الفصل التاسع والثلاثون
كيف عهد إلى المستر صمويل ولر برسالة غرامية فمضى ينفذها، ومدى النجاح الذي تواتى له في هذا السبيل.
***
وظل سام طيلة اليوم التالي بالمرصاد للمستر ونكل لا يدعه لحظة يفارق عينيه، معتزمًا كل الاعتزام ألا يتركه يفلت منه، حتى يتلقى تعليماتٍ صريحةً من المصدر الرئيسي، ورغم استياء المستر ونكل من هذه الرقابة الشديدة التي لمسها من سام ويقظته التامة لحركاته وسكناته، آثر أن يحتملها على أن يعمد إلى الاعتراض الشديد عليها، فيستهدف لخطر حمله عنوة، وأخذه بالقوة، كما لمح المستر ولر أكثر من مرة وردَّد القول أن هذا هو المسلك الذي يملي عليه الشعور بالواجب الالتجاء إليه، وليس ثمة كبير شك في أن سام كان سيعمد بسرعة إلى إزالة شكوكه، بحمل المستر ونكل عنوة إلى باث، وشد وثاقه، لو لم يتنبأ المستر بكوك بهذا الأمر فيحتط له، حين تلقى الكتاب المرسل إليه على يد داولر، واهتم في الحال به، وقصارى القول أنه ما حلت الساعة الثامنة من المساء حتى كان المستر بكوك نفسه يخطو نحو قاعة القهوة في فندق «بش» ويقول لسام وهو يبتسم: إنه قد أحسن صنعًا، وإنه لم تبق حاجة إلى القيام بعمل الحراسة بعد الآن، فكان ذلك مدعاة طمأنينة لنفسه وسرور شديد.
وأنشأ المستر بكوك يقول مخاطبًا المستر ونكل بينما كان سام يعاونه على خلع معطفه ولفاعة السفر: «لقد رأيت من الخير أن أحضر بنفسي؛ لكي أستوثق قبل أن أوافق سام على تنفيذ مهمته، هل أنت جادٌّ حقًّا فيما يتعلق بتلك الفتاة؟»
وأجاب المستر ونكل بكل قوة: «نعم جادٌّ من كل قلبي.»
وقال المستر بكوك وعيناه تبرقان: «تذكر أننا التقينا بها في دار صديقنا الفاضل العظيم الكريم يا ونكل، وأن العبث بعواطف هذه الشابة، والاستخفاف بمشاعرها، هما مقابلة الصنيع الجميل بالسوء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان! إنني لا أقبل هذا العبث وذلك الاستخفاف ولن أسمح به.»
وأجاب المستر ونكل بحماسة: «ليس في نفسي نية كهذه إطلاقًا، لقد فكرت في الأمر مليًّا، وأيقنت أن سعادتي مرتبطة بها.»
وهنا قاطعه المستر ولر بابتسامة لطيفة قائلًا: «إن هذا هو ما نَصِفُهُ بقولنا حزم الشيء في ربطة صغيرة يا سيدي.»
وبدا على وجه المستر ونكل شيء من العبوس لهذه المقاطعة، والتفت المستر بكوك إلى خادمه غاضبًا وطلب إليه ألا يمزح في أمر يتصل بعاطفة من أسمى العواطف في الطبيعة البشرية، فكان جواب سام قوله إنه ما كان ليمزح، لو عرف أنها كذلك، ولكن هذه العواطف البشرية كثيرة إلى حد لا يكاد يعرف معه حين يسمع عنها أنها أسمى وأرفع من الأخرى.
ومضى المستر ونكل عندئذٍ يقص ما كان بينه وبين المستر بن ألن فيما يتصل بأرابلا، وقال: إن كل غرضه هو أن يظفر بلقائها ليكاشفها صراحة بحبه، وإنه يعتقد بناء على تلميحات معينة وتمتمات من بن ألن أنها في هذه الساعة تقيم في موضعٍ ما قريب من التلال، وأن هذا هو كل ما عنده من المعلومات والهواجس في هذا الشأن.
وصحَّت النية على أن يبدأ المستر ولر من صباح اليوم التالي رحلة اكتشاف رغم هذه المعلومات القليلة التي سيهتدي بها، كما تم الاتفاق على أن يتولى المستر بكوك والمستر ونكل — وكان هذا أقل ثقة من صاحبه بقوتهما — الطواف بأرجاء المدينة والنزول عرَضًا على المستر بب سوير في أثناء النهار على أمل أن يشهدا أو يسمعا شيئًا عن الموضع الذي تقيم الفتاة فيه.
وانطلق سام ولر في صباح اليوم التالي معتزمًا البحث والتحري، لا يروعه مطلقًا هذا المطلب المثبط للعزيمة كل التثبيط الذي خرج من أجله ومضى يذرع الشوارع، صاعدًا شارعًا، وهابطًا شارعًا آخر، فوق روابي كلفتون دون سواها، دون أن يلتقي بشيء أو أحد قد يلقي أقل بصيص من الضوء على الأمر الذي عهد به إليه، فكم من أحاديثَ أجراها مع ساسة الخيل وهم آخذوها إلى الطريق «لتهويتها»، ومع المربيات وهن يصحبن الأطفال إلى الرياضة في الأزِقَّة والدروب، ولكنه لم يستطع أن يستخلص من تلك الأحاديث كلها شيئًا يصح أن يشير أقل إشارة إلى ما هو بسبيل البحث عنه والاستعانة بالحيلة والبراعة على تحري الحقيقة فيه، فالبنات كثيرات في كثير من البيوت، وأغلبهن — في ظن الخدم والخادمات — على صلات وثيقة ببعض الفتيان أو على استعداد للاتصال بهم إذا سنحت الفرص لهن، ولكن لم تكن منهن واحدة هي بالذات مس أرابلا ألن، فلبث سام في جهل تام، وبقي آخر المطاف كما كان حين ابتدأ.
وهبَّت عليه في الطريق ريح عاصفة فجعل يغالبها متسائلًا: هل من ضرورة تدعو المرء أن يظل ممسكًا بقبعته بكلتا يديه في ذلك الموضع، حتى أتى على بقعة ظليلة تراءت له عندها عدة مغانٍ صغيرة متناثرة تبدو عليها السكينة والعزلة والهدوء، وبصر خارج باب إسطبل في نهاية زقاق خلفي مستطيل لا منفذ له بسائس قد خلع عنه ثوبه وراح يتسكع في الزقاق متبطلًا، كأنما يريد أن يقنع نفسه بأنه يفعل شيئًا بفأس أو عجلة ذات دولاب واحد، وهنا يصح أن نقول إنه ما من سائس شوهد يومًا بقرب الإسطبل في ساعات فراغه، إلا كان إلى حد ما فريسة لهذا التوهم الفذ الغريب.
وخطر لسام أنه لا بأس من التحدث إلى هذا السائس، كأي أحد سواه، ولا سيما أنه قد تعب من كثرة المشي، ووجد حجرًا ضخمًا قائمًا قبالة العجلة، فتقدم في الزقاق، وجلس فوق ذلك الحجر، وافتتح الحديث مع السائس بتلك السهولة والسماحة اللتين عرفتا عنه.
وأنشأ يقول: «صباح الخير يا صاح.»
وأجاب السائس وهو يلقي نظرة غاضبة إليه: «تقصد مساء الخير.»
وقال سام: «إنك محق كل الحق يا صديقي، إنني أقصد فعلًا المساء، كيف أنت؟»
وأجاب السائس الحاد الطبع: «لا أجد نفسي أحسن حالًا لرؤيتك.»
وقال سام: «ذلك أمر جد غريب؛ لأنك تلوح مبتهجًا على غير المألوف، وتبدو مشرقًا حتى لتسر القلب رؤيتك.»
وازداد السائس الحاد الطبع حدة لهذا القول ولكن ليس إلى الحد الكافي لإحداث أي أثر في نفس سام، فراح هذا في الحال يسأل بلهفة شديدة: «هل يدعى مولاه ووكر؟»
وقال السائس: «كلا، ليس هذا اسمه.»
وقال سام: «ولا براون أيضًا؟»
– «ولا براون كذلك.»
– «ولا ولسن؟»
– «كلا، ولا هذا أيضًا.»
وقال سام: «أنا مخطئ إذن، ولم يتشرف بمعرفتي وكنت أظن أنه تشرف بها.»
ورآه يدفع العجلة أمامه ويستعد لإغلاق الباب، فمضى يقول له: «لا تعجل هكذا دون أن تحييني، وتقدم الراحة الشخصية على عناء الكلفة يا بني، أنا سأسامحك.»
وقال السائس الشرس وهو يغلق نصف الباب: «سأفصل رأسك عن جسمك نظير نصف كراون.»
وأجاب سام: «لا يمكن أن تضمن ذلك بهذا الشرط؛ لأنه يساوي أجر طعامك وشرابك مدى الحياة على أقل تقدير، ثم يبقى مع ذلك رخيصًا زهيد الثمن، بَلِّغْ سلامي لأهل البيت، وقل لهم: لا ينتظروا قدومي للغداء، ولا ضرورة لإبقاء شيء منه لي؛ لأنه سيبرد قبل حضوري!»
واشتد غضب السائس من هذا الجواب وزمجر وتمتم مبديًا الرغبة في تدمير شخص ما أو قتله، ولكنه اختفى دون تنفيذها، مغلقًا الباب في حنق وراءه، غير ملق بالًا إلى رجاء سام وتوسُّله إليه أن يترك له خصلة من شعره قبل انصرافه.
ولبث سام مقتعدًا ذلك الحجر الضخم، يفكر فيما يحسن أن يفعله، ويبحث في خطة ترمي إلى دق جميع الأبواب الواقعة في نطاق خمسة أميال من برستل، بمعدل مائة وخمسين بيتًا في اليوم، ويحاول بهذه الوسيلة الاهتداء إلى مكان مس أرابلا وإذا الظروف تلقي فجأة بما كان محتملًا أن يظل جالسًا في موضعه هذا عامًا كاملًا ولا يهتدي إلى مثله.
فقد رأى في الزقاق الذي كان جالسًا فيه ثلاثة أبواب أو أربعة لحدائق تتصل بعدة منازل كانت كلها متباعدة، بعضها من بعض، وإن لم تكن تفصلها غير تلك الحدائق، وكانت الحدائق من الطول والعرض والرحابة وحسن تخطيط الأشجار في منافسها بحيث لم تكن المنازل متباعدة فحسب، بل كان معظم أجزائها يكاد يحتجب عن العين، وكان سام جالسًا يطيل النظر إلى كومة من التراب خارج الباب التالي الذي اختفى السائس منه، يقلب في خاطره الصعاب التي تواجهه في سبيل تحقيق مهمته وإذا الباب يفتح، فتخرج منه خادمة إلى الزقاق لتنفيض بعض البسط المفروشة بجوار السرر.
وكان سام غارقًا في لجة من الأفكار، وكان يغلب على الظن ألا يتجاوز اهتمامه بتلك الخادمة مجرد رفع رأسه وقوله لها: إنها مليحة أنيقة جميلة القوام، لو لم يستثر في نفسه روح الشهامة والنجدة منظرها، وهي بلا عون يمد لها يد المساعدة، على تنفيض تلك البسط الثقيلة التي تنوء بها قواها بمفردها، وكان المستر ولر سيدًا أخا شهامة عظيمة على طريقته الخاصة، فلم يكد يشهد هذا المنظر حتى نهض مسرعًا من فوق الحجر الضخم وتقدم نحوها وانثنى يقول وهو يدنو منها باحترام شديد: «يا عزيزتي ستفسدين هذا الجمال البديع كل الإفساد إذا أنت نفضت هذه البسط وحدك، دعيني أساعدك.»
وكانت الفتاة تتظاهر على استحياء أنها لا تدري أن رجلًا بجوارها، فلما سمعت هذا القول تلفتت في اللحظة التي كان سام يتكلم فيها؛ لكي ترفض — كما قالت فيما بعد — عرضًا تقدم به إليها رجل غريب لا تعرفه بتاتًا، ولم تتكلم بل ارتدَّت متراجعة وأطلقت صرخة تكاد تكون مكبوتة، ولم يكن سام أقل منها ارتباكًا وذهولًا؛ لأنه رأى في وجه تلك الخادم المقسم المليح عيني الحبيبة الحسناء التي كانت في خدمة المستر نبكن.
وقال سام: «عزيزتي ماري!»
وقالت ماري: «المستر ولر، لقد أخفتني.»
ولكن سام لم يجب بالكلام عن هذه الصيحة الشاكية، ولسنا نستطيع نحن أن نعين تمامًا أي جواب عمد إليه، وإنما كل ما نعرفه أن ماري راحت بعد فترة قصيرة تقول: «رباه! حسبك يا مستر ولر!» وأن قبعته كانت قد سقطت من فوق رأسه قبل ذلك ببضع لحظات، وهما أمران يجعلاننا نميل إلى استنتاج شيء واحد، وهو أن الجانبين تبادلا قبلة أو أكثر!
وقالت ماري حين اتصل الحديث الذي عرض له هذا الذي قطعه عليهما: «كيف أتيت إلى هنا؟»
وأجاب المستر ولر، وقد ترك لأول مرة عاطفته تتغلب على نزوعه إلى الصدق: «لقد أتيت طبعًا للبحث عنك يا عزيزتي.»
وقالت ماري: «وكيف عرفت أنني هنا، ومن الذي قال لك إنني تركت الخدمة في إبسويتش إلى بيت آخر عند قوم جدد، وإنهم انتقلوا بعد ذلك إلى هنا، من عسى أن يكون قد أنبأك بذلك كله يا مستر ولر؟»
وقال سام بنظرة ماكرة: «هذا هو بيت القصيد بلا ريب، من تراه قال لي؟»
وقالت ماري: «ألم يقل لك المستر مزل؟»
وأجاب سام بهزة جدية من رأسه: «كلا، لم يكن هو الذي قال لي.»
وقالت ماري: «لا بد إذن أن تكون الطاهية.»
وقال سام: «لا بد بطبيعة الحال.»
وصاحت ماري قائلة: «ما سمعت بمثل هذا من قبل، إنه لشيء عجيب!»
وقال سام: «ولا أنا، ولكن يا عزيزتي ماري.» وهنا ازداد تلطفًا واسترسل يقول: «ولكن يا عزيزتي ماري إن لدي في هذه اللحظة مسألة أخرى عاجلة جدًّا، إن أحد أصدقاء المعلم وهو المستر ونكل، أتذكرينه؟»
وقالت ماري: «أهو الذي يرتدي السترة الخضراء، آه، نعم، إنني متذكرته.»
وقال سام: «إنه في حال شنيعة من الحب، برَّح به الوجد، واستولى عليه الهيام.»
وقالت ماري: «يا إلهي!»
ومضى سام يقول: «نعم، ولكن هذا لا يعد أمرًا ذا بال إذا أمكننا أن نهتدي إلى الشابة التي يحبها.» وهنا راح يشرح بأمانة قصة محنة المستر ونكل، مع عدة شطحات عن الموضوع للتغزل في جمال ماري والتشبيب بحسنها، وذكر الآلام التي لا توصف، وألوان العذاب والتباريح التي قاساها منذ آخر عهده بلقائها.
وقالت ماري: «أما أنا فلم أقاسي منها شيئًا مطلقًا.»
وأجاب سام: «طبعًا، ولم يقاسِ مثلها أحد من قبلي، ولن يقاسيها أحد من بعدي، وهأنت ذي ترينني هائمًا على وجهي كاليهودي التائه، وهو رجل «رياضي» لعلك سمعت به يا عزيزتي ماري، كان دائمًا أبدًا في مباراة مع الزمن، ولم يكن يذهب مطلقًا إلى النوم. هأنذا أهيم على وجهي باحثًا عن مس أربلا ألن.»
وقالت ماري بدهشة بالغة: «مس من؟!»
وأجاب سام: «مس أربلا ألن.»
وقالت ماري وهي تشير إلى باب الحديقة الذي كان ذلك السائس الغضوب قد أغلقه وراءه منذ لحظة: «يا إله السموات، إنها تقيم في هذا البيت ذاته، وقد مضى عليها فيه ستة أسابيع، وقد سمعت القصة كلها من الوصيفة التي تخدم في الطبقة العليا منه، وهي أيضًا وصيفة الفتاة، وأنا واقفة أطل من خلال قضبان النافذة التي في غرفة الغسيل، قبل أن يستيقظ أفراد الأسرة من نومهم في صباح أحد الأيام.»
وقال سام: «أتقولين إنها في البيت الملاصق لكم؟!»
وأجابت ماري: «بالذات.»
وكان تأثر سام بما سمعه قويًّا غالبًا بحيث اضطر إلى الاستناد إلى مخبرته الحسناء والتشبث بها خيفة السقوط، ولم يستطع أن يجمع شتات قواه ليعود إلى الموضوع إلا بعد أن تبادلا عدة أحاديث مزدوجة عن الحب، وكلامًا يسيرًا في الغرام.
وأخيرًا عاد سام يقول: «واللهِ إذا لم يكن هذا يفوق صراع الديكة، فلن يفوقه شيء سواه، كما قال المحافظ حين اقترح رئيس وزراء الدولة أن يشرب في صحة زوجته بعد الغداء. تقولين: إنها تسكن في البيت الملاصق لبيتكم بالذات! إنني أحمل إليها رسالة قضيت طول النهار أحاول نقلها إليها.»
وقالت ماري: «آه! ولكنك لا تستطيع أن تنقلها إليها الآن؛ لأنها لا تنزل إلى الحديقة لتتمشى في رحابها إلا في المساء، ولكنها لا تقضي في هذه الرياضة إلا وقتًا قصيرًا جدًّا، وهي لا تخرج من البيت مطلقًا إلا إذا صحبتها السيدة العجوز.»
ولبث سام لحظة يفكر في الأمر، حتى انتهى به التفكير إلى رسم الخطة التالية، وهي أن يعود في الغسق، وهو الوقت الذي تنزل فيه أربلا عادة للمشي في الحديقة، وتأخذه ماري إلى حديقة البيت الذي تخدم فيه، ثم يحاول أن يتسلق الجدار بأية وسيلة، مختبئًا تحت الأغصان المتدلية من شجرة كمثرى كبيرة، وهي كفيلة بحجبه عن الأبصار، فينقل الرسالة ويدبر — إذا أمكن — لقاء بين الفتاة وبين المستر ونكل في الوقت عينه من مساء اليوم التالي، وبعد أن وضع هذه الخطة بسرعة بالغة في خاطره مضى يعاون ماري في تلك المهمة المؤجلة من وقت طويل؛ وهي تنفيض الأبسطة.
ولم تكن عملية تنفيض قطع صغيرة من البسط بريئة إلى الحد الذي يبدو عليها، وإن لم يكن ثمة بأس من هزها على الأقل ونفضها، ولكن طيها عملية ليست بريئة إطلاقًا، وما دام النفض مستَّرًا، وطول البساط فارقًا بينهما؛ فإن العملية تجمع بين البراءة والتسلية ما شاءا أن يكون لهما منها، أما حين يبدأ الطي، وتأخذ المسافة بينهما تقل شيئًا فشيئًا من نصف طول الأبسطة إلى الربع، ثم إلى الثمن، ثم إلى جزء من ستة عشر، فجزء من اثنين وثلاثين، إذا كان البساط طويلًا، فهنا الخطر، ولسنا نعرف بالدقة كم كان عدد البسط التي طويت على هذا النحو، ولكن في وسعنا أن نقول: إنه على قدر عدد القطع التي اقتضت الطي واللف، كان عدد القبلات التي ظفر بها سام من الخادمة الحسناء.
وقصد المستر ولر إلى أقرب حانة من الموضع فأنعش نفسه بقدر يسير من الشراب، إلى قبيل الغسق، ثم عاد إلى الزقاق المسدود، وسمحت له ماري بالدخول إلى الحديقة، وبعد أن تلقى منها عدة نصائح فيا يتصل بسلامة أوصاله، ووجوب الحرص على رقبته، صعد شجرة الكمثرى، وانتظر حتى تبدو أرابلا لعينيه.
ولبث في مكانه ينتظر طويلًا دون أن يحدث الحدث المرتقب المتلهف عليه، حتى بدأ يظن أنه سوف لا يحدث مطلقًا، وإذا مواقع أقدام خفاف تطرق سمعه وهي تدب فوق الحصباء، ولم يلبث أن رأى أرابلا تمشي ساهمة مفكرة في منافس الحديقة، وما كادت تقترب من تحت الشجرة، حتى أخذ على سبيل إشعارها في لطف ورفق بمحضره، يحدث أصواتًا شيطانية مختلفة تشبه الأصوات التي تنبعث طبيعية على الأرجح من شخص يبلغ حدود الكهولة، ويشكو من التهاب الحنجرة، والذبحة، والسعال الديكي في وقت واحد، منذ بواكير طفولته!
وألقت الفتاة نظرة عجلى نحو المكان الذي انبعثت منه تلك الأصوات المروعة، ولم يخف اضطرابها السابق بتاتًا حين لمحت رجلًا بين الأغصان، وكانت بلا أدنى شك مولية الأدبار، مزعجة البيت كله، لولا أن أفقدها الخوف لحسن الحظ قوة الحركة، وجعلها تتهالك على مقعد في الحديقة كان من حسن المصادفة قريبًا منها.
ولا يهمنا أن نعرف هل كان سحر اسم المستر ونكل، أو الهواء الطلق المنعش، أو تذكر نبرات صوت المستر ولر، هو الذي أنعش أرابلا وجعلها تثوب إلى نفسها؛ فقد رفعت رأسها، وقالت مخافتة: «من هذا؟ وماذا تريد؟»
وقال سام وهو ينتقل من فوق الشجرة إلى الجدار وينزوي عنده وينكمش إلى أصغر حجم مستطاع: «صه، أنا يا آنسة لا أحد سواي.»
وقالت أرابلا بجد: «خادم المستر بكوك؟!»
وأجاب سام: «هو بالذات يا آنسة، إن المستر ونكل أصبح يعيش في حزن دائم ويأس مقيم.»
وقالت أرابلا وهي تقترب من الجدار: «آه.»
وقال سام: «آه فعلًا، لقد اعتقدنا في الليلة الماضية أن لا بد من شد وثاقه؛ لأنه قضى النهار كله يهذي ويخرف، ويقول: إنه إذا لم يتمكن من رؤيتك قبل انقضاء ليل الغد، فسوف يأتي عملًا سيئًا، إن لم يلق بنفسه في اليم ويمت غريقًا!»
وقالت أرابلا وهي شابكة يديها: «آه، كلا، كلا، يا مستر ولر.»
وأجاب سام: «هذا هو قوله يا آنسة، وهو رجل إذا قال فعل، واعتقادي أنا أنه سيفعل يا آنسة، وقد سمع كل شيء عنك من سوبونز الذي يضع «العوينات» على عينيه.»
وقالت أرابلا، وقد عاودتها بعض ذكريات ما كان سام يقول عن أخيها: «هل سمعته من أخي؟»
وأجاب سام: «لا أعرف بالضبط أيهما أخوك يا آنسة؛ هل هو أكثرهما قذارة؟!»
وقالت أرابلا: «نعم، نعم يا مستر ولر، استمر أسرع من فضلك.»
وصاحت أرابلا مروعة: «أواه! وما الذي أستطيع أن أفعله لأمنع هذه المشاجرات المروعة؟!»
وأجاب سام: «إن الاشتباه في وجود علاقة سابقة هو سبب هذا كله، فالأفضل أن تقابليه يا آنسة.»
وقالت أرابلا: «ولكن كيف؟ وأين؟ وأنا لا أجرؤ على ترك البيت وحدي، وأخي شديد القسوة أحمق متناهي الحماقة، وأعرف أن كلامي على هذا النحو معك يبدو غريبًا يا مستر ولر، ولكني في الواقع تعسة جدًّا جدًّا.» وهنا بكت أرابلا المسكينة بدمع سخين حتى رثى لها سام وقال وهو في أشد حالات الانفعال: «قد يكون حديثك معي عن هذه المسائل يا آنسة غريبًا كل الغرابة، ولكن كل ما في إمكاني أن أقوله هو أنني لست مستعدًّا فقط، بل راغبًا أيضًا، في عمل أي شيء يصلح الأمور ويذهب بالأحزان، وإذا كان إلقاء أحد من السوبونز الاثنين من النافذة وافيًا بالغرض، فأنا الرجل الكفيل به.»
وانثنى سام يشمر عن معصميه، حتى تعرض لخطر السقوط من فوق الجدار؛ لكي يبين استعداده للعمل في الحال!
ورغم ما في هذه التصريحات التي تنم عن شعور طيب من ثناء على أرابلا فإنها رفضت بشدة الاستعانة بها (وكان سام يعتقد أن هذا الرفض لا يمكن تعليله بأي سبب أو حجة ما) ولبثت لحظة متشددة في الامتناع عن السماح للمستر ونكل بالخلوة التي ألحَّ سام في طلبها، واستعان بكل ما أوتي من تأثير في الظَّفَر بها، ولكنها أخيرًا، عندما أوشك الحديث أن ينقطع بقدوم شخص ثالث غير مرغوب فيه، أسرعت في إفهامه — مبدية شكرها وامتنانها في عبارات كثيرة — أنه قد لا يبعد أن تنزل إلى الحديقة مساء الغد بعد ساعة من الوقت الذي نزلت في هذا المساء فيه، وفهم سام هذا حق الفهم، وأنعمت أرابلا عليه بابتسامة من أعذب ابتساماتها، وانصرفت متولية عنه في رشاقة تاركته في غمرة من الإعجاب بمفاتنها الجسدية والعقلية على السواء.
وهبط سام من فوق الجدار بسلام، ولم ينسَ أن يخصص بضع لحظات لنصيبه الخاص من العمل الداخل في هذا الباب، وانطلق مسرعًا إلى فندق بش؛ حيث كان طول غيابه قد أثار كثيرًا من التكهنات وشيئًا قليلًا من القلق.
وقال المستر بكوك بعد أن أصغى بانتباه إلى قصة سام: «يتحتم علينا أن نكون حريصين، لا من أجلنا نحن، بل من أجل هذه الفتاة الصغيرة، ولا بد لنا من الحذر والاحتياط.»
وقال المستر ونكل بلهجة توكيد ظاهرة: «أتقول نحن؟!»
وبدت على المستر بكوك مظاهر الغضب من اللهجة التي نطق بها ونكل بهذه الملاحظة ولكن غضبه هذا لم يلبث أن زال وعاد للرجل ما اختص به من مظاهر الطيبة والسماحة وهو يجيب: «نحن يا سيدي؛ لأنني سأذهب معك.»
وقال المستر ونكل: «أنت؟!»
وأجاب المستر بكوك بلهجة معتدلة: «أي نعم أنا، إن الفتاة بقبولها الاجتماع بك قد خطت خطوة طبيعية ولكنها مع ذلك قد تكون خطوة غير حكيمة مطلقًا، ولكني إذا أنا كنت حاضرًا هذا اللقاء، وأنا صديق الطرفين، وفي مقام والدكما من ناحية السن، فلن تجرؤ ألسنة السوء أن تلوك سيرتها فيما بعد.»
وبرقت عينا المستر بكوك سرورًا صادقًا ببعد نظره، وهو يتكلم على هذا النحو، وتأثر المستر ونكل بهذا الخُلُق الكريم، والرعاية البالغة، لسمعة حبيبة صديقه، فتناول يده باحترام شديد يقرب من العبادة والإجلال.
وقال: «ستذهب معي.»
وأجاب المستر بكوك: «سأذهبن، يا سام أعدَّ لي معطفي ولفاعتي ودبر لنا مركبة تقف بالباب مساء الغد مبكرة عن الموعد، حتى ليتسع لنا الوقت.»
ورفع سام يده إلى قبعته، تلبية للأمر، وانصرف ليعد العدة المطلوبة لهذه الرحلة.
وجاءت المركبة في الموعد المطلوب تمامًا، وبعد أن فرغ المستر ولر من معاونة المستر بكوك والمستر ونكل على الدخول إلى المركبة، اتخذ مجلسه بجانب السائق، وترجلوا كما سبق الاتفاق على مسافة ربع ميل من مكان اللقاء، وطلبوا إلى السائق أن ينتظر عودتهم، وانطلقوا يقطعون الشقة الباقية من الطريق على الأقدام.
وعند هذه الرحلة انثنى المستر بكوك — وهو يكثر من الابتسام وغير الابتسام من مختلف مظاهر الرضى والاغتباط — يُخرج من أحد جيوب معطفه مصباحًا قاتم اللون، كان قد أعده لهذه المناسبة، ومضى يشرح مزاياه الآلية للمستر ونكل وهو في الطريق، فلم تكن دهشة المشاة القليلين الذين التقوا بهم فيه قليلة لهذا المشهد العجيب.
وقال المستر بكوك — وهو يلتفت إلى الخلف مسرورًا رائق المزاج — لخادمه الذي كان يمشي في المؤخرة: «لقد كان من الخير لي أن أتزود بشيء كهذا في رحلتي الماضية إلى بعض الحدائق ليلًا يا سام. ما رأيك؟»
وأجاب المستر ولر: «هذه أشياء جميلة إذا عرف الإنسان كيف يحسن استخدامها يا سيدي، ولكن حين تريد ألا تراك عين أحد، تصبح أكثر فائدة بعد أن تنطفئ الشمعة منها إذا كانت لا تزال مضيئة.»
ودهش مستر بكوك لملاحظات سام فرد المصباح إلى جيبه، وانطلقوا في طريقهم صامتين.
وقال سام: «من هنا يا سيدي، دعني أتقدمكما لأريكما الطريق، هذا هو الزقاق يا سيدي.»
ودخلوا الزقاق، وكان الظلام قد غمره، فأخرج المستر بكوك المصباح مرة، أو مرتين، وهم يتحسسون مواطئ أقدامهم، وإذا المستر بكوك يرسل من مصباحه ضياءً براقًا مستطيلًا أمام أبصارهم، يبلغ قطر دائرته قدمًا واحدة أو نحوها، وكان منظره جميلًا، ولكن تأثيره يحيل الأشياء المحيطة بهم أقتم مما كانت.
وأتوا أخيرًا على الحجر الضخم، فاقترح سام على سيده وعلى المستر ونكل أن يقتعداه، بينما يذهب هو ليستطلع ويتحقق هل ماري في الاتنظار.
ولم تنقضِ على غيابه خمس دقائق أو عشر حتى عاد يقول: إن الباب مفتوح، وإن السكون غامر، فتبعاه مسترقي الخطى، وما لبثا أن وجدا نفسيهما في البستان، وجعل كل منهم يقول: «هس!» عدة مرات وهو لا يدري ماذا يراد منه أن يفعل في الخطوة التالية.
وقال المستر ونكل وهو في اضطراب شديد: «هل نزلت مس ألن إلى الحديقة يا ماري أم لا؟»
وأجابت الخادم الحسناء: «لست أدري يا سيدي، إن أحسن طريقة هي أن يعاونك المستر ولر على التسلق إلى الشجرة برفعك إلى أعلى وأن يتفضل المستر بكوك بالحراسة لينبهكما إذا رأى أحدًا قادمًا من الزقاق، بينما أتولى أنا المراقبة عند الطرف الآخر من الحديقة، يا إله السماء! ما هذا؟!»
وصاح سام محنقًا: «هذا هو المصباح المبارك الذي سيأخذ أجلنا كلنا، احذر ما أنت فاعل يا سيدي، إنك مرسل ضياءً شديدًا إلى نافذة الغرفة الخلفية.»
وقال المستر بكوك وهو يلتفت في عجلة: «ويحي! لم أكن أقصد أن أفعل ذلك.»
وعاد سام يقول محتجًّا: «وها هو الضوء مسلط على البيت المجاور يا سيدي.»
وقال المستر بكوك وهو يتلفت حوله مرة أخرى: «ويحي!»
وقال سام: «وهو الآن في الإسطبل، وسيظن القوم أن حريقًا قد شب فيه، أغلقه يا سيدي، ألا يمكن أن تغلقه؟!»
وقال المستر بكوك مرتبكًا أشد الارتباك من هذا الأثر الذي أحدثه من غير سوء قصد: «هذا أغرب مصباح رأيته في حياتي، ولم أشهد في عمري مصباحًا قويًّا كهذا.»
وقال سام حين رأى المستر بكوك بعد عدة محاولات فاشلة، قد نجح في إغلاق الحاجز: «وسيكون قويًّا أكثر من اللازم لنا إذا ظللت تفتحه وتغلقه على هذه الصورة يا سيدي، والآن أسمع مواقع أقدام فتاة، هيا يا مستر ونكل، اصعد!»
وقال المستر بكوك: «قف. قف! يجب أن أكلمها أنا أولًا، أعنِّي يا سام على الصعود.»
وقال سام وهو يسند رأسه إلى الجدار ويجعل من ظهره مطيَّة لسيده: «برفق يا سيدي، قف فوق آنية الزهر هذه، والآن، هلم اصعد.»
وقال المستر بكوك: «أخشى أن أؤلمك يا سام.»
وأجاب المستر سام: «لا بأس يا سيدي، أعره يدًا يا مستر ونكل، الثبات، الثبات يا سيدي، هذه هي اللحظة الحاسمة.»
وبعد أن نطق سام بهذا القول حاول المستر بكوك بجهد جهيد لا يكاد ينتظر من سيد في مثل عمره ووزنه أن يرتفع فوق ظهر سام، وظل هذا يرفع جسمه برفق، والمستر بكوك يتشبث بقمة الجدار، بينما راح المستر ونكل يمسك بساقيه بقوة حتى تمكنوا بهذه الوسيلة من جعل منظاره فوق مستوى الجدار.
وأطل المستر بكوك من فوقه فلمح أرابلا في الجانب الآخر منه، فقال: «يا عزيزتي لا تخافي، هأنذا، لا أحد سواي.»
وقالت أرابلا: «أرجوك أن تذهب، قل لهما أن يذهبا، إنني في هلع شديد، ويلي! ويلي! يا مستر بكوك لا تقف في مكانك، إنك ستسقط وتودي بحياتك، إنني على يقين أنك قاتل نفسك.»
وقال المستر بكوك مواسيًا ومهدِّئًا روعها: «أرجوك ألا تنزعجي يا عزيزتي، لا مدعاة مطلقًا للخوف، أؤكد لك أن لا داعي للخوف.» ونظر إلى أسفل وقال: «اثبت يا سام.»
وأجاب سام: «سأفعل يا سيدي، ولكن لا تطل الوقوف هكذا أكثر مما يجب؛ لأنك من الوزن الثقيل.»
وأجابت أرابلا وهي تكفكف دموعها بمنديلها: «إنني في غرضي يا عزيزتي أن تعرفي أنني ما كنت لأسمح لصديقي الشاب بلقائك سرًّا على هذه الصورة لو أن الموقف الذي تجدين نفسك فيه قد هيأ له سبيلًا غير هذه السبيل، وقد يكون مُرضِيًا لخاطرك أن تعرفي أنني جئت إلى هنا حتى لا يؤدي شذوذ هذه الوسيلة وخروجها عن المألوف إلى أي حرج لك أيتها العزيزة، هذا هو كل ما في الأمر يا عزيزتي.»
وأجابت أرابلا وهي تكفكف دموعها بمنديلها: «إنني في الحق يا مستر بكوك لشاكرة لك كثيرًا عطفك ورعايتك.»
ولو أن رأس المستر بكوك لم يختفِ بسرعة بالغة، من أثر زلة قدمه على كتف سام، لقالت أكثر من ذلك على الأرجح؛ فإن هذه الزلة هوت به فجأة إلى الأرض، ولكنه وقف على قدميه بعد لحظة واحدة، وأمر المستر ونكل بالبدار والانتهاء من هذا اللقاء الذي أراده، بينما جرى هو إلى الزقاق للحراسة والمراقبة بشجاعة الشباب وحماسته، ولم يلبث المستر ونكل بوحي الموقف، وإلهام الساعة، أن اعتلى الجدار في لحظة واحدة، فلم يتمهل إلا ريثما يطلب إلى سام أن يعنى بأمر سيده.
وأجاب سام: «سألقي بالي إليه، اتركه لي.»
وقال المستر ونكل: «أين هو؟ وماذا يفعل يا سام؟»
ولم يمكث المستر ونكل ليسمع هذا المديح في حق صديقه، بل هبط الحديقة من فوق الجدار، وارتمى عند قدمي أربلا، وانثنى يؤكد صدق عاطفته ببلاغة جديرة بالمستر بكوك نفسه.
وفي إحدى هذه الفترات التي لم يهبط فيها الوحي عليه، كان مرسلًا نظراته في شرود إلى الظلمة الكثيفة في الخارج، ولشد ما كانت دهشته؛ إذ رأى نورًا باهرًا ينتشر في الفضاء، على مسافة قصيرة من الأرض، ثم لا يكاد ينبعث، حتى يتوارى مختفيًّا، ثم إذ هو يظهر مرة أخرى، وتكررت هذه الظاهرة على عينيه عدة مرات، فوضع القلم جانبًا، وبدأ يفكر فيما يصح أن تكون الأسباب الطبيعية لهذه الظواهر الغريبة.
لم تكن تلك الظاهرة بلا شك شهبًا؛ لأنها كانت منخفضة كثيرًا، ولا هي حباحب؛ لأنها عالية أكثر مما ينبغي، ولا هي يراعة ولا غاز المستنقعات ولا ذباب مضيء ولا ألعاب نارية … فماذا يمكن إذن أن تكون؟ إنها بلا شك ظواهر طبيعية خارقة للمألوف عجيبة لم يهتدِ إليها فيما مضى أحد من الفلاسفة، بل هي بلا ريب شيء ظل الدهر كله مجهولًا حتى يأتي هو فيكشفه للناس ويهتدي إليه، فليدون هذا الكشف في الحال لخير الأجيال القادمة وليخلد به اسمه في التاريخ.
وامتلأ خاطره حماسةً لهذه الفكرة فتناول القلم مرة أخرى، وراح يدوِّن عدة ملاحظات عن هذه الظواهر الفذة المنقطعة النظير، بالتاريخ، واليوم والساعة والدقيقة، والثانية أيضًا، التي ظهرت فيها لعينيه؛ لكي تكون هذه المعلومات أساسًا لبحث ضخم، ودراسة واسعة، وعلم عميق، يدهش علماء الأرصاد جميعًا في مختلف بقاع العالم المتحضر.
وأسند ظهره إلى مقعده الرحيب، واستغرق في تخيُّل المستقبل العظيم الذي ينتظره، وإذا ذلك النور الغريب يعود أقوى من قبل، ويبدو متراقصًا في الزقاق، رائحًا غاديًا فيه، متحركًا في فلك عجيب كالمذنبات ذاتها.
وكان هذا العالم أعزب، لا زوجة له حتى يناديها ويثير دهشتها، فلم يسعه إلا أن يدق الجرس لخادمه.
قال: «اسمع يا برفل، إن ثمة شيئًا خارقًا للمألوف يبدو في الفضاء الليلة، فهل رأيت ذلك الشيء الذي يلوح أمامك؟»
وأشار العالم وهو قائم عند النافذة إلى النور حين عاد إلى الظهور.
وأجاب الخادم: «أي نعم يا سيدي.»
– «وما رأيك فيه يا برافل؟»
– «ما رأيي فيه يا سيدي؟!»
– «نعم لقد نشأت في هذا الريف، فما قولك في علة هذه الأنوار التي تبدو الآن؟!»
واستبق ذلك العالم وهو يبتسم خادمه إلى الجواب «بأنه بالطبع لا يرجعها إلى سبب ما».
وفكر الخادم لحظة، وأخيرًا قال: «أظن أنهم لصوص.»
وقال العالم: «أنت مغفل، عد إلى مكانك.»
وأجاب برفل: «شكرًا لك يا سيدي.» وانصرف.
ولكن ذلك العالم ظل قلقًا لا يهدأ؛ فقد خشي أن يضيع على الدنيا ذلك البحث المبتكر الذي اعتزم أن يضعه، إذا لم يقض على فكرة المستر برفل السخيفة وهي في المهد، فبادر إلى قبعته فوضعها فوق رأسه، وأسرع إلى الحديقة منتويًا أن يحقق في الأمر ويتقصاه من جميع نواحيه.
وكان المستر بكوك قبيل انطلاق ذلك العالم في الحديقة، قد أسرع يقطع الزقاق لينبه رفيقيه إلى قدوم إنسان من ناحيته وإن كان في ذلك مخطئًا، وجعل بين لحظة وأخرى يفتح باب المصباح، لكي لا يرتطم في الحفرة، وما كادت هذه الإشارة تبلغ سمع المستر ونكل حتى عاد يتسلق الجدار، وانطلقت أرابلا منكفئة إلى البيت، وأغلق باب الحديقة، وانثنى هؤلاء المغامرون الثلاثة يقطعون الزقاق مسرعين، وإذا هم يجفلون على مشهد هذا العالم البحاثة وهو يفتح باب حديقته.
وهمس سام، وكان بالطبع في المقدمة: «الثبات! أضئ لنا يا سيدي ثانية واحدة.»
ففعل المستر بكوك ما طلب إليه أن يفعل، وعلى الضياء الخاطف أبصر سام رأس رجل يطل بحذر بالغ، على قيد نصف ياردة منه، فأهوى على ذلك الرأس بطرقة رفيقة من قبضة يده، وجعله يحدث صوتًا أجوف وهو يصطدم بالباب.
وما كاد المستر ولر ينتهي من هذه الفعلة العظيمة بمباغتة بارعة، ومهارة ظاهرة، حتى أسرع نحو المستر بكوك فاحتمله فوق ظهره، وانطلق في أثر المستر ونكل، يقطع الزقاق، بخطوات مدهشة للغاية إذا راعينا الحمل الفادح الذي كان يحمله!
ولما بلغوا ناصية الزقاق قال سام: «هل استعدت طمأنينتك الآن يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «تمامًا، تمامًا، الآن.»
وقال سام وهو ينزل الأرض: «إذن هيا بنا يا سيدي، وامش في وسطنا، فليس أمامنا إلا نصف ميل نجريه جريًا، تخيل يا سيدي أنك في مباراة جري على الكأس، هلم بنا.»
وتشجع المستر بكوك بهذه العبارات فاستخدم ساقيه قدر جهده، وهنا يصح لنا أن نقرر ونحن مطمئنون أنه لم يسبق أن انطلقت ساقان في غطاء أسود تعدوان قاطعتين الأرض بمثل تلك الصورة التي انطلقت بها ساقا المستر بكوك في ذلك اليوم المشهود.
وكانت المركبة منتظرة، والخيل منتعشة، والطرق معبدة، والسائق راغبًا راضيًا، فوصل الجمع إلى فندق «بش» بسلام، قبل أن يسترد المستر بكوك أنفاسه.
وقال سام له وهو يعاونه على الخروج من المركبة: «ادخل في الحال يا سيدي، ولا تقف لحظة واحدة في الشارع، بعد هذا التعب.» وانثنى إلى المستر ونكل وهو ينزل من المركبة فرفع يده إلى قبعته، وقال: «عفوًا يا سيدي، أرجو ألا تكون هناك علاقة سابقة؟»
وبادر المستر ونكل فتناول يد صديقه المخلص وهمس له في أذنه: «كل شيء على ما يرام يا سام، كل شيء على ما يرام.» فلم يكن من المستر ولر إلا أن ضرب أذنه ثلاث ضربات واضحة، ليوحي بأنه قد فهم المراد، وابتسم، وغمز بطرف عينه، ورفع سلم المركبة، وقد بدت على وجهه أمارات السرور البالغ والارتياح التام.
أما صاحبنا العالم العلامة فقد انكمش في بحثه الرائع للتدليل على أن تلك الأنوار العجيبة ترجع إلى تأثير الكهرباء، وأثبت صواب هذا الرأي بقوله: إن شعلة نار تراقصت أمام عينيه حين أطل برأسه من الباب، وأنه تلقى عندئذٍ صدمة تركته مشدوهًا مغشيًّا عليه ربع ساعة من الزمان، فكان ذلك البحث المستفيض مدعاة اغتباط عند الهيئات العلمية جميعًا، وباعث ارتياح تجاوز الحدود، وعد ذلك العالم بعد ذلك، وفي الأجيال الخالفة، قطبًا من أقطاب العلم، ونجمًا باهر الضياء.