كانوا يمرون عليه من لحظة إلى أخرى، حتى عطف على الزقاق المعتم المؤدي إلى المقبرة، وكان يتطلَّع إلى بلوغ الزقاق المظلم؛ لأنه موضع لطيف قاتم محزن، لا يأنس الناس إلى غشيانه إلا في رابعة النهار، ومشرق الشمس، فلا عجب إذا هو تذمر وغضب؛ إذ سمع صبيًّا يرفع الصوت بأغنية لطيفة من أغاني عيد الميلاد، في ذلك الموضع الرهيب الذي كان يُدعى «زقاق النعوش» منذ أيام الكنيسة القديمة، وعهد الرهبان الحليقي الرءوس.
وكلما تقدم جبريل في طريقه وبدا الصوت أقرب إليه شيئًا فشيئًا، تبيَّن له أنه منبعث من غلام صغير كان يسير مسرعًا ليوافي جموعًا من الغلمان في الشارع القديم، فأراد أن يستأنس بصوته من ناحية، وأن يعد نفسه لهذه المناسبة المرتقبة، بإطلاق صوته بتلك الأغنية قدر ما وسعت رئتاه.
وانتظر جبريل حتى رأى الغلام مقتربًا، فاختفى في ركن، ثم وثب عليه من مكمنه، فضربه بمصباحه خمس ضربات أو ستًّا فوق أم ناصيته؛ ليعلمه درسًا في الغض من صوته، وبينما انطلق الغلام مسرعًا ويده فوق رأسه يغني لحنًا مختلفًا عن غنائه السابق، راح جبريل يضحك مسرورًا، ويدخل المقبرة، ويغلق بابها في أثره.
ونضا عنه رداءه، ووضع مصباحه، وأقبل على الجدث الذي لم يستكمل، فانكمش في تمهيده ساعة أو نحوها، وهو مستروح إلى العمل ناشط، ولكن الأرض كانت صلبة من أثر الجليد، فلم يكن شقها بالعمل الهين، ولا إزالة ترابها بالأمر اليسير، وكان القمر بازغًا، ولكنه كان في أوائله، فكان الضياء الذي يرسله على القبر ضعيفًا؛ فقد كان اللحد في ظل جدار الكنيسة، وكانت هذه العوائق في أي وقت آخر من شأنها أن تتعبه وتفسد عليه مزاجه، ولكنه كان في تلك اللحظة مسرورًا لأنه أوقف الغلام الصغير عن الغناء، فلم يكترث كثيرًا ببطء عمله، وانثنى ينظر في جوف اللحد حين اكتفى بذلك القدر من العمل تلك الليلة، وهو في اغتباط بشع مغمغمًا وهو يجمع أدواته.
ومضى جبريل جرب يضحك، وهو يقتعد جندلًا من جنادل القبور كان مستقره المحبوب، كلما أراح من العمل، وأخرج من جيبه الزجاجة الملففة بِعِيدان الصفصاف المجدول، وهو يقول: نعش في عيد الميلاد، وصندوق رفات، هوه! هوه! هوه!
وإذا صوت ينبعث من خلفه مرددًا: هوه! هوه! هوه! وتمهل جبريل في شيء من الفزع، وهو يرفع الزجاجة إلى شفتيه، وتلفت حوله، فوجد أن جوف أقدم قبر من القبور المحيطة به لا يقل هدوءًا وسكونًا عن فناء المقبرة كلها في ضياء القمر الشاحب، ورأى الجليد يبرق فوق اللحود، ويتلألأ كصفوف من الدرر، بين النقوش الحجرية في فناء الكنيسة القديمة، والثلوج راقدة صلبة، جعدة، مجدولة، فوق أديم الثرى، أو منتشرة فوق أكوام التراب المجترف من الحفر، بيضًا نواصع كالأغطية، حتى لكأن جثث الموتى رواقد عندها، وتلك الأغطية هي أكفانها، فلا حفيف يمكن أن يسمع من خلال ذلك السكون العميق الذي يغمر هذا المشهد الرهيب، كأن الأصوات ذاتها قد تجمدت فيه، فكل شيء ثَمَّ متجمد بارد صامت لا نأمة فيه.
فعاد جبريل يرفع الزجاجة إلى شفتيه وهو قائل لنفسه: «لقد كان ذلك الصوت بلا شك رجع الصدى.»
وقال صوت أجش: «كلا، لم يكن كذلك.»
وهنا أجفل جبريل، ووقف جامدًا في مكانه من فرط الدهشة والروع؛ فقد استقرت عيناه على شبح جعل الدم يجمد في عروقه.
لقد رأى على جندل قائم غير بعيد منه، شبحًا غريبًا عن أشباح هذه الدنيا، وقد جلس فوق الجندل، ولم يدع ساقيه الطويلتين الغريبتين تصلان إلى الأرض، بل طواهما من تحته، طية عجيبة متناهية في العجب، وكانت ذراعاه المفتولتان عاريتين، ويداه مستقرتين فوق ركبتيه، وعلى بدنه القصير المستدير غطاء محبوك مزدان بزخارف صغيرة، وقباء قصير متدلٍّ خلف ظهره، وقد قسم طوق رقبته قممًا غرائب تقوم مقام الطوق المغضَّن ذي الثنايا المتعددة، وحذاؤه مرتفع إلى أعلى عند أصابع قدميه، كأطراف محددة، وفوق رأسه قبعة عريضة الحاشية، تزينها ريشة واحدة، وقد كساها الجليد بياضًا، وكأنما قد جلس فوق ذلك الجندل بالذات مستريحًا منذ مائتي عام أو ثلاثمائة، ساكن الأوصال في أتم الهدوء، يمد لسانه مدة السخرية، ويبتسم لجبريل جرب ابتسامة لا يتواتى مثلها إلا لعفريت.
وقال العفريت: «لم يكن رجع الصدى.»
وكأنما أصاب الفالج ذلك اللحَّاد، فوقف لا يحير جوابًا.
وقال العفريت عابسًا: «ماذا تفعل هنا في ليلة عيد الميلاد؟»
وقال جبريل جرب بصوت متلعثم: «جئت أحفر قبرًا يا سيدي.»
وصاح العفريت به: «أي إنسان هذا الذي يهيم بين القبور والأجداث في ليلة كهذه؟»
وإذا أصوات موحشة ترتفع صائحة: «جبريل جرب! جبريل جرب!» حتى ملأ عزيفها جوانب المقبرة كلها، ووقف جبريل يتلفت من خيفة حوله، ولكنه لم يبصر شيئًا!
وقال العفريت: «وأي شراب تحوي هذه الزجاجة؟»
وأجاب سادن الكنيسة وهو أشد ارتجافًا من قبلُ: «إنه شراب الهولاندز يا سيدي.»
وكان اشتداد رعبه لأنه اشترى ذلك الشراب من المهربين فخشي أن يكون هذا السائل من موظفي الجمارك في دنيا العفاريت!
وقال العفريت: «ومن هذا الذي يشرب الهولاندز وحده، ويعاقره في مقبرة، ويتعاطاه في ليلة كهذه؟»
وعادت الأصوات تتصايح: «جبريل جرب! جبريل جرب!»
ونظر العفريت نظرة خبث إلى السادن المروع، ثم رفع صوته قائلًا: «ومن هو إذن غنيمتنا العادلة؟»
وعن هذا السؤال انبعثت الأصوات الخفية تجيب: «جبريل جرب! جبريل جرب!» كأنها فرقة من المنشدين يغنون على أنغام الأرغن في صحن الكنيسة لحنًا خيل إليه أن ريحًا هوجاء قد حملته إلى أذنيه، ثم تلاشت، وهي في طريقها عابرة.
وابتسم العفريت ابتسامة أعرض من الأولى وهو يقول: «ما قولك في هذا يا جبريل؟»
ولهث اللحَّاد مختنق الأنفاس.
وعاد العفريت يقول: «ما رأيك في هذا جبريل؟» وراح يركل الهواء بقدميه على جانبي الجندل، وينظر إلى الأطراف المحددة من نعليه راضيًا مغتبطًا، كأنه يتأمل أحدث طراز من أحذية الولنجتون في حوانيت شارع بوند.
وأجاب السادن وهو يكاد يموت رعبًا: «إن هذا لغريب جدًّا يا سيدي، وجميل جدًّا، ولكني أظن أنه يحسن بي أن أعود إلى العمل لكي أتمه، من فضلك يا سيدي.»
وقال العفريت: «إلى العمل؟ أي عمل؟!»
وتلعثم اللحاد قائلًا: «القبر يا سيدي، تمهيد القبر.»
وقال العفريت: «أوه! القبر! ولكن من الذي يصنع القبور في وقت يفرح فيه الناس جميعًا ويلهون، ويجد في حفرها لذة وسرورًا؟»
وعندئذٍ ارتفعت تلك الأصوات المجهولة صائحة: «جبريل جرب. جبريل جرب.»
وقال العفريت، وهو يمد لسانه ساخرًا أكثر من قبل — ويا له من لسان متناهي العجب: «أخشى أن يكون أصحابي يريدونك يا جبريل.»
وأجاب السادن المفزوع المروع: «بعد إذنكم يا سيدي، لا أظنهم يستطيعون يا سيدي؛ لأنهم لا يعرفونني، ولا أحسب هؤلاء السادات قد رأوني في حياتهم يا سيدي.»
وقال العفريت: «أوه، بل لقد رأوك، إننا نعرف الرجل الكاشر العابث المزمجر الذي جاء يجتاز الطريق العام في هذه الليلة، وهو ينظر نظرات سوء وشر إلى الصبيان والوِلدان، ويشدد قبضة يده على فأسه الذي يحفر القبور به للموتى الذاهبين. إننا نعرف الرجل الذي ضرب الغلام، والحقد منه يأكل قلبه، لا لذنب جناه غير شعوره بالفرح، وهو لا يشعر بشيء منه، إننا نعرفه، إننا نعرفه.»
وأرسل العفريت عندئذ ضحكة عالية صافرة ردَّدتها الأصدية عشرين ضعفًا، وراح يلقي بساقيه في الهواء، ويقف فوق هامته، أو بعبارة أصح، على طرف قبعته العريضة الحاشية كأنها بلاطة سكر، وفوق حافة الجندل الضيقة، وانطلق في انقلابة عجيبة، متناهية في خفة الحركة، ثم هوى منها عند قدمي اللحاد فاستقر متخذًا ذلك الموضع الذي يتخذه معاشر الحائكين عامة فوق دكة الحانوت.
وقال السادن، وهو يحاول أن يتحرك من مكانه: «أخشى يا سيدي أن أكون مضطرًّا إلى تركك.»
وقال العفريت: «آه! هذا شراب مدفئ حقًّا، هاتوا منه ها! ها! ها!»
وفيما كان العفريت مسترسلًا في هذا الضحك، لمح السادن ضياءً باهرًا ينبعث لحظة واحدة من نوافذ الكنيسة كأن البناء كله قد أضاء، ثم توارى ذلك الضوء، وطرق سمعه أنغام من الأرغن، وإذا صفوف من العفاريت تشبه جميعًا هذا العفريت الذي رآه أول مرة، وهي تتدفق على الفناء، وتلعب لعبة «الضفادع القافزة» مع جنادل القبور وأحجارها، لا تقف لحظة حتى تتمالك أنفاسها، بل «قافزة» فوق ظهور أشدها طولًا واحدًا بعد الآخر ببراعة متناهية.
وكان العفريت الأول أعجب قافز، ولم يكن أحد من العفاريت الآخرين يجرؤ على الدنو منه، واستطاع اللحَّاد على فرط ما استولى عليه من الرعب والرهبة أن يتبين أن العفاريت الآخرين لبثوا قانعين بالقفز فوق القبور العامة المألوفة الأحجام، بينما ذهب العفريت الأول يقفز فوق القبور الوجيهة ذات القبقاب، وفوق السقوف الحديدية، وغيرها بكل سهولة، كأنها أعمدة المصابيح في الشوارع العامة.
وأخيرًا بلغت هذه اللعبة ذروة الحماسة، وأخذ الأرغن يسرع في عزفه، وتتعالى أنغامه، والعفاريت مقبلة ترقص أشد من قبل وتقفز وتنقلب رءوسًا على الأعقاب فوق أديم الأرض، ثم تثِب فوق جنادل القبور كالكرات، فكان عقل اللَّحَّاد يدور معها في مثل سرعة حركاتها، وساقاه ترعشان من تحته، كلما رأى الأرواح تطير أمام عينيه، وإذا الملك العفريت يندفع فجأة نحوه ويلقي يده على طوق رقبته، ثم يهبط به إلى أعماق الأرض.
وعندما وجد جبريل جرب فسحة من الوقت ليسترد أنفاسه التي ذهبت بها هبطته السريعة، تبين له أنه في مكان أشبه بكهف رحيب تحيط به من كل جانب جموع من العفاريت قباح الخلقة رهيبي السمات، ورأى في بهرة القاعة، على منصة مرتفعة، صديقه الذي شهده في فناء المقبرة، وقد وقف هو نفسه بجانبه لا يعير حراكًا.
وقال ملك العفاريت: «البرد شديد الليلة، آتونا بكأس من شراب دفئ.»
وما إن صدر هذا الأمر، حتى انبرى ستة من العفاريت لا يفتر الابتسام عن وجوههم، وقد بدا لخاطر جبريل أنهم رجال بلاط ذلك الملك، فانصرفوا مسرعين، ثم ما لبثوا أن عادوا بقدَح كبير يحوي شرابًا كالنار فتقدموا به إلى الملك.
وقال العفريت: «آه! هذا شراب مدفئ حقًّا، هاتوا زجاجة للمستر جرب.»
وكان خداه ونحره شفافين حين تناول الكأس فألقى بذلك اللهب في جوفه.
وقد حاول السادن التعس عبثًا أن يحتج بأنه ليس من عادته أن يتناول شيئًا دفئًا في الليل؛ فقد تقدم منه عفريت فأمسك به، بينما مضى آخر يسكب الشراب الناري الملتهب في حلقه، ووقف العفاريت الآخرون يضحكون منه وهو يسعل ويختنق ويكفكف الدموع الغزار التي فاضت من عينيه على أثر ابتلاع ذلك الشراب المحرق.
وقال الملك وهو يحرك بشكل غريب ركن قبعته العريضة الحاشية في عين السادن، ويحدث له بتلك الحركة أشد الألم: «والآن، أروا هذا الرجل أخا البؤس والعبوس والوجوم بعض الصور التي في مستودعنا الكبير.»
وما كاد العفريت يقول ذلك حتى انجابت سحابة كثيفة كانت تحجب الركن القَصِيَّ من الكهف، فكشفت شيئًا فشيئًا — على مسافة بعيدة — عن غرفة صغيرة قليلة الأثاث، ولكنها نظيفة منسقة، وإذا مشهد جمع من الولدان قد احتشدوا حول نار وهَّاجة، متعلقين بثياب أمهاتهم، راقصين طافرين حول كرسيها، وكانت الأم تقوم من مجلسها بين لحظة وأخرى وتزيح الستار عن النافذة، كأنما ترتقب شيئًا معينًا، وكان على المائدة طعام يسير مهيأ للآكلين، وبجانب النار مقعد ذو مساند، وارتفع عندئذٍ دق الباب، فتقدمت الأم ففتحته، والولدان من حولها محيطون، وهم يصفقون فرحًا، حين رأوا أباهم عليهم مقبلًا، وهو مبلل الثياب، بادي اللغوب، ينفض الثلج عن ردائه، والولدان حوله يمسكون بقبائه، وقبعته، وعصاه وقفازه، بحماسة بالغة، وما إن جلس إلى طعامه قبالة النار، حتى تقدم الأولاد فتسلقوا ركبتيه، بينما جلست الأم بجانبه وقد غمرتهم جميعًا السعادة، وسادهم الرغد.
ولكن لم يلبث هذا المشهد أن تغيَّر، بشكل لا يكاد يحس، فإذا هو يتحول إلى مخدع صغير، حيث كان أجمل طفل فيهم وأصغرهم سنًّا قد رقد في سكرات الموت محضورًا، ذهبت حمرة الورد من خديه، وضياء البصر من عينيه، وإذا هو يلفظ النفس الأخير، في اللحظة ذاتها التي راح اللَّحَّاد ينظر فيها إليه، باهتمام لم يشعر بمثله في يوم من الأيام ولا عرف كنهه مرة في حياته، وإذا إخوته وأخواته الصغار يزدحمون حول فراشه الصغير، ويمسكون بيده الدقيقة، المتبردة، المتراخية، ولكنهم يتراجعون منزَوِين من لمستها، ناظرين إلى وجهه المستدق نظرات رهبة وخوف؛ فقد أدركوا أنه قد مات، وإن كان يبدو هادئًا ساكنًا كعهدهم به، ويلوح نائمًا في سلام نومة الطفل الجميل، وعرفوا أنه ملك من السماء المليئة بالنور والسعادة والنعيم، يطل عليهم، ويحفهم ببركته.
وعادت السحابة الكثيفة تتلاشى رويدًا، وتكشف عن صورة أخرى، صورة بدا فيها الأبوان وقد أدركهما الكبر، وأصبحا عاجزين لا حول لهما ولا قوة، وقد نقص عدد الذين يحيطون بهما إلى أكثر من النصف وإن تجلى الرضى والبشر على كل وجه، وبرقا في كل عين، وهم حاشدون حول الموقدة، يسمعون أو يقصون قصصًا قديمة عن أيامهم الخالية، وما لبث الأب أن توارى في قبره، وتبعته شريكته في جملة همومه، وسائر متاعبه، وجاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، وهم قليل، فجثوا عند قبرهما، ورووا العشب الأخضر الذي يكسوه بدموعهم، ثم نهضوا منصرفين في حزن وأسى، لا في ولولة مريرة، ولا إعوال يائس؛ لأنهم عرفوا أنهم سيلتقون بهما في يوم من الأيام، وانطلقوا في غمار هذا العالم الصاخب مستعيدين قناعتهم، مستردين رضاهم وهناءتهم وبشرهم، ولم تلبث السحابة أن استقرت على الصورة لتحجبها عن عين اللَّحَّاد.
وقال العفريت وهو يدير وجهه العريض إليه: «ما رأيك في هذا؟»
فغمغم جبريل شيئًا يوحي بأنه يريد أن يقول إنه جميل، وقد بدا خجلان مستحييًا، حين رأى العفريت يرقد بعينيه المتقدتين.
ومضى العفريت يقول في لهجة احتقار شديد: «أيها الإنسان التعس، أنت يا هذا!» وبدا أنه يريد أن يزيد، ولكن الغضب الشديد خنق صوته فلم ينطق بل رفع إحدى ساقيه اللدنتين، فوق رأس السادن قليلًا؛ ليستوثق من تسديدها، وراح يركله ركلة قوية متقنة، ولم يلبث العفاريت جميعًا على أثرها أن أحاطوا به ومضوا يركلونه ركلًا، بلا رحمة، كما يفعل عادة رجال بلاط الملوك في هذه الأرض، يركلون من يركله الملوك، ويعانقون من يعانقونهم.
وقال الملك لأتباعه: «أروه مزيدًا.»
وانجابت السحابة مرة أخرى، كاشفة عن مشهد أرض جميلة، لا يزال مثلها إلى اليوم، على مبعدة نصف ميل من كنيسة تلك القرية القديمة، وإذا الشمس في كبِد السماء الصافية الزرقاء الأديم ساطعة، والماء على ضيائها متلألئ الصفحة، والشجر يلوح أكثر نضرة، والأزاهر أوفر جمالًا، من أشعتها المحيية الباهرة، وخرير الجداول عذب الوقع في السمع، وللشجر حفيف رفيق على هبة الأنسام التي راحت تغمغم بين الأوراق والأفنان، والطير شادية فوق الأغصان، والقنبرة ترسل من أجواز الفضاء تحية الصباح. إي والله، لقد كان يوم صبح يوم صيف ساطع الأنوار، عباق الشذى، تدب الحياة منه في كل عود، وتتجلى على كل فنن، والنمل متسلل إلى جهد يومه، والفراشة ترفرف بجناحيها وتستدفئ بأشعة الشمس الضاحية، وملايين الحشرات تنشر أجنحتها الشفافة، وتمرح بحياتها الهنية على قصر آجالها، والإنسان يمشي في مناكبها، متألق النفس من جمال مشاهدها، والسعادة والروعة غامرتان لكل مكان.
وعاد ملك العفاريت يقول بلهجة احتقار أشد من الأولى: «إنك لإنسان حقير!» وطوح بساقه في الفضاء وأهوى بها فوق كتفيه، واحتذى الأتباع حذوه.
وطفقت السحابة تنجاب وتنكشف، وتعددت الدروس التي لقنت لجبريل جرب وتوالت، وكانت كتفاه في ألم شديد من توالي أقدام العفاريت، ولكنه مع ذلك ينظر مشدوهًا مشوقًا إلى مزيد، وما عتم أن رأى الناس دائبين على العمل، قانعين بالخبز القليل الذي يكسبونه من الجد والكد، سعداء فرحين، وبدا له أن وجه الطبيعة الجميل العذب البديع كان لأشدهم جهالة مصدرًا لمرح لا ينضب، وفرح لا ينفد معينه، ووجد الذين قلَّت تغذيتهم، ورقَّت حالهم، فرحين مع الحرمان، متغلبين على صنوف من الآلام كانت أدعى إلى أن تهد قوى أناس أشد منهم بأسًا، وأصلب منهم عيدانًا، لا لشيء سوى أن صدورهم ملأى بكل مطالب السعادة والقناعة والرضا بالحياة، ورأى النساء — وهن أرق مخلوقات الله كلها كيانًا، وأهشها وأضعفها بنيانًا — أسمى ما يكُنَّ في الغالب صبرًا على الحزن، وأقوى ما يكنَّ على احتمال المحن وملاقاة الخطوب؛ لأن في أعماق أفئدتهن ينابيع ثجاجة من الحب والتفاني والإيثار، وفوق هذا وذاك لقد تبين أن أمثاله الذين ينظرون نظر الحقد إلى مرح الآخرين، هم أخبث الأعشاب على وجه الأرض، وانتهى به التفكير في خير الحياة وشرها، إلى القطع بأن حياتنا الدنيا هي بعد ذلك كله حياة طيبة تستحق الرضا بها، وتقتضي منا احترامها وإكبار شأنها، ولكنه ما كاد يخلص إلى هذا الرأي، حتى خُيِّلَ إليه أن تلك السحابة التي أطبقت على المشهد الأخير، ترامت إليه فاستقرت على مشاعره، وأسلمته إلى نوم عميق، وأخذ العفاريت يتوارَوْن واحدًا بعد واحد من عينيه، وأنه ما كاد آخر عفريت منهم يختفي عن ناظره، حتى هبط في سبات شديد.
وكان النهار قد طلع حين صحا جبريل جرب من نومه فوجد نفسه مستلقيًا على حجارة القبر في فناء المقبرة والزجاجة فارغة بجانبه، ورداءه وفأسه ومصباحه قد ارتدَّتْ بيضاء من جليد الليلة الماضية المتناثر فوق أديم الثرى حوله، ورأى الحجر الذي كان العفريت الأول يقتعده، قائمًا على حاله كما كان من قبل، واللحد الذي كان يعمل على إعداده، لا يزال في موضعه غير بعيد منه، فبدأ يشك في حقيقة ما وقع له، ولكن حدة الألم الذي كان يشعر به في كتفيه، حين هم بالنهوض من موضعه، أكدت له أن ركل العفاريت لم يكن في الحق من نسج الخيال ولكنه عاد يستريب ويتشكك حين لم يرَ آثارًا لمواقع أقدام على الجليد الذي كان العفاريت يلعبون فوقه لعبة «الضفادع القافزة»، وإذا هو لا يلبث أن يرد السبب إلى ما تذكره وسمع من قبل به، وهو أن العفاريت «أرواح، لا تترك آثارًا ظاهرة خلفها».
وكذلك استوى جبريل على ساقيه قدر استطاعته؛ لِمَا كان يحسه من الألم في ظهره، ونثر الثلوج المتراكمة عن ردائه، فلبسه، وولى وجهه شطر القرية.
ولكنه عاد خلقًا جديدًا، وإنسانًا آخر لا صلة له بماضيه، ولم يُطِقْ فكرةَ العودة إلى موضع لا تقابل فيه ندامته إلا بالسخرية، ولا صلاح أمره إلا بالتكذيب، فوقف بضع لحظات مترددًا، ثم انطلق هائمًا على وجهه، ويلتمس خبزه أينما وجد إليه سبيلًا.
وعثر الناس في ذلك اليوم بالمصباح والفأس والزجاجة في فناء المقبرة، وتضاربت الآراء كثيرًا فيما عسى أن يكون قد جرى لذلك السادن، ولكن لم يلبث القوم أن قطعوا بأن العفاريت اختطفوه اختطافًا، ولم يعدموا خلقًا منهم تقدموا للشهادة بأنهم رأوه رأي العين وهو مارق في أجواز الفضاء فوق صهوة حصان أعور كستنائي اللون، قائمتاه الخلفيتان ساقا ليث، وذيله ذنب دب، فصدقوا الرواية في النهاية، وآمنوا بها إيمانًا، واعتاد السادن الجديد أن يعرض على الفضوليين لقاء أجر زهيد قطعة كبيرة من دوارة الرياح، قال: إن الحصان أطارها عرَضًا من مكانها بركلة من قدمه، وهو طائر في الفضاء، فالتقطها من أرض المقبرة بعد عام أو عامين من ذلك الحادث.
وللأسف لم تلبث هذه الأقاصيص أن اضطربت قليلًا بعودة جبريل جرب نفسه إلى الظهور، بعد أن ذهب أمره نسيًا منسيًّا، عقب انفراط عشر سنين، عاد شيخًا مهلهلًا قانعًا يشكو النقرس، فقص ما جرى له للقسيس، وللعمدة أيضًا، ولكن القصة بدأت على مر الزمان تروى للتاريخ في تلك الصورة ذاتها التي ظلت تتردد إلى يومنا هذا، وأما المؤمنون بقصة «دوارة الرياح، التي أطارها الحصان من مكانها؛ فقد خالجهم الشك مرة في صحتها، ولكن تبين أنه لم يكن من السهل إقناعهم بالعدول عن شكهم، فراحوا يتراءون عقلاء ما استطاعوا، ويهزون أكتافهم، ويتحسسون بأيديهم جباههم، ويغمغمون بكلام يوحي بأن جبريل جرب شرب الزجاجة كلها، فاستولى النوم عليه فوق الحجر، ومضوا يعللون روايته لمشهد العفاريت في الكهف بقولهم: إنه رأى الدنيا وخبرها، وعرف خيرها وشرها. فاستقام، ورجع عمَّا كان منه في ماضيه، ولكن هذا الرأي لم يجد يومًا مصدقين له أو مؤيدين، فلم تلبث الأصوات أن طوته. ومهما يكن من الأمر، فقد ظل جبريل جرب يشكو النقرس إلى نهاية أيامه، وبقيت هذه القصة منطوية على مغزى واحد، إن لم تكن فيها عبرة أبلغ، ودرس أصلح دلالة، وهذا المغزى هو أنه إذا بدا امرؤ في عيد الميلاد عَبوسًا متجهمًا، منفردًا عن الناس بشرابه، فليعلم أي منقلب سينقلب، مهما كانت الأرواح صالحة طيبة، أو كانت أبعد كثيرًا من قيام الدليل على ظهورها، كتلك التي شاهدها جبريل جرب في كهف العفاريت.