الفصل الثالث والثلاثون
وفيه يشرح المستر ولر الكبير بعض الانتقادات على الإنشاء الأدبي، ويشترك مع ابنه صمويل في شيء من التشفي والثأر من السيد المحترم ذي الأنف الأحمر.
***
كان صباح اليوم الثالث عشر من شهر فبراير الذي يعرف قُرَّاءُ هذه القصة المروية عن مصادرها الصحيحة، كما نعرف نحن أنه اليوم السابق لموعد النظر في قضية مسز باردل، كان هذا الصباح كثير العمل للمستر صمويل ولر؛ فقد انشغل فيه بالرواح إلى مكتب المستر بركر من فندق «جورج والرخم» والغدو منه، بين التاسعة صباحًا والثانية بعد الظهر بما في ذلك هاتين الساعتين، لا لشيء يقتضي عمله، ولا لإجراء يُراد اتخاذه؛ فقد تمت الاستشارات، وتقررت خطة العمل، ولكن المستر بكوك كان في أشد حالات القلق والاضطراب فمضى يرسل رقاعًا صغيرة غير منقطعة إلى محاميه لا تحوي سوى سؤال واحد، وهو: «عزيزي بركر … هل كل شيء على ما يرام؟» وكانت ردود المستر بركر عليها لا تزيد على قوله: «عزيزي بكوك، كل شيء حسن ما أمكن.» والواقع كما أسلفنا أنه لم يكن ثمة شيء حسن أو سيئ، ولا أي إجراء يصح أن يتخذ، ريثما تنعقد المحكمة في صباح اليوم التالي.
ولكن الذين يذهبون طائعين إلى القضاء أو يُساقون إلى ساحته كرهًا، يعانون — ولهم العذر — بعض الاضطراب والقلق فترة من الوقت، فلا عجب إذا كان سام قد راعى هذا الضعف في الطبيعة البشرية، فامتثل لكل أوامر سيده وإشاراته، بذلك الهدوء التام الذي لا يزعجه شيء، وتلك السكينة الوادعة التي لا تعرف التأبِّي والكنود، وهي إحدى مزايا خليقته المحببة العجيبة.
ومضى سام يعزِّي نفسه بغداء شهي، قليل، وكان منتظرًا في محل الشراب حتى تُقَدَّم إليه كأس من الشراب الدفئ التي طلب إليه المستر بكوك أن يتعاطاها ليُذهب عنه متاعب الصباح ورسالاته، وإذا هو يبصر غلامًا يبلغ طول قامته نحو ثلاث أقدام ويضع على رأسه قبعة كثيرة الشعر ويرتدي ثوبًا سابغًا من القطن الغزير الوبر، يوحي بأنه يتطلع إلى الارتقاء على الأيام إلى صنعة سائس خيل، وهو يدخل ردهة الفندق، ويرفع بصره أولًا نحو السُّلَّم، ثم يجيله في الردهة، ثم يرنو إلى مكان الشراب كمن يبحث عن إنسان قد حمل رسالة إليه، وإذا الساقية المكلَّفة بالخدمة في مكان الشراب يذهب بها الظن إلى أن المهمة التي جاء الغلام من أجلها قد تكون ذات صلة بملاعق الشاي أو الطعام في الفندق، فراحت تخاطبه قائلة: «ماذا تريد أيها الشاب؟»
وقال الغلام بصوت جهير كأعلى الأنغام في الموسيقى: «هل هنا شخص يدعى سام؟»
واستدار سام ولر قائلًا: «وما الاسم الآخر؟»
وأجاب الغلام ذو القنسوة الكثيرة الشعر في عجلة: «ومن أين لي أن أعرف؟!»
وقال المستر ولر: «إنك لغلام حادٌّ فطن، ولكني لو كنت في مركزك لما أظهرت هذه الحدة كثيرًا، حتى لا ينزعها أحد منك. ماذا تقصد من المجيء إلى فندق والسؤال عن سام بهذا الأدب الجم الذي لا يكون إلا من رجل هندي؟»
وأجاب الغلام: «لأن سيدًا متقدمًا في السن طلب إلي ذلك.»
وقال سام باحتقار بالغ: «أي سيد كبير في السن؟»
وأجاب الغلام: «إنه سائق المركبة الحافلة التي تسافر إلى إبسويتش، ويستخدم غرفتنا؛ فقد قال لي صباح أمس: اذهب إلى فندق جورج والرخم بعد ظهر اليوم واسأل عن سام.»
وقال المستر ولر وهو يلتفت إلى الساقية شارحًا مفسرًا: «هذا والدي يا عزيزتي، وأعتقد أنه لا يعرف اسمي الآخر، والآن أيها الفرخ ماذا وراءك؟»
وقال الغلام: «لقد طلب إليَّ أن أبلغك أنه يريد أن تذهب في الساعة السادسة لمقابلته في فندقنا «الخنزير البري الأزرق» بسوق لدنهول، فهل أبلغه أنك آتٍ؟»
وأجاب سام: «لك أن تقول له ذلك يا سيدي.»
وانصرف الغلام بعد أن تلقى هذا التفويض، وهو يملأ الشارع أصدية لصفير متكرر متردد يقلد به في إتقان تام صوت راعي الغنم بنغمات شجية قوية، وصوت ممتلئ.
واستأذن المستر ولر في الغياب من المستر بكوك، وكان هذا في حال من القلق وانشغال البال، فلم يسؤه أن يبقى وحده، وانطلق قبل الموعد المضروب بوقت طويل، ووجد أمامه فسحة فيه فذهب يمشي الهوينا حتى بلغ دار المحافظة؛ حيث وقف يتأمل — وقد بدا على وجه الهدوء التام، بسمات الفلاسفة — جموع السفلة وسائقي المركبات الذين يتجمعون عادة حول تلك الدار المشهورة، ويروعون النساء العجائز من سكان ذلك الحي. ولما قضى في ذلك الموضع نصف ساعة أو نحوه متجولًا متسكعًا، استدار ليأخذ الطريق إلى سوق لدنهول متسللًا من شوارع خلفية وأفنية، وفيما كان ذلك؛ إذ وقف ليشاهد كل ما يأخذ عينه، فلا عجب إذا هو وقف حيال واجهة حانوت صغير لبيع الأدوات الكتابية والورق، ولكن العجب الذي يحتاج إلى تفسير أنه ما كادت عيناه تستقران على صور معروضة للبيع في ذلك المتجر حتى أخذته رِعدة فجائية، وضرب ساقه اليمنى بعنف شديد وصاح بحماسة: «لولا هذا لنسيت كل شيء، وتأخرت أكثر مما ينبغي.»
وكانت الصورة التي استقرت عليها عيناه وهو يقول هذه الكلمات صورة بالألوان تمثل قلبين بشريين يمسكهما معًا سهم نافذ، وهما يطهوان الطعام أمام نار بهيجة مفرحة، بينما يقترب منهما رجل وامرأة من أكلة اللحوم البشرية في زي حديث؛ فقد كان السيد مرتديًا ثوبًا أزرقَ وسراويلَ بيضاءَ والمرأة في ثوب أحمر، ومظلة من اللون ذاته، وكانا ينظران إلى الطعام بأعين جائعة، وهما قادمان من منعطف مفروش بالحصباء يؤدي إلى ذلك الموضع، وقد بدا في الصورة فتى خشن جريء ليس عليه غير جناحين خفَّاقين، يشرف على طهو الطعام، ولاحت صورة قبة الكنيسة القائمة في ميدان لانجام في لندن من بعيد، والصورة في جملتها رسالة حب كما تقول لافتة صغيرة في واجهة المتجر، وتعلن عن وفرة أنواع كثيرة منها فيه، ويقرر التاجر أنه على استعداد لبيعها لمواطنيه عامة بسعر مخفض لا يتجاوز شلنًا وستة بنسات لكل واحدة.
وقال سام لنفسه: «لقد كنت سأنسى ذلك بلا شك، كنت سأنساه!» واندفع في الحال إلى المتجر وطلب ورقًا من أحسن أنواع الورق الذي تُكتب الخطابات عليه ويزدان بحواشيه المذهبة، وقلمًا صُلب السن مضمون ألا ينثر المداد على الصفحة، ولما فرغ من اقتناء الورق والقلم انطلق رأسًا صوب سوق لدنهول منفرج الخطى بعد ذلك التسكع الذي كان منه، وأجال البصر حوله فرأى لافتة صور عليها الرسام شيئًا بعيد الشبه بفيل أزرق شديد الزرقة ذي أنف أقنى، بدلًا من الخرطوم، فذهب به الظن إلى أن هذا هو الخنزير البري الأزرق ذاته وكان الظن صادقًا، فدخل الفندق وسأل عن أبيه.
وأجابت الفتاة التي تشرف على المحل: «لا ينتظر أن يأتي قبل ثلاثة أرباع أو أكثر.»
وقال سام: «حسن جدًّا يا عزيزتي، هلا تكرمت يا آنسة عليَّ بما يساوي بنسات من البراندي والماء الدفئ ودواة؟»
وحمل الشراب والدواة إلى الغرفة الصغيرة المعدة للجلوس، وراحت الفتاة بعناية ظاهرة تسوي الجذوات التي في الموقد؛ لتمنعها من التأجج، وحملت معها «المحراك» حتى لا يبقى ثمة احتمال لتحريكها قبل استئذان الخنزير البري الأزرق، والحصول على موافقته.
وجلس سام ولر في مقصورة بقرب الموقدة وأخرج الخطاب المذهب الحواشي والقلم الصُّلب السن ونظر مليًّا إليه حتى يستوثق من أنه خالٍ من أية شعرة أو نحوها، ونفض المائدة نفضًا، حتى لا يبقى فتات من الخبز تحت الخطاب، وشمر عن ساعديه وأسند مرفقيه، واستعد للكتابة.
ولا يخفى أن الذين لم يألفوا التوفُّر فعًلا على علم الكتابة، وحرفة القلم، لا يجدون تحرير خطاب مهمة سهلة يسيرة عليهم.
والمشاهد عامة أن الكاتب يجد أن لا مندوحة له في هذه الحال عن إسناد رأسه إلى ذراعه اليسرى حتى يضع عينيه أقرب ما تكونان من مستوى الورق، وإلقاء النظر جانبيًّا إلى الحروف التي يبنيها بالقلم ويؤلِّف بلسانه حروفًا تصويرية تقابلها، وهي جميعًا حركات تساعد بلا نزاع على الإنشاء أكبر المساعدة، ولكنها تؤخِّر الكاتب كثيرًا وتأخذ إلى حدٍّ ما من وقته، فلا عجب إذا قضى سام وهو لا يدري ساعة ونصف ساعة يكتب كلمات قليلة العدد، ويمحو حروفًا جاءت خطأ منه بخنصره، ويستعيض عنها حروفًا أخرى اقتضت منه العودة غالبًا إليها؛ ليجعلها ظاهرة للعين من خلال البقع القديمة، وإنه لكذلك مستغرق في تحرير الخطاب؛ إذ وجد الباب قد فتح، وإذا أبوه يدخل عليه.
وقال الوالد: «أهلًا سامي!»
وأجاب المستر ولر الكبير وهو يفك لفاعته: «قضت مسز ولر ليلة طيبة جدًّا ولكنها بدت على غير العادة في هذا الصباح هائجة حادة المزاج … التوقيع طبق الأصل. السيد س. ولر الكبير.» هذه هي النشرة الأخيرة التي صدرت يا سامي.
وسأل سام قائلًا: «ألم تتحسن إلى الآن؟»
وأجاب المستر ولر وهو يهز رأسه: «بالعكس، لقد اشتدت الأعراض كلها وتفاقمت، ولكن ما هذا الذي تفعله؟ أتتابع العلم في ظروف شاقة؟»
وقال سام في شيء من الارتباك: «لقد انتهيت الآن، لقد كنت أكتب.»
وأجاب المستر ولر: «يظهر أن الأمر كذلك، ولكن أرجو ألا يكون ما تكتبه مرسلًا إلى إحدى الشابات يا سامي.»
وقال سام: «لا فائدة من الإنكار، إنها رسالة غرامية.»
وصاح المستر ولر وقد بدا مروَّعًا من هذه الكلمة: «ماذا تقول؟!»
وأجاب سام: «رسالة غرام.»
وقال المستر ولر بلهجة العتاب: «صمويل، صمويل، ما كنت أعتقد أنك تفعل شيئًا كهذا، بعد الإنذار الذي تلقيته من أبيك ونزعاته السيئة التي جلبت عليه الشر والضر، وبعد كل الذي قلته في هذه المسألة بالذات، وبعد كل ما رأيته وقاسيته من امرأة أبيك، وكنت أعتقد أنه درس أخلاقي لا يمكن أن ينساه أحد إلى يوم مماته، ما كنت أعتقد يا سامي أنك ستفعل ذلك.»
وكانت هذه الأفكار شديدة الأثر في نفس الشيخ الطيب فرفع كأس سام إلى شفتيه وشرب كل ما فيها.
وقال سام: «وما القصة الآن؟»
وأجاب المستر ولر: «لا بأس يا سامي، إنها ستكون محنة أليمة في هذه السن، ولكني لا أزال شديد البأس، وهذا بعض العزاء كما قال الديك الرومي العجوز حين سمع المزارع يقول: إنه يخشى أن يكون مضطرًّا إلى ذبحه لبيعه في سوق لندن.»
وقال سام: «وما وجه المحنة التي تتكلم عنها؟!»
وأجاب والدي: «أن أراك تتزوج يا سامي، وأن أشهدك ضحية الأوهام، تظن في سذاجتك أن الزواج شيء بديع، إنها ستكون تجربة فظيعة لشعور الوالد الذي يجلس أمامك يا سامي.»
وقال سام: «هراء، من قال: إنني قادم على الزواج؟! لا تشغل بالك وتتكدر هذا الكدر كله من هذه المسألة. إنني عارف أنك خير من يحكم في هذه المسائل ونحوها، اطلب قصبتك، وأنا سأقرأ الخطاب عليك، اسمع يا سيدي.»
وليس في إمكاننا القول هل كان ارتقاب الاستمتاع بالقصبة أو التعزي بالاعتقاد أنه قد كتب في خطة الأقدار أن الزواج متوارَث في الأسرة فلا حيلة في رده، هو الذي هدأ من ثائرة المستر ولر وخفَّف من حزنه، ولكنا نميل إلى القول بأن النتيجة تحققت باقتران هذين السببين معًا؛ لأنه مضى يردد السبب الثاني بصوت خافت، ويكثر في الوقت ذاته من دق الجرس ليطلب الأول، وهو «القصبة»، ثم راح يخلع عنه رداءه، ويشعل القصبة، ويتخذ مجلسه قبالة النار المشبوبة موليًا إليها ظهره حتى يحس أوارها كاملًا، ويعتمد بمرفقه على سجافه المصطلى، ويدير وجهه إلى سام، وقد خفف تأثير التبغ كثيرًا من انقباض سحنته، وطلب إليه أن يبدأ القراءة.
وغمس سام القلم في المداد؛ استعدادًا لأي تصحيح، وبدأ بلهجة مسرحية يقرأ: «أيتها المخلوقة الجميلة.»
وصاح المستر ولر وهو يدق الجرس: «قف … كأس مزدوجة من الصنف الذي لا يتغير أبدًا، يا عزيزتي.»
وأجابت الفتاة التي ظهرت بسرعة بالغة وتوارت، فعادت، ثم اختفت: «سمعًا وطاعة يا سيدي.»
وقال سام: «يظهر أنهم عارفون هنا بأحوالك.»
وأجاب الوالد: «أي نعم، لقد كنت هنا من زمان بعيد! استمر يا سامي.»
وعاد سام يكرر الديباجة: «أيتها المخلوقة الجميلة.»
ولكن الوالد قاطعه قائلًا: «ليس هذا بالشعر يا سام، أهو كذلك؟»
وأجاب سام قائلًا: «كلا، كلا.»
وقال المستر ولر: «يسرني أن أسمع ذلك، إن الشعر شيء غير طبيعي، ولم أرَ في حياتي أحدًا يتكلم بالشعر إلا الشَّمَّاس، في يوم الإحسان، الذي يتلو عيد الميلاد، أو الإعلانات عن ورنيش وارن رولاند أو بعض أولئك الأراذل، فأنصح لك يا بني أن لا تنساق إلى الكلام بالشعر، ابدأ من الأول يا سامي.»
وواصل المستر ولر الاستمتاع بقصبته بادي الجد، متحفزًا للنقد، وعاد سام يقرأ ما يلي: «أيتها المخلوقة الجميلة، إنني لأشعر بأنني ملعون …»
وأخرج المستر ولر القصبة من فمه وقال: «هذا كلام لا يناسب.»
ولكن سام مضى يقول، وهو يمسك الورقة أمام النور: «لا، ليست الكلمة ملعون؛ فإن هنا بقعة حبر سقطت على الكلمة فطمستها، إنها لا بد من أن تكون «خجلان»، والصحيح إذن هو: إني لأشعر بأنني خجلان.»
وقال المستر ولر: «حسن جدًّا، استمر.»
واستتلى سام، وهو يهرأ رأسه بالقلم محاولًا عبثًا أن يتذكر الكلمة التالية: «وإنني من جميع الجهات محا …»
وقال الوالد: «لماذا لا تنظر إليها؟»
وأجاب سام: «هذا ما أنا مجتهد فيه، ولكن هنا بقعه حبر أخرى، ولا أرى من حروف الكلمة غير الحاء والصاد والراء.»
وقال المستر ولر مقترحًا: «ألا يجوز أن تكون محاطًا؟»
وأجاب سام: «لا، ليست هذه هي الكلمة؛ إنها محاصر، هي حقيقة.»
وقال المستر ولر بكل جد: «هذه ليست الكلمة المناسبة، إنها ليست لفظة جيدة كقولك: محاط، يا سامي.»
وقال سام: «ألا تظنها؟»
وأجاب الوالد: «لا، ليست مثلها بحال.»
وسأل سام والده: «ولكن ألا ترى أن كلمة محاصر أكثر معنى؟»
وقال المستر ولر بعد تفكير قصير: «يمكن أن تكون ألطف وأرق، استمر يا سامي.»
«أشعر بأنني خجلان ومن جميع الجهات محاصر في الكتابة إليك؛ لأنك فتاة لطيفة، ولا شيء غير لطيفة.»
وقال المستر ولر الكبير، وهو يزيل القصبة من فمه ليُبدي رأيه: «هذا شعور جميل جدًّا.»
وأجاب سام وقد تأثر كثيرًا بهذا الثناء: «نعم أعتقد أن هذا الكلام جميل فعلًا.»
وقال المستر ولر: «إن ما أستلطفه من هذا الأسلوب في الكتابة هو أنك لا تدخل فيه أوصافًا ولا أسماء، كقولهم فينوس ولا شيئًا من هذا القبيل، ما الفائدة من تسمية بنت أو فتاة جميلة بأنها فينوس أو ملاك يا سامي؟»
وأجاب سام: «آه، صحيح ما الفائدة؟»
وأجاب سام: «فعلًا.»
وقال الوالد: «استمر يا سامي.»
واستجاب سام للأمر ومضى يقرأ، وظل أبوه يدخن، وقد بدت عليه سمات الحكمة المقترنة بالارتياح والرضى، وهي في ذاتها وترفع الروح المعنوية وتعزز قواها: «وقد كنت قبل أن أراك أحسب النساء جميعًا متشابهات.»
وقال المستر ولر على سبيل الاعتراض: «وإنهن فعلًا كذلك.»
وواصل سام القراءة: «ولكني أشعر الآن بأني كنت فيما أحسبه خفيف العقل حتمًا وغرًّا لا يتصوره أحد؛ لأنه ليس فيهن واحدة مثلك وإن كنت أحبك أكثر من أي شيء آخر.»
وهنا رفع سام بصره عن الكتاب وقال: «لقد كنت أظن أن هذه النقطة يجب أن تكون أقوى من هذا.»
وأومأ المستر ولر إيماءة الموافقة، وواصل سام القراءة: «ولهذا أنتهز مناسبة اليوم يا عزيزتي ماري، كما فعل السيد التعبان المرتبك، حين خرج في يوم أحد، فأقول لك: إن جمالك في المرة الأولى والأخيرة التي رأيتك فيها، استولى على فؤادي بأسرع وأجمل ألوانًا من أي جمال تلتقطه آلة تصوير كالتي يُحتمل أن تكوني قد سمعت بها يا عزيزتي ماري، وإن كانت هذه الآلة تنتهي من أخذ الصورة وتضعها في الإطار وعليها لوح الزجاج، ومعها خطاف لتعليقها فوق الجدار، في دقيقتين وربع دقيقة.»
وقال المستر ولر متشككًا: «أخشى أن يكون هذا الكلام يقترب من حدود الشعر يا سامي.»
وأجاب سام وهو يقرأ بسرعة بالغة؛ تجنبًا للمناقشة في هذه النقطة: «كلا، لا تخف. فأرجو منك يا عزيزتي ماري أن تقبليني متيمًا بك، وتتدبري ما قلته، والسلام ختام. هذا هو ما في الخطاب.»
وقال المستر ولر: «ألا تظن يا سامي أن هذا الختام جاء مفاجئًا ومبتورًا؟»
وقال سام: «لا شيء من هذا، إنها ستتمنى لو كان في الخطاب كلام آخر، وهذا هو الفن العظيم، فن كتابة الرسائل.»
وأجاب المستر ولر: «إن في ما تقوله شيئًا من الصواب، وكنت أتمنى لو أن امرأة أبيك تراعي في كلامها هذا المبدأ اللطيف، ألا تنوي أن تمضي الخطاب؟»
وقال سام: «هذه هي الصعوبة؛ لأني لا أعرف بماذا أمضيه؟»
وقال أكبر من يحمل هذا الاسم من الأحياء: «امض ولر.»
وقال سام: «هذا لا يليق؛ لأن العادة ألا يمضي أحد رسالة غرام في هذه المناسبة المعروفة باسمه الحقيقي.»
وقال المستر ولر: «أقول لك: امضه بكوك فهو اسم حسن جدًّا، وسهل في الهجاء أيضًا.»
وقال سام: «هذه أحسن فكرة، وفي إمكاني أن أختم ببيت من الشعر، فما رأيك؟»
وأجاب المستر ولر: «أنا لا أحب الشعر يا سام، ولم أر في حياتي سائقًا محترمًا يكتبه، اللهم إلا واحدًا، اقتبس أبياتًا منه في الليلة السابقة لتنفيذ حكم الشنق فيه، ولكنه لم يكن سوى سائق من كامبرويل، وحتى هذا لا يعد قاعدة.»
ولكن هذا الاعتراض لم يستطع أن يحمل سام على الامتناع عن الفكرة الشعرية التي خطرت له، فراح يمضي الخطاب بالتوقيع التالي: «الولهان المرتبك، بكوك».
وطوى الكتاب، بشكل معقَّد كل التعقيد وأنشأ يكتب العنوان في خط منحدر في زاوية من الغلاف هكذا: «إلى ماري الوصيفة في دار المستر نبكن عمدة إبسويتش بولاية سافوك»، ودس الخطاب في جيبه بعد تغليفه؛ استعدادًا لإلقائه في صندوق البريد.
وبعد أن انتهت هذه العملية الخطيرة بدأ المستر ولر الكبير يفتح باب الكلام في المسألة التي دعا ابنه من أجلها.
قال: «المسألة الأولى تتصل «بمعلمك» يا سامي، إنه سيحاكَم غدًا، أليس كذلك؟»
وأجاب سام: «إن الجلسة ستعقد فعلًا.»
ومضى المستر ولر: «وأظن أنه سيحتاج إلى استدعاء شهود نفي لإثبات حسن سلوكه وأخلاقه، أو ربما لكي يثبتوا أنه لم يكن في محل الواقعة عند حدوثها، وقد فكرت في هذه المسألة كثيرًا، فليطمئن يا سامي وليهدأ باله؛ فإن لدي أصدقاء يستطيعون أن يؤدوا أية واحدة منهما، ولكن نصيحتي هي أن لا ضرورة لشهود أخلاق، والتمسك بالطريقة الثانية، فليس هناك شيء يعادلها يا سامي في القوة والتأثير.»
وبدا على المستر ولر التفكير العميق وهو يلقي بهذا الرأي القانوني، وراح يدفن أنفه في الكأس ويغمز بطرف عينه من فوق حافتها لوالده المندهش منه.
وأجاب المستر ولر: «لا دخل لهذا يا سامي في هذا الرأي الذي عرضته الآن، فمهما تكن المحكمة التي سيحاكم أمامها؛ فإن هذا الإثبات الذي شرحته لك، وهو عدم وجوده وقتئذٍ في مكان الواقعة، هو الوسيلة الوحيدة لإخراجه من هذه القضية؛ فقد استطعنا في قضية توم فيلد سبارك الذي كان متهمًا بجناية قتل إخراجه منها بإثبات غيابه، مع أن كل كبار المحامين أجمعوا على أنه لن ينقذه شيء، وأنا من رأيي يا سامي أنه إذا لم يتقدم معلمك بهذا الدليل، فسوف ينتهي إلى ما يقوله الإيطاليون، وهو أنه سيُكبس كبسة لا خروج له منها، هذا هو كل ما في الموضوع.»
وكان المستر ولر مقتنعًا اقتناعًا جازمًا لا حول عنه، بأن «الأولد بيلي» هي المحكمة العليا في البلاد، وأن إجراءاتها بمختلف أنواعها وأشكالها هي التي تنظم إجراءات سائر المحاكم الأخرى مهما يختلف اختصاصها، فلا عجب إذا هو لم يَعْبَأْ مطلقًا بحجج ابنه وتوكيداته أن التذرع بعدم وجود سيدِه في مكان الحادث غير مقبول ولا جائز، وأصر على الاحتجاج بأن المستر بكوك وقع «ضحية»، ولا نجاة له منها إلا بهذا الدليل، ورأى أن لا فائدة من مطال الجدل في هذه المسألة، فغير الموضوع وسأل عن المسألة الثانية التي طلب الوالد المحترم إليه الحضور للاستئناس فيها برأيه.
وأجاب المستر ولر: «أما المسألة الثانية فهي شيء يتعلق بالسياسة المنزلية يا سامي؛ فإن ذلك المدعو ستيجنز …»
وسأل سام قائلًا: «أتقصد الرجل ذا الأنف الأحمر؟»
وأجاب الوالد: «هو بعينه، إن هذا الرجل ذا الأنف الأحمر يا سامي مستمر على زيارة امرأة أبيك بعطف وموالاة لم أرَ مثلهما في حياتي، فهو صديق للأسرة إلى حد لا يستريح له خاطر كلما غاب عنَّا، حتى يعرض له شيء فيتذكرنا به.»
وقاطعه سام بقوله: «لو كنت في مكانك لناولته شيئًا يكفي لإحراق ذاكرته بالنفط لعشر سنين قادمة أو نحوها.»
وقام سام: «وأحسبه يفرغها قبل أن يعود مرة أخرى؟»
وأجاب المستر ولر: «ولا يُبْقشي على قطرة واحدة منها، فلا يدع شيئًا غير الغطاء والرائحة، تأكد ذلك يا سامي، هذا شيء مضمون. والآن يا بني، إن هؤلاء الناس سيعقدون الليلة الاجتماع الشهري لشعبة بريك لين التابعة لاتحاد جمعيات منع المُسْكِرَات في إبنزر، وكانت امرأة أبيك تنوي حضوره، ولكنها تشكو أوجاع النقرس فلا تستطيع، وأنا يا سامي عندي بطاقتا الدعوة اللتان أرسلتا إليها.»
وكان المستر ولر يكاشف ابنه بهذا السر وهو في سرور بالغ، ولا يكف عن الغمز خلال حديثه وبعده، حتى بدأ سام يظن أنه لا بد قد أصيب بتشنُّج في جفن عينه اليسرى.
وقال سام: «وماذا بعد؟»
وأجاب الوالد وهو يتلفَّت في حذر شديد: «وماذا بعد؟ سنذهب أنا وأنت في الموعد المضروب، وأما نائب الراعي يا سامي فلن يذهب، لن يذهب نائب الراعي.»
وانتابته عندئذٍ نوبة ضحك، انتهت شيئًا فشيئًا إلى شبه اختناق قلَّما يحتمله رجل كبير في السن، أو يسلم من شره.
وصاح سام قائلًا وهو يضرب الشيخ على ظهره ليُزيل منه هذا الاختناق بقوة التدليك والاحتكاك: «والله لم أشهد في حياتي كلها عفريتًا عجوزًا بهذا الشكل! ما الذي يضحكك أيها البدين؟!»
وقال المستر ولر مُخافِتًا وهو يتلفت حوله في مزيد من الحذر والإحتياط: «صه، يا سامي، إن لي صديقين يشتغلان على طريق أوكسفورد، ولا يترددان في الإقدام على أي عمل كان، وقد عرفا نائب الراعي وظلَّا يقطرانه يا سامي ويقتفيان أثره، وحين يحضر اجتماع الشعبة في ملتقى إبنزر؛ لأنه حتمًا سيذهب، وسيتبعانه حتى الباب، بل سيدفعانه إلى الداخل إذا احتاج الأمر، وسيكون عندئذٍ قد عب من الروم والماء مثل ما اعتاد أن يعب في حانة المركيز جرانبي في دوركنج، وهو قول لا يغض من مقدار شربه على كل حال.»
وعاد المستر ولر إلى نوبة الضحك الشديد، واستولت عليه حالة الاختناق الجزئي بسببها، ولم يكن ثَمَّةَ شيء أكثر إرضاءً لمشاعر سام من هذا المشروع الذي يرمي إلى فضح ذلك الرجل ذي الأنف الأحمر وكشف حقيقته وجملة عيوبه ومساوئه، وكان الوقت قد حان لحضور الاجتماع؛ فاتَّخذ الأب وابنه طريقهما في الحال إلى حي بريك لين، ولم ينسَ سام في الطريق أن يُلقي خطابه في صندوق البريد.
وكان اجتماع شعبة بريك لين التابعة لاتحاد منع المسكرات يقام مرة كل شهر في قاعة رحيبة الجوانب تقع في نهاية سلم مريح، وموضع لطيف تهب عليه الأنسام، وكان رئيس الشعبة هو المستر أنتوني هم المستوي القامة في مشيته، وهو رجل كان يشتغل من قبل في المطافئ، ثم أصبح ناظر مدرسة، وبين الفينة والفينة واعظًا متنقلًا، وكان أمينها المستر جوناس مج، وهو صاحب متجر للشمع متحمس للفكرة خلي من المآرب الذاتية، اعتاد أن يبيع الشاي للأعضاء.
وكانت السيدات في هذا الاجتماع بالذات قد شربن من فوق الدكك ومَضَيْن يتناولن الشاي فترة من الوقت إلى أن رأين أنه قد حان لهن أن يمتنعن عنه، فجيء عندئذٍ بصندوق خشبي كبير لجمع التبرعات فيه فوُضع في مكان ظاهر فوق الغطاء الأخضر الذي يكسو المنضدة المقامة فوق المنصة، والتي وقف خلفها الأمين وجعل يبتسم ابتسامة المتفضل لكل مبلغ يُضاف إلى ما حوى جوف الصندوق من نقود نحاسية كثيرة.
وكانت السيدات في هذا الاجتماع بالذات قد شرِبن من الشاي قدرًا يدعو إلى أشد الفزع، حتى لقد هال مشهدهن على هذا النحو المستر ولر الكبير الذي لم يبالِ قط بكل وكزات سام له بمرفقه وجعل يتلفت حوله في كل ناحية بدهشة ظاهرة لا تخفى على أحد، وراح يهمس قائلًا: «اسمع يا سامي، إذا لم يحتج بعض هؤلاء الذين هنا صباح غدٍ إلى مُلَيِّنٍ فما أنا أبوك، هذه هي الحقيقة، ألا ترى هذه العجوز الجالسة بجانبي، إنها أغرقت نفسها في موجة من الشاي.»
وغمغم سام قائلًا: «اسكت، ألا يمكن أن تسكت؟!»
وعاد المستر ولر بعد لحظة أخرى يخافت بصوته قائلًا في هياج بالغ: «اسمع كلامي يا بني، إذا استمر هذا الأمين خمس دقائق أخرى فسينفجر من كثرة الخبز الحميص والماء اللذين يسكبهما في جوفه.»
وأجاب سام: «لينفجر إذا شاء، هذا ليس من شأنك.»
وعاد المستر ولر يقول بصوته المخافت ذاته: «إذا استمرت الحال على هذا المنوال فسأشعر أنه من واجبي بوصفي إنسانًا أن أنهض وأتكلم، إن في الصف التالي بعد صفين اثنين شابة شربت تسعة فناجين ونصف فنجان إلى الآن، حتى أخذت تتورم ويرتفع كرشها أمام عيني اللتين في رأسي.»
ولا شك في أن المستر ولر كان سيعمد في الحال إلى تنفيذ هذه النية التي بعثها في نفسه حبه للخير، لو لم تقُم لحسن الحظ ضجة بسبب حركة رفع الفناجين والأقداح؛ إيذانًا بانتهاء القوم من تناول الشاي، وما كادت الأوعية والصحاف تُزال حتى نقلت المنضدة ذات الكساء الأخضر إلى وسط القاعة، وابتدأ الاجتماع بقيام رجل قصير القامة أصلع في سراويل قصيرة خلقة، وانطلق فجأة يصعد السلم، حتى ليكاد يتعرض من سرعته لخطر كسر ساقيه القصيرتين المحتجبتين في جوف تلك السراويل وأنشأ يقول: «أيتها السيدات، أيها السادة: إنني أدعو أخانا الرجل الممتاز المستر أنتوني هم إلى اتخاذ مقعد الرياسة.»
فلم يكن من السيدات إلا أن لوَّحن في الفضاء بمجموعة مختارة من مناديل الجيب؛ ارتياحًا لهذا الاقتراح، وانثنى ذلك الرجل القصير المتهور يجر المستر هم جرًّا إلى كرسي الرياسة؛ فقد أخذه من كتفيه ودفع به إلى مقعد من خشب المجنة، كان يومًا ما جزءًا من ذلك الأثاث، وتَجدَّد التلويح بالمناديل، فلم يسع المستر هم — وهو رجل هادئ أبيض الوجه، لا ينقطع عن التصبُّب عرقًا — إلا أن ينحني انحناءة وادعة، اسستثارت إعجاب السيدات الشديد، واتخذ مجلس الصدارة، وعندئذٍ طلب الرجل القصير الإخلاد إلى السكون، ونهض المستر هم فقال إنه بعد استئذان الإخوان والأخوات أعضاء شعبة بريك لين المجتمعين، سيقرأ أمين الاجتماع عليهم التقرير الذي وضعته لجنة الشعبة، وقد قوبل هذا الاقتراح أيضًا بتلويح المناديل.
تقرير لجنة شعبة بريك لين التابعة لاتحاد منع المسكرات في ملتقى إبنزر
- (١)
ﻫ. ووكر حائك وله زوجة وولدان: لقد اعترف هذا الحائك حين تحسنت ظروفه بأنه كان من مدمني شرب الجعة بنوعيها القوية والخفيفة، ويقول إنه ليس متأكدًا هل كان يذوق مرتين في الأسبوع «أنف الكلب» خلال العشرين السنة الماضية، وقد تحرَّت لجنتكم عن هذا الشراب فعلمت أنه صنف من الأشربة مركب من النبيذ الدفئ والسكر المبلول والجن وجوزة الطيب (أنين، وصوت يقول: «هو كذلك فعلًا» من جانب سيدة متقدمة في السن) وهو الآن خالٍ من العمل، لا يملك درهمًا، ويظن أنه لا بد من أن يكون مَرَد ذلك إلى النبيذ (هتاف) أو فقدان حركة يده اليمنى، وإن لم يكن متأكدًا أيهما أصح، ولكنه يرجح أنه لو كان قد قضى الحياة كلها يشرب الماء القراح لما استطاع زميل له في العمل أن يُدخل إبرة صدئة في جسمه، ولما أحدث له هذه الإصابة (هتاف شديد)، وهو الآن لا يجد ما يشربه غير الماء البارد، ولا يحس يومًا عطشًا.» (تصفيق حاد).
- (٢)
بتسي مارتن: أرملة ولها ولد واحد وعين واحدة، تقضي نهارها في غسل الثياب والخدمة اليومية في البيوت، ولم يكن لها في يوم من الأيام غير هذه العين الواحدة، ولكنها تعرف أن أمها كانت تشرب الجعة السوداء المعبأة في الزجاجات، ولا تعجب إذا كان مصابها بالعور مرجعه إلى هذا السبب (هتاف بالغ)، وتعتقد أنه لم يكن من المتعذر أن تكون لها الآن عينان اثنتان لو أنها كانت ممتنعة عن تعاطي الكحول، (تصفيق مدوٍّ) وكانت في كل مكان تذهب إليه تتناول عادة ثمانية عشر بنسًا في اليوم، وفنتًا من الجعة، وزجاجة من الخمر الشديدة الكحول. ولكنها منذ أصبحت عضوًا في شعبة بريك لين جعلت تطالب دائمًا بثلاثة شلنات وستة بنسات بدلًا من أجرها القديم.» (وقد قوبل إعلان هذا النبأ البالغ الأهمية بحماسة تصم الآذان).
- (٣)
هنري بلر: وهو رجل ظل عدة سنين مشرفًا على تقديم الأنجاب في عدة مآدب للجمعيات والشركات المتحدة، وكان خلال هذه الفترة يكثر من تعاطي النبيذ الأجنبي، ولعله كان أحيانًا يحمل زجاجة أو زجاجتين منه وهو عائد إلى بيته، وليس هو على يقين تام، وإن كان متأكدًا من أنه إذا فعل كان يشرب كل ما فيهما، ويشعر بهبوط نفسي شديد واكتئاب، وحمى بالغة، ويحس في أعماقه بعطش مستمر، ويظن أن هذا الظمأ راجع بلا شك إلى النبيذ الذي كان يعاقره (هتاف) وهو الآن خالٍ من العمل ولا يتناول إطلاقًا قطرة من النبيذ الأجنبي بحالٍ من الأحوال (تصفيق شديد).
- (٤)
تومس بيرتون: متعهد توريد لحوم القطط للعمدة والأعيان وعدة أعضاء في مجلس العموم (وقد قوبل إعلان اسم هذا السيد بحماسة تلهث منها الأنفاس) وله ساق خشبية، ويقول: إن تركيبها باهظ النفقات. وهو يمشي فوق الحجارة، وقد اعتاد أن يتخذ سيقانًا خشبية مستعملة، ويشرب كأسًا من الجن الساخن الممزوج بالماء بانتظام كل ليلة، وأحيانًا كأسين (تنهدات من أعماق الصدور)، ولكنه تبين أن السيقان الخشبية المستعملة تتشقق بسرعة وتتعفن، ويعتقد اعتقادًا جازمًا أن ذلك يرجع إلى تعاطي «الجن» الممزوج بالماء (هتاف مستطيل) وهو الآن يشتري سيقانًا خشبية جديدة ولا يشرب غير الماء القراح والشاي الخفيف، ويعتقد أن السيقان الجديدة تعيش ضعفي ما تعيشه الأخرى، ويرد ذلك إلى سبب واحد؛ وهو امتناعه عن المسكرات (هتافات مدوية).
وهمس المستر ولر لابنه قائلًا: «ماذا يقصد بقوله الجنس اللطيف يا سامي؟»
وأجاب سام همسًا: «النساء.»
وقال المستر ولر: «لم يبعد كثيرًا عن الحقيقة يا سام، فلا بد من أن تكون النساء جنسًا لطيفًا، جنسًا خفيفًا كل الخفة، ما دمن يَنْسَقْنَ وراء هذا المخلوق وينخدعن بكلامه.»
ولكن هذا السيد الغاضب لم يستطع المُضِيَّ في ملاحظاته؛ فقد أعلن المستر أنتوني هم أن الترتيل سيبدأ، وشرع ينطلق بالترتيلة، كل سطرين معًا؛ حتى يتيسر للسامعين الذين لم تسبق لهم معرفة الأسطورة أو الإلمام بها، أن يدركوا كل كلمة من كلماتها، وبينما كانت الأغنية تُغَنَّى، اختفى الرجل ذو السراويل القصار لحظة ثم عاد على أثر انتهائها وهمس للمستر أنتوني هم، وقد بدا على وجهه أشد الاهتمام.
وانثنى المستر هم يقول وهو يرفع يده رفعة المستنكر المستهجن، وهي حركة يريد بها أن يُسكت السيدات العجائز البدينات اللاتي تخلفن سطرًا أو سطرين في الترنيم: «أيها الأصدقاء، إن الأخ ستيجنز المندوب عن فرع دوركنج التابع لجمعيتنا، قد حضر وهو منتظر في أسفل هذا المكان.»
وهنا ارتفعت المناديل مرة أخرى بقوة أشد من قبل؛ فقد كان المستر ستيجنز محبوبًا إلى حَدٍّ بعيد بين نساء دائرة بريك لين.
وأدار المستر هم عينيه حوله وقال بابتسامة عريضة: «أظن أن لا بأس من حضوره! أيها الأخ تادجر، دعه يحضر ويحيينا.»
فما كان من الرجل القصير في السراويل القصار الذي يُدعى الأخ تادجر إلا أن مضى يهبط الدرج مسرعًا، ولم تلبث أن سُمعت مواقع أقدامه وهو يصعد مع المستر ستيجنز المحترم.
وهمس المستر ولر وقد امتقع وجهه من الضحك المكتوم يقول: «إنه آتٍ يا سامي.»
وأجاب سام بقوله: «لا تكلمني مطلقًا؛ لأنني لا أطيق الكلام، إنه قد اقترب من الباب وقد سمعته وهو يصدم برأسه رقائق الخشب والجص.»
وما كاد سام ولر ينتهي من هذا القول حتى فتح الباب، وظهر الأخ تادجر يتبعه على الأثر المستر ستيجنز المحترم، وما إن بدا للأبصار حتى اشتد التصفيق والضرب بالأقدام، والتلويح بالمناديل. ولم يقابل الأخ ستيجنز كل هذه المظاهر من الفرح والاغتباط التي عبر عنها الأعضاء على هذا النحو، بشيء من العرفان غير الحملقة ببصره الشارد، والابتسام الموجَّه إلى أقصى طرف ذبالة الشمعة الموضوعة فوق المنضدة، محركًا جسمه يمنة ويسرة في ترنح شديد، وتمايل ظاهر.
وهمس المستر أنتوني هم له قائلًا: «أمريض أنت أيها الأخ ستيجنز؟»
وأجاب المستر ستيجنز بلهجة اقترنت فيها الحدة الشديدة بغلظة المنطق المتناهية: «إنني بخير يا سيدي، إنني بخير تام يا سيدي.»
وقال المستر أنتوني هم وهو يتراجع بضع خطواتك: «الحمد لله، الحمد لله.»
وعاد المستر ستيجنز يقول: «أعتقد أنه ليس أحد هنا قد اجترأ على أن يقول: إنني لست بخير يا سيدي.»
وأجاب المستر هم قائلًا: «بلا شك يا سيدي.»
وقال المستر ستيجنز: «إنني أنصحه ألا يفعل يا سيدي، أنصحه ألا يفعل.»
وكان الحاضرون عندئذٍ قد التزموا الصمت التام، وانتظروا في قلق مواصلة العمل.
وقال المستر هم وهو يبتسم ابتسامة الدعوة: «ألا تتفضل أيها الأخ بإلقاء خطاب في هذا الاجتماع؟»
وأجاب المستر ستيجنز: «كلا يا سيدي، كلا يا سيدي، لن أفعل.»
وتبادل الحاضرون النظر رافعي الأجفان، وسرت همهمة دهشة في الصفوف.
وعاد المستر ستيجنز يقول وهو يفك أزرار سترته، ويتكلم بصوت مرتفع جهير: «إن رأيي يا سيدي، إن رأيي يا سيدي أن هذا الجمع كله سكارى يا سيدي.»
والتفت إلى الرجل القصير في السراويل القصيرة مثله فقال وقد زادت حدته فجأة: «أيها الأخ تادجر، إنك أنت سكران يا سيدي!»
وبهذه العبارة والرغبة الصادقة في الدفاع عن صحو الاجتماع وخلوه من السكارى، وإبعاد الأشخاص الطالحين منه جميعًا، ضرب الأخ تادجر على قمة أنفه في تسديد محكم لا خطأ فيه، فلم يكد ذو السراويل القصيرة يتلقى الضربة حتى اختفى في مثل وميض البرق هابطًا مدارج السلم ورأسه إلى أسفل وساقاه في الفضاء.
وهنا أطلقت النساء صيحات مدوية وصرخات فزع ورعب، واندفعن في جماعات صغيرة أمام إخوانهن الأثيرين لديهن، ورحن يطوقنهم بأذرعهن؛ لوقايتهن من الخطر، وكاد هذا العطف يقضي على المستر هم، الذي يستمتع بمحبة متناهية لديهن؛ لأنه أوشك أن يختنق من ازدحام المخلصات إليه اللاتي تعلَّقن بنحره، وتشبثن به، وأهلن عليه الملاطفات، وأطفئت أكثر الأنوار في عجلة، فلم يبق غير الجلبة تتردد منها الأصداء، والفوضى التي ضربت أطنابها في أرجاء المكان.
وقال المستر ولر وهو يخلع معطفه بتؤدة بالغة: «والآن يا سامي، اخرج اللحظة وأحضر شرطيًّا.»
وسأل سام: «وماذا تنوي أن تفعل ريثما أحضره؟!»
وقال الشيخ: «لا تقلق عليَّ أبدًا يا سامي، سأشغل نفسي بتصفية شيء من الحساب مع ستيجنز هذا.»
ولم يكد يقول ذلك حتى اندفع الوالد الهُمام، قبل أن يتمكن سام من التدخل لمنعه، نحو ركن قصي من القاعة، وراح يضرب المستر ستيجنز المحترم ضربًا بارعًا باليدين.
وقال سام: «هيا بنا!»
وصاح المستر ولر: «تقدم.» وبغير دعوة أخرى انثنى يضرب المستر ستيجنز المحترم ضربة تمهيدية على أم ناصيته، وأخذ يرقص حوله بخفة أشبه بالفللينة، كان منظرها من رجل في مثل سنه عجيبًا كل العجب.
ووجد سام أن لا نفع مطلقًا من الاحتجاج على الوالد، فشد قبعته بقوة على عينيه، وحمل معطف أبيه على ذراعه، وأمسك بالشيخ من خاصرته، وجره بالقوة إلى السُّلَّمِ حتى خرج به إلى الشارع، ولم يترك قبضته تتراخى عن وسطه، ولا آذن له في الوقوف، إلى أن وصلا إلى ناصية الشارع، وهما يسمعان صيحات الغوغاء، الذين ازدحموا لمشاهدة المستر ستيجنز المحترم وهو يُجَرْجَرُ إلى المبيت في الحجز حتى الصباح، كما تترامى إلى آذانهما الجلبة التي أحدثها تشتت أعضاء شعبة بريك لين التابعة لاتحاد منع المسكرات وتفرقهم في كل ناحية.