الفصل الرابع والثلاثون
بيان وافٍ أمين لما جرى في المحاكمة المشهودة للنظر في دعوى «باردل» على بكوك.
***
وقال المستر سنودجراس على سبيل تجاذب الحديث في صبيحة اليوم الرابع عشر من شهر فبراير، وهو ذلك اليوم المشهود: «إني لفي عجب من كبير المحلفين، ماذا تراه تناول من الفطور اليوم؟»
وأجاب بركر: «آه، أرجو أن يكون فطورًا طيبًا.»
وسأل المستر بكوك: «وما الحكمة في هذا؟»
وأجاب بركر: «هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية يا سيدي العزيز؛ فإن المحلف الطيب الراضي الجيد الفطور يمكن الاطمئنان كثيرًا إليه، أما المحلفون المتسخطون الجياع يا سيدي العزيز فهم دائمًا أبدًا مع المدعي وفي جانبه.»
وقال المستر بكوك وقد ارتدَّ وجهه شاحبًا: «يا للعجب! ولماذا يفعلون هذا؟»
وأجاب الرجل القصير ببرود: «لست أدري، ولكن لعل مرجعه إلى رغبتهم في توفير الوقت، فإذا اقترب موعد العشاء، أخرج كبيرهم ساعته، عند اختلائهم للمداولة، وقال: يا لله أيها السادة! الساعة الخامسة إلا عشر دقائق، وأنا أتعشى في الخامسة أيها السادة. وعندئذٍ يجيبه الجميع: ونحن كذلك. اللهم إلا اثنين منهم كان أولى بهما أن يتناولا غداءهما في الثالثة، ولكنهما وقد فات الموعد أصبحا أكثر ميلًا إلى البقاء، وعندئذٍ يبتسم كبير المحلفين ويُدخل الساعة في جيبه ويقول: والآن أيها السادة ماذا نقول؟ هل المدعي أو المدعى عليه يا سادة؟ أقول أو على الأصح أظن، ولكن لا تدعوا هذا يؤثر في رأيكم، أظن أن الحكم للمدعي، وعندئذٍ ينبرى اثنان أو ثلاثة منهم فيقولون: حتمًا إن هذا هو رأيهم أيضًا — وهو رأيهم طبعًا — وعندئذٍ ينتهون إلى الأخذ به إجماعًا، وبلا عناء.»
ونظر الرجل القصير إلى ساعته فقال: «الساعة التاسعة والدقيقة العاشرة، وقد حان أن ننطلق يا سيدي العزيز؛ فإن المحكمة التي ستنظر في دعوى النكث بالعهد تمتلئ عادة في أمثال هذه القضايا، فيحسن أن تدق الجرس وتطلب مركبة يا سيدي العزيز، وإلا تأخرنا.»
وبادر المستر بكوك إلى دق الجرس، وجاءت المركبة، وحشر البكوكيون الأربعة والمستر بركر أنفسهم في جوفها، ومضت بهم إلى «الجلد هول» وتبعهم في مركبة أخرى سام ولر والمستر لوتن والحقيبة الزرقاء.
ولما وصل القوم إلى القاعة الخارجية في دار المحكمة قال المستر بركر لكاتبه: «أجلس أصحاب المستر بكوك يا لوتن في المكان المخصص للطلبة، ويحسن أن يجلس المستر بكوك بجانبي، من هنا يا سيدي العزيز، من هنا.»
وأخذ المستر بكوك من كُمِّ ثوبه فمشى به إلى المقعد الخفيض القائم تحت مناضد المحامين المترافعين مباشرة، وهو المكان المُعَدُّ لجلوس الوكلاء، حتى يتيسر لهم منه الهمس في أذن المحامي المترافِع في القضية بأية تعليمات قد يقتضيها الموقف في أثناء نظرها، وهم في هذا الموضع محجوبون عن أعين أغلب النظارة؛ لأنهم في مجلسهم هذا لا يتخذون موضعًا لا يرتفع عن مستوى مقاعد المحامين المترافعين، ولا عن مكان النظارة؛ لأن مقاعد هؤلاء مرتفعة عن أديم قاعة الجلسة، وإن كانت ظهورهم طبعًا متجهة إلى هذين الفريقين، ووجوههم شطر القاضي.
وقال المستر بكوك وهو يشير إلى شيء كالمنبر وله سياج من نحاس عن يساره: «أظن أن هذا هو مكان الشهود؟»
وأجاب المستر بركر وهو يخرج قدرًا من الأوراق من الحقيبة الزرقاء التي كان المستر لوتن قد جاء بها في تلك اللحظة فوضعها عند قدميه: «هذا هو مكان الشهود يا سيدي العزيز.»
وقال المستر بكوك وهو يشير إلى صفين منعزلين من المقاعد عن يمينه: «وهذا مجلس المحلفين، أليس كذلك؟»
وأجاب بركر وهو يدق بلطف غطاء علبة سعوطه: «هو بالذات يا سيدي العزيز.»
ونهض المستر بكوك وهو في حال من الاضطراب البالغ فألقى نظرة على القاعة، وكان خلق كثير من النظارة قد توافدوا إلى الصفوف المُعَدَّةِ لهم وتناثروا في جوانبها، كما حضر جمع كبير من المحامين المترافعين في ضفائرهم المستعارة فاحتلوا أماكنهم، وهم يمثلون ذلك التباين البديع المتناهي في الأنوف والشوارب، الذي اشتهر به القضاة ومعاشر المحامين في إنجلترا، وذاع بحق وجدارة ذكره، وكان الذين لديهم مذكرات بدفاعهم يحملونها بشكل ظاهر واضح ما أمكن، وراحوا بين لحظة وأخرى يهرشون بها أنوفهم؛ لكي يؤثروا بهذه الحركة في نفوس النظارة ويلفتوا إليهم أعينهم. وأما الآخرون الذين ليس في أيديهم مذكرات أو أوراق يظهرونها فقد تأبطوا مجلدات كبيرة ذات عناوين حمراء على ظهورها، وغلاف يشبه في لونه وجه الفطير الناقص النضج، وقد اصطلح على تسميته «عجل القانون». بينما جعل الذين لا يحملون مذكراتٍ، ولا يتأبطون كتبًا، يدسون أيديهم في جيوبهم ويتخذون كل ما أسعفهم من سمات الحكمة والوقار، وهناك آخرون أيضًا يتنقلون في القاعة وهم في أشد الجد والحركة والنشاط، قانعين بإثارة الإعجاب والدهشة من حركاتهم تلك في نفوس الغرباء الذين لا عهد لهم بحضور الجلسات والاختلاف إلى ساحة القضاء.
وقد عجِب المستر بكوك أشد العجب أن رأى هؤلاء القوم جميعًا مقسمين فئات وجماعات وهم يتحدثون ويتباحثون في أنباء اليوم في صورة أخلى ما تكون من الشعور، كأن لا قضايا موشكة أن تُنظَر، ولا محاكمات تؤذن بابتداء.
ودخل المستر فنكي، فحيا بانحناءة من رأسه واتخذ مجلسه خلف الصف المخصص للمحامين المترافعين، ولفتت هذه التحية نظر المستر بكوك، ولم يكد يرد عليها، حتى ظهر المستر اسنبن يتبعه المستر مالارد الذي حجب الأستاذ خلف حقيبة ضخمة أرجوانية اللون جاء بها فوضعها فوق النضد وانسحب بعد مصافحة بركر بيده. وعندئذٍ دخل اثنان أو ثلاثة آخرون من الأساتذة كان من بينهم رجل بدين أحمر الوجه أومأ إيماءة ودية للأستاذ اسنبن وقال: إن الصباح جميل.
وهمس المستر بكوك قائلًا: «من هذا الرجل الأحمر الوجه الذي قال: إن الصباح جميل وأومأ إلى محامينا؟»
وأجاب بركر هذا هو الأستاذ بزفز خصمنا في الدعوى، وكبير المحامين في الجانب الآخر منها، وذلك السيد الجالس من خلفه هو المستر اسكمبن زميله الذي يليه في الأقدمية.
وهَمَّ المستر بكوك أن يسأل كيف جرؤ الأستاذ بزفز محامي المدعية، وكيف سولت له نفسه، أن يقول للأستاذ اسنبن محامي الخصم إن الصباح جميل. فقد شعر بكراهية شديدة ونفور بالغ من هذه الجرأة التي بدت من ذلك الرجل البارد الدم، ولكنه أمسك عن سؤاله حين رأى المحامين جميعًا قد وقفوا، وسمع الحُجَّاب في القاعة يأمرون الناس بالسكوت، فتلفَّت حوله فوجد أن السبب يرجع إلى دخول القاضي.
وكان القاضي «استيرليه» — الذي حضر الجلسة لغياب كبير القضاة لوكعة ألمَّت به — رجلًا قصيرًا مفرط القصر، وبدينًا مفرط البدانة، حتى ليبدو كله وجهًا وصدارًا ولا شيء سواهما، وقد جاء يتدحرج في مشيته فوق ساقين قصيرتين معوجَّتين، وبعد أن تمايل واهتز وهو ينظر بوقار إلى مقاعد المحامين، وفعل هؤلاء مثله فنظروا بجلال إليه، راح يضع ساقيه القصيرتين تحت المنضدة، ويلقي قبعته الصغيرة المثلثة الأركان فوقها، فلما فعل ذلك كله، لم يبقَ أمام عينيك شيء تشهده منه سوى عينيه الدقيقتين الغريبتين، ووجهه العريض الوردي ونحو نصف ضفيرة ضخمة مضحكة المنظر إلى حد بعيد.
وما إن اتخذ القاضي مجلسه، حتى طلب الحاجب إلى النظارة التزام السكوت بلهجة الآمر الناهي، وراح حاجب آخر في الردهة يردِّد النداء بحدة وغضب، وصاح في أثرهما ثلاثة أو أربعة حجاب آخرين الصيحةَ ذاتها، في صوت احتجاج وحَنَقٍ ظاهرين، وعندئذٍ أخذ رجل في ثوب أسود جالس في موضع منخفض عن مقعد القاضي ينادي المحلَّفين بأسمائهم، ويبين بعد ضجة شديدة أن الحاضرين منهم لا يتجاوزون عشرة من المحلفين الممتازين، وعندئذٍ طلب الأستاذ بزفز استكمال العدد، وأخذ السيد ذو الثوب الأسود في إتمام النصاب القانوني منهم بإضافة اثنين من المحلفين العاديين وعرف كيف يصطاد بائع خضر وصيدليًّا.
وقال السيد ذو الثوب الأسود: «سأناديكما بالاسم أيها السيدان حتى تؤديا اليمين: ريتشارد أبويتش.»
وأجاب الخضري: «حاضر.»
– «توماس جروفن.»
وأجاب الصيدلي: «حاضر.»
– «ضعا يديكما على الكتاب أيها السيدان وأقسما أنكما ستراعيان الدقة والحق في …»
وبادر الصيدلي وكان رجلًا مديد العود نحيفًا أصفر الوجه: «أستميح المحكمة المعذرة وأرجو إعفائي من الحضور!»
وسأله القاضي استيرليه: «وما السبب؟!»
وأجاب الصيدلي: «السبب يا سيدي القاضي أنني ليس معي مساعد.»
وقال القاضي استيرليه: «لا حيلة لي في ذلك يا سيدي، يجب أن تستأجر مساعدًا.»
وأجاب الصيدلي: «لا طاقة لي بذلك يا سيدي القاضي.»
واحمر وجه القاضي استيرليه من الغضب؛ لأن الحدة تغلب على طباعه، والنفور من الاعتراض عليه ديدنه، وقال: «يجب أن تطيقه حتمًا يا سيدي.»
وأجاب الصيدلي: «أعرف أنه يجب أن أفعل ذلك، لو أنني كنت أكسب بقدر ما أستحق، ولكن الأمر ليس كذلك.»
وقال القاضي على الفور بغير أخذ ورد: «حلِّفه اليمين.»
ولكن ما كاد الكاتب يبلغ من قوله: أشهد أنني سأراعي الدقة والحق في محاكمة … حتى بادر الصيدلي إلى المقاطعة مرة أخرى فسأل القاضي قائلًا: «هل يراد تحليفي اليمين يا سيدي؟»
وقال القاضي الغضوب القصير: «بلا شك يا سيدي.»
وأجاب الصيدلي بلهجة الاستسلام: «حسن جدًّا يا سيدي القاضي، ستقع جناية قتل قبل أن تنتهي هذه المحاكمة، هذا هو كل ما في الأمر، فَهَلُمَّ حلِّفني يا سيدي إذا شئت.»
وحلف الصيدلي قبل أن يجد القاضي كلامًا يقوله.
وما إن قال الصيدلي المديد القامة ذلك حتى هدأ وسكن واتخذ وجهه سمات الرضى والارتياح كأنما استعد لمواجهة أسوأ الأمور.
وكان المستر بكوك ينظر إلى الصيدلي باستنكار بالغ واستبشاع متناهٍ، حين بدت ضجة خفيفة في هيئة المحكمة، ولم تمضِ لحظة أخرى حتى سيقت مسز باردل وهي مستندة إلى صاحبتها مسز «كلبنز»، فجلست متهالكة في الطرف الآخر من المقعد الذي جلس المستر بكوك عند طرفه الأول، وجاء المستر ددسن بمظلة متناهية في الحجم فسلمها إلى الكاتب، وأقبل المستر فج بنعل خشبي ففعل مثل ما فعله زميله، وقد اتخذ كل منهما لهذه المناسبة سمات العطف الشديد والكآبة البالغة، ثم ظهرت مسز ساندرز تقود السيد باردل الصغير، فلم تكد أمه تشهده مقبلًا حتى أجفلت، ولكنها استجمعت فجأة جلَدها فقبَّلته في شكل جنوني ظاهر، ثم انتابتها حالة من «البلاهة» والذهول التشنجي، فسألت من حولها: أين؟ وكان جواب مسز كلبنز ومسز ساندرز أن أشاحتا بوجهيهما وانخرطتا في البكاء، بينما مضى الأستاذان ددسن وفج يتوسلان إلى المدعية أن تثوب إلى نفسها، وطفق الأستاذ بزفز يفرك عينيه بشدة بمنديل أبيض كبير، ويلقي نظرة استعطاف إلى المحلفين، بينما بدا التأثر واضحًا على وجه القاضي، وحاول كثير من النظارة أن يسعلوا لضبط مشاعرهم وإخفاء أحاسيسهم.
وهمس بركر للمستر بكوك: «حركة بارعة جدًّا هذه، إن ددسن وفج هذين بارعان حقًّا، هذه مؤثرات وأساليب فائقة يا سيدي العزيز، فائقة.»
وفيما كان بركر يتكلَّم على هذا النحو بدأت مسز باردل تسترد جأشها شيئًا فشيئًا، بينما راحت مسز كلبنز تنظر مليًّا إلى أزرار سترة «المعلم» باردل الصغير والعروات التي تدخل فيها، ثم تُجلسه على أديم قاعة المحكمة أمام أمه، وهو موضع ظاهر يتيسر له منه أن يثير رثاء القاضي والمحلفين معًا، ويوقظ كوامن العطف في نفوسهم. وقد أحدث ذلك اعتراضًا شديدًا وبكاءً طويلًا من جانب هذا السيد الصغير ذاته؛ إذ شعر في أعماق نفسه بخوف بالغ من أن يكون إجلاسه على مرأى من عين القاضي مقدمة لإصدار الأمر بإخراجه لشنقه في الحال أو إبعاده من البلاد إلى ما وراء البحار ليقضي بقية حياته على الأقل منفيًّا طريدًا.
وصاح الرجل ذو الثوب الأسود مناديًا: «باردل وبكوك.» فقد كانت القضية الأولى في قائمة القضايا التي ستنظرها المحكمة.
وقال الأستاذ بزفز: «أنا حاضر عن المدعية يا سيدي القاضي.»
وقال هذا: «ومن الذي معك أيها الأخ بزفز؟»
وهنا انحنى المستر اسكمبن مؤمِّنًا أنه هو.
وقال الأستاذ اسنبن: «وأنا حاضر عن الدفاع يا سيدي القاضي؟»
وسألت المحكمة: «وهل أحد معك أيها الأخ اسنبن؟»
وأجاب الأستاذ اسنبن: «نعم المستر فنكي يا سيدي القاضي.»
وكان يكتب الأسماء في «دفتره» ويقرؤها وهو ماضٍ في تدوينها.
وقال المستر فنكي: «أستميح سيادتك المعذرة؛ إن اسمي فنكي.»
وأجاب القاضي: «آه، حسن جدًّا، لم أتشرف قبل الآن بسماع اسم السيد الكريم.» وهنا انحنى المستر «فنكي» وابتسم، وانحنى القاضي وأومض ثغره، وحاول المستر فنكي وقد علا الحياء وجهه حتى بلغت حمرته بياض عينيه، أن يتراءى كأنه لا يدري أن جميع الأنظار ترنو إليه، وهو شيء لم ينجح امرؤ من قبلُ في إحداثه، ولن ينجح يومًا على أغلب الظن وأبعد مدى الرجحان.
وقال القاضي: «لنبدأ الآن.»
وعاد الحُجَّاب يطلبون إلى النظارة السكوت، وبدأ المستر «اسكمبن» يفتح باب القضية، وظهر أن لا شيء كبير فيها حين فتح بابها؛ لأنه احتفظ لنفسه بكل التفاصيل والدقائق التي يعرفها، ثم جلس بعد ثلاث دقائق من ابتدائه الكلام، تاركًا المحلفين في جهل تام بالموضوع كما كانوا من قبل.
وعندئذٍ نهض الأستاذ بزفز بكل الجلال والوقار اللذين تقتضيهما طبيعة الإجراءات وجسامتها، وبعد أن همس لددسن، وتحدث بإيجاز إلى فج رفع رداءه فوق كتفيه وعدل من نظام ضفيرته، وبدأ يوجه الخطاب إلى المحلفين.
واستهل مرافعته بقوله: إنه لم يسبق له في جميع الأدوار التي مرَّت عليه في ممارسة مهنته، ومنذ بدأ دراسة القانون والاشتغال به، أن تناول قضيةً ما بهذا الشعور العميق الذي يشعر الساعة به ولا بفدح التبعة التي ينوء بحملها، تلك التبعة التي ما كان مستطيعًا أن يتحملها، لولا ذلك الحافز الذي دفعه إلى أخذها على عاتقه، وبعثه على احتمال وطأتها، وهو الاقتناع الشديد، الذي يبلغ حد اليقين القاطع، بأن دواعي الحق، ومقتضيات العدالة، أو بعبارة أخرى، أن قضية موكلته التي وقع عليها ضرر بالغ، وظلم بيِّنٌ، ستتملك حتمًا نفوس هؤلاء الاثني عشر سيدًا الذين يشهدهم الساعة حياله في ذلك المكان البادي لعينيه، وهم سادة رفيعو الأذهان، إخوان فطنة وذكاء.
وعلى هذا النحو يبدأ المحامي المترافع عادة مرافعته؛ لأنه يجعل المحلفين في أتم الرضى عنه، ويبعثهم على الاعتقاد بأنه المحامي الذكي الفطن البارع، فلا عجب إذا بدا التأثير فيهم واضحًا، وبدأ عدة منهم يدوِّنون ملاحظات ضخمة بأشد اللهفة وأكبر الاهتمام.
ومضى الأستاذ بزفز يقول، وهو يعلم حق العلم أن السادة المحلفين لم يسمعوا شيئًا على الإطلاق من زميله الذي يشير إليه: «وقد سمعتم أيها السادة من زميلي المحترم الواسع العلم أننا أمام قضية نكث بوعد يتصل بالزواج، وأن التعويض المطلوب عنه ألف وخمسمائة جنيه، ولكنكم لم تسمعوا من زميلي المحترم الواسع العلم؛ لأن ذلك لم يكن داخلًا في نطاق اختصاصه، شيئًا عن وقائع القضية وظروفها، وسأتولى بنفسي أيها السادة إيراد تفاصيلها وملابساتها وستثبتها لكم السيدة التي لا لوم عليها ولا تثريب والتي أضعها في هذا المكان أمامكم.»
وهنا أراد الأستاذ بزفز أن يؤكد كلمة «هذا المكان» بقوة، فضرب المنضدة بشدة تردد لها دَوِيٌّ بالغ، ونظر إلى ددسن وفج فأومأ هذان له إيماءة إعجاب به، وتحدٍّ ظاهر لهيئة الدفاع.
وواصل الأستاذ بزفز مرافعته قائلًا بصوت رفيق حزين مؤثر: «إن موكلتي أيها السادة أرملة، إي والله أيها السادة أرملة؛ فإن زوجها المأسوف عليه المستر باردل بعد أن استمتع عدة سنين بتقدير مليكه، وثقة جلالته، بوصفه أحد الحراس على الإيرادات الملكية، تسلل في رفق لا يكاد أحد يحسه من هذا العالم؛ ليلتمس في غيره تلك السكينة، وذلك السلام اللذين لا سبيل أمام موظف في الجمارك للظَّفَر بهما في هذه الحياة.»
وعند هذا الوصف المؤثِّر لوفاة المستر باردل الذي كانت منيَّته على إثر ضربة أصابت رأسه من قدر كبيرة من قدور الشراب في أحد مخازن حانة عامة، اضطرب صوت المحامي الكبير، وانطلق في مرافعته يقول بانفعال ظاهر: «وكان قبل مماته بفترة من الزمن قد ترك شبهه منطبعًا على غلام صغير، فلم يكن من مسز باردل إلا أن انزوت من العالم بذلك الغلام الصغير، وهو كل ما ورثته عن ذلك الموظف الذي كان في خدمة الجمارك، ورضيت بالعزلة والعيش في هدوء بشارع «جروزويل»؛ حيث علقت على شرفة غرفتها الأمامية إعلانًا مكتوبًا عليه «غرف مفروشة لسكن رجل أعزب، الاستعلامات من صاحبة المسكن.»
وهنا تمهل الأستاذ بزفز ريثما يتسنى لعدة محلفين تدوين هذه الوقائع.
وانبرى محلف يقول: «في أي تاريخ هذا يا سيدي؟ ألا تعرف التاريخ؟»
وأجاب الأستاذ بزفز: «لا تاريخ أيها السادة، ولكن قد طلب إلي أن أقول: إن هذا الإعلان عُلِّقَ على الشرفة في مثل هذا الوقت من ثلاث سنين بالدقة وإني أرجو استرعاء أنظار حضرات المحلفين إلى الصيغة التي وضع فيها الإعلان: «غرف مفروشة لسكن رجل أعزب»؛ فإن آراء مسز باردل فيما يتعلق بالجنس الآخر أيها السادة مستمدة من طول التفكير في سجايا زوجها الراحل وخلاله التي لا تُقَدَّرُ، فلم يكن يساورها خوف، ولا تخالجها ريبة، ولا تخامرها شبهة، بل كل ما في نفسها طمأنينة وثقة وأمانة، وكانت تقول: إن المستر باردل كان رجلًا شريفًا، رجلًا لا ينكث عهدًا، لا يعرف الخداع، ولا يحاول المين، وكان المستر باردل نفسه في يوم ما أعزب، وإلى رجل أعزب أتطلع لحمايتي ومساعدتي ورفاهيتي وسلوتي؛ فإن في وجود مثله شيئًا يذكرني أبدًا بما كان عليه المستر باردل من مكارم الأخلاق، حين ظفر بمحبتي لأول عهدي في الشباب بلقياه، فلن يسكن عندي إذن غير سيد أعزب. وبهذا الدافع الجميل المؤثر، وهو من بين أسمى الدوافع في طبيعتنا البشرية التي لم تبلغ الكمال أيها السادة، راحت تلك الأرملة الوحيدة المهجورة تجفف دموعها، وتفرش الطبقة الأولى من مسكنها، وتتناول غلامها البريء فتضمه إلى صدرها الرءوم، وتعلق الإعلان على شرفة حجرة الاستقبال في مسكنها. فهل ظل ذلك الإعلان طويلًا في موضعه؟ كلا أيها السادة؛ فقد كان الثعبان بالمرصاد، والشَّرَك قد نُصِبَ، واللغم قد أعد، والمهندس الذي بَثَّ اللغم قد تهيأ واستعد، فلم ينقضِ على الإعلان غير ثلاثة أيام، ثلاثة أيام فقط أيها السادة، حتى ظهر مخلوق مستوٍ على ساقين اثنتين، وله كل شبه الإنسان ومعالمه الخارجية ومظاهره، لا الوحش، وأخذ يدق باب مسز باردل، ويسأل عن الغرف الخالية، ويستأجرها، وفي غداة اليوم اليوم التالي يأتي فيسكنها ويحتلها، وهذا الرجل هو بكوك، بكوك المدعى عليه.»
وسكت الأستاذ بزفز لحظة ليسترد أنفاسه، وكان قد مضى في مرافعته بذلاقة جعلت وجهه يرتد أحمر متناهيًا في الحمرة، وقد أيقظ سكوته القاضي استارلي فأسرع في كتابة شيء بقلم لا مداد فيه مطلقًا وبدا واجمًا على غير العادة عميق التفكير؛ ليحمل المحلفين على الاعتقاد بأنه أعمق ما يكون تفكيرًا حين يغمض عينيه.
واستتلى الأستاذ بزفز يقول: «ولست أريد أن أطيل القول عن هذا الرجل بكوك؛ لأن الموضوع لا يحوي كثيرًا مما يغري بالكلام، ولست أيها السادة بالرجل الذي يرتضي التفكير في القسوة الصارخة وجمود الإحساس، والتجرد من الشعور، والإجرام المنظم، ولستم أنتم أيها السادة بالذين يرتضون لأنفسهم هذا التفكير.»
وهنا انتابت المستر بكوك الذي كان إلى هذه اللحظة يتلوى من الألم في صمت، انتفاضة شديدة كأنما قد خطرت له عندئذٍ فكرة الاعتداء على الأستاذ بزفز في ساحة القضاء، ورهبته وجلاله، ولكن إشارة ناصحة من بركر أمسكته، فراح يُصغي إلى المرافعة، وهو كظيم، على النقيض من الإعجاب البادي على وجهَيْ مسز كلبنز ومسز ساندرز.
ومضى الأستاذ بزفز يقول وهو يخترق بنظره المستر بكوك ويوجه القول إليه: «أقول: الإجرام المنظَّم أيها السادة، وعندما أقول: الإجرام المنظم، دعوني أقل للمتهم بكوك إذا كان حاضرًا الجلسة، كما علمت أنه كذلك، أنه كان أخلق به وأجدر وأرفع ذوقًا، أن يتخلف عن الحضور. اسمحوا لي أيها السادة أن أقول له: إن أية إشارات يعمد إليها أمامكم لإظهار الاستياء مما أقول أو استنكار ما يسمع، لن تُحدث أي أثر في نفوسكم، وإنكم ستعرفون كيف تقدرونها قدرها، وتزنونها بميزانها. وَأْذنوا لي أن أقول له أيضًا، كما سيقول لكم سيدي القاضي أيها السادة: إن المحامي المترافع الذي يؤدي واجبه نحو موكِّله، لا ينبغي أن يوجَّه إليه أي إرهاب، أو مضايقة، أو مقاطعة؛ لأن أية محاولة لإحداها أو أخراها ستكون عاقبتها وبالًا على من يحاولها، سواء كان مدعيًا أو مدعى عليه، وسواء كان يدعى بكوك أو نوكس أو استوكس أو استايلز أو براون أو طمسن.»
وكان المراد من هذا الخروج قليلًا عن الموضوع المنظور أمام المحكمة بالطبع هو توجيه الأنظار كلها إلى المستر بكوك، وما كاد الأستاذ بزفز يثوب إلى حدٍّ ما من هذه الحَمِيَّة الأخلاقية التي اندفع فيها، حتى مضى يقول: «وسأبين لكم أيها السادة أن المستر بكوك ظل عامين اثنين يسكن في منزل مسز باردل بغير انقطاع أو غياب إلى حين، كما سأبين لكم أن مسز باردل لبثت طيلة هذه المدة تسعى في خدمته، وتعمل على راحته، وتطهو له الطعام، وتُعنى بثيابه الداخلية إذا ما أرسلت إلى الغسالة في خارج الدار، وترتق ملابسه وتهويها وتعدها للارتداء حين تعود الملابس إلى البيت، وبالجملة تستمتع بكل ثقته ورضاه واطمئنانه، وسأبين لكم أنه جعل في عدة مناسبات ينفح غلامها الصغير أنصاف البنسات وفي بعضها ستة بنسات أيضًا، وسأثبت لكم من أقوال شاهد لن يتيسر لزميلي المحترم تجريحها أو مناقضتها أنه في مناسبة معينة ربَّت على رأس ذلك الغلام الصغير وسأل هل كسب أخيرًا شيئًا من «الألى تورس» أو «الكومنيز» وهما كما علمت نوعان معينان من «البلي» يغلو صبيان هذه المدينة في تقديرهما وإيثارهما على سائر الأنواع، وإنه فاه بهذه العبارة التي لا تخلو من دلالة حين أخذ يتحدث إليه: هل تحب أن يكون لك أب آخر؟ وسأثبت لكم أيها السادة أن بكوك منذ عام مضى أو قرابته بدأ فجأة يغيب عن البيت فترات طويلة كأنما ينتوي الانفصال عن موكلتي شيئًا فشيئًا والتخلص تدريجيًّا منها، ولكني سأبين لكم أيضًا أن نيته لم تكن في ذلك الحين قوية، ولا مشاعره الطيبة قد تم له الغلبة عليها، إذا افترضنا أنه كانت له مشاعر طيبة، أو أن مفاتن موكلتي وحميد خصالها ومزاياها قد تغلبت على نياته المنافية للرجولة. سأبين لكم ذلك كله بالدليل، ودليلي أنه في يوم ما عقب عودته من الريف عرض عليها الزواج عرضًا صريحًا واضحًا، وإن كان قبل ذلك قد احتاط للأمر خاصة فعمل على ألا يكون ثمة أحد معهما حتى يشهد هذا الارتباط المقدس، وفي وسعي أن أثبت لكم من شهادة ثلاثة أصدقاء له وهم شهود سيتكلمون أمامكم وهم أشد ما يكونون كرهًا للشهادة أيها السادة أنهم رأوه في صبيحة ذلك اليوم ممسكًا بالمدعية بين ذراعيه ومحاولًا تهدئة جأشها بالملاطفة وعبارات المعزة.»
وكان لهذه العبارة التي وردت في مرافعة المحامي الكبير أثر ظاهر في نفوس السامعين، بينما مضى وكيل المدعية يُخرج قصاصتين صغيرتين من الورق وهو يقول: «والآن لن أزيد أيها السادة غير كلمة واحدة، لقد تبودلت رسالتان بين الجانبين، رسالتان ثبت أنهما بخط المدعى عليه، وهما في الواقع أبلغ من عديد الكتب والمجلدات دلالةً، وأوضح مغزًى، وهما فضلًا عن ذلك تنمان عن خلق الرجل وخبيئة نفسه، وليست هاتان الرسالتان بكتابين صريحين، بليغين، مستفيضي الحماسة وصدق الشعور، لا يحويان غير لغة الحب والعَلاقة الغرامية، بل هما خطابان غامضان، ماكران، مستبهمان، ولكنهما لحسن الحظ أكثر دلالة مما لو كانا مصوغين في أوضح أسلوب، وأزهى عبارة، وأرق شاعرية، خطابان ينبغي النظر فيهما بعين الحذر والريبة، خطابان يبدو منهما أن بكوك أراد في ذلك الحين أن يضلل ويخدع بهما أي طرف ثالث يحتمل أن يقعا في يديه، اسمحوا لي أن أقرأ أولهما: تحريرًا في جرويز، الساعة الثانية عشرة، عزيزتي مسز ب. شرائح وصلصة بالطماطم. المخلص بكوك»، فما معنى هذا أيها السادة؟ شرائح وصلصة بالطماطم. المخلص بكوك! شرائح! يا إله السموات، وصلصة بالطماطم! أكذا يعبث أيها السادة بسعادة امرأة حساسة واثقة مطمئنة بهذه الحيل التافهة السطحية وأمثالها؟! أما الخطاب الآخر فلا تاريخ له مطلقًا، وهذا في حد ذاته أمر يبعث على الريبة، فهو يقول فيه: «عزيزتي مسز ب. لن أعود إلى البيت قبل الغد. المركبة بطيئة.» ثم تلي ذلك عبارة تسترعي النظر؛ وهي قوله: «لا تزعجي نفسك بشأن وعاء التسخين.» وعاء التسخين! يا سبحان الله! من ذا الذي يزعج نفسه أيها السادة بهذا الوعاء؟ ومتى يقلق بال إنسان — رجلًا كان أو امرأة — وتنزعج نفسه من أجل وعاء تسخين؟ وهو في ذاته أداة لا ضير منها، بل نافعة مفيدة؟ وأضيف أيها السادة على هذين الوصفين أنها أداة مريحة، من أدوات البيت، وما سر هذا التوسل الجدي إلى مسز باردل ألا تنزعج بشأن وعاء التسخين، ما لم تكن — وهي الحقيقة التي لا شك فيها — مجرد ستار لنار مخبوءة، ولفظة استعيض بها عن كلمة إعزاز صريحة، أو وعد، وعبارة من طراز العبارات التي تكررت أمثالها في هذا الأسلوب من المكاتبات، وابتدعها بكوك مكرًا وخديعة، حين كان يفكر في الهجر والتخلي والفرار، وهو أسلوب لست في مقام شرحه وتفسيره! وماذا عسى أن يكون المعنى المراد من قوله: المركبة بطيئة؟ لست أدري حقًّا، ولكن لعله إشارة إلى بكوك نفسه؛ لأنه كان بلا نزاع مركبة بطيئة في الإجرام والإثم، في كل تصرفاته، ولكن سرعتها ستزداد فجأة الآن ازديادًا بالغًا، ولن تلبث عجلاتها أيها السادة أن تجد شحمها على أيديكم، وسيرى أن هذا الأمر سيكلفه كثيرًا، ويقتضيه ثمنًا باهظًا.»
وتمهل الأستاذ بزفز عند هذا الموضع؛ ليرى هل ابتسم المحلفون لنكتته؟ ولكنه تبين أن أحدًا منهم لم يلحظها غير بائع الخضر، وأكبر الظن أن فطنته لها كانت ترجع إلى أنه كان قد شحَّم مركبة نقل له في ذلك الصباح بالذات، فرأى المحامي الكبير أنه من الخير أن يعود قليلًا إلى الكلام الجدي، قبل أن يختم مرافعته، ولهذا مضى يقول: ولكن حسبنا هذا أيها السادة؛ فإنه من العسير أن يبتسم المرء والقلب موجع، ومن العبث الالتجاء إلى المزاح، وعواطفنا قد أُثِيرَتْ من الأعماق! إن آمال موكلتي وأمانيها في الحياة قد دُمِّرَتْ، وليس من المجاز ولا من باب التشبيه والاستعارة أن نقول: إن مسكنها أُخْلِيَ فعلًا، ولست أنكر أن الإعلان لم يعد قائمًا في مكانه، ولكن ليس هناك ساكن آخر قد جاء لاستئجاره، ويمر عزاب صالحون للسكن بالمنزل ثم يعودون فيمرون، ولكن ليس هناك دعوة تحفزهم إلى الاستعلام من الداخل أو الخارج، بل لقد ساد المسكن وجوم وصمت، وحتى الغلام قد خفت صوته، ولم يعد يحفل بمراتعه وملاعبه، ما دام يرى أمه في بكاء دائم ونحيب مستطيل، وقد أهمل لعب «البلي» في الحارة كذلك، ونسي أيضًا الصيحة المألوفة لديه: «مغلوب»، أو متساويان، ولكن بكوك أيها السادة … بكوك القاسي الغليظ الكبد مدمر هذه الواحة الوادعة في صحراء شارع جزول، بكوك الذي هدم بئرها، وأحرق خضرها، بكوك الذي يأتي أمامكم اليوم بصلصة الطماطم وأوعية التسخين، بغير قلب، ولا كبد، بكوك هذا لا يزال يرفع رأسه بغير خجل ولا حياء، وينظر بغير حسرة ولا زفرة إلى الخراب الذي أحدثه. أيها السادة، إن التعويض، التعويض الجسيم، هو العقاب الوحيد الذي يتيسر لكم توقيعه عليه، والجزاء الذي يتسنى لكم أن تمنحوه لموكلتي، ومن أجل هذا التعويض تناشد هيئة المحلفين المستنيرين الكبار النفوس، الرفيعي الإحساس، الأنقياء الذمم، المبرَّئين من الغرض، العاطفين المفكرين الذين يمثلون مواطنيها المتحضرين.»
وبهذا المقطع الجميل، وحسن الختام جلس الأستاذ بزفز، وعلى أثره استيقظ القاضي استارلي.
ولم تنقضِ دقيقة واحدة حتى عاد الأستاذ بزفز فنهض متجدد القوى فقال: «أرجو مناداة إليزبث كلبنز.»
وفي الوقت ذاته تقدمت مسز كلبنز، محاطة بمسز باردل، ومسز ساندرز، والمستر ددسن، والمستر فج؛ لكي يعاونوها على الصعود إلى مكان الشهود. ولم تكد تستقر بسلام على الدرجة العليا من السلم، حتى وقفت مسز باردل على أولى درجاته، تحمل بإحدى يديها المنديل والقبقاب، وبالأخرى زجاجة تتسع لربع فنت من أملاح النوشادر؛ استعدادًا للطوارئ، أما مسز ساندرز التي جعلت تنظر مليًّا إلى وجه القاضي، فقد وقفت على مقربة، ومعها المظلة الضخمة، تاركة إبهامها اليمنى على الزر، وسمات الجد بادية على سحنتها، كأنما هي على أتم الأهبة لضغطه عند أول إشارة.
وقال الأستاذ بزفز: يا مسز كلبنز! «أرجوك أن تهدئي روعك يا سيدتي»، وبالطبع لم تكد مسز كلبنز تطالَب بتهدئة روعها، حتى أجهشت بالبكاء، وأبدت أعراضًا مزعجة توحي بأنها موشكة على الإغماء، أو كما قالت فيما بعد: إن شعورها كان أكثر مما تحتمله.
وقال الأستاذ بزفز بعد بضعة أسئلة لا أهمية لها: «هل تتذكرين يا مسز كلبنز، وأنت لا تبعدين من خلف مسكن مسز باردل أكثر من درجتين من السلم، أنها في صبح يوم من أيام شهر يولية الماضي كانت تكنس وتنفض غرف بكوك؟»
وأجابت مسز كلبنز: أتذكر يا سيدي القاضي وسادتي المحلفين.
وعاد المحامي يسألها: «أعتقد أن غرفة جلوس المستر بكوك في واجهة الدور الأول، أليس كذلك؟»
وأجاب مسز كلبنز: «هو كذلك يا سيدي.»
وقال القاضي الصغير: «وماذا كنت تفعلين في الغرفة الخلفية يا سيدتي؟»
وأجابت مسز كلبنز باضطراب متزايد: «يا سيدي القاضي، وسادتي المحلفين، إنني لن أخدعكم.» وقال القاضي الصغير: «خير لك ألا تفعلي يا سيدتي.»
وهنا صاح القاضي القصير القامة: «ماذا؟»
وقال الأستاذ اسنبن: «تقصد مفتوحًا قليلًا يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي بنظرة ماكرة: «لقد قالت مردودًا!»
وأجاب الأستاذ اسنبن: «المعنى واحد يا سيدي القاضي.»
ولكن القاضي بدا متشككًا وقال إنه سيأخذ «مذكرة بها».
ومضت مسز كلبنز قائلة: «فدخلت عليها أيها السادة لمجرد تحيتها في الصباح، وصعدت بشكل واضح مسموع إلى الغرفة الخلفية وكانت في الغرفة الأمامية أصوات جلبة أيها السادة و…»
وعاجلها الأستاذ بزفز قائلًا: «وأعتقد أنك أصغيت إليها يا مسز كلبنز؟»
وأجابت مسز كلبنز بترفع وجلال: «أستميحك يا سيدي المعذرة إذا قلت إنني أستنكر هذا العمل؛ فقد كانت الأصوات يا سيدي مرتفعة ففرضت نفسها على أذني فرضًا.»
وعاد المحامي يسألها: «ليكن يا مسز كلبنز، أنتِ لم تصغي إليها ولكنك سمعتها، فهل كان من بينها صوت بكوك؟»
قالت: «نعم يا سيدي.»
وبعد أن مضت تقول بصريح القول: إن المستر بكوك كان يوجه الكلام إلى مسز باردل، عادت شيئًا فشيئًا — ردًّا على الأسئلة المتوالية عليها — تكرر الحديث الذي سبق لقرائنا علمه.
وبدت الريبة على وجوه المحلفين وابتسم الأستاذ بزفز وعاد إلى مجلسه، وكان الغضب واضحًا على وجوههم حين أعلن الأستاذ اسنبن أنه لن يستجوب الشاهدة؛ لأن المستر بكوك يريد أن يسمع منها صراحة أن أقوالها في مادتها ومعناها صحيحة.
وما إن زال عن مسز كلبنز حياؤها وخجلها حتى ظنت أن الفرصة مواتية للدخول في بيان قصير عن شئونها المنزلية فشرعت في الحال تقول للمحكمة: إنها أم ثمانية أطفال يستطيعون النطق في ذلك الحين، وإنها ترجو مطمئنة أن تقدم إلى المستر كلبنز طفلًا تاسعًا بعد ستة أشهر من هذا اليوم، وعند هذه النقطة المشوِّقة قاطعها القاضي القصير بغضب شديد، وكانت النتيجة أن السيدة الفاضلة ومسز ساندرز أُخْرِجَتَا بلطف من قاعة الجلسة في حراسة المستر جاكسن، بلا نقاش آخر ولا كلام.
وقال المستر اسكمبن: «نثنايل ونكل.»
وأجاب صوت خافت: «حاضر!» ودخل المستر ونكل المكان المخصص للشهود وبعد أن حلف اليمين، انحنى للقاضي انحناءة احترام شديد.
وقال له القاضي بحدة ردًّا على تحيته: «لا تنظر إليَّ يا سيدي، وانظر إلى هيئة المحلفين.»
وامتثل المستر ونكل للأمر، ونظر إلى الموضع الذي يرجح أشد الرجحان أنه المكان المقصود؛ لأنه لم يكن من المعقول أن يبصر شيئًا وهو في تلك الحال الشديدة من الاضطراب الذهني.
وعندئذٍ تولى المستر اسكمبن توجيه الأسئلة إليه، وكان هذا المحامي في الثانية أو الثالثة والأربعين، وينتظر أن يكون له مستقبل باهر على الأيام، فلا عجب إذا كانت كل رغبته متجهة إلى إرباك شاهد معروف عنه الميل لمصلحة الخصم قدر استطاعته.
قال: «والآن يا سيدي تكرَّمْ بتعريف سيدي القاضي وحضرات المحلفين باسمك.»
وراح المستر اسكمبن، يميل رأسه إلى ناحية ليصغي مرهف الأذن إلى الرد، بينما وجه نظره إلى المحلفين، كأنما يوحي إليهم أنه يتوقع من نزعة الشاهد وجنوحه الطبيعي إلى قول الزور أن يجترئ على ذكر اسم ليس له.
وأجاب الشاهد: «ونكل.»
وسأله القاضي بغضب: «وما اسمك الأول يا سيدي؟»
– «نثنايل يا سيدي.»
– «دانيال، وهل هناك اسم آخر؟»
– «نثنايل يا سيدي، أقصد نثنايل يا سيدي القاضي.»
– «نثنايل دانيال أو دانيال نثنايل؟»
– «كلا يا سيدي القاضي، نثنايل فقط، لا دانيال إطلاقًا.»
وسأله القاضي: «لماذا إذن قلت لي: إن اسمك دانيال يا سيدي؟!»
وأجاب المستر ونكل: «لم أقل ذلك يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي بعبسة شديدة: «بل قلت يا سيدي، وإلا كيف كتبت دانيال في الورق الذي أمامي إذا لم تكن قلت ذلك يا سيدي؟»
وكانت هذه الحجة بالطبع حجة لا يستطاع دحضها.
وتدخل المستر اسكمبن، وهو يلقي نظرة أخرى إلى المحلفين: «إن ذاكرة المستر ونكل يا سيدي القاضي ضعيفة، وسنجد الوسيلة لإنعاشها وإيقاظها بلا شك قبل أن نفرغ منه.»
وقال القاضي وهو ينظر إلى الشاهد نظر شر ووعيد: «يحسن بك يا سيدي أن تأخذ حذرك.»
وانحنى المستر ونكل المسكين وحاول التظاهر بالسكينة والهدوء، ولكن هذه المحاولة وهو في تلك الحال من الاضطراب جعلته يبدو أقرب ما يكون إلى نشال مرتبك.
وعاد المستر اسكمبن يقول: «والآن يا مسز ونكل، التفت إليَّ من فضلك ودعني أنبهك لمصلحتك إلى نصيحة السيد القاضي لك بأن تأخذ حذرك، إنني أعتقد أنك صديق حميم للمستر بكوك المدعى عليه، ألست كذلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «لقد عرفت المستر بكوك، على قدر ما أذكر الساعة، منذ نحو …»
– «أرجوك يا مستر ونكل ألا تتهرب من السؤال، إنني أسألك: أأنت صديق حميم للمستر بكوك أم لا؟»
– «لقد كنت أَهمُّ اللحظة بأن أقول …»
– «أتريد أن تجيب عن سؤالي يا سيدي أم لا تريد؟!»
وهنا تدخل القاضي، وهو يطل على الشاهد من فوق الأوراق التي يدون فيها ملاحظاته، فقال: «سوف تعاقب يا سيدي إذا لم ترد على السؤال.»
وقال المستر اسكمبن في أثره: «هيا يا سيدي، نعم أو لا من فضلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «نعم، أنا صديق حميم له.»
– «نعم أنت كذلك، ولماذا لم تقُل ذلك في الحال يا سيدي، ولعلك تعرف المدعية أيضًا، إيه يا مستر ونكل؟»
– «لا أعرفها، ولكني رأيتها.»
– «آه، لا تعرفها ولكنك رأيتها؟ والآن تكرَّمْ بأن تشرح للسادة المحلفين ما الذي تقصده بهذا القول يا مستر ونكل.»
– «أقصد أنني لست وثيق الصلة بها، ولكني رأيتها عندما ذهبت لزيارة المستر بكوك في شارع جزول.»
– «وكم مرة رأيتها يا سيدي؟»
– «كم مرة؟!»
– «نعم يا مستر ونكل، كم مرة؟ إنني مستعد أن أكرر السؤال عليك عدة مرات إذا شئت يا سيدي.»
وانثنى المحامي المدره، وهو عابس عبسة طويلة قاسية، يضع يديه على حقويه، ويبتسم ابتسامة مريبة للمحلفين.
وعند هذا السؤال وجهت النظرات الحادة والعبارات المتعجرفة المألوفة في مثل هذه الظروف.
وبدأ المستر ونكل يقول: إنه من العسير عليه أن يقول كم من المرات رأى مسز باردل! وعندئذٍ سئل: هل رآها عشرين مرة؟ فأجاب: «أكثر من ذلك بلا شك» ثم قيل له هل رآها مائة مرة، وهل في استطاعته أن يحلف أنه رآها أكثر من خمسين مرة، وهل يذكر أنه رآها على الأقل ولو خمسًا وسبعين مرة وهكذا دواليك، فكانت النتيجة التي وصلوا إليها أخيرًا وارتضوها منه، هي أنه يحسن به أن يأخذ حذره وينتبه إلى خطورة موقفه، وكان الشاهد عندئذٍ قد بلغ من أثر هذه الأسئلة المتوالية عليه أقصى حدود الاضطراب العصبي المقصود، وتتابع استجوابه على النحو التالي:
– «هل تذكر يا مستر ونكل أنك في صباح يوم من أيام شهر يولية الماضي زرت المدعى عليه بكوك في غرفة بمسكن المدعية بشارع جزول؟»
– «نعم أذكر.»
– «وهل كنت مصطحبًا في هذه الزيارة صديقًا يدعي طبمن وآخر يدعي سنودجراس؟»
– «نعم.»
– «وهل هما هنا؟»
– «نعم هنا.»
قال هذا المستر ونكل وهو ينظر باهتمام بالغ نحو الموضع الذي يقف فيه صديقاه.
وقال المستر اسكمبن، بنظرة أخرى ذات دلالة إلى المحلفين: «أرجوك يا مستر ونكل أن تلتفت إليَّ أنا، ودعك من النظر إلى صديقيك، فهما مطالبَان بأن يؤديا شهادتهما دون مشاورة سابقة معك، إذا لم تكن المشاورة قد حدثت بالفعل! (ونظر نظرة أخرى إلى المحلَّفين) والآن يا سيدي قل للسادة المحلفين ماذا رأيت عند دخولك غرفة المدعى عليه في صباح ذلك اليوم، هيا يا سيدي، قل ذلك، فلا بد لنا من أن نعرف عاجلًا أو آجلًا.»
وأجاب المستر ونكل في تردُّد طبيعي: «رأيت المستر بكوك المدعى عليه متناولًا المدعية بين ذراعيه ويداه ممسكتان بخصرها، وكان يبدو على المدعية أنها في حالة إغماء.»
– «وهل سمعت المدعى عليه يقول شيئًا؟»
– «سمعته يدعو مسز باردل: المخلوقة العاقلة، ويطلب إليها أن تهدئ روعها؛ لأن الموقف سيبدو حرجًا إذا دخل أحد عليهما، أو كلمات في هذا المعنى.»
– «والآن يا مستر ونكل، بقي لي سؤال واحد أوجِّهه إليك وأرجو أن تتذكر نصيحة حضرة القاضي لك، هل أنت مستعد أن تحلف أن بكوك المدعى عليه لم يقل عندئذٍ: يا عزيزتي مسز باردل، إنك لمخلوقة عاقلة، فلتهدئي روعك في هذا الموقف؛ لأنك يجب أن تروضي نفسك عليه، أو ما في هذا المعنى؟»
وبهت المستر ونكل لهذا التخريج العجيب لبضع كلمات سمعها: «لم أفهم هذا بلا شك؛ لأنني كنت على السُّلَّم فلم أستطع أن أسمع بوضوح، ولكن الذي يتمثل في خاطري …»
وهنا قاطعه المستر اسكمبن قائلًا: «إن السادة المحلفين لا يريدون شيئًا مما يتمثل في خاطرك يا مستر ونكل، وأخشى ألا يكون له فائدة كبيرة عند سادة مثلهم أمناء صُرَحَاء عُدُول، لقد قلت إنك كنت على السلم فلم تسمع بوضوح، ولكن هل تحلف أن بكوك لم يستخدم هذا التعبير الذي ذكرته لك؟ هل أفهم ذلك منك؟»
وأجاب المستر ونكل: «كلا، لا أحلف.»
وهنا عاد المستر اسكمبن إلى مجلسه، وعلى وجهه سمات الانتصار.
ولم تكن قضية المستر بكوك قد وصلت عند هذا الحد إلى مرحلة سعيدة، ودور موفق، حتى لم يعد ثَمَّةَ مجال إلى إلقاء شيء جديد من الريبة عليها، ولكن كان في الإمكان تسليط أضواء أخرى تزيل إذا تيسر ما أحاط من الشبهات بها، فلا غرو إذا نهض المستر فنكي لاستجواب المستر ونكل لعله ظافر من ردوده بشيء يجدي عليها، وسنرى في الحال هل استطاع ذلك أو لم يستطع؟
فقد بدأ أسئلته بقوله: «أعتقد يا مستر ونكل أن المستر بكوك ليس شابًّا، أهو كذلك؟»
وأجاب المستر ونكل: «آه، كلا، إنه في سن والدي.»
– «لقد قلت لزميلي المحترم إنك عرفت المستر بكوك من زمن طويل، فهل لديك من الأسباب ما يجعلك تحسب أو تعتقد أنه كان موشِكًا أن يتزوج؟»
وأجاب المستر ونكل بلهفة حارة كان من شأنها أن ترغم مستر فنكي على أن يخرجه من موقف الشاهد بكل سرعة ممكنة: «كلا، بلا شك.»
ومن رأي المحامين أن أردأ الشهود في القضايا نوعان، وهما الشاهد الراغب في الإقلال من الكلام، والشاهد الشديد الرغبة في الإكثار منه، ولكن من سوء الحظ أن المستر ونكل جمع بين النوعين.
ومضى المستر فنكي يقول بلهجة متناهية في الرفق واللين: «بل سأذهب إلى أبعد من هذا يا مستر ونكل، فأسأل: هل رأيت يومًا من تصرف المستر بكوك وسلوكه إزاء الجنس الآخر ما يحملك على الاعتقاد بأنه كان يفكر في الحياة الزوجية في السنين الأخيرة بأي حال من الأحوال؟»
وأجاب المستر ونكل: «كلا، بلا شك.»
– «وهل كان سلوكه أبدًا، كلما عرض له أمر النساء، سلوك رجل بلغ دورًا متقدمًا من أدوار العمر، فأصبح قانعًا بعمله، راضيًا بمناعمه، وأمسى يعاملهن كما يعامل الأب بناته؟»
وأجاب المستر ونكل من كل قلبه: «ليس في هذا أدنى شك … أي نعم … إن الأمر كذلك بلا ريب.»
وقال المستر فنكي وهو يستعد للجلوس، حين رأى الأستاذ اسنبن يغمز له بطرف عينه: «وهل عرفت يومًا من الأيام شيئًا في سلوكه تجاه مسز باردل أو أية امرأة سواها يثير أدنى شبهة؟»
وأجاب المستر ونكل: «كلا … إلا في مناسبة تافهة لست أشك في أن من السهل تفسيرها.»
ولو كان المستر فنكي قد جلس حين غمز له الأستاذ اسنبن أو لو كان الأستاذ بزفز قد عمد إلى إيقاف هذا الاستجواب المخالف للقانون من البداية، وإن كان أحكم وأحرص من أن يفعل ذلك، وهو يشهد قلق المستر ونكل ولهفته واضطرابه، ويعلم أن ذلك على الأرجح قد يؤدي إلى معرفة أشياء في مصلحة موكلته، لو أن ذلك أو نحوه قد حدث، لما أمكن أن يستخلص هذا القول من المستر ونكل لسوء الحظ، فلا عجب إذا رأينا المستر فنكي لم يكد يسمع هذه الكلمات تخرج من شفتي المستر ونكل، حتى عاد إلى مجلسه، وبادر الأستاذ اسنبن إلى إبلاغه أنه حر في ترك مكانه، وهو ما كان المستر ونكل على أتم استعداد لتنفيذه، وإذا الأستاذ بزفز يمنعه من الانصراف، قائلًا: «قف يا مستر ونكل لا تنصرف! هل يتكرم سيدي القاضي فيسأله: ما هي تلك المناسبة التي تدل على سلوك مريب إزاء النساء من جانب هذا السيد الذي يبلغ في السن مقام أبيه؟»
والتفت القاضي إلى المستر ونكل المسكين المعذب فقال: «هل سمعت ما قاله المحامي الكبير يا سيدي؟ صف لنا الحادث الذي تشير إليه.»
وأجاب المستر ونكل وهو يرتعد من القلق والاضطراب: «إننى يا سيدي القاضي أوثر ألا أفعل.»
وقال القاضي: «ربما كان ذلك، ولكنك ملزم.»
وفي وسط السكون العميق الذي ساد المحكمة بدأ المستر ونكل يقص وهو متعلثم مضطرب ذلك الحادث التافه الذي يثير الشبهة حول المستر بكوك وهو أنه وُجِدَ في مخدع سيدة في منتصف الليل، وانتهى من شرحه إلى القول إنه يعتقد أنه أدى إلى فسخ مشروع زواج تلك السيدة، وأنه يعلم أن الأمر أسفر عن استياق الجميع إلى دار المستر جورج نبكن القاضي في دائرة إبسويتش.
وقال الأستاذ اسنبن: «لك أن تنصرف يا سيدي.»
وانصرف المستر ونكل فعلًا، وانطلق مسرعًا محمومًا إلى فندق «جورج والرخم»، حيث عثر عليه بعد بضع ساعات خادم الفندق وهو يئن ويزجر بشكل مؤلم، ويدفن رأسه بين وسائد الأريكة.
ودعي كل من تراسي طبمن وأغسطس سنودجراس إلى تأدية الشهادة، واحدًا بعد الآخر، فوافقا على أقوال صديقهما التعس، وكاد كل منهما يبلغ حدود اليأس والاضطراب من كثرة مطاردته بالأسئلة وتعقُّبه والإلحاح عليه.
ونوديت بعدهما سوزانه ساندرز واستجوبها الأستاذ بزفز، ووجَّه الأستاذ اسنبن أسئلة إليها، فكانت جملة أقوالها أنها كانت دائمًا تقول وتعتقد أن المستر بكوك سيتزوج مسز باردل، وتعرف أن خطبتها له كانت محور الأحاديث التي تدور في الحي، وعلى أفواه الجيران منذ حادث إغمائها في شهر يولية، وأنها سمعت ذلك من مسز مضبري التي تشتغل بكي أو صقل الثياب، ومن مسز بنكن التي تشتغل بتنشيتها، وإن لم ترهما في المحكمة، وقد سمعت أيضًا المستر بكوك يسأل الغلام: هل يجب أن يكون له أب آخر؟ وأنها لم تعرف أن مسز باردل كانت في ذلك الحين خليلة للخبَّاز، ولكنها تعرف أن الخباز كان يومئذٍ أعزب، وأنه الآن متزوج، وأنها لا تستطيع أن تحلف أن مسز باردل لم تكن تحب ذلك الخباز كثيرًا، ولكنها تعتقد أن الخباز لم يكن يحب مسز باردل إلى هذا الحد، وإلا لما تزوج بامرأة سواها، وأنها تعتقد أن مسز باردل أغمي عليها في صباح يوم معين في شهر يولية؛ لأن المستر بكوك طلب إليها أن تحدد يوم الزواج، وأنها — أي الشاهدة — أغمي عليها حين طلب إليها المستر ساندرز تحديد يوم القران، وأنها تعتقد أن كل امرأة تعد نفسها سيدة تفعل ذلك في هذا الظرف بالذات. وقالت إنها سمعت المستر بكوك يسأل الغلام عن البلي ولكنها مستعدة أن تحلف اليمين على أنها لا تدري عن أنواع هذه الحجارة شيئًا.
سؤال من المحكمة: هل كانت تتلقى في الفترة التي كانت خلالها تصاحب المستر ساندرز رسالات غرامية كالسيدات الأخريات؟ وكان جوابها أن المستر ساندرز كان كثيرًا ما يدعوها في رسالاته «بطة» ولكنه لم يكن يدعوها مطلقًا «شرائح» ولا «صلصة بالطماطم»؛ فقد كان مولعًا «بالبط»، ولعله لو كان مولعًا بالشرائح والصلصة لدعاها كذلك؛ رمزًا لمودته وحبه!
وهنا نهض الأستاذ بزفز مُبْدِيًا من الخطر والاهتمام أكثر ممَّا أبداه من قبل، لو أن ذلك كان ممكنًا، وصاح قائلًا: «فليُدْعَ صمويل ولر.»
ولم تكن ثمة حاجة ظاهرة إلى دعوة صمويل ولر؛ فقد تقدم إلى مكان الشهود بخطوات منفرجة، وسرعة واضحة، في اللحظة ذاتها التي نودي فيها اسمه، فوضع قبعته على الأرض، وذراعيه على السياج، واستعرض مقاعد المحامين من علٍ، وألقى نظرة شاملة على منصة القضاء، وهو في ابتهاج جلي واسترواح ظاهر.
وسأله القاضي: «ما اسمك يا سيدي؟»
وأجاب هذا السيد: «سام ولر يا سيدي القاضي.»
وأجاب سام: «هذا متروك لذوق المتهجي وخياله، يا سيدي القاضي؛ لأنني لم أتهجَّ اسمي أكثر من مرة أو مرتين في حياتي فكنت أتهجاه بالفاء.»
وهنا ارتفع صوت من مقاعد النظارة يقول: «أحسنت يا صمويل، أحسنت كل الإحسان، اكتبها عندك يا حضرة القاضي بالفاء.»
فرفع القاضي الصغير الجسم بصره وقال: «ما هذا؟ من الذي يجترئ على مخاطبة المحكمة؟ يا حاجب!»
– «نعم يا مولاي.»
– «أحضر هذا الشخص إلى هناك في الحال.»
– «سمعًا يا مولاي.»
ولكن لم يجد الحاجب ذلك الشخص، فلم يحضره، وكان الناس قد نهضوا من مجالسهم؛ ليتطلعوا بأبصارهم إلى هذا المخلوق، وبعد أن قامت الضجة، وحدث هرج ومرج، عادوا إلى المقاعد، والتفت القاضي القصير إلى الشاهد وقال بعد أن هدأت ثائرته: «هل تعرف من يكون ذلك الشخص يا سيدي؟»
وأجاب سام: «يبدو لي أنه والدي يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي: «هل تراه هنا الآن؟»
وأجاب سام، وهو ينظر إلى المصباح المعلق في سقف المحكمة: «كلا يا سيدي القاضي.»
وقال القاضي: «لو استطعت أن تشير إليه لما ترددت في عقابه.»
وانحنى سام انحناءة شكر وعرفان، والتفت بوجهه وهو يطفح بشرًا وتتهلل أساريره، نحو الأستاذ بزفز.
وقال هذا: «والآن يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «والآن يا سيدي.»
قال: «أعتقد أنك في خدمة المستر بكوك المدعى عليه في هذه القضية، فتكلم من فضلك يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «أنا ناوٍ أن أتكلم يا سيدي، أي نعم، أنا في خدمة هذا السيد، وهي خدمة حسنة جدًّا.»
وقال الأستاذ بزفز متفكهًا: «أظن ذلك راجعًا لقلة العمل ووفرة الأجر.»
وأجاب سام: «الأجر حسن وزيادة، كما قال الجندي حين حكموا عليه بثلاثمائة وخمسين جلدة!»
واعترض القاضي قائلًا: «لا ينبغي لك أن تقول لنا ماذا قال الجندي أو أي إنسان سواه، هذا خروج عن موضوع الشهادة.»
وأجاب سام: «حسن جدًّا يا سيدي القاضي.»
وقال الأستاذ بزفز: «هل تتذكر حادثًا معينًا وقع في صباح اليوم الذي أدخلك فيه المدعى عليه في خدمته يا مستر ولر؟»
وأجاب سام: «نعم أتذكر يا سيدي.»
– «تكرم بإبلاغ هيئة المحلفين ما هو.»
وقال سام: «لقد تلقيت كسوة جديدة من الثياب في صباح ذلك اليوم أيها السادة المحلفون، وكان هذا ظرفًا خاصًّا وحادثًا غير مألوف لدي في تلك الأيام!»
وقوبلت هذه الإجابة بضحك عام، ونظر القاضي القصير القامة نظرة غضب من فوق منصته فقال: «خير لك أن تحتاط لنفسك يا سيدي، وتأخذ حذرك.»
وأجاب سام: «هكذا قال لي المستر بكوك في ذلك اليوم بالذات يا سيدي القاضي، وقد احتطت كل الاحتياط، وأخذت حذري جدًّا، من الحلة الجديدة … نعم كنت محتاطًا كل الاحتياط يا سيدي القاضي.»
ولبث القاضي ينظر إلى سام عابسًا دقيقتين كاملتين، ولكن وجه سام ظل في أتم الهدوء والسكينة فلم يَقُلِ القاضي شيئًا، وأشار إلى الأستاذ بزفز أن يستمر.
وقال الأستاذ بزفز، وهو شابك ذراعيه بقوة، ملتفت نصف التفاته نحو المحلفين، كأنما يؤكد لهم في صمت أنه سوف يُطْبِقُ على الشاهد ويحاصره: «هل تقصد يا مستر ولر أن تقول لي: إنك لم تَرَ شيئًا من إغماء المدعية وهي في أحضان المدعى عليه، كما وصف الشهود الذين سمعت أقوالهم؟»
وأجاب سام: «نعم، بلا شك لم أشهد شيئًا؛ لأنني كنت في الدهليز، فلم أدخل حتى نودي عليَّ، ولم تكن السيدة العجوز هناك.»
وقال الأستاذ بزفز وهو يغمس قلمًا كبيرًا في الدواة التي أمامه بقصد تخويف سام بأنه سيدون ردَّه: «التفت يا مستر ولر إلى السؤال … لقد كنت في الدهليز، ومع ذلك لم تشهد شيئًا ممَّا كان يحدث، هل لك عينان يا مستر ولر؟»
وأجاب سام قائلًا: «نعم لي عينان، وهذا هو الواقع، ولو كانتا زوجين من المجاهر المكبِّرة مليون مرة، لكان من الجائز أن أتمكن من رؤية ما يجري من خلال درجات سلم، وباب خشبي، ولكن ربما أنهما عينان لا أكثر؛ فإن بصري محدود كما ترى.»
وعلى أثر هذا الرد الذي ألقاه سام بلا أدنى عارض لاضطراب، وبأتم البساطة والهدوء، استولى الضحك على النظارة، وابتسم القاضي، وبدا الارتباك الشديد على وجه الأستاذ بزفز، وبعد مشاورة قصيرة بينه وبين ددسن وفج عاد يلتفت إلى سام ويسأله وهو يحاول بألمٍ إخفاءَ غيظه: «والآن يا مستر ولر سأسألك عن شيء آخر إذا تكرمت.»
وقال سام بكل وداعة وخفة روح: «تفضل!»
– «هل تتذكر أنك ذهبت إلى منزل مسز باردل ذات ليلة في شهر نوفمبر الماضي؟»
– «آه! نعم أذكر ذلك جيدًا.»
وقال الأستاذ بزفز مستعيدًا قواه: «آه، تذكر ذلك إذن يا مستر ولر، لقد ظننت أننا سنظفر بشيء في النهاية.»
وأجاب سام: «لقد كان هذا هو ظني أنا أيضًا يا سيدي.»
وعاد النظارة يضحكون من هذا الرد كذلك.
وقال الأستاذ بزفز، وهو ينظر إلى المحلفين نظرة العارف: «وأظنك قد ذهبت إليها؛ لتتحدث قليلًا عن هذه المحاكمة. آه، يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «لقد ذهبت لأدفع لها الأجرة، ولكننا فعلًا تحدثنا عن المحاكمة.»
وهنا تهلل وجه الأستاذ بزفز مؤمِّلًا أن يقع على اكتشاف خطير: «آه، لقد تحدثتما عن المحاكمة، فما الذي دار من الحديث عنها، هلا تكرمت بشرح ذلك يا مستر ولر؟»
وأجاب سام: «بكل سرور يا سيدي، فبعد بضع ملاحظات لا أهمية لها من جانب المرأتين الفاضلتين اللتين سُئلتا هنا اليوم، أخذتا تبديان إعجابهما الشديد بالمسلك المشرِّف الذي بدا من المستر ددسن والمستر فج، وهما هذان السيدان الجالسان بقربك الآن.»
وكان هذ القول بالطبع مثارًا لاهتمام النظارة واتجاه أبصارهم إلى ددسن وفج، فلا غرو إذا هما لاحا عظيمين شامخين ما أمكن.
وأجاب سام: «هو ذلك؛ فقد قالتا ما أكرمهما وأنبلهما!»
وقال الأستاذ بزفز: «إنهما وكيلا المدعية. حسن جدًّا، لقد تحدثت السيدتان عن سلوكهما المشرِّف، وأثنتا عليهما ثناءً كبيرًا، أليس كذلك؟»
وأجاب سام: «هو كذلك؛ فقد قالتا ما أكرمهما وأنبلهما أن قبلا هذه القضية مجازفة ومغامرة، فلم يطالبا مطلقًا بأتعاب، إلا إذا أخذاها وأخرجاها من جيب المستر بكوك.»
وعاد النظارة يضحكون لهذا الرد الذي لم يكن منتظرًا مطلقًا، وارتد وجها ددسن وفج محمرين أشد الاحمرار، ومالا على الأستاذ بزفز وهمسا في عجلة شيئًا في أذنيه.
وقال الأستاذ بزفز بصوت مرتفع وهو متظاهر بالهدوء: «أنت على حق، لا فائدة إطلاقًا يا سيدي القاضي من محاولة الحصول على أقوال من بلاهة هذا الشاهد وحماقته التي لا سبيل إلى اختراقها والتغلغل في صميمها؛ ولهذا لا أريد أن أتعب المحكمة بإلقاء أية أسئلة أخرى عليه، انزل يا سيدي.»
وقال سام وهو يتناول قبعته، ويتلفت حوله بكل هدوء: «ألا أحد يحب أن يسألني عن شيء؟»
وقال الأستاذ اسنبن ضاحكًا: «لست أنا يا مستر ولر … أشكرك.»
وقال الأستاذ بزفز، وهو يلوح له بيده مغيظًا قلقًا: «انزل يا سيدي.»
ونزل سام، بعد أن أصاب قضية المستر ددسن وفج بأبلغ أذًى استطاع بكل سهولة أن يصيبها به، دون أن يقول في حق المستر بكوك أكثر ممَّا يمكن أن يقوله، وهو عين الهدف الذي كان قد وضعه نصب عينيه من البداية إلى النهاية.
وقال الأستاذ اسنبن: «لست أرى يا سيدي القاضي بأسًا من القول — في سبيل الإغناء عن المحكمة سماع أقوال شهود آخرين — إن المستر بكوك رجل متقاعد اعتزل العمل، وسيد مستقل يعيش مما يملكه.»
وقال الأستاذ بزفز، وهو يقدم الرسالتين لكي يقرأهما الدفاع: «حسن جدًّا، هذه هي قضيتي شرحتها لكم يا سيدي القاضي.»
وعندئذٍ نهض الأستاذ اسنبن فوجَّه القول إلى المحلفين؛ دفاعًا عن موكله، وكانت مرافعته طويلة ولهجته مقترنة بالتوكيد البالغ، راح خلالها يُثني أطيب الثناء على سلوك المستر بكوك وأخلاقه، ولكن لما كان قراؤنا أقدر كثيرًا على تكوين رأي صحيح عن مواهب هذا الرجل ومدى فضله وجدارته، ممَّا في وسع الأستاذ اسنبن أن يَصِلَ إليه، فإنَّا لا نجد حاجة تدعونا إلى ترديد مرافعته والإطالة في إيراد ملاحظاته؛ فقد حاول أن يبين أن الرسالتين اللتين تناولهما محامي المدعية لا صلة لهما بشيء إطلاقًا غير الطعام الذي كان المستر بكوك يبتغيه أو الاستعداد لعودته إلى غرفته من رحلة له في الريف، وحسبنا أن نضيف في عبارة عامة أن الأستاذ اسنبن بذل أقصى الجهد في سبيل الدفاع عن موقف المستر بكوك وأنه لم يكن في الإمكان — كما يقول المثل القديم — أحسن مما كان.
وبدأ القاضي استارلي يلخص نقط القضية على النحو المعروف، وطبقًا للأوضاع المقررة، فكان يقرأ من الملاحظات التي دوَّنَها في الورق الذي أمامه على أسماع المحلفين كلَّ ما أمكنه أن يقرأ في هذه الفترة القصيرة، ومضى يعلق على أقوال الشهود تعليقات سريعة وهو منطلق في تلخيصه، قائلًا: إنه إذا كانت مسز باردل على حق، فمن الجلي تمامًا أن المستر بكوك هو المخطئ، وإذا كانوا يرون أن شهادة مسز كلبنز جديرة بالتعويل عليها، فليأخذوا بها، وإذا لم يروا ذلك فلا شيء يحملهم على الأخذ بها، وإذا كانوا مقتنعين بأن هناك نكثًا بوعد الزواج قد ارتُكِبَ، فليكن قرارهم في مصلحة المدعية مع الحكم بالتعويضات التي يرونها، وأما إذا تبين لهم على العكس أنه لم يكن ثَمَّةَ وَعْدٌ به، فليكن القرار في مصلحة المدعى عليه، بلا تعويض مطلقًا.
واختلى المحلفون عندئذٍ في حجرتهم الخاصة للمداولة، وعاد القاضي إلى غرفته كذلك؛ ليسترد قواه بشريحة من الضأن وكأس من خمر الكرز.
وانقضى ربع ساعة في قلق بالغ، وعاد المحلفون إلى مكانهم، ودُعِيَ القاضي من غرفته، ورفع المستر بكوك منظاره فوضعه فوق عينيه، وراح يرمق كبيرهم وهو بادي الاضطراب، خافق القلب.
وقال السيد ذو الثوب الأسود: «أيها السادة، هل أنتم مجمعون على القرار؟»
وأجاب كبير المحلفين: «نعم.»
وعاد يسأل قائلًا: «وهل القرار يا سيدي في مصلحة المدعية، أو في مصلحة المدعى عليه؟»
– «في مصلحة المدعية.»
– «والتعويضات أيها السادة؟»
– «سبعمائة وخمسون جنيهًا.»
وهنا نزع المستر بكوك منظاره فمسح زجاجه بكل عناية وطواه ووضعه في علبته، ودس العلبة في جيبه، وبعد أن أدخل القفاز في كفيه بكل تؤدة وراح يرمق كبير المحلفين بنظره، انطلق ذاهلًا في أثر المستر بركر والحقيبة الزرقاء، منصرفًا من المحكمة.
ووقفا في غرفة جانبية ريثما يدفع رسوم المحكمة، وانضم إليه أصدقاؤه، وهنا التقى أيضًا بالمستر ددسن والمستر فج، وهما يفركان أيديهما وتبدو عليهما أمارات السرور الظاهر، وعلامات الارتياح.
وقال المستر بكوك: «والآن أيها السيدان؟»
وقال ددسن عنه وعن شريكه: «والآن يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «هل تتصوران أنكما ستظفران بأتعابكما؟ أليس كذلك أيها السيدان؟» وأجاب فج أنهما يعتقدان أن ذلك هو المرجح، وابتسم ددسن وقال: إنهما سيحاولان.
وقال المستر بكوك بحدة: «فلتحاولا، ولتحاولا، ولتحاولا، يا سيد ددسن وأنت يا سيد فج ما تشاءان ولكنكما لن تظفرا بدرهم واحد من أتعاب أو تعويض مني، ولو انفقت بقية العمر في سجن المدينين.»
وضحك ددسن قائلًا: «سيكون لك رأي أحسن من هذا قبل حلول الدورة التالية يا مستر بكوك.»
وابتسم فج قائلًا: «ها، ها، لن تلبث أن ترى ماذا سيتم يا مستر بكوك.»
وترك المستر بكوك من فرط الغيظ نفسه يساق صامتًا مرتجًا عليه في أثر وكيله وأصحابه إلى الباب، حيث ساعداه على الصعود إلى مركبة قديمة كان سام ولر المتنبه الصاحي لكل شيء قد أحضرها لهذا الغرض.
ورفع سام سلم المركبة، وهم بالوثوب إلى مكانه بجانب السائق، وإذا هو يشعر بيد تلمس في رفق كتفه، فاستدار لكي يرى من اللامس فوجد والده حياله، وقد غمرت وجهه أمارات الحزن والأسف وهو يهز رأسه بأسًى ويقول بلهجة المنذر: «لقد كنت عارفًا نتيجة ما سيحدث هنا، آه، يا سامي! يا سامي! لماذا لم يؤخذ بنصيحتي، وهي إثبات غيابه؟»