الفصل الرابع
يوم ميدان ومبيت في الخيام … أصدقاء جدد آخرون … دعوة إلى زيارة الريف.
***
نرى خلقًا كثيرًا من المؤلفين يُقيِمون اعتراضًا سخيفًا، بل في الواقع اعتراضًا غير صادق على الاعتراف بالموارد التي استَقَوْا منها معلوماتهم النفسية ورواياتهم القيمة، ولكنا لا نرى هذا الرأي، وإنما نحاول أن نؤدي على أكمل وجه واجبنا بوصفنا ناشرين، ومهما يصح أن نحمله في هذه الظروف من الطموح أو الرغبة في ادعاء تأليف هذه القصة، فإن احترام الحقيقة يمنعنا أن نفعل ذلك، هل يقتضينا ألا نعزو من الفضل أكثر من جهد التنسيق الحكيم، والسرد النزية، جاعلين مذكرات «بكوك» بمثابة منبع النهر الجديد، ونحن إزاءها أشبه بشركة هذا النهر ومؤسسته، فإن جهد غيرنا هو الذي هيَّأ لنا معينًا عظيمًا من الوقائع الخطيرة، وكل مهمتنا أن نبسطها ونسوقها في «فيض رقراق»، أو «غدير» رقيق، في هذه الفصول المتتابعة، إلى العالم «المتعطش لمعرفة البكويكيين».
وعملًا بهذا المبدأ، وتنفيذًا صادقًا لعزمنا على الوفاء بحق والمراجع التي استأنسنا بها؛ نقول بصراحة: إننا مدينون «لكناشة» المستر سنودجراس بما أوردناه من الحوادث في هذا الفصل، والذي سيليه، والآن وقد أرضينا ضميرنا، نمضي في السياق بغير تعليق آخَر.
نهض أهل روشستر جميعًا وسكان المدن المجاورة من مراقدهم في ساعة باكرة من صباح اليوم التالي، وهم في قلق بالغ وحماسة ظاهرة؛ لأن عرضًا عسكريًّا كبيرًا سيجري في الميدان، وأن القائد العام سيتفقد بعين النصر مناورات ستة آلايات ستشترك فيه، وقد أقيمت استحكامات موقوتة لهذا الغرض، ووُضِعت التصميمات لمهاجمة القلعة والاستيلاء عليها وتفجير الألغام.
وكان المستر بكوك من أشد المعجبين بالجيش، ولعل قرَّاءنا قد أدركوا ذلك في النبذة اليسيرة التي أوردناها عن وصفه «لشاتام»، فلم يكن ثمة شيء أشد إمتاعًا له، ولا أكثر انسجامًا مع إحساس كل رفيق من رفقائه من هذا المشهد المرتقب، فلا غرو إذا هم بادروا إلى المسير نحو أرض العرض، وكان الناس قد استفاضوا إليه قبلهم، من مختلف الأحياء وعديد الدروب.
وكان الاستعداد في الميدان يوحي بأن الاحتفال المنتظر سيكون على أعظم جانب من الخطورة والروعة والجلال، فقد أقيم الحراس حوله حتى تظل أرضه الفضاء مخصَّصة للجنود، ومضى الخدم في المدفعية يحجزون أماكن للسيدات، والجاويشية يروحون ويغدون مسرعين، وقد حملوا كتبًا مجلدة بالقماش تحت آباطهم، وبدا الأميرالاي بولدر في ثوبه العسكري الكامل، ممتطيًا صهوة جواده، وهو يعدو به من موضع إلى آخَر، ويدخل به في غمار الجماهير، أو يتمخطر فوقه ويصيح بأعلى صوته حتى يبح من كثرة الصياح، ويحمر وجهه أشد الاحمرار لغير ما سبب ظاهر أو باعث معقول، والضباط يجرون إلى الأمام وإلى الخلف، ويتحدثون أولًا إلى الأميرالاي بولدر، ثم يصدرون الأوامر إلى الجاويشية، ثم يعدون جميعًا مبتعدين، وكانت وجوه الجنود أنفسهم وهم في أحذيتهم اللامعة، وأطقمهم البراقة، تبدو عليها خطفة من هيبة وجلال تكفي للدلالة على ما لهذا الاحتفال من شأن خاص.
ووقف المستر بكوك ورفقائه الثلاثة في الصف الأول من صفوف الجماهير، ولبثوا في لهفة يرتقبون ابتداء العرض العام، وكان الزحام يشتد بين لحظة وأخرى؛ فشغلهم الجهد الذي اضطروا إلى بذله للعرض على المكان الذي وقفوا فيه عن كل شيء سواه، ساعتين كاملتين، وأحسوا ضغطًا شديدًا في فترة ما من خلفهم، وإذا بالمستر بكوك يُدفَع فجأة إلى الأمام دفعًا عدة ياردات بسرعة ورجرجة لا تتفقان مطلقًا مع وقاره وهيبته، وفي لحظة أخرى سمع صيحات تأمره بالتراجع عن الخط، وأحس مؤخر بندقية يسقط فوق أصابع رجله لتنبيهه بإطاعة الأمر، أو في صدره للتحقق من امتثاله إليه، وإذا بعض الماجنين عن شماله، يضغطون من هذا الجانب بجمعهم عليه، ويحشرون سنودجراس حشرة أليمة متناهية في الإيلام، صائحين به: «إلى أين أنت ذاهب؟» وما كاد ونكل يفرغ من إبداء غضبه المتناهي من مشهد هذا الهجوم عليهم بغير داعٍ، حتى عمد أحدهم من خلفه إلى إرخاء قبعته على عينيه، ومطالبته بأن يتكرم فيضع رأسه في جيبه، فكانت هذه المداعبات بجانب الدعابات الأخرى، ثم اختفاء السيد طبمن فجأة بلا سبب، وحيرة أصحابه في الاهتداء إليه؛ مما جعل الموقف يبدو — في الجملة — مزعجًا أكثر منه سارًّا، أو مرغوبًا فيه.
وأخيرًا ارتفع في الفضاء زئير أصوات كثيرة في صفوف النظارة؛ إيذانًا بوصول مَن كانوا طيلة الوقت في انتظاره، فاتجهت الأبصار جميعًا نحو نقطة الابتداء، ولم تنقضِ بضع لحظات في لهفة شديدة وارتقاب بالغ، حتى شوهدت الأعلام خفاقة في الفضاء، والأسلحة وهاجة في ضياء الشمس، وجاء الجنود صفًّا صفًّا، يمشون إلى الساحة بانتظام، ثم وقفوا فاصطفوا، وتعالت كلمات الأمر من أفواه القواد، فارتفعت البنادق والأسلحة مؤديةً وقفة السلام، وجاء القائد العام يمشي إلى جانبه الأميرالاي بولدر وعدد كبير من الضباط يتفقد العرض، وعُزِفت الموسيقات كلها عزفة واحدة، ووقفت الخيل على ساقين، وتراجعت إلى الخلف، وهزت أذيالها في كل مكان، ونبحت الكلاب، وارتفع الهتاف من أفواه الحاشدين، وانطلقت الكتائب في سير عام مبتعدةً، فلم تجد العين تشهد على الجانبين وإلى نهاية مدى البصر، غير ظل مستطيل في أردية حمر وسراويل بيض، وهي مستقرة جامدة بلا حراك.
وكان المستر بكوك مشغولًا طيلة الوقت بالتعثر والسقوط، وتخليص نفسه بأعجوبة من بين سيقان الخيل، فلم يستمتع بمشاهدة المنظر استمتاعًا كافيًا، حتى اتخذ الصورة التي وصفناها؛ فتمكن عندئذٍ من الوقوف مستويًا على ساقيه، ولم يلبث سروره وابتهاجه أن جاوزا الحدود.
فأقبل على صاحبه المستر ونكل يقول: «هل يمكن أن يكون في الدنيا شيء أبدع من هذا، وأكثر متعة للنفس؟»
فأجاب هذا قائلًا: «لا يمكن.»
وكان رجل قصير القامة، قد لبث ربع ساعة واقفًا على قدميه يدوسهما بكل ثقله، وهو صابر لا يشكو.
وهاجت في صدر المستر سنودجراس وقدة الشاعرية، وكادت تُبعَث متأججة منه؛ فذهب يقول: «إنه حقًّا لمشهد رفيع باهر، أن تلم عينك بحماة وطنك البواسل، وهم مصطفون في ثيابهم البراقة أمام مواطنيهم الآمنين، مشرقو الوجوه، لا بوحشية الحرب بل بلطف الحضارة، ملتمعو الأعين، لا بنار الرغبة في النهب والسلب وحب الانتقام، بل بضياء الإنسانية وبريق الفهم والذكاء …»
واندمج المستر بكوك بكل مشاعره في روح هذا المديح ومعانيه، ولكنه لم يستطع ترديد أصدائه، وتكرار ألفاظه بالذات.
وتلفت حوله وأنشأ يقول: «نحن الآن في موقف بديع.» فقد بدأ الناس يتفرقون من مواقفهم القريبة منهم، حتى كادوا يخلون لأنفسهم حيث وقفوا.
وانثنى المستر سنودجراس والمستر ونكل يرددان قول صاحبهما: «بديع!»
ووضع المستر بكوك منظاره فوق عينيه، وقال: «وما تراهم يفعلون الساعة؟»
وقال المستر ونكل وقد بدأ لونه يتغير: «أظنهم … أحسبهم يهمون بإطلاق النار.»
ولكن المستر بكوك قال في عجلة: «هذا كلام فارغ!»
وقال المستر سنودجراس في شيء من الفزع: «أعتقد أنهم سيفعلون …»
فأجاب المستر بكوك: «مستحيل.» ولم يكد يفوه بهذه الكلمة حتى صوَّب جنود الآلايات الستة في حركة واحدة فوهات بنادقهم، كأنما يوشكون أن يسددوها إلى هدف واحد مشترك، وهذا الهدف هو معاشر البكويكيين، وإذا دوي مروع يدوي، فيرج الأرض رجًّا، ويهزها من نقطة ارتكازها هزًّا، كما يهز سيدًا كبيرًا ويقتلعه من مكانه اقتلاعًا.
وفي ذلك الموقف العصيب، موقف التعرض للنيران المروعة من الذخيرة «الرش»، والمضايقة من حركات القوات العسكرية، وقد أخذ قسم منها يصطف في الجبهة المقابلة، راح المستر بكوك يبدي من السكينة التامة ورباطة الجأش، ما يلازم صفات الرجل الكبير العقل، ويقترن عادة بسجاياه وخلاله؛ فقد أمسك المستر ونكل من ذراعه، واتخذ موقفه بين هذا والمستر سنودجراس، راجيًا بجد منهما أن يذكرا أن ليس ثمة خطر مباشر، يدعو إلى الخوف من إطلاق النار، إلا ما قد يحتمل من الإصابة بالصَّمِّ من شدة الدوي وقصفه.
وهنا اعترض المستر ونكل، وقد اصفر وجهه من الافتراض الذي كان هو الذي أثاره بقوله: «ولكن افرض أن بعض الجنود قد وضع خطأ رصاصًا حيًّا في «ظروفه» وخراطيشه، فقد سمعت شيئًا يصفر في الفضاء اللحظة، وقد مرق الصوت الصافر بقرب أذني.»
وقال المستر سنودجرادس: «لخير لنا أن ننبطح على وجوهنا، أليس ذلك أحجى وأحكم؟»
وقال المستر بكوك: «لا … لا … لقد انتهى كل شيء الآن.»
وقد بدت شفتاه ترجفان، وصفحة وجهه تبيض وتشحب، ولكن شفتيه لم تنفرجا عن أي تغيير من خوف أو جزع، شأن الرجل الخالد الذي لا يخشى الموت.
وكان المستر بكوك على حق … فقد انقطع إطلاق النيران، ولكن لم يكد يتسع الوقت له ليهنِّئ نفسه بصواب رأيه، حتى شوهدت في الميدان حركة واسعة، وسرت في الصفوف أوامر عاجلة، وقبل أن يتمكن الرفقاء الثلاثة من تكوين رأي في معنى هذه الحركات الجديدة، أقبلت الآلايات الست بأجمعها شاهرات الأسنة، متقدمات بخطوة سريعة نحو البقعة التي كان السيد بكوك وصاحباه واقفين فيها.
إن الإنسان معرض للموت في كل لحظة، وإن هناك حدًّا للشجاعة البشرية لا تستطيع تجاوزه، فلا غرو إذا كان المستر بكوك بعد نظرة سريعة من خلال منظاره، إلى هذه الكتل الزاحفة، قد ولى ظهره لها، ولذا نقول: لاذ بأذيال الفرار … لأنه أولًا تعبير محبَّب، وثانيًا: أن شكل المستر بكوك لا يتفق مع هذا الأسلوب من التقهقر، ولكنا نقول: إنه انطلق «خَبَبًا» على قدر ما استطاعت ساقاه أن تحملاه، أي نعم انطلق بسرعة بالغة، لم يفطن معها إلى غرابة موقفه كل الفطنة، إلا بعد حين.
وكانت القوات التي اصطفت قبالة المستر بكوك من قبلُ، وحار في إدراك المراد من اصطفافها بضع ثوانٍ على هذه الصورة، قد وقفت هكذا لصد هجمة تمثيلية من الجنود المحاصرين للقلعة، على سبيل التمثيل. وإذا بالمستر بكوك ورفيقاه قد وجدوا أنفسهم فجأة محصورين بين صفين من القوات الكبيرة، أحدهما يزحف بخطى سريعة، والآخَر ثابت؛ للاشتباك في قتال وطِعَان.
وصاح الضابط في الجيش الزاحف: «هو …»
وصرخ الضباط في الجيش الواقف: «ابتعدوا عن الطريق، أفسحوا السبيل …»
وصاح البكويكيون الثلاثة مروعين: «إلى أين نذهب …؟»
فكان الجواب الوحيد: «هو … هو … هو …»
وتلت هذا الموقف حيرة بالغة، وذهول شديد، ووقع أقدام ثقال، ورجة عنيفة، وضحكة مكبوتة، وكانت الآلايات الستة على قيد خمسمائة ياردة، ولكن حذاء المستر بكويك بدا طائرًا في الفضاء، وأما المستر سنودجراس والمستر ونكل فقد اضطرا إلى الانقلاب ظهرًا لبطن في خفة ظاهرة، وكان أول شيء وقعت عين المستر ونكل عليه حين حط على الأرض، بعد ذلك الانقلاب في الفضاء، وهو يمسح بمنديل حريري أصفر «نهر الحياة» الذي نزف من أنفه — مشهد زعيمه الموقَّر على قيد خطوات منه، وهو يعدو في إثر قبعته، وهي تصفر لاهية ذاهبة مع الهواء كل مذهب.
وقلما تعرض للمرء في حياته لحظات يواجه فيها محنة تثير الضحك، ولا تبعث كثيرًا من الإشفاق عليه والرثاء لحاله، كاللحظة التي يجري فيها مطاردًا قبعته، وأن القبض عليها لَيقتضي قدرًا كبيرًا من الهدوء، وحدًّا بالغًا في الاتزان، فلا ينبغي للمرء أن يتعجل الهجوم عليها، وإلا داسها بقدميه، أو استبقها في عدوه، كما لا يصح له الغلو في الهدوء، وإلا فقدها إلى الأبد، وإنما الطريقة المثلى هي التلطف للطريدة، والأخذ بالحذر والحيطة، وترقب الفرصة المواتية، والتقدم شيئًا فشيئًا أمامها، ثم الانقضاض العاجل عليها، والإمساك بها من قمتها، وحشرها في رأسك حشرًا لا فكاك لها منه، وأنت في ذلك كله باسم بسعة الرضى، كأنك تعتقد أنها منظر مضحك لك، كما هو مضحك لسواك من الناس.
وكان الريح رخاء، فراح المستر بكوك يتدحرج أمامها مداعبًا، ثم هبت الريح، فهب المستر بكوك مثلها، فانطلقت القبعة متدحرجة دحرجة مرح ودعابة كأنها سمكة حية في موج شديد، وكان من الجائز أن تظل متدحرجة على هذا النحو حتى تعز على منال المستر بكوك، لولا أن وقف فجأة في طريقها حائل ساقته الأقدار، في اللحظة التي أوشك ذلك السيد أن يدعها إلى مصيرها المحتوم.
نقول: إن المستر بكوك أحس بإعياء تام، وكاد ينثني عن المطاردة، في اللحظة التي اندفعت فيها القبعة بعنف؛ فاصطدمت بعجلة مركبة كانت واقفة في صف مستطيل من بضع مركبات أخرى في البقعة التي ساقته إليها خطاه، وأدرك المستر بكوك أن الظرف في مصلحته؛ فاندفع بخفة إلى الأمام، فاسترد قبعته ووضعها فوق هامته، وتمهل ليملك أنفاسه اللاهثة، ولكنه ما كاد يقف في مكانه نصف دقيقة، حتى سمع صوتًا ينادي باسمه في لهفة، وتبين في الحال أنه صوت المستر طبمن؛ فرفع بصره ليرى أين هو، فشهد منظرًا ملأ خاطره دهشة وحبورًا.
رأى في مركبة مفتوحة، انتزعت جيادها منها مراعاة لشدة الزحام شيخًا بدينًا في ثوب أزرق، وأزرار براقة، وسراويل من المخمل، وحذاء طويل، وبجانبه شابتين في ثياب هفافة وريش، وفتى في نضارة العمر، يبدو عليه أنه يحب الغادتين، وسيدة لا يستطيع المرء أن يقدر سنها، وأكبر الظن أنها خالتهما، ومعهم المستر طبمن وهو مطمئن مرتاح، كأنه يمت إلى الأسرة بنسب منذ طفولته، وقد رُبِطت بمؤخر المركبة سلة كبيرة من تلك السلال التي تثير في الخاطر القوي الخيال صور الدجاج البارد واللسان وزجاجات النبيذ، وفي مقعد السائق جلس غلام بدين محمر الوجه، وهو يهوم في مجلسه تهويمًا، لا يكاد الداني المتأمل يبصره على هذه الصورة، حتى يعتقد أنه سوف يكون الساعي على القوم بما حوته تلك السلة من أطياب، عندما يحين الوقت المناسب لتناولها.
وألقى المستر بكوك نظرة عجلى على هذه المشاهدة الممتعة، وإذا هو يتلقى تحية أخرى من مريده الأمين؛ فقد صاح المستر طبمن به قائلًا: «بكوك … بكوك … أقبلْ … أسرعْ إلينا.»
وتلاه الشيخ البدين مناديًا: «تعال يا سيدي، أرجوك أن تأتي … يا جو؟ … لعنة الله على هذا الغلام، لقد عاد إلى النوم … أي جو … أنزلْ السلم.»
فنزل الغلام من فوق مقعده ببطء، وأنزل سلم المركبة، وأمسك ببابها مفتوحًا أمام المستر بكوك ليدخل، وفي هذه اللحظة أقبل المستر سنودجراس والسيد ونكل.
وصاح الرجل البدين: «إن في المركبة متسعًا لكم جميعًا أيها السادة … اثنان في جوفها، والآخر خارجها … يا جو … هيِّئْ مكانًا لأحدهم فوق المقعد، والآن يا سيدي هلم.» وراح يمد ذراعه، ويجذب المستر بكوك أولًا، ثم المستر سنودجراس بعده، إلى الدخول بالقوة، وصعد المستر ونكل إلى المقعد، وفي إثره الغلام النوام، ولم يكد يستقر في مجلسه حتى ذهب في النعاس.
وأنشأ الرجل البدين يقول: «أهلًا بكم أيها السادة … إني لفَرِح بلقائكم، وأنا عليم بكم حق العلم، وإن كان من المحتمل أنكم لا تذكرونني، فقد قضيت بضع أمسيات في ناديكم خلال الشتاء الماضي، والتقيت مصادفة بالمستر سنودجراس في هذا الصباح، وسرني لقاؤه السرور كله، والآن كيف أنت يا سيدي؟ إنك لتبدو في خير وعافية أكثر من أي وقت آخر.»
فشكر المستر بكوك له هذه التحية، وصافحه بمودة وتلطف.
ودار الرجل البدين بعينه إلى المستر سنودجراس في حنان أبوي، فقال: «والآن … كيف حالك يا سيدي؟ بديع؟ أليس كذلك؟ حسنًا؟ … هذا جميل … هذا جميل …» وانثنى إلى المستر ونكل، فمضى يقول: «وكيف أنت يا سيدي؟ حسنًا … إنني لَسعيد أن أسمعك تقول إنك بخير … حقًّا إنني لَسعيد … هاتان ابنتاي يا سادة … وهذه أختي مس راشل واردل، هي آنسة، ومع ذلك ليست آنسة، إيه يا سيدي … إيه!» ومضى يضع مرفقه مداعبًا بين أضلاع المستر بكوك، ويضحك من أعماق قلبه.
وقالت مس واردل بابتسامة متعبة: «ما هذا يا أخي؟ … ويحك!»
قال: «حقًّا … حقًّا … وهل ينكر أحد ذلك أيها السادة؟ أستميحكم المعذرة، هذا صديقي المستر «تراندل»، والآن قد تعارفتم جميعًا، فَلْنطمئن وَلْنسعد، وَلْنَرَ ماذا نحن صانعون بعد ذلك … هذا هو ما أقوله.»
ووضع الرجل البدين منظاره على عينيه، وأخرج المستر بكوك أيضًا منظاره، ووقف الجميع في المركبة، وراح كل منهم ينظر من فوق كتف الآخر إلى تدريبات الجنود وحركاتهم.
وكانت حركاتهم مثار دهشة بالغة؛ فقد مضى صف منهم يطلق النار من فوق هامات الصف الآخر، ثم يعدو مبتعدًا، وراح هذا يفعل ما فعله الأولون، ثم يسرع مبتعدًا كذلك، ثم يؤلف الجمع مربعات منهم، بحيث يقف الضباط في وسطها، ثم ينزلون الخندق من جانب واحد بمدارج خشبية، ثم يصعدون من الجانب الآخر بالوسيلة عينها، ويتقدمون إلى متاريس من السلال، فيقلبونها من مواضعها، وهم في ذلك كله يُبْدُون من الشجاعة والإقدام أروع الأمثلة، وتلا ذلك من إطلاق المدافع الضخمة، وإفراغ كل ما في جوفها لمسح العدو مسحًا، ومن الدوي الرهيب قبل إصدار الأمر إلى القوات بالمسير — ما جعل الفضاء يردد أصدية الصرخات المنبعثة من أفواه النساء، حتى لقد بلغ الرعب من الآنستين «واردل» حدًّا اضطر المستر تراندل إلى إسناد إحداهما في المركبة؛ حتى لا تسقط من موضعها هلعًا، بينما بادر المستر سنودجراس إلى إسناد الأخرى، واستولى الفزع على أخت المستر واردل إلى حد مروع، حمل المسترَ طبمن على تطويق خصرها بذراعه؛ لكيلا تسقط في جوف المركبة. وكان الاضطراب قد ساد الجمع، ما خلا الغلام البدين؛ فقد لبث في نومه هادئًا كل الهدوء، كأن قصف المدافع النغمة المألوفة التي اعتاد أن ينام عليها.
وصاح الرجل البدين مناديًا: «جو … جو.» حين اقتحمت القلعة، وجلس المنتصرون والمحاصرون لتناول الطعام، وطفق يقول: «لعنة الله على هذا الغلام، لقد ذهب في النوم مرة أخرى … تكرَّمْ يا سيدي، واعركه في ساقه من فضلك، فلا شيء غير العرك يوقظه … شكرًا لك … والآن علينا بالسلة يا جو.»
وعندئذٍ استيقظ الغلام، وما أيقظه حقًّا غير الشعور بجزء من ساقه منضغطًا بين إصبعي المستر ونكل، وراح يثب من فوق المقعد، وأخذ في فك أربطة السلة بسرعة لم تكن منتظَرة منه، بعد جموده واستيلاء النعاس عليه.
وقال الرجل البدين: «الآن فَلْنجلس متقاربين.»
وبعد أن تناول القوم عدة نكات وأمازيح عن حشر أكمام السيدات، واصطبغت الخدود بحمرة الحياء من عدة مقترحات مضحكة، كقول قائل منهم يحسن أن تجلس السيدات في حجور الرجال، انتظمتهم جميعًا حلقة في المركبة، وبدأ الرجل البدين يتسلم الأطعمة من الغلام، وكان هذا قد صعد خلف المركبة لهذا الغرض.
وصاح السيد البدين: «الآن يا جو … علينا بالسكاكين والشوك.» فناوله الغلام إياها، فوُزِّعت على السيدات والسادة في جوف المركبة، وأوتي المستر ونكل القائم فوق مقعد السائق نصيبه من هذه القواطع النافعة.
وعاد السيد البدين يصيح: «جو … الأطباق!»
وتم توزيع الصحاف بالطريقة ذاتها …
وصاح السيد البدين: «جو … الدجاج! لعنة الله على هذا الغلام … لقد ذهب في النوم مرة أخرى … جو … جو!»
وراح يدق رأس الغلام دقات متوالية بعصا حتى انتبه بمشقة من نعاسه، فصاح السيد به: «هات الطعام!»
وكان في صوته، وهو يقول الكلمة الأخيرة، شيء أيقظ الغلام الشحيم اللحيم بعنف، فقفز وراحت عيناه المتثاقلتان من سلطان النعاس عليهما تبرقان خلف خديه الضخمين، فطفق يبتسم ابتسامًا بشعًا للطعام، وهو يخرجه من جوف السلة.
وصاح المستر واردل به قائلًا: «هيا … أسرع.» حين شهد الغلام متشبثًا في سرور ولذة بدجاجة محمرة، لا يستطيع لها فراقًا، ولا يبغي لها تركًا، فزفر زفرة عميقة، وألقى نظرة متشهية على لحمها اللدن، وسمنها الظاهر، ثم تقدَّم على كره منه بها إلى سيده …
وقال هذا: «هذا حسن … انتبه … والآن هات اللسان … والحمام … وانتبه لهذا اللحم الكندوس … ولحم الخنزير … ولا تنسَ الكبوريا … وأَخْرِج «السلاطة» من الغطاء … وأعطني المفرش!»
وكانت هذه الأوامر العاجلة تخرج من شفتي المستر واردل، وهو يحمل المآكل المختلفة التي أسلفنا ذكرها، ويضع الصحاف في أيدي القوم وعلى ركبهم، وهي كثيرة لا تنتهي.
وعندما بدأت عملية الانقضاض على الطعام، أنشأ ذلك السيد المزاح يقول: «والآن أليس هذا بديعًا؟»
وأجاب المستر ونكل، وهو يقطع أوصال دجاجة فوق مقعد السائق: «مفتخَر!»
وسأل المستر واردل: «ألك في كأس من النبيذ؟»
قال: «بكل سرور.»
وأجاب المستر واردل: «خير لك أن تأخذ زجاجة بأكملها لنفسك، وأنت في مكانك هذا … ألا تقر هذا الراي؟»
قال: «إنك لكريم!»
وعاد الرجل البدين ينادي الغلام: «يا جو!»
وأجاب هذا: «نعم يا سيدي.» ولم يكن في هذه المرة نائمًا، فقد ظفر لنفسه بفطيرة محشوة لحمًا …
قال: «زجاجة نبيذ للسيد … إني لسعيد برؤيتك يا سيدي …»
وأجاب المستر ونكل: «شكرًا.» وقد أفرغ الكأس في جوفه، ووضع الزجاجة بجانبه فوق المقعد.
وقال المستر تراندل مخاطبًا المستر ونكل: «هل تسمح لي بمتعة الشراب معك يا سيدي؟»
قال: «حبًّا وكرامة.»
وتناول السيدان كاسًا من النبيذ، ثم انطلقا يشربان أخرى مع القوم جميعًا، سيدات ورجالًا …
وهمست العمة العانس بتلك الغيرة الصادقة التي تحسها العمات العوانس، لأخيها السيد واردل: «انظر كيف تعاكس إميلي العزيزة بالغزل ذلك السيد الغريب؟!»
فأجابها السيد الشيخ المرح: «أوه … لا أعرف … كل هذا طبيعي … بل أقول إنه شيء مألوف … يا مستر بكوك، هل لك في نبيذ؟»
فاستجاب المستر بكوك للدعوة على الفور، وكان في تلك اللحظة منهمكًا في البحث عما عسى أن يكون الحشو في جوف اللحم المحمر …
وقالت العمة العانس في لهجة الولية الراعية: «يا عزيزتي إملي … لا تتكلمي بصوت مرتفع يا حبيبتي.» فأجابتها هذه بقولها: «يا سلام … يا عمتي!»
وهنا همست مس إيزابللا واردل لأختها إملي قائلة: «أظن أن عمتي والشيخ الكبير يريدان أن يستأثرا بكل شيء لنفسيهما!»
وضحكت الفتاتان من أعماق قلبيهما، غير أن العجوز حاولت أن تبدو متلطفة راضية، ولكنها لم تستطع.
وأقبلت على المستر طبمن تقول بلهجة رثاء رقيق: «إن للبنات أرواحًا أي أرواح! كأن الأرواح الحية المرحة ممنوعة، وامتلاكها بغير رخصة جريمة نكراء!»
وأجاب المستر طبمن جوابًا لم تكن تنتظره منه، فقد ذهب يقول: «أي نعم، إن لهن ما وصفت … وهو شيء يبهج، ويبعث السرور.»
وقالت مس واردل متشككة: «هيم …!»
وعاد المستر طبمن يقول مجاملًا، وهو يلمس معصم راشل الفاتن بإحدى يديه، ويرفع الزجاجة في رفق بالأخرى: «هل تسمحين لي …؟»
قالت: «أوه … يا سيدي!»
وبدا المستر طبمن شديد الإغراء، وأبدت راشل خوفها من أن يعود الدافع إلى إطلاق النار؛ فتحتاج طبعًا إلى مَن يسندها مرة أخرى …
وهمست عمة الفتاتين الودود في آذان المستر طبمن: «هل تعتقد أن ابنتي أخي مليحتان؟»
فقال هذا البكويكي على الفور، وفي عينيه نظرة شيقة: «أعتقد ذلك، إذا لم تكن عمتهما حاضرة.»
قالت: «يا لك من رجل «شقي»! ولكن قل لي حقًّا … لو كانت قسماتهما أحسن … قليلًا … ألست ترى أنهما ستبدوان عندئذٍ فتاتين مليحتين على ضوء الشموع؟»
قال بلهجة استخفاف: «أعتقد أنهما كانتا ستبدوان كذلك.»
قالت: «أوه … إنك لماجن! … أعرف ماذا كنت موشكًا أن تقوله.»
وهنا قال المستر طبمن: «ماذا؟» لأنه في الواقع لم يكن فكَّر فعلًا في أن يقول شيئًا إطلاقًا …
قالت: «أعرف أنك هممت بأن تقول أن «إيزابيللا» «محنية»، أعرف أنك كنت قائلًا ذلك … إنكم معاشر الرجال أقوياء الملاحظة، والواقع أنها كذلك، فلا نفي ولا إنكار، وفي الحق، إذا كان ثمة شيء أكثر إظهارًا لقبح الفتاة من كل ما عداه فهو الانحناء، وكثيرًا ما قلت لها أنها ستبقى منحنية الشكل، حين تتقدم قليلًا من العمر … حقًّا إنك لماجن!»
ولم يكن لدى المستر طبمن مانع من أن يكسب هذه الشهرة بثمن بخس كهذا، فتراءى كأنه العريف العليم، وابتسم ابتسامة غريبة …
وهنا قالت راشل المعجَبة به: «يا لها من ابتسامة ساخرة! … إنني أصارحك أنني منك جد خائفة.»
قال: «أخائفة مني أنا؟!»
قالت: «أوه … إنك لا تستطيع أن تخفي شيئًا عني … إنني أعرف معنى ابتسامتك هذه حق المعرفة.»
قال ولم يكن يدري بتاتًا المراد: «ماذا تقولين؟»
وهنا قالت العمة المعجَبة، وهي تخفض كثيرًا من صوتها: «إنك تعني بها أنك لا تعتقد أن انحناءة إيزابيللا رديئة كجرأة إملي … ولك الحق … إنها لجريئة، ولا يمكنك أن تتصور مبلغ ألمي أحيانًا من جرأتها، بل لكثيرًا ما بكيت منها الساعات الطوال … إن أخي العزيز طيب القلب غاية الطيبة، سليم النية كل السلامة، فلا يفطن إليها أبدًا، ولو فطن فلا أشك في أن قلبه سينفطر ألمًا … لوددت لو استطعت أن أحسب جرأتها مجرد اصطناع وتكلُّف … أرجو أن تكون كذلك …» وهنا أرسلت هذه العمة الودود زفرة عميقة، وهزت رأسها هزة اليائس المحزون.
وهمست مس إملي واردل لأختها: «إني واثقة من أن عمتي تتحدث عنا … إني واثقة من ذلك كل الثقة … إن الرغبة في الأذى والخبث بادية على وجهها …»
وأجابت إيزابيللا قائلة: «أكذلك! … هيم … أي عمتي العزيزة!»
فقالت عمتها: «نعم يا حبيبتي الغالية!»
وأجابت إيزابيللا: «إنني أخشى كثيرًا أن يَمَسَّكِ برد يا عمتي … خذي منديلًا من حرير فاربطيه حول رأسك الكبير الغالي … يجب في الواقع أن تحرصي على صحتك، وتراعي سنك.»
وكانت هذه العبارة التي أطلقتها الفتاة ردًّا على ما قالته عمتها في حقها كلامًا في محله، وكانت صحتها تستحقه فعلًا، ولكنه بلغ من الحقد حدًّا لم يكن يحسن الالتجاء إليه، ولسنا نستطيع أن نتكهن بما كانت عمتها في غضبها مجيبة لو لم يغيِّر المستر واردل موضوع الحديث، وهو لا يدري، بترديد ندائه على الغلام: «جو!»
وقال هذا السيد الشيخ: «لعنة الله على هذا الولد … لقد عاد إلى النوم!»
وانثنى المستر بكوك يقول: «هذا غلام شاذ حقًّا … أينام دائمًا على هذا النحو؟»
وقال الشيخ بتأنٍّ: «إنه «نائم» على الدوام، وإنه ليذهب ليؤدي أعماله وهو مستغرق في النوم، ويغط وهو يخدمنا على المائدة.»
قال المستر بكوك: «ما أعجب، وما أغرب!»
وردد الشيخ قوله: «حقًّا ما أعجب وما أغرب … إني بهذا الغلام لفخور … ولن أدعه يفارقني لأي سبب من الأسباب، إنه لأعجوبة من أعاجيب الطبيعة … جو … جو … ارفعْ هذه الأشياء وافتح زجاجة أخرى … أأنت سامع؟»
ونهض الغلام الشحيم اللحيم وفتح عينيه، وازدرد الفطيرة الضخمة التي كان منشغلًا بمضغها حين استولى النعاس عليه آخِر مرة، وراح في بطء ينفِّذ أوامر سيده، محدقًا البصر في استرخاء في بقايا المائدة، وهو يرفع الصحاف ويودعها جوف «السَّفَط».
وأُحْضِرت الزجاجة الجديدة، وما لبثت أن أُفْرِغت، ثم ربط السلة في موضعها القديم، وعاد الغلام السمين يصعد إلى المقعد، ووُضِعت المناظر والمجاهير مرة أخرى فوق الأبصار، واستُؤْنِفت الحركات العسكرية أمام النظارة، واشتد قصف المدافع، وعادت السيدات إلى الإجفال من الخوف، وإذا بنزك ينبعث في الفضاء، فيتلقاه الناس بالفرح والاغتباط، وما كاد ينطفئ ويتوارى، حتى حذا الجنود والجماعة التي أسلفنا عليك وصفها حذوه، فتواروا هم كذلك منصرفين.
وانثنى الشيخ يقول وهو يهز يد المستر بكوك عقب حديث جرى متقطعًا على فترات خلال ختام العرض: «والآن تذكر أننا سنراكم جميعًا غدًا …»
وأجاب المستر بكوك: «بكل تأكيد.»
قال: «ولديك عنواننا.»
وأجاب المستر بكوك، وهو يستوحي كناشته: «نعم … عزبة مانور … في دنجلي ديل.»
قال: «بالضبط … وتذكر أنني لن أتركك حتى تقيم لدينا أسبوعًا على الأقل، وأؤكد لك أنك ستشهد كل ما يستحق المشاهدة، وإذا رغبت في الاستمتاع بالحياة في الريف، فتعال أشهدك منها ألوانًا، وأسرحك فيه سراحًا جميلًا … يا جو … لعنة الله على هذا الغلام … لقد عاد إلى النوم ثانية … جو … ساعد «توم» على إسراج الجياد.»
وأُسْرِجت الخيل، وصعد السائق، ووثب الغلام إلى مجلسه بجانبه، وتبودلت عبارات الوداع، وانطلقت المركبة رجراجة، وفيما كان البكويكيون يديرون أعينهم لتعليتها بآخِر لمحة منها، أرسلت الشمس الهائلة إلى المغيب ضياءً باهرًا من حمرة اللحيم على وجوه مضيفيهم، كما سقط الضياء على الغلام الشحيم اللحوم، فإذا رأسه ينحدر فوق صدره، وقد عاوده النعاس …