الفصل الأربعون
كيف رأى المستر بكوك مشهدًا جديدًا لا يخلو من طرافة، بين مشاهد الرواية الكبرى التي تمثل على مسرح الحياة.
***
وانقضت البقية الباقية من الفترة التي حددها المستر بكوك للمقام في باث دون وقوع حادث يستحق الذكر، وبدأت الدورة القضائية واستؤنفت الجلسات في ترنتي، ولم ينقض الأسبوع الأول على ابتدائها حتى عاد المستر بكوك وأصحابه إلى لندن، فقصد الأول، ومعه سام بالطبع، إلى مسكنه القديم رأسًا، في فندق «جورج والرخم».
وفي صباح اليوم الثالث من وصولهما، حين أخذت ساعات الجدران كلها في المدينة تدق تسعًا، على حدة، ونحو تسعمائة وتسع وتسعين في مكان ما تدق مجتمعة، كان سام يتمشى في فناء الفندق، وإذا مركبة غريبة ذات طلاء حديث العهد تتقدم نحوه، ويثب منها بخفة بالغة، سيد غريب، يبدو كأنه قد خُلق للمركبة، وخُلقت المركبة له، بعد أن ألقى باللجم إلى رجل بدين كان يجلس بجانبه.
أما صاحبه ذاته فرجل يناهز الأربعين، أسود الشعر ذو عارضين ممشطين بعناية، وفي بزَّةٍ فاخرة، كثير الحلي، حتى لتبدو في حجمها نحو ثلاثة أمثال ما يتحلى به الرجال عادة، ويتوِّج ذلك كله معطف كبير غزير الوبر، وما كاد يترجل حتى دس يسراه في أحد جيبي هذا المعطف الكبير، وبيُمْناه أخرج من الجيب الآخر منديلًا زاهيًا برَّاقًا من الحرير، وراح ينفض به ذرة أو ذرتين من الغبار علقتا بحذائه، ثم طبقه في كفه ومشى متخطرًا متهاديًا يخترق الفناء.
ولم تفُت عين سام عند نزول هذا السيد من المركبة، منظر رجل رث الثياب في معطف رمادي تجرد من عدة أزرار، كان قبل ذلك يتسكع في الجانب المقابل من الطريق، ولكنه لم يكد يرى السيد ينزل من مركبته، حتى اقترب فوقف عن كثب. وخامر نفس سام شيء من مجرد الارتياب في غرض هذا السيد من مجيئه، فاستبقه إلى الفندق، ولف لفة سريعة، ووقف في وسط فتحة الباب.
وقال الرجل ذو الرداء الوبري، بلهجة الآمر، وهو في الوقت ذاته يحاول أن يشق طريقه شقًّا: «والآن يا هذا!»
وأجاب سام وهو يرد الدفعة التي تلقاها مضاعفة: «والآن يا سيدي، ما الخبر؟»
وقال صاحب المعطف الخشن، وهو يرفع الصوت، وقد شحب وجهه: «لا هذر يا رجل إنه لا يجدي معي، تعالَ يا سماوتش.»
وزمجر الرجل الآخر ذو المعطف الرمادي، وكان قد تسلل شيئًا فشيئًا إلى الفناء، خلال هذا الحوار القصير: «نعم يا سيدي. ماذا حدث هنا؟»
وقال الكبير وهو يدفع سام في صدره مرة أخرى: «لا شيء غير بعض القحة من هذا الفتى.»
وعاد سماوتش يزمجر، وهو يلكز سام لكزة أخرى أشد من تلك وأقسى: «كفى يا هذا هذرًا.»
وكان لهذه اللكزة الأخيرة الأثر الذي كان المستر سماوتش الخبير المجرب ينتظر منها أن تحدثه، فبينما كان سام في لهفته على رد هذه التحية يدفع جسم الرجل صوب عامود الباب، انسل الآخر إلى الفندق، فقصد إلى مكان الشراب، حيث تبعه سام في الحال بعد أن تبادل مع المستر سماوتش بضع شتائم وسباب مختارة.
وقالت الفتاة لأحد الغلمان دون أن تتنزل من عليائها لتلقي نظرة أخرى إلى هذا المتأنق، ردًّا على سؤاله: «اصعد معه وأره الطريق.»
ومشى الغلام فصعد المدارج كما طلب إليه، وسار الرجل ذو الرداء الخشن في أثره، وسام وراءهما، وهو طيلة صعود السلم، يأتي بحركات وإشارات تدل على منتهى الاحتقار والتحدي والاستخفاف، مما أدخل على نفوس الخدم والمشاهدين سرورًا لا يوصف. أما المستر سماوتش فقد اعتراه سعال بح صوته منه، فبقي في البهو، ولبث يتنخم ويرسل بلغمًا كثيرًا في الردهة.
وكان المستر بكوك نائمًا مستغرقًا في النوم حين دخل هذا الزائر المبكر الحجرة، وفي أذياله سام، فأيقظته الجلبة التي أحدثاها، وصاح قائلًا مِن خلف أستار فراشه: «ماء للحلاقة يا سام.»
وقال نائب المأمور بتنفيذ الأحكام المدنية — فقد كان ذلك الرجل موفدًا من قبله: «إن اسمي نامبي، زقاق بل، شارع كولمن.»
وأخرج المستر بكوك منظاره من تحت الوسادة ليقرأ البطاقة.
وأجاب الرجل في غضب: «سأريك من أنا قبل أن أنتهي منك، سأعلمك الأدب يا هذا في يوم من الأيام.»
وقال سام: «شكرًا، وسأفعل ذلك بك. ارفع قبعتك من فوق رأسك.»
وانثنى بهذه الكلمات يقذف بأعجب البراعة قبعة المستر نامبي إلى الجانب الآخر من الغرفة بعنف شديد كاد يجعل صاحبها يبتلع السواك الذهبي، كأن ذلك جزء من الصفقة التي جاء من أجلها.
وقال الرجل المرتبك وهو فاغر فاه ليسترد أنفاسه: «كن شاهدًا يا مستر بكوك، لقد تعدى علي خادمك، في غرفتك، في أثناء تأدية وظيفتي، إنني خائف أن يلحق بي أذى، إنني أشهدك على هذا.»
وقال سام: «لا تشهد شيئًا يا سيدي، أغمض عينيك كل الإغماض، سألقي به من النافذة، ولكني لا أتوقع أن يسقط من موقع مرتفع، بسبب الستر التي في الخارج.»
وقال المستر بكوك بغضب حين رأى خادمه يبدي أمارات كثيرة توحي بنية الاعتداء: «يا سام، إذا نطقت بكلمة واحدة أو أبديت أقل تدخل أو احتكاك بهذا الشخص، فصلتك في الحال.»
وقال سام: «ولكن يا سيدي.»
وصاح المستر بكوك: «أمسك عليك لسانك، وارفع هذه القبعة من فوق الأرض.»
ولكن سام رفض بتاتًا أن يفعل ذلك، وبعد أن تلقى تأنيبًا شديدًا من سيده، رضي الرجل؛ لأنه كان في عجلة، أن يلتقطها بنفسه، وهو يوجه إلى سام مختلف التهديدات، ولكن سام تلقاها بكل هدوء، مكتفيًا بقوله: إنه إذا تكرم المستر نامبي فأعاد القبعة إلى مكانها فوق رأسه فسيطيرها عنه إلى الطرف الآخر من الأسبوع القادم. ومن الجائز أن يكون المستر نامبي قد رأى أن هذه العملية قد تجر إلى إشكال آخر، فرفض الاستماع إلى هذا الإغراء، وبادر إلى دعوة سماوتش، فأبلغه أن التنفيذ قد تم، وما عليه إلا أن ينتظر السجين حتى ينتهي من ارتداء ثيابه، وخرج يمشي مشية الخيلاء، واستقل المركبة منصرفًا، والتفت سماوتش إلى المستر بكوك فطلب إليه بحدة أن يسرع ما أمكن؛ لأن لديه أعمالًا كثيرة، ثم سحب كرسيًّا بقرب الباب فجلس فوقه حتى ينتهي المستر بكوك من ارتداء ملابسه. وذهب سام ليحضر مركبة، فلما أقبلت، انصرف الثلاثة فيها إلى شارع كولمان. وكانت المسافة لحسن الحظ قصيرة؛ لأن المستر سماوتش لم يؤتِ حظًّا وافرًا من براعة الحديث، وزاد رفقته ثقلًا في مكان ضيق محدود كالمركبة، ذلك الضعف الجثماني الذي أسلفنا في موضع آخر إليه وهو البلغم والسعال.
ووقفت المركبة بعد أن عطفت على شارع ضيق مظلم بباب بناء تبدو القضبان الحديدية على جميع نوافذه، وقد كُتب على أعمدة بابه اسم نامبي ولقبه «نائب المأمورين بتنفيذ الأحكام في لندن». وجاء ليفتح الباب الداخلي رجل قد يذهب بك الظن حين تراه إلى أنه قد يكون هو والمستر سماوتش توأمين، وأنه هو المهمل منهما، وكان يحمل مفتاحًا ضخمًا لهذا الغرض، وأخذ المستر بكوك إلى قاعة القهوة، وهي قاعة أمامية، كان الرمل الجديد وريح التبغ الفاسدة الخانقة أبرز معالمها. وانحنى المستر بكوك للأشخاص الثلاثة الذين كانوا جلوسًا فيها عند دخوله، وأوفد سام إلى بركر وانزوى هو في ركن مظلم، وانثنى ينظر بشيء من الدهشة والفضول إلى رفقائه الجدد.
وكان أحدهم لا يعدو أن يكون فتًى في التاسعة عشرة أو العشرين. ولم تكن الساعة قد تجاوزت العاشرة من الصباح، ولكنه كان يتعاطى مزيجًا من «الجن» والماء، ويدخن لفافة كبيرة طويلة، ويبدو من حمرة وجهه أنه قد أدمن الشراب والتدخين في العام الماضي أو العامين الأخيرين من حياته. وكان يجلس قبالته شاب من السوقة في نحو الثلاثين من العمر، شاحب الوجه، خشن الصوت، يلوح عليه أنه قد أوتي المعرفة بأحوال الدنيا، والتحرر الطليق من آداب السلوك فيها، وهي النزعة التي تنمو في نفوس المختلفين إلى الحانات، وعلى نضد البلياردو في الأماكن العامة، وكان يحرك النار بطرف حذائه الأيمن، بينما بدا الثالث رجلًا متوسط العمر، في ثوب أسود عتيق، وهو يلوح مصفرًّا ناحلًا بادي الإعياء، وقد مضى يذرع القاعة ذهابًا وجيئة بغير انقطاع، إلا لكي ينظر بقلق شديد من النافذة كمن يرتقب أحدًا من الناس، ثم يعاود المسير رواحًا وغدوًّا في تلك القاعة.
وقال الرجل الذي كان يحرك النار وهو يغمز بعينه إلى صديقه الفتى اليافع: «يحسن بك يا مستر أيرسليه أن تستعير الموسى مني في هذا الصباح.»
وأجاب الفتى في عجلة: «كلا، أشكرك؛ لأني لن أحتاج إليها، إنني أنتظر أن أخرج بعد ساعة أو نحوها»، وعاد يمشي إلى النافذة فيطل منها، ثم يعود خائب الأمل، فيزفر من أعماق صدره، ثم ينصرف من القاعة، فلا يكاد يتوارى حتى يرسل الآخران في أثره ضحكات عالية.
وأنشأ الرجل الذي كان قد عرض الموسى عليه، وكان يدعى برايس: «لم أر شكلًا كهذا في حياتي، أبدًا.» ومضى يؤكد قوله هذا بالقسم والأيمان، ثم يعاود الضحك، فلم يسع الآخر غير الاشتراك فيه، وكان يظن أن رفيقه هذا من أجرأ الناس وأشدهم إقدامًا.
والتفت المستر برايس نحو المستر بكوك فقال: «لا أظنك تعتقد أن هذا الفتى قد مضى عليه حتى أمس أسبوع كامل في هذا المكان، لم يحلق ذقنه ولا مرة واحدة إلى الآن؛ لأنه على يقين تام من أنه سيخرج بعد نصف ساعة، وأنه يحسن تأجيل الحلاقة حتى يعود إلى بيته.»
وقال المستر بكوك: «يا له من مسكين، هل تعتقد أن أمله في الخروج مما هو فيه من المتاعب كبير إلى هذا الحد؟»
قال المستر برايس هذا وهو يقرقع بأصابعه باحتقار، ويدق الجرس.
وقال للخادم الذي بدا — من ثوبه ومظهره العام — شيئًا بين راعٍ مفلس، وتاجر ماشية معدم ذهب ماله: «أعطني قطعة من الورق يا كروكي وكأسًا من البراندي بالماء، هل سمعت؟ إنني أريد أن أكتب إلى أبي ولا بد لي من منعش، وإلا عجزت عن التأثير في نفس الشيخ، ولم يسعفني التعبير القوي البليغ.» ولا تحسبنا بحاجة إلى القول: «أن الشاب لم يلبث عند سماع هذه العبارات الفكهة أن كاد يختنق من الضحك.»
ومضى المستر برايس يقول: «هذا هو عين الجد. لا يأس مع الحياة. كل شيء في هذه الدنيا لهو ولعب. أليس كذلك؟»
وقال الفتى: «كلام عظيم!»
وعاد برايس يقول: «إن فيك لروحًا يا فتى، لقد جربت شيئًا من شئون هذه الحياة.»
وأجاب الفتى: «أعتقد أن الأمر كذلك.» فقد رأى الحياة من خلال ألواح الزجاج المغبرة القذرة في أبواب الحانات.
وشعر المستر بكوك بشيء غير قليل من الاشمئزاز من هذا الحوار، ومن لهجة المخلوقين اللذين أداراه بينهما، وطريقتهما وشكلهما، وهمَّ بأن يسأل هل في الإمكان أن يظفر بغرفة جلوس خاصة، لولا أن دخل عندئذ غريبان آخران أو ثلاثة غرباء حسني السمت، فما أن رآهم الفتى الذي يدخن اللفافة الكبيرة حتى ألقى بها في النار، وهمس في أذن المستر برايس أنهم جاؤوا لتسوية مسألته، وانتحى بهم نضدًا في الطرف الأقصى من القاعة.
ولكن الظاهر أن الأمور لم تكن موشكة على تسوية بالسرعة التي كان يتوقعها الشاب؛ لأن الحديث استطال، ولم يكن في إمكان المستر بكوك أن يتجنب سماع فقرات منه وعبارات حادة عن الإسراف في الملذات، وتكرر التغاضي والغفران. وتلتها في النهاية تلميحات واضحة من جانب أكبرهم سنًّا لسجن هوايت كروس ستريت، فلم يلبث الشاب عند سماع هذا الاسم أن مال برأسه على النضد، وجعل يعوي عواءً محزنًا مؤلمًا، رغم التشدق السابق بمعرفة الدنيا، والخبرة بشئون الحياة.
وشعر المستر بكوك بارتياح شديد لمشهد هذا التغير الفجائي الذي هوى بشجاعة الفتى وجرأته، وذلك الهبوط المباغت في لهجته، فدق الجرس، وطلب غرفة خاصة، فأدخلوه في حجرة ذات بساط ونضد، ومقاعد وصوان ومتكأ، وقد ازدانت بمرآة، وعدة صور قديمة، وقد تيسر له عند جلوسه فيها الاستماع إلى عزف مسز نامبي على البيان في الغرفة التي فوق غرفته مباشرة، وبينما كان طعام الفطور يهيأ له، إذ دخل عليه المستر بركر.
وقال ذلك الرجل القصير القامة: «آها، يا سيدي العزيز. لقد وقعت أخيرًا لا بأس، إنني لست على هذا الأمر آسفًا؛ لأنك الآن ستدرك سخف هذا التصرف. وقد دونت عندي جملة الأتعاب والمصاريف والتعويض المحكوم بها في هذه القضية، فيحسن بنا أن نبادر إلى تسويتها ولا نضيع الوقت، وأكبر ظني أن نامبي الآن في البيت، فما قولك يا سيدي العزيز؟ هل أكتب بجملة المبلغ المطلوب صكًّا أم تكتبه أنت؟» ومضى الرجل القصير يفرك يديه بابتهاج مصطنع، ولكنه ما كاد يلقي نظرة على وجه المستر بكوك، حتى اضطر إلى توجيه نظرة حزينة يائسة إلى سام ولر.
وقال المستر بكوك: «لا أريد يا بركر أن أسمع بعد اليوم كلامًا آخر في هذا الأمر إذا تكرمت، ولا أجد فائدة من البقاء هنا؛ ولهذا يجب أن أذهب إلى السجن الليلة.»
وقال بركر: «لا تستطيع أن تذهب إلى هوايت كروس ستريت، هذا لا يمكن مطلقًا. إن في كل عنبر من عنابره ستين سريرًا، والسجن يظل مغلقًا ست عشرة ساعة في الأربع والعشرين.»
وقال المستر بكوك: «إني لأفضل الذهاب إلى سجن آخر إذا أمكن، فإن لم يتيسر، فلأحتمل قدر الجهد.»
وقال بركر: «تستطيع أن تذهب إلى سجن فليت يا سيدي العزيز إذا أبيت إلا الذهاب إلى محبس ما.»
وأجاب المستر بكوك: «ليكن، سأذهب إليه بمجرد فراغي من الفطور.»
وقال الوكيل الصغير الطيب القلب: «قف، قف، يا سيدي العزيز، لا موجب مطلقًا لهذه العجلة الشديدة في الذهاب إلى مكان يود أكثر الناس الخروج منه متلهفين. يجب أولًا أن نحصل على أمر بتسليم المسجون، ولا يتسنى وجود قاض في مكتبه قبل الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم، فلا بد لك من الانتظار إلى هذا الموعد.»
وأجاب المستر بكوك بصبر لا يتزعزع: «حسن جدًّا فلنتناول الغداء هنا إذن في الساعة الثانية، فدبر يا سام لنا الغداء، وقل لهم: إنه ينبغي المحافظة على الموعد.»
وكذلك لبث المستر بكوك متمسكًا بقراره، رغم احتجاجات المستر بركر، وجدله، وجاء الغداء، وفرغ منه، في الموعد المعين، وجاءت مركبة أخرى فاستقلها إلى دار القضاء المدني في تشانسري لين، بعد انتظار المستر نامبي ساعة أو نحوها، فقد كانت لديه مأدبة غداء خاصة، فلم يستطع أحد إزعاجه قبل الانتهاء منها بسبب من الأسباب.
وكان في المحكمة قاضيان، أحدهما لتولي دائرة الملك، والآخر لنظر القضايا العامة، وقد بدا أن أمام هذين القاضيين أعمالًا كثيرة، إذا صح الاستدلال عليها بعدد كتبة المحامين الذين يدخلون سراعًا، ويخرجون بِرزم من الأوراق والملفات.
ولما وصلوا إلى الباب القصير المقام عند مدخل المحكمة، اضطر بركر إلى الوقوف بضع لحظات للكلام مع السائق بشأن الأجرة والباقي له من النقود، بينما انتحى المستر بكوك ناحية، حتى لا يعوق سيل الداخلين والخارجين، وراح يجيل البصر فيما حوله في شيء من الفضول.
وكان أشد الناس استرعاءً لاهتمامه ثلاثة أشخاص أو أربعة في بزة قديمة، وإن لبثت مقبولة الشكل، جعلوا يرفعون أكفهم إلى قبعاتهم لعديد المحامين الذين يمرون عليهم، ويبدو أن لهم عملًا في أروقة المحكمة، وإن لم يستطع المستر بكوك أن يتبينه أو يحرز ماذا عسى أن يكون، فقد بدوا غريبي الشكل، غير مألوفي الصور، أحدهم ناحل البدن، أعرج قليلًا، في ثوب أسود ناحل اللون، وملفعة بيضاء حول رقبته، والآخر بدين لحيم، في الزي عينه، وإن تلفع بقماش يضرب لونه إلى الحمرة، والثالث قصير يبدو عليه الإلحاح على الشراب، وتكثر البثور في وجهه. وكان هؤلاء الأشخاص يتمشون في فناء المحكمة، واضعي أيديهم خلف ظهورهم، ويهمسون بين لحظة وأخرى، واللهفة بادية على وجوههم، في أذان بعض الذين يحملون رزمًا من الأوراق، وهم بها مسرعون وتذكر المستر بكوك أنه كثيرًا ما شاهدهم جلوسًا تحت مدخل المحكمة، عندما كان يمر بها من قبل، واشتد به الفضول، وود لو يعرف إلى أي فرع من فروع المهنة يحتمل أن ينتسب أولئك المتسكعون الشعث الغبر. وهم بأن يوجه هذا السؤال إلى نامبي الذي ظل سائرًا خلفه، يمص خاتمًا كبيرًا من الذهب في خنصره، لولا أن وصل بركر مسرعًا في خطوه، قائلًا: إن الوقت قد أزف، وتقدم يشق الطريق، وفيما كان المستر بكوك يسير في أثره، إذ دنا منه الرجل الأعرج ورفع يده بأدب إلى قبعته، وقدم إليه بطاقة مكتوبة، فلم يشأ المستر بكوك أن يجرح إحساسه برفضها، فتقبلها بلطف منه وأودعها جيب صداره.
والتفت بركر وراءه قبل دخول أحد المكاتب ليستوثق منه أن رفقاءه يسيرون في أثره، وقال: «والآن سندخل هنا يا سيدي العزيز. آه، ماذا تريد؟»
وكان السؤال الأخير موجهًا إلى الأعرج، فقد اندس بينهم دون أن يشعر المستر بكوك به، فعاد الرجل يلمس قبعته بيده بكل أدب يصح أن تتصوره، وأشار إلى المستر بكوك.
وقال بركر وهو يبتسم: «كلا، كلا، لسنا بحاجة إليك يا صديقي العزيز، لا ضرورة لك.»
وأجاب الأعرج: «عفوًا يا سيدي، إن هذا السيد أخذ البطاقة مني، ورجائي الانتفاع بي يا سيدي، ودع السيد نفسه يحكم في هذه المسألة، ألم تومئ إلي يا سيدي؟»
وقال بركر: «كلام فارغ، هل أومأت يا بكوك إلى أحد؟ هذه غلطة، غلطة.»
وأجاب المستر بكوك، وهو يخرج البطاقة من جيب صداره: «إن السيد هو الذي قدم إلى بطاقته، فتقبلتها منه؛ لأني رأيته يرغب في ذلك. والواقع أنني كنت أشعر بشيء من الرغبة في النظر إليها عندما أتفرغ إليها، إنني …»
فقهقه المحامي القصير ضاحكًا، ورد البطاقة إلى الأعرج قائلًا: إن السيد أخذها خطأ، وراح يهمس للمستر بكوك، حين تولى الرجل غاضبًا: أنه ليس سوى ضامن.
وصاح المستر بكوك: «ماذا تقول؟»
وأجاب بركر: «قلت لك: إنه ضامن.»
قال: «ضامن!»
وقال المستر بكوك وهو مبهوت مما سمعه: «يا عجبًا! هل تريد أن أفهم من قولك أن هؤلاء الناس يكسبون أرزاقهم من الوقوف هنا، ليشهدوا الزور على أنفسهم أمام قضاة هذه البلاد، لقاء نصف كراون عن كل جريمة يرتكبونها؟»
وأجاب السيد القصير: «لست أعرف ما الداعي لوصف هذا الأمر بالتزوير يا سيدي العزيز، إنها كلمة قاسية يا سيدي العزيز، قاسية جدًّا، إن الأمر لا يعدو إجراءً قانونيًّا يا سيدي العزيز، لا أكثر.» وهز المحامي كتفيه، وابتسم، وتناول قدرًا آخر من السعوط وتقدم إلى غرفة كاتب الجلسة.
وكانت الغرفة تبدو قذرة الشكل، خفيضة السقف، قديمة الجدران، ضعيفة الضوء، حتى اقتضى الأمر إيقاد شموع فوق المناضد، في رائعة النهار، وفي طرفها الأقصى باب يؤدي إلى غرفة القاضي الخاصة، وقد ازدحم حولها جمع كثير من المحامين والوكلاء والكتبة، يُدعَون إلى الدخول بحسب ترتيبهم في الجدول، وكلما فتح الباب لخروج أحد، اندفع التالي له مزاحمًا يريد الدخول، وفضلًا عن كثرة الحوار المستمر بين الذين وقفوا ينتظرون أدوارهم للمثول أمام القاضي، تقوم المشادات والمشاجرات بين أغلب الذين خرجوا من غرفته، فلا تلبث أن ترتفع الجلبة، وتختلط الأصوات، وناهيك بضوضاء كهذه في مكان ضيق محدود النطاق.
ولم تكن أحاديث أولئك الناس، الأصوات الوحيدة التي تسك المسامع، فقد وقف هنالك في منصبة صغيرة خلف حاجز خشبي، في طرف آخر من الغرفة، كاتب وضع منظارًا على عينيه، لأخذ الإقرارات، حتى تجتمع أكداس منها، فيتولى كاتب آخر حملها إلى القاضي لتوقيعها منه، كما يكثر كتبة المحامين الذين يطلب إليهم حلف اليمين، ومن المتعذر من الناحية الأدبية تحليفهم جماعة، فلا غرو إذا كان ازدحامهم وتدافعهم للوصول إلى الكاتب الذي يتسلم الإقرارات منهم، أشبه بزحمة الناس على باب دار التمثيل في الليلة التي يشرفها جلالة الملك بالحضور، بينما كان موظف آخر لا يفتأ بين لحظة وأخرى يجهد رئتيه في المناداة بأسماء الذين انتهى تحليفهم اليمين، لرد الإقرارات إليهم بعد أن تم توقيع القاضي عليها، مما يثير عادةً بضع مشادات ومعارك أخرى، فكان اجتماع ذلك الهرج والمرج كله في آن واحد مثار تدافع وتزاحم وجلبة يشتهي المولع بالحركة، أو النزاع إلى الهياج، أن يشهدها، ولا تزال ثمة طبقة أخرى من الناس إلى جانب من ذكرنا، ونعني بهم أولئك الذين وقفوا ينتظرون الحضور بناء على طلب مخدوميهم، وأصحاب العمل الذين هم في خدمتهم، وهي مسألة يترك فيها الخيار لمحامي الخصوم في حضورها أو الامتناع عن حضورها، والذين يتعين عليهم من وقت إلى آخر المناداة بأسماء وكلاء الخصوم؛ ليتحققوا من أنهم لم يحضروا دون علمهم. مثال ذلك أنه كان بجانب المقعد الذي جلس فيه المستر بكوك صبي من صبية المكاتب في الرابعة عشرة من العمر، وقف مستندًا إلى الجدار، وقد أوتي صوتًا جهيرًا، وبجواره آخر من الكتبة العموميين ذو صوت خفيض.
وأقبل كاتب برزمة من الأوراق مهرولًا، وراح يتفرس فيمن حوله، وإذا صاحب الصوت الخفيض يصيح بوركن واسنب والقادم الجديد يرفع عقيرته صائحًا: «استمبي وديكن.»
ولكن لم يجب أحد، ولم يكد الرجل الذي دخل عندئذ يلوح لأولئك الثلاثة حتى هللوا له، وراح هو بدوره يصيح باسم مكتب محامٍ آخر، بينما رفع آخر صوته مناديًا باسم ثالث، وهكذا دواليك.
خذ الكتاب بيمينك هذا اسمك وخطك، احلف أن ما جاء في هذا الإقرار الذي قدمته صحيح، وليعنك الله هات شلنًا، يجب أن يكون معك فكة ليس عندي شيء منها.
وأجاب سام: «نعم، وإني لأرجو أن ينتهوا من هذا الهافهز كاركاس، فإنه لثقيل على النفس كثيرًا وقوفنا هنا منتظرين، لو كنت أنا في مكانهم لانتهيت من أكثر من ستة من هذه الهافهزات كاركاسات، في هذه المدة التي استغرقها واحد منها فقط لا غير.»
ولم يقل لنا سام أي جهاز ثقيل صعب بطيء العمل بدا هذا الإجراء في خياله وتصوراته، فقد تقدم بركر في تلك اللحظة إلى المستر بكوك وانصرف به.
وتم تحرير الأوامر المعتادة، ولم يلبث شخص المستر بكوك أن عهد بحراسته إلى الشرطي ليسوق به إلى سجن فليت؛ ليحجز فيه إلى أن يتم الوفاء بالتعويض والأتعاب المحكوم بها عليه في قضية باردل ضد بكوك فيطلق عندئذ سراحه.
وقال المستر بكوك ضاحكًا: «وسيستغرق ذلك وقتًا طويلًا، يا سام ادع لنا مركبة أخرى، وأنت يا صديقي العزيز بركر وداعًا.»
وأجاب بركر: «سأذهب معك وأطمئن عليك هناك.»
وقال المستر بكوك: «إني لأفضل في الواقع ألا يصحبني أحد غير سام تابعي، وحين أستقر سأكتب إليك وأنبئك بما جرى وأنتظرك سريعًا، أما الآن فإلى اللقاء.»
ودخل المستر بكوك المركبة، وكانت قد وصلت في تلك اللحظة، وتبعه الشرطي، واتخذ سام مجلسه بجانب السائق، ودرجت المركبة بهم.
ووقف بركر ليلبس قفازه وهو يقول: «يا له من رجل شاذ خارق للمألوف!»
وقال المستر لاوتن، وكان واقفًا عن كثب منه: «أي مفلس عجيب تراه سينقلب يا سيدي، لسوف يتعب المأمورين في السجن ويناكفهم، بل سوف يتحداهم إذا تحدثوا عن إدانته يا سيدي.»
ولم يبد على المحامي الارتياح كثيرًا لتقدير كاتبه بهذا التعبير المهني لأخلاق المستر بكوك، فقد انصرف دون أن يتنزل من عليائه إلى الرد عليه.
ودرجت المركبة في شارع فليت كما تدرج المركبات المأجورة عادة، وقال السائق: إن الخيل «تبدو أحسن سيرًا» إذا وجدت شيئًا أمامها (ومعنى هذا أنها كانت بلا شك تسير بسرعة خارقة للعادة إذا لم تجده)؛ ولهذا لبثت سائرة خلف عجلة نقل، كلما وقفت العجلة وقفت، وكلما انطلقت انطلقت في أثرها، وكان المستر بكوك يجلس قبالة الشرطي الموكل بحراسته، وجلس هذا واضعًا قبعته بين ركبتيه، وهو يرسل صفيرًا منغمًا، وينظر من النافذة.
ويقول المثل: إن الزمن يحدث العجائب، فلا عجب إذا كان نفس الشيخ بكوك، وقوته في مد يد المعونة لتلك المركبة العتيقة، قد أعانها على قطع أكثر من نصف ميل من الأرض. ووقفت أخيرًا بهم، أمام باب سجن فليت، فنزل منها المستر بكوك، وتقدم الشرطي نحو الباب، وهو ينظر من فوق كتفه ليطمئن إلى أن الشخص الذي وكل إليه أمره في أثره، وعطف يسرة بعد اجتياز الباب، ومرأ من آخر يفضي إلى رواق، ومنه إلى باب ضخم مقابل للباب الأول الذي دخلا منه، وكان على حراسته بواب ضخم يحمل المفاتيح، فدخلا منه إلى الفناء، حيث وقفا ريثما يسلم الشرطي أوراقه، وعندئذ أبلغ المستر بكوك أنه سيبقى ريثما يتم الإجراء الذي يعرفه الحديثو العهد بدخول السجون، وهو «الجلوس لأخذ الصورة!»
وقال المستر بكوك مندهشًا: «لأخذ صورتي؟»
وقال الرجل الضخم حامل المفاتيح: «لمجرد تحقيق الشخصية يا سيدي، نحن هنا مهرة بارعون فيه، ننتهي منه سريعًا، وهو في جميع الحالات مضبوط دقيق، تقدم يا سيدي واشعر بأنك في بيتك، وخذ راحتك.»
ولبى المستر بكوك الدعوة، وجلس فوق مقعد، وهمس المستر ولر وهو يتخذ موقفه خلفه، أن أخذ الصورة، هو مجرد اصطلاح لعملية فحص وتشبيه، يتولاهما الحراس، حتى يميزوا المساجين من الزائرين.
وقال المستر بكوك: «حسن يا سام، ليت هؤلاء الفنانين يأتون على عجل، فإن هذا الموضع يبدو لي أقرب شيء إلى محل عام.»
وأجاب سام قائلًا: «لا أظنهم سيتأخرون كثيرًا، إن في السجن ساعة هولندية يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «هذا ما تنبهت إليه.»
وقال سام: «قفص عصفور يا سيدي وجدران في جوف جدران. وسجن داخل سجن. أليس كذلك يا سيدي؟»
وبينما كان المستر ولر يبدي هذه الملاحظة الفلسفية، إذ شعر المستر بكوك بأن العملية ابتدأت، فقد أعفى الحارس الضخم من حراسة الباب، وجاء فجلس وراح ينظر إليه بغير اكتراث من وقت إلى آخر، بينما تقدم رجل طويل نحيل فأخذ منه مكانه وألقى يديه تحت أذيال سترته، ووقف قبالة المستر بكوك وتفحصه مليًّا، وأقبل ثالث يلوح العبوس على سحنته ويبدو كأنه يتناول الشاي فأغضبه أن يقوم عنه، ولا يستكمل تناوله؛ لأنه جاء يلوك آخر فضلة من خبز وزبد بقيت أمامه، فوقف على كثب من المستر بكوك ووضع يديه فوق حقويه، وأطال البصر فيه مدققًا متفحصًا، بينما اختلط بالجمع آخران فتفرسا في معارف وجهه، وقد بدا التدقيق والتفكير على وجهيهما، ولبث المستر بكوك يتململ في مجلسه من ضيقه بهذه العملية، وهو يجلس قلقًا في مقعده، وإن لم يبد أية ملاحظة لأحد، حتى ولا لسام نفسه، الذي استند إلى ظهر المقعد ساهمًا، يفكر حينًا في موقف سيده، وحينًا آخر في السرور الشديد الذي كان يشعر به لو أنه انقض على أولئك الحراس المجتمعين في ذلك الموضع، واحدًا بعد الآخر، لو أن القانون يجيز له ذلك، ولا خطر يعود عليه منه.
وبعد لأي انتهى «التشبيه»، وقيل للمستر بكوك: إنه قد آن له أن يدخل السجن.
وقال المستر بكوك: «وأين تراني سأبيت الليلة؟»
وأجاب الحارس الضخم: «لا أدري شيئًا في الواقع عن مبيتك الليلة، أما غدًا فسوف تنضم إلى أحد المساجين، فتستقر عندئذ وتستريح، إن الليلة الأولى هي دائمًا الليلة التي لا يتواتى فيها الاستقرار، ولكنك ستطمئن إلى المقام غدًا.»
ولكن تبين بعد طول المناقشة والبحث أن عند أحد حملة المفاتيح فراشًا للإيجار، وفي وسع المستر بكوك أن يستأجره تلك الليلة، فوافق بسرور على استئجاره.
وقال الرجل: «إذا أتيت معي أريتكه في الحال، إنه ليس موضعًا فسيحًا، ولكنه يصلح للنوم، لا شك في ذلك. من هنا يا سيدي.»
واجتاز الرجل به بابًا كبيرًا داخليًّا، ثم هبط بضعة مدارج، وأدار الحارس القفل على أثر اجتيازها، وإذا المستر بكوك يجد نفسه لأول مرة في حياته داخل جدران سجن المدينين.