الفصل الحادي والثلاثون
تقوم في مختلف أَزِقَّةِ دار القضاء، وعديد زواياه، حجرات مظلمة قذرة، متناثرة يدخلها ويخرج منها، في كل صباح، خلال أيام العطلة القضائية، وزلفًا من الليل، في موسم العمل، فيض لا ينقطع من كتبة المحامين، وهم في عجلة ظاهرة، متأبطون ملفات من الأوراق، أو داسُّون شيئًا منها في جيوبهم، حتى لتبدو منها أطراف لها وذيول.
ومنهم الكاتب بمرتَّب، سواء كان عمله داخل المكتب أو خارجه، وهو الذي ينفق الشطر الأكبر من الثلاثين شلنًا التي يتقاضاها في الأسبوع على ملذاته الخاصة وزينته الشخصية، ويختلف بنصف الأجور إلى مسرح أدلفي ثلاث مرات على الأقل في كل أسبوع، ثم يقضي بقية الليل بعد ذلك في القصف والشراب في الحانات والأقبية، وقصارى القول فيه إنه صورة قذرة هزلية للطراز الذي انتهى من ستة شهور.
وهناك أيضًا الكاتب النَّسَّاخ الذي بلغ منتصف العمر، وله أسرة كبيرة، ولا يبدو في ثوب رثٍّ، وأكثر ما يلوح سكران منزوفًا من الشراب.
ويلي هؤلاء صبيان الكتبة الحديثو العهد بارتداء السترة المسبغة، والذين يشعرون بالسخرية من الأولاد الذين لا يزالون يتعلمون في المدارس، ويعودون ليلًا إلى بيوتهم للاستمتاع بأكل اللحم وشرب النبيذ، ويظنون أن لا شيء في العالم غير لذة «الحياة» وأن هناك من الأنواع والصنوف ما لا يتسع المجال لتلخيصه وشرحه، ولكنهم جميعًا على كثرة ضروبهم ومراتبهم يشاهَدون في ساعات العمل ومواقيته رائحين غادين في عجلة بين تلك الأماكن التي أسلفنا ذكرها.
وهذه الزوايا المنعزلة هي المكاتب التي تتخذ فيها الإجراءات القضائية ومنها تصدر إعلانات الحضور، وتوقَّع فيها الأحكام، وتُقَيَّدُ فيها التعهدات، وما إليها من عديد الإجراءات والتصرفات التي يراد تنفيذها لتعذيب رعايا صاحب الجلالة المخلصين وتوفير المتعة والأجور للمشتغلين بالقانون، وهى حجرات في الأغلب الأعم ذوات سقوف خفيضة، وغرف رطبة عفنة؛ حيث تنبعث من ملفات القضايا والأوراق التي ظلت تتصبب عرقًا في خفية طيلة القرن الماضي روائح مستطابة تختلط في النهار بشذى العفونة الجافة، وتمتزج ليلًا بريح العباءات المشربة بالرطوبة، والمظلات العباقة بالعفن، ومن أخشن شموع الدهن.
وقد حدث حوالي السابعة والنصف من المساء، بعد عشرة أيام أو قرابة أسبوعين من عودة المستر بكوك وأصحابه إلى لندن، أن خرج رجل من أحد تلك المكاتب مهرولًا في سترة سمراء ذات أزرار نحاسية، وقد حرص على أن يلوي شعره الطويل حول حافة قبعته الملساء، وقد لصقت سراويله البالية الملطخة فوق حذائه القصير، حتى لتكاد ركبتاه تهددان بين لحظة وأخرى بالخروج من مخبئهما، وراح يخرج من جيب سترته وثيقة طويلة ضيقة العرض، كان الموظف المختص قد ختمها بخاتم أسود غير مقروء، ثم أخرج بعد ذلك أربع ورقات من الحجم ذاته، كل ورقة منها تحوي نسخة مطبوعة من الوثيقة عينها وفراغًا لكتابة الأسماء فيها، وبعد أن ملأ ذلك الفراغ في الصور الأربع، دسها هي والوثيقة الأصلية في جيبه وانطلق مهرولًا في سبيله.
ولم يكن ذلك الرجل صاحب السترة البنية اللون والذي يحمل تلك الأوراق النكراء في جيبه سوى صاحبنا القديم المستر جاكسن الذي يشتغل في مكتب المحاميين ددسن وفج في محكمة فريمن بكورنهل، ولكنه بدلًا من أن يقفل راجعًا إلى المكتب الذي جاء منه، انحرف متجهًا صوب صن كورت وأخذ سمته رأسًا إلى فندق «جورج والرخم» وسأل هل في داخل المكان رجل يدعى المستر بكوك.
وقالت المرأة الموكلة بمكان الشراب: «ادعُ يا تم خادم المستر بكوك.»
وقال المستر جاكسن: «لا تتعب نفسك، إنني قادم في مهمة، فإذا أريتني غرفته صعدت بنفسي إليها.»
وقال غلام الفندق: «وما الاسم يا سيدي؟»
وأجاب الكاتب: «جاكسن.»
وصعد الغلام لبعلن قدوم المستر جاكسن، ولكن هذا أغنى عنه مئونة الدخول، بالمشي في أثره ودخول الحجرة قبل أن يتمكن الخادم من النطق بحرف واحد، وكان مستر بكوك قد دعا أصدقاءه الثلاثة للعشاء، وكانوا كلهم جلوسًا حول المدفأة يحتسون النبيذ حين دخل عليهم مستر جاكسن بالصورة التي وصفناها من قبل، وقال وهو ينحني بالتحية للمستر بكوك: «كيف الحال يا سيدي؟»
وانحنى المستر بكوك ردًّا على التحية، وبَدَا عليه شيء من الدهشة؛ لأن سحنة المستر جاكسن لم تكن عالقة بخاطره.
وقال المستر جاكسن بلهجة الشرح والبيان: «إنني قادم يا سيدي من قِبَلِ ددسن وفج.»
وانتبه المستر بكوك على سماع هذين الاسمين من سكينته فقال: «إنني أحيلك على وكيلي يا سيدي المستر بركر في فندق جريز … يا غلام أَرِ الطريقَ لهذا السيد.»
وقال المستر جاكسن وهو يضع قبعته بتؤدة فوق أديم الحجرة، ويخرج من جيبه الوثيقة: «أستميحك معذرة يا مستر بكوك، ولكن الخدمة الشخصية، سواء من جانب كاتب أو وكيل، في هذه الأحوال يا مستر بكوك، ليس ثمة شيء أحكم من الحيطة يا سيدي في جميع الإجراءات والشكليات القانونية.»
وألقى المستر جاكسن نظرة على الوثيقة، واعتمد على المائدة بكفه، وأجال عينه فيما حوله بابتسامة جذابة مغرية مقنعة، وانثنى يقول: «والآن لا داعي لأن نتبادل أي كلام في مسألة صغيرة كهذه. من منكم أيها السادة يدعى سنودجراس؟»
وعلى أثر هذا السؤال أبدى المستر سنودجراس حركة ظاهرة جلية لم تعد بعدها حاجة إلى جواب.
وانطلق المستر جاكسن يقول وهو أشد رقة من قبل: «لقد كنت أظن ذلك، إن لدي شيئًا يسيرًا قد يزعجك يا سيدي.»
وصاح المستر سنودجراس مبهوتًا: «أنا؟»
وأجاب جاكسن، وهو يختار إحدى الورقات ويخرج شلنًا من جيب صداره: «إنه لا يعدو إعلانك بالحضور في قضية باردل وبكوك بناء على طلب المدعية بجلسة يُنتظر أن تُعقد عقب انتهاء العطلة ويُنتظر أن تكون في الرابع عشر من شهر فبراير، وقد طلبنا أن تكون قضية خاصة أمام المحلفين، ودورها هو العاشر، وهذه هي الصورة الخاصة بك يا مستر سنودجراس.»
ووضع المستر جاكسن الإعلان أمام عيني المستر سنودجراس ثم ألقى الصورة هي والشلن في راحة كفه.
وظل المستر طبمن يشهد هذه العملية في صمت ودهشة، وإذا المستر جاكسن يدور نحوه فجأة قائلًا: «لا أظنني مخطئًا في قولي: إن اسمك طبمن، وهل تراني قد أخطأت؟»
فنظر المستر طبمن إلى المستر بكوك ولكنه لم يرَ تشجيعًا في عينيه الواسعتين المتفتحتين على إنكار اسمه فلم يسعه إلا أن يجيب قائلًا: «نعم أنا أدعى طبمن يا سيدي.»
وقال المستر جاكسن: «وأظن أن هذا السيد الآخر هو المستر ونكل؟»
وأجاب المستر ونكل متلعثمًا بالإيجاب، وبادر المستر جاكسن فسلم السيدين صورتين من الإعلان، وأعطى كلًّا منهما شلنًا، وانثنى يقول: «والآن أخشى أن تظنوا أني شخص متعب، ولكني أطلب شخصًا آخر غيركم إذا لم يكن في ذلك متعبة لكم، إن أمامي اسم صمويل ولر هنا في الأوراق يا مستر بكوك.»
وقال هذا للغلام: «ادع خادمي إلى هنا.»
وانصرف الغلام وهو في دهشة بالغة وأشار المستر بكوك للمستر جاكسن بالجلوس.
وساد صمت أليم، لم يلبث أن بدده المدعى عليه البريء بقوله: «أظن يا سيدي أن في نية مخدوميك محاولة إدانتي؛ استنادًا إلى أقوال أصحابي وشهادتهم؟»
وراح المستر جاكسن يضرب الجانب الأيسر من أنفه بسبابته عدة مرات، موحيًا بهذه الحركة أنه لم يأتِ ليكشف أسرار القضايا، ويقول بمكر ودعابة: «لا أعرف، لا أستطيع أن أقول.»
وعاد المستر بكوك يقول: «ولأي سبب آخر يا سيدي يُعلَن أصحابي على هذا النحو إن لم يكن لهذا السبب بالذات؟» وأجاب جاكسن قائلًا وهو يهز في بطء رأسه: «فكرة حسنة جدًّا يا مستر بكوك، ولكنها لا تكفي، ولا ضرر من محاولتها، ولكن لا شيء عندي يمكن أن تعرفه مني.»
وعاد المستر جاكسن يقول في ختام حديثه: «كلا، كلا يا مستر بكوك؛ إن رجال المستر بركر سوف يحزرون حتمًا ما هو الغرض الذي نرمي إليه من هذه الإعلانات، لإحضار الشهود؛ فإن لم يستطيعوا فلا معدى لهم عن الانتظار حتى يحل موعد نظر القضية فيعرفوا الهدف.»
وألقى المستر بكوك نظرة اشمئزاز متناهٍ على الزائر الثقيل، وأكبر الظن أنه كان يهم بأن يصب جام غضبه فوق رأسي ددسن وفج ويسلقهما بلسان حادٍّ، لولا أن قطع عليه القول دخول سام في تلك اللحظة بالذات.
وقال المستر جاكسن مستوضحًا: «أهذا هو سام ولر؟» وأجاب سام بكل هدوء: «كلمة صدق لم تقل مثلها من سنين طوال.»
وقال جاكسن: «هذا إعلان حضور لك يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «وما معنى هذا باللغة الإنجليزية؟»
وقال جاكسن رافضًا شرح المعنى: «ها هي ذي الصورة الأصلية.»
وقال سام: «أين هي؟»
وأجاب جاكسن وهو يهز الوثيقة: «هذه.»
وقال سام: «آه، أهذا هي الأصل، إنني في غاية السرور لرؤية الأصل؛ لأنه شيء يسر حقيقة ويريح البال كثيرًا جدًّا.»
وقال جاكسن: «وها هو ذا الشلن، من ددسن وفج.»
وقال سام: «إنه لكرم غير مألوف أن يأتي ددسن وفج وهما لا يعرفان عني شيئًا، فيقدما إليَّ هدية، إنني لأشعر بأن هذه تحية بالغة يا سيدي، وشيء يشرفهما كثيرًا؛ لأنه يدل على أنهما يعرفان كيف يقدران المواهب حق قدرها، أينما وجداها، وهو أيضًا عمل يؤثر في شعور الإنسان وإحساسه.»
وانثنى يمسح جفن عينه اليمنى بكم ثوبه كما يفعل الممثلون وهم يمثلون موقفًا يثير العواطف.
وبدت على المستر جاكسن الحيرة من حركات سام وتصرفاته، ولكنه رأى أنه قد أدى مهمته، وهي تسليم «الإعلانات»، وانتهى من تنفيذ ما جاء من أجله فلا حاجة إلى مزيد من القول، فتظاهر بأنه يضع القفاز المفرد الذي اعتاد أن يحمله بإحدى يديه، لمجرد التظاهر ليس أكثر، وعاد أدراجه إلى المكتب لابلاغ مخدوميه تفصيل ما جرى.
ولم يذُق المستر بكوك النوم إلا غرارًا في تلك الليلة؛ فقد تلقَّت ذاكرته ما أعاد إليها موضوع قضية مسز باردل، وتناول طعام الفطور مبكرًا في صبيحة اليوم التالي، وطلب إلى سام أن يصحبه وانطلق يريد ميدان فندق جريز.
وجال ببصره حين وصل إلى نهاية شارع تشيبسايد ونادى قائلًا: «يا سام.»
وأسرع الخادم إليه فحاذاه وقال: «نعم يا سيدي.»
قال: «من أين نعطف؟»
قال: «إلى شارع نيوجيت.»
ولكن المستر بكوك لم يعطف مباشرة وإنما راح ينظر إلى وجه سام شارد البصر لحظة ثم يطلق زفرة عميقة من صدره.
وقال سام: «ما الخبر يا سيدي؟!»
وأجاب المستر بكوك: «هذه القضية يا سام ينتظر أن يحل موعدها في الرابع عشر من الشهر القادم.»
وأجاب سام: «مصادفة عجيبة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «ولِمَ تقول: عجيبة؟!»
ولكن الابتسامة التي بدت على فم المستر ولر وهو يقول هذه العبارة لم تثر شيئًا من المرح في وجه المستر بكوك، بل استدار الرجل حوله فجأة وانطلق في طريقه صامتًا.
وما إن سارا غير بعيد، ولا يزال المستر بكوك سائرًا بخطى سريعة كما كان من قبلُ، وهو ساهم غارق في لُجَّةٍ من التفكير، ومن خلفه يمشي سام وعلى وجهه أبلغ أمارات التحدي وقلة المبالاة بكل شيء، حتى أسرع الأخير في خطوه، كما كان أبدًا دأبه كلما أراد أن يفضي إلى سيده بشيء خاص يعرفه، وقال حين لحق به وهو يشير إلى بيت مرَّا به: «هذا دكان لحم خنازير، بديع يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «يبدو لي أنه كذلك.»
وعاد سام يقول: «هذا مصنع لحوم باردة ذائع الصيت.»
وقال المستر بكوك: «أهو حقًّا؟»
وأجاب سام في شيء من الغيظ: «هو كذلك فعلًا أو هذا هو ما أعتقد، يا للعجب يا سيدي، سلامة نظرك، إن هذا هو الدكان الذي اختفى منه صاحبه منذ أربع سنوات، وكان اختفاؤه سرًّا غامضًا.»
وتلفت المستر بكوك في عجلة قائلًا: «هل تعني يا سام أنه قُتِلَ خنقًا؟»
وأجاب المستر ولر قائلًا: «كلا، ليس هذا ما أعنيه يا سيدي، ليت الأمر كان كذلك، ولكنه في الواقع أسوأ من ذلك وأدهى. لقد كان الرجل صاحب هذا الحانوت يا سيدي ومخترع الآلة البخرية التي تقطع اللحم شرائحَ ودوائرَ والتي تستطيع أن تبتلع البلاط لو وضعته بقربها فتطحنه شرائح وقطعًا صغيرة بكل سهولة ويسر كأنها تطحن وِلدانًا صغارًا في المهد، وكان الرجل معتزًّا بها كما هو طبيعي، وكان يقف في المخزن السفلي ينظر إليها وهي دائرة بأقصى سرعتها حتى ليستولي الفرح عليه، ويكاد منه يذرف الدمع، وكان من حق الرجل أن يكون سعيدًا جدًّا يا سيدي وهو يرقب بعينيه سير تلك الآلة، وبجانبه وَلَدان جميلان له، لولا زوجته؛ فقد كانت امرأة شكسة سليطة اللسان لا تكف عن تأنيبه، والطنين في أذنيه، حتى لم يعد يطيق عليها صبرًا، فقال لها في ذات يوم: «اسمعي يا عزيزتي، إذا أبيتِ إلا المضي في هذا النوع من المزاح، فسوف أذهب إلى أمريكا، وينتهي الأمر.» فأجابته قائلة: «إنك لرجل بليد متعطل، وإني لأوَدُّ لأمريكا أن تفرح وتغتبط بهذه الصفقة!» ولبثت على هذه الصورة نصف ساعة تسبُّه وتشتمه، ثم انطلقت إلى الغرفة الصغيرة القائمة خلف الحانوت، وظلت تصرخ وتتشنج قائلة: إنه سيزهق روحها بهذا السلوك الذي يسلكه معها، حتى أغمي عليها وظلَّت النوبة مستولية عليها ثلاث ساعات سويًّا، وكانت نوبة من تلك النوبات التي لا تنقطع خلالها عن الصياح والركل بالقدمين، وفي صباح اليوم التالي اختفى الزوج وتبين أنه لم يأخذ درهمًا واحدًا من الصندوق، بل لم يرتدِ أيضًا معطفه، مما يثبت أنه لم يذهب إلى أمريكا، وانقضى اليوم التالي ولم يعُد، وحل الأسبوع التالي، وهو لا يزال غائبًا، وكتبت السيدة إعلانًا تقول فيه: إنه إذا عاد فسوف تغتفر له كل شيء. وهو كرم منها وسماحة؛ لأنه في الواقع لم يأتِ شيئًا حتى يقتضي الغفران منها، وبُحث عنه في القنوات طيلة شهرين كاملين، وكلما وُجِدَتْ جثة حُمِلَتْ رأسًا إلى حانوت اللحوم، ولكن ظهر في كل مرة أن الجثة لم تكن جثته، ولهذا ذهبت الظنون إلى القول بأنه قد هرب، وظلت المرأة تتولى بنفسها العمل في الحانوت، ففي ذات مساء، وكان اليوم سبتًا أقبل شيخ ناحل على المتجر وانثنى يقول في حدة وغضب: «هل أنت ربة هذا الحانوت؟» قالت نعم! قال: «لقد أتيت يا سيدتي لكي أقول: إنني أنا وأفراد بيتي لا نريد أن نختنقَ بلا ذنب جنيناه، بل أكثر من هذا يا سيدتي لي أن ألاحظ أنك لا تستخدمين الأجزاء الممتازة من اللحم في صنع الشرائح، وإنك لهذا السبب تجدين أن اللحم يكاد يكون في مثل رخص ثمن الأزرار.» وقالت السيدة: «الأزرار يا سيدي؟!» وأجاب الشيخ، وهو ينشر قطعة مطوية من الورق ويخرج منها عشرين أو ثلاثين من أنصاف الأزرار وهو يقول: «أزرار، نعم أزرار يا سيدتي، لإعطاء اللحم طعمًا جميلًا يا سيدتي، أزرار السراويل يا سيدتي.» فكادت المرأة يُغمى عليها، وهي تقول: «هذه أزرار زوجي!» وقال الشيخ وقد ارتد شاحبًا: ماذا تقولين؟! وأجابت الأرملة قائلة: «لقد فهمت كل ما جرى، إن زوجي في نوبة جنون عارض انطلق يحول نفسه إلى شرائح من اللحم!»
وعقب المستر ولر على القصة وهو يطيل النظر إلى وجه المستر بكوك الذي شاع فيه الاستنكار والذعر، بقوله: «هذا هو حقًّا ما فعله يا سيدي، أو أن الآلة قد اجتذبته إليها، وسواء كان هذا أو ذاك؛ فقد اندفع ذلك الشيخ الذي كان يحب الشرائح حبًّا جمًّا طول حياته، من جوف الحانوت إلى الطريق وهو في هياج شديد، ولم يسمع أحد بعد ذلك شيئًا عنه.»
وأوصلتْ روايةُ هذه الحادثة المؤثرة المتصلة بالحياة الخاصة السيدَ والخادمَ إلى مكتب المستر بركر المحامي، وكان لوتن ممسكًا بالباب وقد فتحه نصف فتحة وراح يتحدث إلى رجل رث الثياب بائس في حذاء بلا أصابع، وقفاز بلا أنامل، وقد بدت عليه من الفاقة والبأساء آثارٌ ومعالمُ، بل لاح اليأس كذلك على مظهره، وسحنته المصفرَّة المكفهرة الواجمة، وكان يشعر بفاقته؛ لأنه وقف منزويًا في الجانب المظلم من السلم، حين وصل المستر بكوك.
وقال الرجل الغريب وهو يرسل زفرة: «هذا حظ سيئ جدًّا.»
وقال لوتن وهو يكتب اسمه على عمود الباب بقلمه، ثم يمحوه بالريشة المثبتة في مؤخره: «جدًّا، هلا تركت رسالة إليه؟»
وسأل الغريب: «ومتى تظن أنه سيعود؟»
وأجاب لوتن قائلًا وهو يغمز بعينه للمستر بكوك، حين رأى الرجل الغريب مطأطئ الرأس ناظرًا إلى الأرض: «إن موعد عودته غير معروف على اليقين.»
وقال الغريب وهو يلقي نظرة إلى المكتب بلهفة: «ألا تظن أن هناك فائدة من انتظاري رجوعه؟»
وأجاب لوتن، وهو يتحرك قليلًا صوب وسط المدخل: «كلا، إنني واثق أن لا فائدة؛ لأن من المؤكد أنه لن يعود في هذا الأسبوع، ومن يدري هل تراه سيغيب الأسبوع القادم أيضًا؛ لأن بركر إذا غادر العاصمة لا يتعجل أبدًا العودة إليها.»
وقال المستر بكوك: «أتقول إذا غادر العاصمة؟ يا لسوء الحظ!»
وقال لوتن: «لا تنصرف يا مستر بكوك فإن لديَّ خطابًا إليك.»
وبدا التردد على الرجل الغريب فعاد ينظر إلى الأرض وراح الكاتب يغمز للمستر بكوك غمزة مكر كأنما يوحي بأن هناك فصلًا لطيفًا أو نكتة رائقة، ستبدو له، وإن كان المستر بكوك لا يدري ما هو ذلك الفصل اللطيف ولا ما هي تلك النكتة الرائقة!
وقال لوتن: «تفضل ادخل يا مستر بكوك، ألا تترك رسالة يا مستر وطي أو تنوي أن تعود مرة أخرى؟»
وقال الرجل: «هلا سألته أن يتفضل فيترك لي خبرًا عمّا فعل في قضيتي، ناشدتك الله يا مستر لوتن لا تهمل هذا الرجاء.»
وأجاب الكاتب: «كلا، كلا، لن أنسى، تفضل ادخل يا مستر بكوك، طاب صباحك يا مستر وطي؛ إنه ليوم جميل يستحب المشي فيه، أليس كذلك؟»
وحين رأى الغريب لا يزال متلكئًا، أشار إلى سام بأن يتبع سيده وأغلق الباب في وجهه.
وقال لوتن وهو يلقي القلم من يده، في حركة امرئ أصيب بإهانة أو أذى: «لم يشهد العالم مفلسًا ملحًّا مملًّا كهذا منذ بدء الخليقة! إن قضيته أمام المحكمة منذ أربع سنوات، وهو لا يكف عن التردد علينا مرتين في كل أسبوع، تقدم من هنا يا مستر بكوك، إن بركر هنا وأنا عارف أنه سيقابلك.» ومضى يقول باستياء: «البرد شديد وأنا واقف بالباب مضيع وقتي مع هؤلاء السوقة الثقلاء!» وبعد أن حرك بشدة جذوات نار كبيرة إلى حد غريب، بمحراك صغير إلى حد غريب مثلها مضى يسير أمام المستر بكوك إلى غرفة المحامي الخاصة ويعلن قدومه.
وبادر المستر بركر القزم إلى النهوض بخفة من مقعده قائلًا: «آه يا سيدي العزيز! ماذا لديك من الأنباء عن قضيتك؟» هل من جديد عن أصدقائنا في محكمة فريمن؟ إني أعرف أنهم لم يكونوا نيامًا كل هذا الوقت، إنهم قوم مجدُّون لا تفتر لهم همة فعلًا.»
وما كاد الرجل القزم ينتهي من هذا القول حتى تناول قدرًا طيبًا من عطوسه؛ اعترافًا منه بهمة الأستاذين ددسن وفج ونشاطهما المتَّقد.
وقال المستر بكوك: «إنهما لوغدان كبيران.»
وأجاب المستر بركر: «وي، وي! هذه مسألة تختلف فيها الآراء كما تعلم، فمن الخير ألّا نتناقش أو نختلف في العبارات والألفاظ؛ لأنه لا ينتظر منك بالطبع أن تنظر إلى هذه الأمور بعين رجل من أرباب المهنة، لقد فعلنا كل ما ينبغي أن نفعله، وقد اتفقتُ أيضًا مع المحامي اسنبن.»
وقال المستر بكوك: «أهو رجل طيب؟»
وأجاب بركر: «أتسألني هل هو رجل طيب؟ سبحان الله يا سيدي العزيز، إن المحامي اسنبن في ذروة المهنة، ولديه من القضايا ثلاثة أمثال ما لدى أيِّ إنسانٍ أمام المحاكم، وهو يوكل في جميع أنواع القضايا، وأقول لك شيئًا لا أحب أن تذكره في الخارج، وهو أننا قد اعتدنا نحن أرباب المهنة أن نقول: إن المحامي اسنبن يقود المحكمة من خطامها.»
وتناول الرجل القزم قدرًا آخر من السعوط وهو يفضي بهذا السر ويهز رأسه هزة غريبة للمستر بكوك.
وقال المستر بكوك: «لقد دعوا أصدقائي الثلاثة إلى الحضور شهودًا في القضية.»
وأجاب بركر: «آه، بالطبع، إنهم شهود على جانب كبير من الأهمية؛ لأنهم رأوك في موقف دقيق.»
وقال المستر بكوك: «ولكنها أغمي عليها من تلقاء ذاتها، وارتمت في أحضاني.»
وأجاب بركر: «محتمل جدًّا يا سيدي العزيز، محتمل جدًّا، وطبيعي جدًّا، ولا شيء أكثر من ذلك احتمالًا ولا طبيعة، ولكن من الذي يثبت ذلك؟»
وقال المستر بكوك متهربًا من هذه النقطة؛ لأن سؤال المستر بركر أزعجه: «وقد أعلنوا خادمي أيضًا شاهدًا.»
وقال بركر: «أتعني سام؟»
وأجاب المستر بكوك: «أي نعم.»
ومضى المحامي يقول: «بالطبع يا سيدي العزيز بالطبع (وابتسم الكاتب واستنشق العطوس بلذة تجمع بين الولوع به، ومتعة الرسوم) لقد كنت أعرف أنهم سيفعلون ذلك، وكان في إمكاني أن أنبئك أنت به منذ شهر مضى، وأنت تعلم يا سيدي العزيز أنك إذا أردت أن تتولَّى بنفسك شئونك بعد أن عهدت بها إلى وكيلك، فلا مندوحة لك عن تحمُّل النتائج.»
وهنا نصب المستر بركر قامته باعتزاز واعتداد، ونفض ذراتٍ ضالةً من السعوط عن طرف قميصه.
وقال المستر بكوك بعد أن لزم الصمت دقيقة أو دقيقتين: «وماذا يريدون منه أن يثبت؟»
وأجاب بركر: «إنك أوفدته إلى بيت المدعية؛ لتعرض عليها بعض الترضية، على ما أظن، وإن كان هذا لا يهم كثيرًا، ولكني لا أظن أن كثيرًا من المحامين يستطيعون أن يستخلصوا شيئًا كثيرًا من خادمك لفطانته.»
وقال المستر بكوك مبتسمًا لفكرة دعوة سام إلى الحضور شاهدًا، رغم ما كان فيه من غضب: «لا أظنهم قادرين، ولكن أي طريق ترانا سنسلك؟»
وأجاب المستر بركر: «إن أمامنا طريقًا واحدًا يا سيدي العزيز، وهو أن نستجوب الشهود، فاعتمد على بلاغة اسنبن من هذه الناحية، إنه سيذر الرماد في عين القاضي، ونحن سنرمي أنفسنا على المحلفين.»
وقال المستر بكوك: «ولكن افرض أن حُكِمَ عليَّ؟»
فابتسم المستر بركر وتناول قدرًا كبيرًا من السعوط، وحرك النار، وهزَّ كتفيه، وظلَّ صامتًا ذلك الصمت البليغ المغني عن الكلام.
وقال المستر بكوك بعد أن راقب هذا الرد البرقيَّ بعبوس شديد: «هل تعني أنه من المحتَّم عليَّ في هذه الحالة أن أدفع التعويض المطلوب؟»
وراح المستر بركر يحرك النار مرة أخرى بلا ضرورة وأجاب قائلًا: «أخشى أن يكون الأمر كذلك.»
وقال المستر بكوك بلهجة توكيد قاطع: «فلتعلم إذن أنني عزمت عزمة لن أنثني عنها، وهي ألا أدفع تعويضًا ما، لن أدفع يا بركر، ولن يجد جنيه واحد ولا بنس واحد طريقه إلى جيب ددسن وفج، هذه هي عزيمتي التي لا رجوع عنها، ولا تبديل لها.»
وراح المستر بكوك يضرب المنضدة التي أمامه بجمع كفه؛ توكيدًا لهذا العزم الوطيد.
وقال بركر: «حسن جدًّا يا سيدي العزيز، حسن جدًّا، وأنت أعرف بمصلحتك بالطبع من أيِّ أحد سواك.»
وقال المستر بكوك في عجلة: «بالطبع، أين يقيم المحامي اسنبن؟»
وأجاب بركر: «في ميدان لنكولن إن القديم.»
وقال المستر بكوك: «أحب أن أراه.»
وأجاب بركر في دهشة بالغة: «ترى المحامي اسنبن؟ يا سيدي العزيز، ويحي! هذا مستحيل يا سيدي العزيز، ترى المحامي اسنبن! بارك الله فيك يا سيدي العزيز، إن شيئًا كهذا لم يُسمع يومًا بمثله دون دفع أجر عن الاستشارة، وبلا تحديد موعد سابق لها، هذا لا يمكن يا سيدي العزيز، لا يمكن!»
ولكن المستر بكوك قد أجمع النية على ألَّا يجعل ذلك ممكنًا فحسب، بل واجبًا محتومًا أيضًا، وكانت النتيجة أن وكيله لم يلبث بعد عشر دقائق من التوكيد له باستحالة المقابلة أن صحبه إلى مكتب المحامي اسنبن نفسه.
وكانت حجرة المكتب حجرة جرداء من البسط، لا بأس بمساحتها، ذات منضد كبير بقرب الموقدة فَقَد كساؤه من عهد بعيد كل حق في أنه كان في الأصل أخضر اللون؛ لأنه استحال شيئًا فشيئًا إلى لون رمادي من كثرة التراب وطول العمر، إلا من آثار عليه مُحِيَ الأخضر منها محوًا بلطخات المداد، ومن فوق المنضد أكداس كثيرة من الأوراق مربوطة بأشرطة حمر، وقد جلس من خلفها كاتب يدنو من حدود الكهولة وتوحي نعومة مظهره والسلسلة الذهبية الضخمة المتدلية من جيبه بمدى رواج مكتب المحامي اسنبن ووفرة أرباحه.
وقال المستر بركر وهو يعرض حُقَّ سعوطه بكل أدب ممكن: «هل المحامي في حجرته يا مستر مالارد؟»
فكان الجواب: «نعم، ولكنه مشغول جدًّا، اسمع مني، إنه لم يُعطِ رأيًا إلى الآن في أيِّ قضية من هذه القضايا مع أن رسوم الاستشارة العاجلة قد دُفِعَتْ عنها جميعًا.»
وقال بركر: «هذا عمل فيما يظهر.»
وأجاب كاتب المحامي وهو يخرج حق سعوطه ويعرضه على المستر بركر بكل لطف وأدب: «نعم، وأبدع شيء في هذا الأمر أنه ليس في الدنيا أحد سواي يعرف كيف يقرأ خط المحامي، وهذا يقتضي الانتظار ريثما يعطي الرأي، وأتولَّى بنفسي نسخه، ها، ها، ها!»
وقال بركر: «ولمصلحة مَن غير المحامي كل هذا الانتظار، ومن الذي سيقتضي مالًا أكثر من الزبائن؟ ها، ها، ها!»
وعاد الكاتب يضحك من هذا السؤال أيضًا، ولكن ضحكاته لم تكن صخابة، بل صامتة هادئة لم يستلطف المستر بكوك سماعها وهي تتحشرج في صدر الكاتب، أو تنحبس في جوفه؛ ذلك أنه حين ينزف إنسان نزيفًا باطنيًّا، يقتصر الخطر من النزيف عليه وحده، ولكنه إذا ضحك ضحكة «باطنية» أو «من الداخل»؛ فإن ذلك لا يبشر الآخرين بخير، ولا يبعث على الطمأنينة.
وقال بركر: «أراك لم تضع لي ذلك البيان الصغير الذي طلبت إليك إعداده عن الرسوم التي أنا مدين بها لكم؟»
وأجاب الكاتب قائلًا: «كلا، لم أفعل إلى الآن.»
وقال بركر: «أرجوك أن تعده، وترسله إلي لأبعث إليك بصك على المصرف، ولكني أحسبك في شغل شاغل بتسلم المال النقد، والقبض العاجل الفوري عن التفكير في المدينين بهذه الرسوم، آه؟ ها، ها، ها!»
والظاهر أن هذه الغمزة كانت إشارة شديدة الأثر في نفس الكاتب، حتى لقد عاد إلى ضحكه الهادئ الباطني من جديد.
ولكن بركر مضى يقول وقد استرد وقاره فجأة، وجذب الكاتب العظيم الذي يشتغل في مكتب المحامي العظيم من طرف ثوبه، إلى ركن في الحجرة: «ولكن يا مستر مالارد، يا صديقي العزيز، يجب أن تقنع المحامي بمقابلتي أنا وعميلي هذا.»
وأجاب الكاتب: «هذا شيء آخر ليس سيئًا، تقابل المحامي! هذا أمر غير معقول!» ولكن على الرغم من استبعاده أو استحالته، ترك الكاتب نفسه يجتذب برفق إلى مكان بعيد عن سمع المستر بكوك، وبعد تبادل الهمس، والمخافتة لحظة قصيرة انطلق برفق في دهليز مظلم صغير ودخل ذلك الحرم القضائيَّ المقدس، ولم يلبث أن عاد منه على أطراف قدميه وأبلغ المستر بركر والمستر بكوك أنه قد وُفِّقَ في إقناع المحامي بمقابلتهما في الحال، مخالفًا بذلك كل القواعد المقررة والتقاليد المرعية.
وكان وجه المحامي اسنبن يشبه الفانوس، ويبدو الشحوب على قسماته، وهو في قرابة الخامسة والأربعين، أو كما يقال في القصص والروايات: يحتمل أن يكون فلى الخمسين. وله تلك العين البليدة المعتمة التي تُشاهَد غالبًا في رءوس الذين انهمكوا عدة سنين في جهد الدراسة، وكانت تلك العين وحدها كافية بغير حاجة إلى منظار إضافيٍّ يتدلّى من شريط أسود عريض حول عنقه، للإيحاء إلى نفس الغريب عنه بأنه قصير النظر، وكان شعره قليلًا ضعيفًا؛ لأنه أولًا لم يفض في يوم ما لتنظيمه وتهذيبه، ولأنه ثانيًا يلبس «الجمة» المستعارة التي يلبسها المحامون فوق رءوسهم؛ فقد لبث يضعها خمسًا وعشرين سنة فوق هامته، وكانت في تلك اللحظة معلقة بجانب مكتبه وتوحي آثار المسحوق الذي يوضع على الشعر، في طوق سترته، واللفافة البيضاء غير المتقنة الغسل ولا محكمة الربط حول رقبته، بأنه لم يجد فراغًا من وقته منذ انصرف من المحكمة لإحداث أي تغيير في لباسه، كما يؤخذ من الإهمال البادي على بقية ثيابه الأخرى أنه لو كان قد وجد فسحة لتغييرها لما ظهرت بزته أحسن من ذلك ولا ألطف شكلًا، وقد انتثرت على مكتبه كتب القانون، وأكوام الورق والخطابات المفضوضة الغلف، بلا أدنى محاولة في سبيل تنظيمها أو تنسيقها، كما بدا أثاث الحجرة قديمًا وأرجل المقاعد مكسورة أو مهزوزة، وأبواب مكتبه متعفنة المفاصل، والغبار يتطاير من البساط في سحب صغيرة، عند كل خطوة قدم فوقه، والأستار صفراء من القدم والاتساخ، ويدل كل شيء في الغرفة بوضوح ظاهر أن المستر اسنبن المحامي أشد انشغالًا بعمله من أن يلقي بالًا إلى وسائل راحته وأسباب رفاهيته.
وكان المحامي اسنبن يكتب حين دخل العميلان عليه، فانحنى وهو ذاهل عندما تقدم المحامي لتعريفه بالمستر بكوك، ثم أشار إليهما بالجلوس، ووضع القلم من يده في الدواة بعناية بالغة، وربت بكفه على ساقه اليسرى، وانتظر سماع قولهما.
وأنشأ بركر يقول: «إن المستر بكوك هو المدَّعَى عليه في قضية باردل يا أستاذ اسنبن.»
وقال الأستاذ: «وهل وكلت في هذه القضية؟»
وأجاب بركر: «نعم يا سيدي.»
فأومأ برأسه، وانتظر سماع شيء آخر.
ومضى بركر يقول: «لقد كان المستر بكوك في لهفة على مقابلتك يا أستاذ اسنبن لكي يشرح لك قبل أن تدخل في القضية أنه لا سبب ولا شبه سبب لإقامة هذه الدعوى عليه، وأنه إذا لم يخرج نظيف اليدين مقتنعًا كل الاقتناع من ناحية ضميره وذمته بأنه محق في معارضته طلبات المدعية، فلن يحضر المحاكمة أبدًا، وأعتقد أنني قد شرحت له رأيك تمامًا، ألم أفعل يا سيدي العزيز؟» قال ذلك وهو يلتفت إلى المستر بكوك.
وقال المستر بكوك: «هذا صحيح.»
ونشر الأستاذ اسنبن منظاره وكان مطويًّا، ورفعه إلى عينيه، وبعد أن نظر إلى المستر بكوك بضع ثوان نظرات فاحصة، انثنى إلى المستر بركر فقال وهو يبتسم قليلًا: «هل لدى المستر بكوك أسباب وحجج قوية؟»
فهز بركر كتفيه.
– «وهل في نيتك دعوة شهود؟»
– «كلا.»
ولم تلبث الابتسامة البادية على وجه الأستاذ اسنبن أن لاحت أكثر وضوحًا وجلاءً، ومضى يهز ساقه بحركة متزايدة، ثم ألقى ظهره إلى مسند مقعده الرحيب، وسعل سعلة المتشكك.
ولم تغِب هذه الحركات النامَّة عن رأي الأستاذ في الموضوع، عن نظر المستر بكوك، على الرغم من خفة تلك الحركات وضآلتها، فمد يده إلى المنظار الذي كان يتأمل من خلفه تلك الحركات التي بدت من المحامي، أو سمح لنفسه بإظهارها، فأثبته فوق أنفه، وقال بلهجة قوية غير مبالٍ مطلقًا بغمزات المستر بركر وعبساته ونذره: «لست أشك في أن رغبتي في مقابلتك لغرض كهذا يا سيدي ستبدو لعين سيد مثلك طال عهده بتناول هذه المسائل ونحوها، ظرفًا خارقًا للمألوف كثيرًا.»
وحاول الأستاذ أن ينظر بجدٍّ إلى النار، ولكن الابتسامة عاودت سحنته.
واستتلى المستر بكوك قائلًا: «إن السادات الذين يشتغلون بمهنتكم يا سيدي ليرون أسوأ نواحي الطبيعة البشرية، وإن كل ما فيها من منازعات، وشرور وسوء نيات، لتنهض أمام أبصاركم وتتكشف عن حقائقها لأعينكم، وإنكم لتعرفون من تجاريبكم مع المحلفين — ولست أقصد الانتقاص من أقدارهم أو أقداركم — مبلغ النتائج التي قد تترتب على مدى التأثير فيهم، وقد تعزون إلى الغيرِ الرغبةَ، من أجل محاولة التضليل أو كسب مصلحة شخصية، في استخدام الأسلحة ذاتها التي تعرفون من طول عهدكم باستخدامها، والدأب على الاستعانة بها، مبلغ قيمتها وقدرها حق المعرفة، وأنتم إنما تلجأون إليها من أجل نقاء ذممكم، وشرف غايتكم وقصدكم، ومحمود رغبتكم في بذل أقصى الجهود لمصلحة موكلكم. وإني لأعتقد صادقًا أن هذا هو الباعث الذي يدعو الناس عامَّة إلى الظن الحقير بأنكم بوصفكم طائفة قوم ظنَّانون، لا تطمئنُّون إلى أحد، ومغالون في الحيطة، ولست أجهل يا سيدي ضرر هذا الرأي الذي أصارحكم به، في هذه الظروف، ولكني لا أكتمكم أنني ما جئت إلى هنا إلا لأني أودُّ مخلصًا أن تفهموا أنني — كما قال صديقي المستر بركر في هذه اللحظة — بريء من هذه الفرية التي اتُّهِمْتُ بها، ولئن كنت مدركًا حق الإدراك قيمة معونتكم التي لا تقدَّر يا سيدي، فلا أجد مندوحة من أن أضيف أنني إذا لم تعتقدوا أنني بريء اعتقادًا صحيحًا صادقًا، أوثر أن أحرم من عون مواهبكم، وفضل نبوغكم، عن الانتفاع بها.»
وقبل أن ينتهي المستر بكوك من هذه الخطبة التي نجد لزامًا علينا أن نقول: إنها كانت مملَّة له ثقيلة، كان الأستاذ اسنبن قد عاد من وقت طويل إلى الشرود وذهول الخاطر. على أنه لم يلبث بعد بضع دقائق أمسك فيها مرة أخرى قلمه أن عاد إلى الشعور بوجود عميليه، فرفع بصره عن الورق وقال في شيء من الحدة: «من المحامي الذي معي في هذه القضية؟»
وأجاب بركر: «المستر فنكي يا أستاذ اسنبن.»
وقال الأستاذ: «فنكي، فنكي، لم أسمع بهذا الاسم مطلقًا قبل الآن، لا بدَّ من أن يكون شابًّا صغيرًا؟»
وأجاب بركر: «نعم شابٌّ صغير جدًّا، ولم نفاتحه في الأمر إلا من يومين، دعني أتذكر، إنه لم يمضِ في الترافع أمام القضاء أكثر من ثمانية أعوام.»
وقال الأستاذ بتلك اللهجة الراثية المشفقة التي اعتاد الناس أن يتكلموا بها عن طفل صغير لا حول له ولا قوة: «آه! لم أكن أظن ذلك، يا مستر مالارد أرسل في طلب المستر … المستر …»
فعاجله بركر قائلًا: «فنكي، في هولبورن كورت بفندق جريز — وقد أصبح هولبورن كورت اليوم يدعى الميدان الجنوبي — وليقل الرسول إليه: إنني أحب أن يأتي لحظة إلى هنا.»
وانصرف المستر مالارد لتنفيذ المهمة، وعاد الأستاذ اسنبن إلى الذهول حتى قدم المستر فنكي.
وكان هذا رجلًا كامل النماء، وإن كان محاميًا صغيرًا، وهو يلوح عصبيًّا، متلعثمًا في منطقه إلى حدٍّ مؤلم، ولم يكن تلعثمه هذا عيبًا طبيعيًّا فيه، ولكن الظاهر أن مرده إلى التهيُّب من أثر الشعور بقلة المال، أو النفوذ، أو الاتصالات، أو الجرأة، وكان في رعب بالغ من الأستاذ اسنبن، ومؤدَّبًا غاية الأدب في حضرته.
وقال الأستاذ اسنبن بتنازل من عليائه وأوج موضعه: «لم أسعد قبل الآن برؤيتك يا مستر فنكي.»
فانحنى المستر فنكي، وكان قد أتيح له هو السرور برؤية الأستاذ اسنبن، والشعور بالحسد له أيضًا، بكل ما في صدر الرجل الفقير من الحسد، ثمانية أعوام وربع عام.
وقال الأستاذ اسنبن: «لقد علمت أنك معي في هذه القضية.»
ولو كان المستر فنكي رجلًا غنيًّا، لبعث في الحال إلى كاتبه لكي يذكره هل الأمر كذلك، ولو كان حكيمًا لرفع سبابته إلى جبهته، وحاول أن يتذكر هل تراه من زحمة الأعمال عليه قد ارتبط بالمرافعة في هذه القضية أو لم يرتبط، ولكنه لم يكن بالغني ولا بالحكيم في هذا المعنى على كل حال، فاحمرَّ وجهه وانحنى لسائله.
وقال الأستاذ اسنبن: «وهل قرأت أوراق القضية يا مستر فنكي؟»
وهنا أيضًا كان ينبغي للمستر فنكي أن يقر بأنه قد نسي كل ما يتصل بهذه القضية، أما وقد قرأ كل ما عرض عليه من الأوراق في خلال سير الدعوى، ولم يفكر في شيء عداها، لا في يقظته ولا في نومه، خلال الشهرين اللذين تولاها فيهما تحت يد الأستاذ اسنبن؛ فقد زاد احمرار وجهه، وانحنى مرة ثانية.
وقال الأستاذ اسنبن وهو يشير بقلمه إلى الناحية التي كان المستر بكوك واقفًا فيها: «ها هو ذا المستر بكوك.»
وانحنى المستر فنكي للمستر بكوك بذلك الاحترام الذي يثيره حتمًا أول زبون، ثم عاد يميل رأسه صوب مرشده.
وقال الأستاذ: «لا بأس أن تأخذ معك المستر بكوك، و… و… و… وتسمع منه ما يجب أن يقوله، وطبعًا سنجتمع للمشاورة.»
وبهذه العبارة أراد الأستاذ اسنبن أن يلمح بأنهم قد استنفدوا جزءًا كبيرًا من وقته، وقد بدا أكثر شرودًا من قبل، ورفع منظاره إلى عينيه لحظة وانحنى انحناءة خفيفة لمن حوله، وراح ينشغل كل الانشغال بالقضية التي أمامه، والتي تفرعت عن دعوى طويلة لا تنتهي، بسبب تصرف شخص تُوُفِّي منذ قرن مضى أو نحوه، وكان قد سدَّ طريقًا يؤدِّي من مكان لم يأتِ إنسان منه في يوم من الأيام إلى مكان آخر لم يذهب إنسان إليه يومًا ما.
ولم يقبل المستر فنكي أن يجتاز الباب حتى يجتازه المستر بكوك ووكيله قبله، فانقضت فترة من الوقت ريثما وصلوا إلى الميدان، وراحوا يمشون ذهابًا وجيئة فيه، وراحوا يتحدَّثون حديثًا طويلًا كانت نتيجته أنه من العسير للغاية القطع بنوع الحكم المنتظر في القضية، وأنه لا يستطيع امرؤ أن يعرف نهاية أية قضية معرفة اليقين، وأنه كان من حسن الحظ للغاية أنهم وُفِّقُوا إلى منع الخصوم من توكيل الأستاذ اسنبن عنهم، إلى غير ذلك من موضوعات تناولت التشكُّك في نتيجة القضية والعزاء عنها كما هو مألوف في هذه الأحوال.
وأيقظ المستر بكوك خادمه المستر ولر من نوم لذيذ استغرق ساعة كاملة، وودع لوتن وعادا إلى المدينة.